76- ذكرت السورة قصة قارون ، وأنه كان من قوم موسى ، فتكبر عليهم غروراً بنفسه وماله ، وقد أعطاه الله كنوزاً زاخرة بالأموال ، بلغت مفاتيحها من الكثرة بحيث يثقل حملها على الجماعة الأقوياء من الرجال ، وحين اغتر بنعمة الله عليه وكفر بما نصحه قومه قائلين له : لا تغتر بمالك ، ولا يفتنك الفرح به عن شكر الله ، إن الله لا يرضى عن المغرورين المفتونين ، والعبرة في هذه القصة أن الكافرين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قد اغتروا بأموالهم ، فبين القرآن أن أموالهم بجانب مال قارون ليست شيئاً مذكوراً .
قوله تعالى :{ إن قارون كان من قوم موسى } كان ابن عمه ، لأنه قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب عليه السلام ، وموسى بن عمران بن قاهث ، وقال ابن إسحاق : كان قارون عم موسى ، كان أخا عمران ، وهما ابنا يصهر ، ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة من قارون ، ولكنه نافق كما نافق السامري ، { فبغى عليهم } قيل : كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل ، فكان يبغي عليهم ويظلمهم ، وقال قتادة : بغى عليهم بكثرة المال . وقال الضحاك : بغى عليهم بالشرك . وقال شهر بن حوشب : زاد طول ثيابه شبراً ، وروينا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " وقيل : بغى عليهم بالكبر والعلو . { وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه } هي جمع مفتح وهو الذي يفتح به الباب ، هذا قول قتادة ومجاهد وجماعة ، وقيل : مفاتحه ، خزائنه ، كما قال : { وعنده مفاتح الغيب } أي : خزائنه ، { لتنوء بالعصبة أولي القوة } لتثقلهم أي : وتميل بهم إذا حملوها لثقلها ، قال أبو عبيدة : هذا من المقلوب ، تقديره : ما إن العصبة لتنوء بها ، يقال : ناء فلان بكذا إذا نهض به مثقلاً . واختلفوا في عدد العصبة ، قال مجاهد : ما بين العشرة إلى خمسة عشر ، وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهم : ما بين الثلاثة إلى العشرة . وقال قتادة : ما بين العشرة إلى الأربعين . وقيل : أربعون رجلاً . وقيل : سبعون . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان يحمل مفاتحه أربعون رجلاً أقوى ما يكون من الرجال . وقال جرير عن منصور عن خيثمة ، قال : وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلاً ما يزيد منها مفتاح على أصبع لكل مفتاح كنز . ويقال : كان قارون أينما ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه ، وكانت من حديد ، فلما ثقلت عليه جعلها من خشب ، فثقلت فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع ، وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلاً . { إذ قال له قومه } قال لقارون قومه من بني إسرائيل : { لا تفرح } لا تبطر ولا تأشر ولا تمرح ، { إن الله لا يحب الفرحين } الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم .
يخبر تعالى عن حالة قارون وما [ فعل ] وفُعِلَ به ونُصِحَ ووُعِظَ ، فقال : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى } أي : من بني إسرائيل ، الذين فُضِّلوا على العالمين ، وفاقوهم في زمانهم ، وامتن اللّه عليهم بما امتن به ، فكانت حالهم مناسبة للاستقامة ، ولكن قارون هذا ، بغى على قومه وطغى ، بما أوتيه من الأموال العظيمة المطغية { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ } أي : كنوز الأموال شيئا كثيرا ، { مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ [ أُولِي الْقُوَّةِ } والعصبة ] ، من العشرة إلى التسعة إلى السبعة ، ونحو ذلك . أي : حتى أن مفاتح خزائن أمواله لتثقل الجماعة القوية عن حملها ، هذه المفاتيح ، فما ظنك بالخزائن ؟ { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ } ناصحين له محذرين له عن الطغيان : { لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } أي : لا تفرح بهذه الدنيا العظيمة ، وتفتخر بها ، وتلهيك عن الآخرة ، فإن اللّه لا يحب الفرحين بها ، المنكبين على محبتها .
وبعد هذا البيان المتنوع عن دعاوى المشركين والرد عليها ، وعن أحوالهم يوم القيامة ، وعن أحوالهم المؤمنين الصادقين . . . بعد كل ذلك ، ختم - سبحانه - قصة موسى - عليه السلام - التى جاء الحديث عنها فى كثير من آيات هذه السورة - ختمها بقصة قارون الذى كان من قوم موسى - عليه السلام - فقال - تعالى - : { إِنَّ قَارُونَ . . . } .
قال القرطبى : قوله - تعالى - { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى } لما قال - تعالى - : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا } بين أن قارون أوتيها واغتر بها . ولم تعصمه من عذاب الله ، كما لم تعصم فرعون ولستم - أيها المشركون - بأكثر عددا ومالا من قارون وفرعون ، فلم ينفع فرعون جنوده وأمواله ، ولم ينفع قارون قرابته من موسى ولا كنوزه .
قال النخعى وقتادة وغيرهما : كان قارون ابن عم موسى . . . وقيل كان ابن خالته . .
وقوله { فبغى عَلَيْهِمْ } من البغى وهو مجاوزة الحد فى كل شىء . يقال : بغى فلان على غيره بغيا ، إذا ظلمه واعتدى عليه . وأصله من بغى الجرح ، إذا ترامى إليه الفساد .
والمعنى : إن قارون كان من قوم موسى ، أى : من بنى إسرائيل الذين أرسل إليهم موسى كما أرسل إلى فرعون وقومه .
{ فبغى عَلَيْهِمْ } أى : فتطاول عليهم ، وتجاوز الحدود فى ظلمهم وفى الاعتداء عليهم .
ولم يحدد القرآن كيفية بغيه أو الأشياء التى بغى عليهم فيها ، للإشارة إلى أن بغيه قد شمل كل ما من شأنه أن يسمى بغيا من أقوال أو أفعال .
وقوله - تعالى - : { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة } بيان لما أعطى الله - تعالى - لقارون من نعم .
والكنوز : جمع كنزل وهو المال الكثير المدخر ، و { مَآ } موصولة . وهى المفعول الثانى لآتينا .
وصلتها { إِنَّ } وما فى حيزها . وقوله : { مَفَاتِحَهُ } جمع مفتح - بكسر الميم وفتح التاء - وهو الآلة التى يفتح بها - أو جمع مفتح - بفتح الميم والتاء - بمعنى الخزائن التى تجمع فيها الأموال .
وهو - أى لفظ مفاتحه - اسم إن ، والخبر : { لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة } .
وقوله { لَتَنُوءُ } . أى لتعجز أو لتثقل . يقال : ناء فلان بحمل هذا الشىء ، إذا أثقله حمله وأتعبه : والباء فى قوله { بالعصبة } للتعدية والعصبة : الجماعة من الناس من غير تعيين بعدد معين ، سموا بذلك لأنهم يتعصب بعضهم لبعض ومنهم من خصها فى العرف ، بالعشرة إلى الأربعين .
والمعنى : وآتينا قارون - بقدرتنا وفضلنا - من الأموال الكثيرة ، ما يثقل حمل مفاتح خزائنها ، العصبة من الرجال الأقوياء ، بحيث تجعلهم شبه عاجزين عن حملها .
قال صاحب الكشاف : وقد بولغ فى ذكر ذلك - أى فى كثرة أمواله - بلفظ الكنوز ، والمفاتح ، والنوء ، والعصبة ، وأولى القوة .
والمراد بالفرح فى قوله - سبحانه - : { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ } : البطر والأشر والتفاخر على الناس ، والاستخفاف بهم واستعمال نعم الله - تعالى - فى السيئات والمعاصى .
وجملة : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين } تعليل للنهى عن الفرح المذموم .
أى : لقد أعطى الله - تعالى - قارون نعما عظيمة ، فلم يشكر الله عليها ، بل طغى وبغى ، فقال له العقلاء من قومه : لا تفرح بهذا المال الذى بين يديك فرح البطر الفخور ، المستعمل لنعم الله فى الفسوق والمعاصى ، فإن الله - تعالى - لا يحب من كان كذلك .
قال الأعمش ، عن المِنْهَال بن عمرو ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى } ، قال : كان ابن عمه . وهكذا قال إبراهيم النَّخَعي ، وعبد الله بن الحارث بن نوفل ، وسماك بن حرب ، وقتادة ، ومالك بن دينار ، وابن جُرَيْج ، وغيرهم : أنه كان ابن عم موسى ، عليه السلام{[22402]} .
قال ابن جُرَيْج : هو قارون بن يصهر بن قاهث ، وموسى بن عمران بن قاهث .
وزعم محمد بن إسحاق بن يَسَار : أن قارون كان عمَّ موسى{[22403]} ، عليه السلام .
قال ابن جرير : وأكثر أهل العلم على أنه كان ابن عمه ، والله أعلم . وقال قتادة بن دِعَامة : كنا نُحدّث أنه كان ابن عم موسى ، وكان يسمى المنوّر لحسن صوته بالتوراة ، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري ، فأهلكه البغي لكثرة ماله .
وقال شَهْر بن حَوْشَب : زاد في ثيابه شبرًا طولا ترفعًا على قومه .
وقوله : { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ } أي : [ من ]{[22404]} الأموال { مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ } أي : لَيُثقلُ حملُها الفئامَ من الناس لكثرتها .
قال الأعمش ، عن خَيْثَمَةَ : كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود ، كل مفتاح مثل الأصبع ، كل مفتاح على خزانة على حدته ، فإذا ركب حُملت على ستين بغلا أغر محجلا . وقيل : غير ذلك ، والله أعلم .
وقوله : { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } أي : وعظه فيما هو فيه صالح قومه ، فقالوا على سبيل النصح والإرشاد : لا تفرح بما أنت فيه ، يعنون : لا تبطر بما أنت فيه من الأموال{[22405]} { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } قال ابن عباس : يعني المرحين . وقال مجاهد : يعني الأشرين البطرين ، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىَ فَبَغَىَ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْفَرِحِينَ } .
يقول تعالى ذكره : إنّ قارُونَ وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى يقول : كان من عشيرة موسى بن عمران النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهو ابن عمه لأبيه وأمه ، وذلك أن قارون هو قارون بن يصهر بن قاهث ، وموسى : هو موسى بن عمران بن قاهث ، كذا نسبه ابن جُرَيج .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : إنّ قارُونَ كانَ مِنْ قَومِ مُوسَى قال : ابن عمه ابن أخي أبيه ، فإن قارون بن يصفر ، هكذا قال القاسم ، وإنما هو يصهر بن قاهث ، وموسى بن عومر بن قاهث ، وعومر بالعربية : عمران . وأما ابن إسحاق فإن ابن حميد .
حدثنا ، قال : حدثنا سلمة عنه ، أن يصهر بن قاهث تزوّج سميت بنت بتاويت بن بركنا بن بقشان بن إبراهيم ، فولدت له عمران بن يصهر ، وقارون بن يصهر ، فنكح عمران بخنت بنت شمويل بن بركنا بن بقشان بن بركنا ، فولدت له هارون بن عمران ، وموسى بن عمران صفيّ الله ونبيه فموسى على ما ذكر ابن إسحاق ابن أخي قارون ، وقارون هو عمه أخو أبيه لأبيه ولأمه . وأكثر أهل العلم في ذلك على ما قاله ابن جُرَيج . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن إبراهيم ، في قوله : إنّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى قال : كان ابن عمّ موسى .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن سماك بن حرب ، قال : حدثنا سعيد عن قَتادة إنّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى : كنا نحدّث أنه كان ابن عمه أخي أبيه ، وكان يسمى المنوّر من حُسن صوته بالتوراة ، ولكن عدوّ الله نافق ، كما نافق السامريّ ، فأهلكه البغي .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن سماك ، عن إبراهيم إنّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى قال كان ابن عمه فبغى عليه .
قال : ثنا يحيى القطان ، عن سفيان ، عن سماك ، عن إبراهيم ، قال : كان قارون ابن عمّ موسى .
قال : ثنا أبو معاوية ، عن ابن أبي خالد ، عن إبراهيم إنّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى قال : كان ابن عمه .
حدثني بشر بن هلال الصوّاف ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان الضّبَعِيّ ، عن مالك بن دينار ، قال : بلغني أن موسى بن عمران كان ابن عمّ قارون .
وقوله : فَبَغَى عَلَيْهِمْ يقول : فتجاوز حدّه في الكبر والتجبر عليهم .
وكان بعضهم يقول : كان بغيه عليهم زيادة شبر أخذها في طول ثيابه . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن سعيد الكنديّ وأبو السائب وابن وكيع قالوا : حدثنا حفص بن غياث ، عن ليث ، عن شَهِر بن حَوْشب إنّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ قال : زاد عليهم في الثياب شبرا .
وقال آخرون : كان بغيه عليهم بكثرة ماله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : إنما بغى عليهم بكثرة ماله .
وقوله : وآتَيْناهُ مِنَ الكُنُوزِ ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ أُولى القُوّةِ يقول تعالى ذكره : وآتينا قارون من كنوز الأموال ما إن مفاتحه ، وهي جمع مفتح ، وهو الذي يفتح به الأبواب .
وقال بعضهم : عنى بالمفاتح في هذا الموضع : الخزائن لتُثْقِل العصبة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ما قلنا في معنى مفاتح :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن خيثمة ، قال : كانت مفاتح قارون تحمل على ستين بغلاً ، كلّ مفتاح منها باب كنز معلوم مثل الأُصبُع من جلود .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، قال : كانت مفاتح كنوز قارون من جلود كل مفتاح مثل الأصبع ، كل مفتاح على خزانة على حدة ، فإذا ركب حملت المفاتيح على ستين بغلاً أغرّ محّجل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن خيثمة ، في قوله ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوء بالعُصْبَةِ أُولى القُوّةِ قال : نجد مكتوبا في الإنجيل مفاتح قارون وِقر ستين بغلاً غرّا محجلة ، ما يزيد كل مفتاح منها على أصبع ، لكل مفتاح منها كنز .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن حميد ، عن مجاهد ، قال : كانت المفاتح من جلود الإبل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد وآتَيْناهُ مِن الكُنُوزِ ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : مفاتح من جلود كمفاتح العيدان .
وقال قوم : عنى بالمفاتح في هذا الموضع : خزائنه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيت ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح ، في قوله : ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : كانت خزائنه تحمل على أربعين بغلاً .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي حجيرَ ، عن الضحاك ما إنّ مَفاتِحَهُ قال : أوعيته .
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : حدثنا أبو رَوْق ، عن الضحاك عن ابن عباس ، في قوله : لَتَنُوء بالعُصْبَةِ قال : لتثقل بالعصبة .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ يقول : تَثْقُل . وأما العُصبة فإنها الجماعة .
واختلف أهل التأويل في مبلغ عددها الذي أريد في هذا الموضع فأما مبلغ عدد العصبة في كلام العرب فقد ذكرناه فيما مضى باختلاف المختلفين فيه ، والرواية في ذلك ، والشواهد على الصحيح من قولهم في ذلك بما أغني عن إعادته في هذا الموضع ، فقال بعضهم : كانت مفاتحه تنوء بعصبة مبلغ عددها أربعون رجلاً . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح ، قوله : لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : أربعون رجلاً .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد عن قَتادة لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : ذكر لنا أن العصبة ما بين العشرة إلى الأربعين .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ أُولى القُوّةِ : يزعمون أن العصبة أربعون رجلاً ، ينقلون مفاتحه من كثرة عددها .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وآتَيْناهُ مِنَ الكُنُوزِ ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ أُولى القُوّةِ قال : أربعون رجلاً .
وقال آخرون : ستون ، وقال : كانت مفاتحه تحمل على ستين بغلاً .
حدثنا كذلك ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن خيثمة .
وقال آخرون : كانت تحمل على ما بين ثلاثة إلى عشرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : العصبة : ثلاثة .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : العصبة : ما بين الثلاثة إلى العشرة .
وقال آخرون : كانت تحمل ما بين عشرة إلى خمسة عشرة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : العُصْبة : ما بين العشرة إلى الخمسة عشر .
حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد لَتَنُوءُ بالعُصْبَة قال : العصبة : خمسة عشر رجلاً .
وقوله : أُولى القُوّةِ يعني : أولى الشدّة . وقال مجاهد في ذلك ما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أُولى القُوّةِ قال : خمسةَ عَشَر .
فإن قال قائل : وكيف قيل وآتَيْناهُ مِنَ الكُنُوزِ ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ وكيف تنوء المفاتح بالعصبة ، وإنما العصبة هي التي تنوء بها ؟ قيل : اختلف في ذلك أهل العلم بكلام العرب ، فقال بعض أهل البصرة : مجاز ذلك : ما إن العصبة ذوي القوّة لتنوء بمفاتح نعمه . قال : ويقال في الكلام : إنها لتنوء بها عجيزتها ، وإنما هو : تنوء بعجيزتها كما ينوء البعير بحمله ، قال : والعرب قد تفعل مثل هذا . قال الشاعر :
فَدَيْتُ بِنَفْسِهِ نَفْسِي وَمالي *** وما آلُوكَ إلاّ ما أُطِيقُ
والمعنى : فديت بنفسي وبمالي نفسه .
وَتَرْكَبُ خَيْلاً لا هَوَادَةَ بَيْنَها *** وَتَشْقَى الرّماحُ بالضّياطِرَةِ الحُمْرِ
وإنما تشقى الضياطرة بالرماح . قال : والخيل هاهنا : الرجال .
وقال آخر منهم ما إنّ مَفاتِحَهُ قال : وهذا موضع لا يكاد يبتدأ فيه «إن » ، وقد قال : إن الموت الذي تفرّون منه فإنه ملاقيكم . وقوله : لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ إنما العصبة تنوء بها وفي الشعر :
*** تَنُوءُ بِها فَتُثْقِلُها عَجِيزَتُها ***
وليست العجيزة تنوء بها ، ولكنها هي تنوء بالعجيزة وقال الأعشى :
ما كُنْتَ فِي الحَرْبِ العَوَانِ مُغَمّرَا *** إذْ شَبّ حَرّ وَقُودِها أجْذَالَهَا
وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يُنكر هذا الذي قاله هذا القائل ، وابتداء إن بعد ما ، ويقول : ذلك جائز مع وما من ، وهو مع ما ومَنْ أجود منه مع الذي ، لأن الذي لا يعمل في صلته ، ولا تعمل صلته فيه ، فلذلك جاز ، وصارت الجملة عائد «ما » ، إذ كانت لا تعمل في «ما » ، ولا تعمل «ما » فيها قال : وحَسُن مع «ما » و «من » ، لأنهما يكونان بتأويل النكرة إن شئت ، والمعرفة إن شئت ، فتقول : ضربت رجلاً ليقومنّ ، وضربت رجلاً إنه لمحسن ، فتكون «مَنْ و ما » تأويل هذا ، ومع «الذي » أقبح ، لأنه لا يكون بتأويل النكرة .
وقال آخر منهم في قوله : لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ : نَوْءُها بالعصبة : أن تُثْقلهم وقال : المعنى : إن مفاتحه لتنيءُ العصبة : تميلهن من ثقلها ، فإذا أدخلت الباء قلت : تَنُوء بهم ، كما قال : آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرَا قال والمعنى : آتوني بقطر أفرغ عليه فإذا حُذفت الباء ، زدت على الفعل ألفا في أوّله ومثله : فأجاءَها المَخاضُ معناه : فجاء بها المخاض وقال : قد قال رجل من أهل العربية : ما إن العصبة تَنُوء بمفاتحه ، فحوّل الفعل إلى المفاتح ، كما قال الشاعر :
إنّ سِرَاجا لَكَرِيمٌ مَفْخَرُهْ *** تَحْلَى بهِ العَيْنُ إذَا ما تَجْهَرُهْ
وهو الذي يحلَى بالعين ، قال : فإن كان سمع أثرا بهذا ، فهو وجه ، وإلاّ فإن الرجل جهل المعنى . قال : وأنشدني بعض العرب :
حتى إذَا ما الْتَأَمَتْ مَوَاصِلُهْ *** ونَاءَ فِي شِقّ الشّمالِ كاهِلُهْ
يعني : الرامي لِما أخذ القوس ، ونزع مال عليها . قال : ونرى أن قول العرب : ما ساءك ، وناءك من ذلك ، ومعناه : ما ساءك وأناءك من ذلك ، إلاّ أنه ألقى الألف لأنه متبع لساءك ، كما قالت العرب : أكلت طعاما فهنأني ومرأني ، ومعناه : إذا أفردت : وأمرأني فحذفت منه الألف لما أتبع ما ليس فيه ألف .
وهذا القول الاَخر في تأويل قوله : لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ : أولى بالصواب من الأقوال الأُخَر ، لمعنيين : أحدهما : أنه تأويل موافق لظاهر التنزيل . والثاني : أن الاَثار التي ذكرنا عن أهل التأويل بنحو هذا المعنى جاءت ، وأن قول من قال : معنى ذلك : ما إن العصبة لتنوء بمفاتحه ، إنما هو توجيه منهم إلى أن معناه : ما إن العصبة لتنهض بمفاتحه وإذا وجه إلى ذلك لم يكن فيه من الدلالة على أنه أريد به الخبر عن كثرة كنوزه ، على نحو ما فيه ، إذا وجه إلى أن معناه : إن مفاتحه تثقل العصبة وتميلها ، لأنه قد تنهض العصبة بالقليل من المفاتح وبالكثير . وإنما قصد جلّ ثناؤه الخبر عن كثرة ذلك ، وإذا أريد به الخبر عن كثرته ، كان لا شكّ أن الذي قاله من ذكرنا قوله ، من أن معناه : لتنوء العصبة بمفاتحه ، قول لا معنى له ، هذا مع خلافه تأويل السلف في ذلك .
وقوله : إذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ ، إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ يقول : إذ قال قومه : لا تبغ ولا تَبْطَر فرحا ، إن الله لا يحبّ من خلقه الأَشِرِين البَطِرِين . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ يقول : المَرِحِين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد ، في قوله : لا تَفْرَحْ إنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : المتبذّخين الأَشِرين البَطِرين ، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن جابر ، قال : سمعت مجاهدا يقول في هذه الاَية إن اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : الأَشِرين البَطِرِين البَذِخين .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام ، عن مجاهد ، في قوله لا تَفْرَحْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : يعني به البغي .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : لا تَفْرَحْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : المتبذّخين الأشرين ، الذين لا يشكرون الله فيما أعطاهم .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله إلاّ أنه قال : المتبذّخين .
حدثنا محمد بن عبد الله المُخَرّميّ ، قال : ثني شَبَابة ، قال : ثني ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد لا تَفْرَحْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : الأشِرينَ البَطِرِين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، إذ قال له قومه لا تَفْرَحْ : أي لا تمرح إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ : أي إن الله لا يحبّ المَرِحين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد لا تَفْرَحْ إنّ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : الأَشِرِين البطرين ، الذين لا يشكرون الله فيما أعطاهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام ، عن مجاهد ، في قوله إذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ ، إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : هو فَرَح البَغْي .