المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

تحمل هذه السورة المكية اسم إبراهيم نبي الله وخليله الذي أقام الكعبة في مكة المكرمة بيتا لعبادة الله ، ودعا الناس إلى الإيمان بالله ، إلها واحدا ، بيده وحده الخلق والأمر . وفي السورة الكريمة يشكر إبراهيم ربه على نعمه التي لا تحصى ، فهو سبحانه الذي وهبه على الكبر إسماعيل وإسحاق ، ويدعو إبراهيم ربه أن يبارك هذا الوادي الذي أسكن فيه بعض ذريته عند البيت المحرم ، فيجعل القلوب تميل إليه ، ويرزق أهله من الثمرات ليشكروه على نعمه آمنين سالمين ، والدعوة التي دعا إبراهيم الناس إليها هي : دين الله الواحد ، وهي التي دعا إليها الأنبياء والرسل مثل موسى عليه السلام ولقد تعرض الرسل لإعراض الكفار ولألوان من المكر والعذاب ، فصبروا مؤمنين بأن نصر الله قريب ، فالله سبحانه وتعالى يهدي المؤمنين الذين عرفوا الله بعقولهم وقلوبهم ، وتمسكوا بما عرفوا من حق ، وهو يدخل المؤمنين جناته ، ويعاقب الكافرين الذين أصروا على الضلال بنار جهنم . وضرب الله المثل لذلك بالكلمة الطيبة ، فهي كالشجرة الطيبة النافعة التي تضرب بجذورها في أعماق الأرض ، وترفع هامتها إلى السماء ، وتثمر في حينها بإذن الله ثمرة مباركة ، أما الكلمة الخبيثة فهي كالشجرة الخبيثة التي لا تنفع الناس ، فلا جذور ثابتة لها ، ولا ثمرة لها يستفيد منها الناس ، فهي كالشجرة المقتلعة التي لا خير فيها .

1- ألف . لام . راء : في الابتداء بهذه الحروف تنبيه إلى إعجاز القرآن ، مع أنه مكون من حروف يتكلمون بها ، وتنبيه للاستماع . هذا المذكور في السورة كتاب منزل إليك يا محمد من عندنا ، لتخرج الناس كافة من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم بتيسير ربهم .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

مكية إلا آيتين من قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً } إلى قوله : { فإن مصيركم إلى النار } . وهي اثنتان وخمسون آية

{ الر } أي : هذا كتاب { أنزلناه إليك } ، يا محمد يعني : القرآن ، { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } أي : لتدعوهم من ظلمات الضلالة إلى نور الإيمان ، { بإذن ربهم } ، بأمر ربهم . وقيل : بعلم ربهم . { إلى صراط العزيز الحميد } أي : إلى دينه ، و{ العزيز } ، هو الغالب ، و{ الحميد } : هو المستحق للحمد .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وهي مكية

{ 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ }

يخبر تعالى أنه أنزل كتابه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لنفع الخلق ، ليخرج الناس من ظلمات الجهل والكفر والأخلاق السيئة وأنواع المعاصي إلى نور العلم والإيمان والأخلاق الحسنة ، وقوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } أي : لا يحصل منهم المراد المحبوب لله ، إلا بإرادة من الله ومعونة ، ففيه حث للعباد على الاستعانة بربهم .

1

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة إبراهيم مكية وآياتها ثنتان وخمسون .

هذه السورة - سورة إبراهيم - مكية ، موضوعها الأساسي هو موضوع السور المكية الغالب : العقيدة في أصولها الكبيرة : الوحي والرسالة والتوحيد والبعث والحساب والجزاء .

ولكن السياق في السورة يسلك نهجا خاصا بها في عرض هذا الموضوع وحقائقه الأصيلة . نهجا مفردا يميزها - كالشأن في كل سورة قرآنية - عن السور غيرها . يميزها بجوها وطريقة أدائها ، والأضواء والظلال الخاصة التي تعرض فيها حقائقها الكبرى . ولون هذه الحقائق التي قد لا تفترق موضوعيا عن مثيلاتها في السور الأخرى ؛ ولكنها تعرض من زاوية خاصة ، في أضواء خاصة فتوحي إيحاءات خاصة . كما تختلف مساحتها في رقعة السورة وجوها ، فتزيد أطرافا وتنقص أطرافا ، فيحسها القارئ جديدة بما وقع فيها من تجديد في " اللقطات الفنية " . ونحن نستعمل هذا التعبير " اللقطات الفنية " لأنه يلاحظ في صورته المعجزة في طريقة الأداء القرآنية !

ويبدو أنه كان لجو السورة من اسمها نصيب . . إبراهيم . . أبو الأنبياء . . المبارك ، الشاكر الأواه المنيب . وكل الظلال التي تخلعها هذه الصفات ملحوظة في جو السورة ، وفي الحقائق التي تبرزها ، وفي طريقة الأداء ، وفي التعبير والإيقاع .

ولقد تضمنت السورة عدة حقائق رئيسية في العقيدة . ولكن حقيقتين كبيرتين تظللان جو السورة كلها . وهما الحقيقتان المتناسقتان مع ظل إبراهيم في جو السورة : حقيقة وحدة الرسالة والرسل ، ووحدة دعوتهم ، ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة بدين الله على اختلاف الأمكنة والأزمان . وحقيقة نعمة الله على البشر وزيادتها بالشكر ؛ ومقابلة أكثر الناس لها بالجحود والكفران . .

وبروز هاتين الحقيقتين ، أو هذين الظلين . لا ينفي أن هناك حقائق أخرى في سياق السورة . ولكن هاتين الحقيقتين تظللان جو السورة . وهذا ما أردنا الإشارة إليه :

تبدأ السورة ببيان وظيفة الرسول وما أوتيه من كتاب . . فهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن الله :

( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ) .

وتختم بهذا المعنى وبالحقيقة الكبرى التي تتضمنها الرسالة . حقيقة التوحيد :

( هذا بلاغ للناس ولينذروا به ، وليعلموا أنما هو إله واحد ، وليذكر أولو الألباب ) .

وفي أثنائها يذكر أن موسى قد أرسل بمثل ما أرسل به محمد [ ص ] ولمثل ما أرسل به ، حتى في ألفاظ التعبير :

( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ) . .

ويذكر كذلك أن وظيفة الرسل عامة كانت هي البيان :

( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) . . .

وتتضمن إلى جانب وظيفة الرسول بيان حقيقته البشرية ، وهي التي تحدد وظيفته . فهو مبلغ ومنذر وناصح ومبين . ولكنه لا يملك أن يأتي بخارقة إلا بإذن الله ، وحين يشاء الله ، لا حين يشاء هو أو قومه ؛ ولا يملك كذلك أن يهدي قومه أو يضلهم ، فالهدى والضلال متعلقان بسنة الله التي اقتضتها مشيئته المطلقة .

ولقد كانت بشرية الرسل هي موضع الاعتراض من جميع الأقوام في جاهليتهم ، والسورة هنا تحكي قولهم مجتمعين :

( قالوا : إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ، فأتونا بسلطان مبين ) .

وتحكي رد رسلهم كذلك مجتمعين :

( قالت لهم رسلهم : إن نحن إلا بشر مثلكم ، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده . وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله . وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) .

ويتضمن السياق كذلك أن إخراج الناس من الظلمات إلى النور إنما يتم ( بإذن ربهم ) . . وكل رسول يبين لقومه ( فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ، وهو العزيز الحكيم ) .

وبهذا وذلك تتحدد حقيقة الرسول ، فتتحدد وظيفته في حدود هذه الحقيقة ، ولا تشتبه حقيقة الرسل البشرية وصفاتهم ، بشيء من حقيقة الذات الإلهية وصفاتها . وكذلك يتجرد توحيد الله بلا ظل من مماثلة أو مشابهة .

كذلك تتضمن السورة تحقق وعد الله للرسل والمؤمنين بهم إيمانا حقا . تحقق ذلك الوعد في الدنيا بالنصر والاستخلاف ، وفي الآخرة بعذاب المكذبين ونعيم المؤمنين .

يصور السياق هذه الحقيقة الكبيرة في نهاية المعركة بين الرسل مجتمعين وقومهم مجتمعين في الدنيا :

( وقال الذين كفروا لرسلهم : لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ، ولنسكننكم الأرض من بعدهم . ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد . . واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد . . ) .

ويصورها في مشاهد القيامة في الآخرة :

( وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام ) . .

( وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد ، سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ) . .

ويصورها في الأمثال التي يضربها لهؤلاء وهؤلاء :

( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ؛ ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون . ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثتمن فوق الأرض ما لها من قرار . يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، ويضل الله الظالمين ، ويفعل الله ما يشاء ) . .

( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ، لا يقدرون مما كسبوا على شيء . ذلك هو الضلال البعيد ) . .

فأما الحقيقتان اللتان تظللان جو السورة ، وتتسقان مع ظل إبراهيم : أبي الأنبياء . الشكور الأواه المنيب ، وهما حقيقة وحدة الرسالة والرسل ، ووحدة دعوتهم ، ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة . وحقيقة نعمة الله على البشر كافة وعلى المختارين منهم بصفة خاصة . . فنفردهما هنا بالحديث .

فأما الحقيقة الأولى فيبرزها السياق في معرض فريد في طريقة الأداء . لقد أبرزها سياق بعض السور الماضية في صورة توحيد الدعوة التي يجيء بها كل رسول ، فيقول كلمته لقومه ويمضي ، ثم يجيء رسول ورسول . كلهم يقولون الكلمة ذاتها ، ويلقون الرد ذاته ، ويصيب المكذبين ما يصيبهم في الدنيا ، وينظر بعضهم ويمهل إلى أجل في الأرض أو إلى أجل في يوم الحساب . ولكن السياق هناك كان يعرض كل رسول في مشهد ، كالشريط المتحرك منذ الرسالات الأولى . وأقرب مثل لهذا النسق سورة الأعراف وسورة هود .

فأما سورة إبراهيم - أبي الأنبياء - فتجمع الأنبياء كلهم في صف وتجمع الجاهليين كلهم في صف . وتجري المعركة بينهم في الأرض ، ثم لا تنتهي هنا ، بل تتابع خطواتها كذلك في يوم الحساب !

ونبصر فنشهد أمة الرسل ، وأمة الجاهلية ، في صعيد واحد ، على تباعد الزمان والمكان . فالزمان والمكان عرضان زائلان ، أما الحقيقة الكبرى في هذا الكون - حقيقة الإيمان والكفر - فهي أضخم وأبرز من عرضي الزمان والمكان :

ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود . والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله . جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم ، وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به ، وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب . قالت رسلهم : أفي الله شك فاطر السماوات والأرض ، يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ، ويؤخركم إلى أجل مسمى ؟ قالوا : إن أنتم إلا بشر مثلنا ، تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ، فأتونا بسلطان مبين . قالت لهم رسلهم : إن نحن إلا بشر مثلكم ، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ، وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون . وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ، ولنصبرن على ما آذيتمونا . وعلى الله فليتوكل المتوكلون . وقال الذين كفروا لرسلهم : لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا . فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ، ولنسكننكم الأرض من بعدهم . ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد .

( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ، من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد ، يتجرعه ولا يكاد يسيغه ، ويأتيه الموت من كل مكان ، وما هو بميت ، ومن ورائه عذاب غليظ ) . .

فها هنا تتجمع الأجيال من لدن نوح وتتجمع الرسل ؛ ويتلاشى الزمان والمكان ؛ وتبرز الحقيقة الكبرى : حقيقة الرسالة وهي واحدة . واعتراضات الجاهليين عليها وهي واحدة . وحقيقة نصر الله للمؤمنين وهي واحدة . وحقيقة استخلاف الله للصالحين وهي واحدة . وحقيقة الخيبة والخذلان للمتجبرين وهي واحدة . وحقيقة العذاب الذي ينتظرهم هناك وهي واحدة . . وذلك إلى التماثل بين قول الله لمحمد [ ص ] :

( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) .

وحكاية قوله لموسى - عليه السلام - :

( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ) .

ولا تنتهي المعركة بين الكفر والإيمان هنا بل يتابع السياق خطواته بها إلى ساحة الآخرة . فتبرز معالمها في مشاهد القيامة المتنوعة التي تتضمنها السورة . وهذه نماذج منها :

( وبرزوا لله جميعا ، فقال الضعفاء للذين استكبروا : إنا كنا لكم تبعا ، فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ؟ قالوا : لو هدانا الله لهديناكم ، سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص . وقال الشيطان لما قضي الأمر : إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ، وما كان لي عليكم من سلطان ، إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ، ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ، إني كفرت بما أشركتمون من قبل ، إن الظالمين لهم عذاب أليم . . وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم ، تحيتهم فيها سلام ) . .

( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار . مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ) . .

( وقد مكروا مكرهم ، وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال . فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله . إن الله عزيز ذو انتقام . يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ، وبرزوا لله الواحد القهار ، وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد . سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ) . . .

وهي كلها تشير إلى أنها معركة واحدة تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة ، وتكمل إحداهما الأخرى بلا انقطاع ولا انفصال .

وتكمل الأمثال التي تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة كذلك إبراز معالم المعركة بين الفريقين ، ونتائجها الأخيرة : مثل الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة : شجرة النبوة ، وشجرة الإيمان ، وشجرة الخير . والكلمة الخبيثة : كالشجرة الخبيثة : شجرة الجاهلية والباطل والتكذيب والشر والطغيان .

وأما الحقيقة الثانية المتعلقة بالنعمة والشكر والبطر فتطبع جو السورة كله ، وتتناثر في سياقها .

يعدد الله نعمه على البشر كافة ، مؤمنهم وكافرهم ، صالحهم وطالحهم ، برهم وفاجرهم ، طائعهم وعاصيهم . وإنها لرحمة من الله وسماحة وفضل أن يتيح للكافر والفاجر والعاصي نعمة في هذه الأرض ، كالمؤمن والبار والطائع : لعلهم يشكرون . ويعرض هذه النعمة في أضخم مجالي الكون وأبرزها ، ويضعها داخل إطار من مشاهد الوجود العظيمة :

( الله الذي خلق السماوات والأرض ، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ؛ وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ، وسخر لكم الأنهار . وسخر لكم الشمس والقمر دائبين ، وسخر لكم الليل والنهار . وآتاكم من كل ما سألتموه ، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها . إن الإنسان لظلوم كفار ) . .

وفي إرسال الرسل للناس نعمة تعدل تلك أو تربو عليها :

( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) . .

والنور أجل نعم الله في الوجود . والنور هنا هو النور الأكبر . النور الذي يشرق به كيان الإنسان ، ويشرق به الوجود في قلبه وحسه . . وكذلك كانت وظيفة موسى في قومه . ووظيفة الرسل كما بينتها السورة .

وفي قول الرسل مجتمعين :

( يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ) . .

والدعوة لأجل الغفران نعمة تعدل نعمة النور ، وهي منه قريب . .

وفي جو الحديث عن النعمة يذكر موسى قومه بأنعم الله عليهم :

( وإذ قال موسى لقومه : اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) .

وفي هذا الجو يذكر وعد الله للرسل :

( فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم . ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ) . .

وهي نعمة من نعم الله الكثار الكبار .

ويبرز السياق حقيقة زيادة النعمة بالشكر :

( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) . .

مع بيان أن الله غني عن الشكر وعن الشاكرين :

( إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ) .

ويقرر السياق أن الإنسان في عمومه لا يشكر النعمة حق الشكر :

( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ) . .

ولكن الذين يتدبرون آيات الله ، وتتفتح لها بصائرهم يصبرون على البأساء ويشكرون على النعماء :

( إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) .

ويمثل الصبر والشكر في شخص إبراهيم في موقف خاشع ، وفي دعاء واجف ، عند بيت الله الحرام ، كله حمد وشكر وصبر ودعاء .

( وإذ قال إبراهيم : رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام . رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ، فمن تبعني فإنه مني ، ومن عصاني فإنك غفور رحيم . ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم . ربنا ليقيموا الصلاة ، فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون . ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن ، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء . الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء . رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ، ربنا وتقبل دعاء ، ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ) . .

ولأن النعمة والشكر عليها والكفر بها تطبع جو السورة تجيء التعبيرات والتعليقات فيها متناسقة مع هذا الجو :

( وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) . .

( إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) . .

( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ) . .

( اذكروا نعمة الله عليكم ) . .

( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ) . .

وفي رد الأنبياء على اعتراض المكذبين بأنهم بشر يجيء :

( ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) . .

فيبرز منة الله تنسيقا للرد مع جو السورة كله . جو النعمة والمنة والشكر والكفران . .

وهكذا يتساوق التعبير اللفظي مع ظلال الجو العام في السورة كلها على طريقة التناسق الفني في القرآن . .

وتنقسم السورة إلى مقطعين متماسكي الحلقات :

المقطع الأول يتضمن بيان حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول . ويصور المعركة بين أمة الرسل وفرقة المكذبين في الدنيا وفي الآخرة ، ويعقب عليها بمثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة .

والمقطع الثاني يتحدث عن نعم الله على البشر ، والذين كفروا بهذه النعمة وبطروا . والذين آمنوا بها وشكروا ونموذجهم الأول هو إبراهيم . ويصور مصير الظالمين الكافرين بنعمة الله في سلسلة من أعنف مشاهد القيامة وأجملها ، وأحفلها بالحركة والحياة . . ليختم السورة ختاما يتسق مع مطلعها :

هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد ، وليذكر أولو الألباب . .

فلنأخذ في السير مع المقطع الأول في السياق :

( ألر . كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد . الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ، وويل للكافرين من عذاب شديد . الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ، ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، أولئك في ضلال بعيد . وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ، فيضل الله من يشاء ، ويهدي من يشاء ، وهو العزيز الحكيم ) . .

ألف لام . را . . ( كتاب أنزلناه إليك ) . .

هذا الكتاب المؤلف من جنس هذه الأحرف كتاب أنزلناه إليك . لم تنشئه أنت . أنزلناه إليك لغاية :

( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) . .

لتخرج هذه البشرية من الظلمات . ظلمات الوهم والخرافة . وظلمات الأوضاع والتقاليد . وظلمات الحيرة في تيه الأرباب المتفرقة ، وفي اضطراب التصورات والقيم والموازين . . لتخرج البشرية من هذه الظلمات كلها إلى النور . النور الذي يكشف هذه الظلمات . يكشفها في عالم الضمير وفي دنيا التفكير . ثم يكشفها في واقع الحياة والقيم والأوضاع والتقاليد .

والإيمان بالله نور يشرق في القلب ، فيشرق به هذا الكيان البشري ، المركب من الطينة الغليظة ومن نفخة روح الله . فإذا ما خلا من إشراق هذه النفخة ، وإذا ما طمست فيه هذه الإشراقة استحال طينة معتمة . طينة من لحم ودم كالبهيمة ، فاللحم والدم وحدهما من جنس طينة الأرض ومادتها . لولا تلك الإشراقة التي تنتفض فيه من روح الله ، يرقرقها الإيمان ويجلوها ، ويطلقها تشف في هذا الكيان المعتم ، ويشف بها هذا الكيان المعتم .

والإيمان بالله نور تشرق به النفس ، فترى الطريق . ترى الطريق واضحة إلى الله ، لا يشوبها غبش ولا يحجبها ضباب . غبش الأوهام وضباب الخرافات . أو غبش الشهوات وضباب الأطماع . ومتى رأت الطريق سارت على هدى لا تتعثر ولا تضطرب ولا تتردد ولا تحتار .

والإيمان بالله نور تشرق به الحياة . فإذا الناس كلهم عباد متساوون . تربط بينهم آصرتهم في الله وتتمحض دينونتهم له دون سواه ، فلا ينقسمون إلى عبيد وطغاة . وتربطهم بالكون كله رابطة المعرفة . معرفة الناموس المسير لهذا الكون وما فيه ومن فيه . فإذا هم في سلام مع الكون وما فيه ومن فيه .

والإيمان بالله نور . نور العدل . ونور الحرية . ونور المعرفة . ونور الأنس بجوار الله ، والاطمئنان إلى عدله ورحمته وحكمته في السراء والضراء . ذلك الاطمئنان الذي يستتبع الصبر في الضراء والشكر في السراء على نور من إدراك الحكمة في البلاء .

والإيمان بالله وحده إلها وربا ، منهج حياة كامل لا مجرد عقيدة تغمر الضمير وتسكب فيه النور . . منهج حياة يقوم على قاعدة العبودية لله وحده ، والدينونة لربوبيته وحده ، والتخلص من ربوبيات العبيد ، والاستعلاء على حاكمية العبيد . .

وفي هذا المنهج من المواءمة مع الفطرة البشرية ، ومع الحاجات الحقيقية لهذه الفطرة ، ما يملأ الحياة سعادة ونور وطمأنينة وراحة . كما أن فيه من الاستقرار والثبات عاصما من التقلبات والتخبطات التي تتعرض لها المجتمعات التي تخضع لربوبية العبيد ، وحاكمية العبيد ، ومناهج العبيد في السياسة والحكم وفي الاقتصاد والاجتماع ، وفي الخلق والسلوك ، وفي العادات والتقاليد . . وذلك فوق صيانة هذا المنهج للطاقة البشرية أن تبذل في تأليه العبيد ، والطبل والزمر للطواغيت ! ! !

وإن وراء هذا التعبير القصير : ( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور . . )لآفاقا بعيدة لحقائق ضخمة عميقة في عالم العقل والقلب . وفي عالم الحياة والواقع ، لا يبلغها التعبير البشري ولكنه يشير !

( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور . . بإذن ربهم ) . .

فليس في قدرة الرسول إلا البلاغ ، وليس من وظيفته إلا البيان . أما إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، فإنما يتحقق بإذن الله ، وفق سنته التي ارتضتها مشيئته ، وما الرسول إلا رسول !

( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ) . . ( إلى صراط العزيز الحميد ) . .

فالصراط بدل من النور . وصراط الله : طريقه ، وسنته ، وناموسه الذي يحكم الوجود وشريعته التي تحكم الحياة . والنور يهدي إلى هذا الصراط ، أو النور هو الصراط . وهو أقوى في المعنى . فالنور المشرق في ذات النفس هو المشرق في ذات الكون . هو السنة . هو الناموس . هو الشريعة . والنفس التي تعيش في هذا النور لا تخطيء الإدراك ولا تخطيء التصور ولا تخطيء السلوك . فهي على صراط مستقيم . . ( صراط العزيز الحميد ) . . مالك القوة القاهر المسيطر المحمود المشكور .

والقوة تبرز هنا لتهديد من يكفرون ، والحمد يبرز لتذكير من يشكرون .

/خ27

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية .

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور .

{ كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ } أي : هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد ، وهو القرآن العظيم ، الذي هو أشرف كتاب أنزله الله من السماء ، على أشرف رسول بعثه الله في الأرض ، إلى جميع أهلها عربهم وعجمهم{[15736]} .

{ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } أي : إنما بعثناك يا محمد بهذا الكتاب ؛ لتخرج الناس مما هم فيه من الضلال والغي إلى الهدى والرشد ، كما قال : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } الآية[ البقرة : 257 ] ، وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ }

[ الحديد : 9 ] .

وقوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } أي : هو الهادي لمن قَدر له الهداية على يدي رسوله المبعوث عن أمره يهديهم { إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ } أي : العزيز الذي لا يمانع ولا يغالب ، بل هو القاهر لكل ما سواه ، " الحميد " أي : المحمود في جميع أفعاله وأقواله ، وشرعه وأمره ونهيه ، الصادق في خبره .


[15736]:- في ت ، أ : "عربيهم وعجميهم".