154- ثم أسبغ الله عليكم من بعد الغم نعمة أمن ، وكان مظهرها نعاساً يغشى فريق الصادقين في إيمانهم وتفويضهم لله ، أما الطائفة الأخرى فقد كان همهم أنفسهم لا يعنون إلا بها ، ولذلك ظنوا بالله الظنون الباطلة كظن الجاهلية ، يقولون مستنكرين : هل كان لنا من أمر النصر الذي وعدنا به شيء ؟ قل - أيها النبي : - الأمر كله في النصر والهزيمة لله ، يصرف الأمر في عباده إن اتخذوا أسباب النصر ، أو وقعوا في أسباب الهزيمة . وهم إذ يقولون ذلك يخفون في أنفسهم أمراً لا يبدونه . إذ يقولون في أنفسهم : لو كان لنا اختيار لم نخرج فلم نغلب . قل لهم : لو كنتم في منازلكم وفيكم من كتب عليهم القتل لخرجوا إلى مصارعهم فقتلوا . وقد فعل الله ما فعل في أُحد لمصالح جمة ، ليختبر ما في سرائركم من الإخلاص وليطهر قلوبكم ، والله يعلم ما في قلوبكم من الخفايا علماً بليغاً .
قوله تعالى : { ثم أنزل عليكم } . يا معشر المسلمين .
قوله تعالى : { من بعد الغم أمنةً } . يعني أمناً ، والأمن والأمنة بمعنى واحد ، وقيل : الأمن يكون مع زوال سبب الخوف ، والأمنة مع بقاء سبب الخوف ، وكان سبب الخوف هنا قائماً .
قوله تعالى : { نعاساً } . بدل من الأمنة .
قوله تعالى : { يغشى طائفة منكم } . قرأ حمزة والكسائي تغشى بالتاء رداً إلى الأمنة ، وقرأ الآخرون بالياء رداً إلى النعاس . قال ابن عباس رضي الله عنهما : وأمنهم يومئذ بنعاس يغشاهم ، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا احمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل أخبرنا إسماعيل ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن ، أنا حسن بن محمد أخبرنا شيبان عن قتادة ، أخبرنا أنس أن أبا طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه . وقال ثابت عن انس عن أبي طلحة قال : رفعت رأسي يوم أحد فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت حجفته من النعاس . وقال عبد الله بن الزبير عن أبيه الزبير بن العوام : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد علينا الحرب ، أرسل الله علينا النوم ، والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم ، يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا ، فذلك قوله تعالى ( يغشى طائفةً منكم ) . يعني المؤمنين .
قوله تعالى : { وطائفةً قد أهمتهم أنفسهم } . يعني المنافقين : قيل : أراد الله به تمييز المنافقين من المؤمنين ، فأوقع النعاس على المؤمنين حتى أمنوا ، ولم يوقع على المنافقين ، فبقوا في الخوف ( قد أهمتهم أنفسهم ) أي حملتهم على الهم يقال : أمر مهم .
قوله تعالى : { يظنون بالله غير الحق } . أي لا ينصر محمداً ، وقيل : ظنوا أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل .
قوله تعالى : { يظنون بالله غير الحق } . أي لا ينصر محمدا ، وقيل :ظنوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل . قوله تعالى : { ظن أهل الجاهلية } . أي كظن أهل الجاهلية والشرك .
قوله تعالى : { يقولون هل لنا } . مالنا لفظه استفهام ومعناه جحد .
قوله تعالى : { من الأمر من شيء } . يعني النصر .
قوله تعالى : { قل إن الأمر كله لله } . قرأ أهل البصرة برفع اللام على الابتداء وخبره في لله . وقرأ الآخرون بالنصب على البدل وقيل : على النعت .
قوله تعالى : { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } . وذلك أن المنافقين ، قال بعضهم لبعض : لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة . ولم يقتل رؤساؤنا . وقيل : لو كنا على الحق ما قتلنا ها هنا . قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ) ، يعني التكذيب بالقدر وهو قولهم : ( لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ) .
قوله تعالى : { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب } . قضي .
قوله تعالى : { عليهم القتل إلى مضاجعهم } . مصارعهم .
قوله تعالى : { و ليبتلي الله } . وليمتحن الله .
قوله تعالى : { ما في صدوركم وليمحص } . يخرج ويظهر .
قوله تعالى : { ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور } . بما في القلوب من خير وشر .
{ ثم أنزل عليكم من بعد الغم } الذي أصابكم { أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم }
ولا شك أن هذا رحمة بهم ، وإحسان وتثبيت لقلوبهم ، وزيادة طمأنينة ؛ لأن الخائف لا يأتيه النعاس لما في قلبه من الخوف ، فإذا زال الخوف عن القلب أمكن أن يأتيه النعاس .
وهذه الطائفة التي أنعم الله عليها بالنعاس هم المؤمنون الذين ليس لهم هم إلا إقامة دين الله ، ورضا الله ورسوله ، ومصلحة إخوانهم المسلمين .
وأما الطائفة الأخرى الذين { قد أهمتهم أنفسهم } فليس لهم هم في غيرها ، لنفاقهم أو ضعف إيمانهم ، فلهذا لم يصبهم من النعاس ما أصاب غيرهم ، { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } وهذا استفهام إنكاري ، أي : ما لنا من الأمر -أي : النصر والظهور- شيء ، فأساءوا الظن بربهم وبدينه ونبيه ، وظنوا أن الله لا يتم أمر رسوله ، وأن هذه الهزيمة هي الفيصلة والقاضية على دين الله ، قال الله في جوابهم : { قل إن الأمر كله لله } الأمر يشمل الأمر القدري ، والأمر الشرعي ، فجميع الأشياء بقضاء الله وقدره ، وعاقبة{[166]} النصر والظفر لأوليائه وأهل طاعته ، وإن جرى عليهم ما جرى .
{ يخفون } يعني المنافقين { في أنفسهم ما لا يبدون لك } ثم بين الأمر الذي يخفونه ، فقال : { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء } أي : لو كان لنا في هذه الواقعة رأي ومشورة { ما قتلنا هاهنا } وهذا إنكار منهم وتكذيب بقدر الله ، وتسفيه منهم لرأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأي أصحابه ، وتزكية منهم لأنفسهم ، فرد الله عليهم بقوله : { قل لو كنتم في بيوتكم } التي هي أبعد شيء عن مظان القتل { لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } فالأسباب -وإن عظمت- إنما تنفع إذا لم يعارضها القدر والقضاء ، فإذا عارضها القدر لم تنفع شيئا ، بل لا بد أن يمضي الله ما كتب في اللوح المحفوظ من الموت والحياة ، { وليبتلي الله ما في صدوركم } أي : يختبر ما فيها من نفاق وإيمان وضعف إيمان ، { وليمحص ما في قلوبكم } من وساوس الشيطان ، وما تأثر عنها من الصفات غير الحميدة .
{ والله عليم بذات الصدور } أي : بما فيها وما أكنته ، فاقتضى علمه وحكمته أن قدر من الأسباب ، ما به تظهر مخبآت الصدور وسرائر الأمور .
ثم ذكرهم - سبحانه - ببعض مظاهر لطفه بهم ورحمته لهم حيث أنزل على طائفة منهم النعاس الذى أدخل الطمأنينة على قلوبهم وأزال الخوف والفزع من نفوسهم فقال - تعالى - { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً يغشى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ } والجملة الكريمة معطوفة على قوله { فَأَثَابَكُمْ } .
والأمنة - بفتحتين - مصدر كالأمن : أمن أمنا وأماناً وأمنة .
والنعاس : الفتور فى أوائل النوم ومن شأنه أن يزيل عن الإنسان بعض متاعبه ولا يغيب صاحبه فلذلك كان أمنة لهم : لأنه لو كان نوما ثقيلا لهاجمهم المشركون .
أى : ثم أنزل عليكم - أيها المؤمنون - بعد أن أصابكم من الهم والغم ما أصابكم ، أمنا كان مظهره نعاسا اطمأنت معه نفوسكم واستراحت معه أبدانكم من غير فزع ولا قلق ، وكان هذا الأمان والاطمئنان لطائفة معينة منكم أخلصت جهادها لله ، وخافت مقام ربها ونهت نفسها عن الهوى .
قال ابن كثير : يقول - تعالى - ممتنا على المؤمنين فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة وهو النعاس الذى غشيهم وهم مشتملون السلاح فى حال همهم وغمهم والنعاس فى مثل تلك الحال دليل على الأمان ، كما قال فى سورة الأنفال : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ } فعن ابن مسعود قال : النعاس فى القتال من الله وفى الصلاة من الشيطان " .
وروى البخارى عن أبى طلحة قال : كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفى من يدى مرارا يسقط وآخذه ويسقط وآخذه " .
وقوله ( نعاسا ) بدل من { أَمَنَةً } أو عطف بيان .
قال الفخر الرازى : واعلم أن ذلك النعاس فيه فوائد :
أحدها : أنه وقع على كافة المؤمنين لا على الحد المعتاد ، فكان ذلك معجزة للنبى صلى الله عليه وسلم ولا شك أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزة الجديدة ازدادوا إيماناً مع إيمانهم ، ومتى صاروا كذلك ازدادوا جدهم فى محاربة العدو . ووثوقهم بأن الله منجز وعده .
وثانيهما : أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال والنوم يفيد عود القوة والنشاط واشتداد القوة والقدرة .
وثالثها : أن الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى الله النوم على عين من بقى مهم لئلا يشاهدوا قتل أعزتهم فيشتد خوفهم .
ورابعها : أن الأعداء كانوا فى غاية الحرص على قتلهم فبقاؤهم فى النوم مع السلامة فى مثل تلك المعركة من أول الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم وذلك مما يزيل الخوف عن قلوهبم ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله " .
هذا جانب مما امتن الله به على المؤمنين من فضل ورعاية ، حيث أنزل عليهم النعاس فى أعقاب ما أصابهم من هموم ليكون راحة لأبدانهم ، وأمانا لنفوسهم .
أما غير المؤمنين الصادقين فلم ينزل عليهم هذا النعاس بل بقوا فى قلقهم وحسرتهم وقد عبر الله - تعالى - عنهم بقوله : { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية } .
وقوله { أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } حملتهم على الهم ، والهم ما يهتم له الإنسان أو ما يحزنه يقال : أهمنى الأمر أى أقلقنى وأزعجنى ، كما يقال : أهمنى الشىء ، أى جعلنى مهتما به اهتماماً شديداً .
والمعنى : أن الله - تعالى - أنزل النعاس أمانا واطمئنانا للمؤمنين الصادقين بعد أن أصابتهم الغموم ، وهناك طائفة أخرى من الذين اشتركوا فى غزوة أحد لم تكن صادقة فى إيمانها لأنها كانت لا يهمها شأن الإسلام انتصر أو انهزم ولا شأن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه . وإنما الذى كان يهمها هو شىء واحد وهو أمر نفسها وما يتعلق بذلك من الحصول على الغنائم ومتع الدنيا .
أو المعنى : أن هذه الطائفة قد أوقعت نفسها فى الهم والحزن بسبب عدم اطمئنانها وعدم صبرها ، وجزعها المستمر .
وإلى هذين العنيين أشار صاحب الكشاف بقوله : { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } أى : ما يهم إلا هم أنفسهم ، لا هم الدين ولا هم الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين . وقد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم فى الهموم والأشجان فهم فى التشاكى والتباكى " .
والجملة الكريمة مستأنفة مسوقة لبيان حال ضعاف الإيمان بعد أن بين - سبحانه - ما امتن به على أقوياء الإيمان .
وقوله : { يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية } وصف آخر لسوء أخلاق هذه الطائفة التى ضعف إيمانها ، وصارت لا يهمها إلا ما يتعلق بمنافعها الخاصة .
أى أن هذه الطائفة لم تكتف بما استولى عليها من طمع وجشع وحب لنفسها بل تجاوزت ذلك إلى سوء الظن بالله بأن توهمت بأن الله - تعالى - لن ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم وأن الإسلام ليس ديناً حقاً وأن المسلمين لن ينتصروا على المشركين بعد معركة أحد . . . إلى غير ذلك من الظنون الباطلة التى تتولد عند المرء الذى ضعف إيمانه وصار لا يهمه إلا أمر نفسه .
وقوله { يَظُنُّونَ بالله } حال من الضمير المنصوب فى { أَهَمَّتْهُمْ } أو استئناف على وجه البيان لما قبله .
وقوله { غَيْرَ الحق } مفعول مطلق وصف لمصدر محذوف أى يظنون بالله ظنا غير الحق الذى يجب أن يتحلى به المؤمنون إذ من شأن المؤمنين الصادقين أن يستسلموا لقدر الله بعد أن يباشروا الأسباب التى شرعها لهم : وأن يصبروا على ما أصابهم وأن يوقنوا بأن ما أصابهم هو بتقدير الله وبحكمته وبإرادته { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } وقوله { ظَنَّ الجاهلية } بدل أو عطف بيان مما قبله .
أى يظنون بالله شيئاً هو من شأن أهل الجاهلية الذين يتوهمون أن الله لا ينصر رسله ولا يؤيد أولياءه ولا يهزم أعداءه .
ثم بين - سبحانه - ما صدر عنهم من كلام باطل بسبب ظنونهم السيئة فقال - تعالى - { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } . والاستفهام للإنكار بمعنى النفى ، وهم يريدون بهذا القول تبرئة نفوسهم من أن يكونوا سببا فيما أصاب المسلمين من آلام يوم أحد ، وأن الذين تسببوا فى ذلك هم غيرهم .
أى : يقول بعضهم لبعض ليس لنا من الأمر شىء أى شىء فلسنا مسئولين عن الهزيمة التى حدثت للمسلمين فى أحد لأننا لم يكن لنا رأى يطاع ولأن الله - تعالى - لو أراد نصر محمد صلى الله عليه وسلم لنصره .
وهذا القول قاله عبد الله بن أبى بن سلول حين أخبروه بمن استشهد من قبيلة الخزرج فى غزوة أحد .
وذلك أن عبد الله بن أبى لما استشاره النبى صلى الله عليه وسلم فى شأن الخروج لقتال المشركين فى أحد أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة ، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج لقتال المشركين بناء على إلحاح بعض الصحابة .
فلما أخبر ابن أبى بمن قتل من الخزرج قال : هل لنا من الأمر شىء ؟ يعنى أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يقبل قوله حين أشار عليه بعدم الخروج من المدينة .
وقد أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد على هؤلاء الظانين بالله ظن السوء بقوله : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } .
أى قل لهم إن تقدير الأمور كلها لله - تعالى - وحده وإن العاقبة ستكون للمتقين ، إلا أنه - سبحانه - قد جعل لكل شىء سببا ، فمن أخلص لله فى جهاده وباشر الأسباب التى شرعها للنصر نصره الله - تعالى - ومن تطلع إلى الدنيا وزينتها وخالف أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أدبه الله - تعالى - بحجب نصره عنه حتى يفىء إلى رشده ويتوب توبة صادقة إلى ربه ، ويتخذ الوسائل التى شرعها الله - تعالى - للوصول إلى الفوز والظفر .
فالجملة الكريمة معترضة للرد عليهم فيما تقولوه من أباطيل .
ثم كشف - سبحانه - عما تخفيه نفوسهم من أمور سيئة فقال : { يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } .
أى : أن هؤلاء الذين أهمتهم أنفسهم : والذين يظنون بالله غير الحق . يخفون فى أنفسهم من الأقوال القبيحة والظنون السيئة أو يقولون فيما بينهم بطريق الخفية مالا يستطيعون إظهاره أمامك .
وهذه الجملة حال من الضمير فى قوله { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا } السابقة .
وقوله { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } بيان لبعض ما يخفون أو لما يقولونه فيما بينهم .
أى يقولون لو كان لنا من الأمر المطاع أو المسموع شىء ما خرجنا من المدينة إلى هذا المكان الذى قتل فيه أقاربنا وعشائرنا .
فأنت ترى أن القرآن يحكى عنهم أنهم يريدون تبرئة أنفسهم مما نزل بالمسلمين بأحد ، وأنهم لو كان لهم رأى مطاع لبقوا فى المدينة ولم يخرجوا منها لقتال المشركين ، وأن التبعة فى كل ما جرى فى غزوة أحد يتحملها النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين ألحوا عليه فى الخروج لقتال المشركين خارج المدينة ، وأن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه لو كانوا على الحق لانتصروا .
قال ابن جرير : وذكر أن ممن قال هذا القول - { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ } - معتب بن قشير من بنى عمرو بن عوف . فعن عبد الله بن الزبير عن الزبير قال ، والله إنى لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشانى ما أسمعه إلا كالحلم حين قال : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } .
وقد أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بما يدفع أقوالهم الباطلة فقال : { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ } .
وقوله { لَبَرَزَ } من البروز وهو الخروج من المكان الذى يستتر فيه الإنسان و ( المضاجع ) جمع مضجع وهو مكان النوم . والمراد به هنا المكان الذى استشهد فيه من استشهد من المسلمين .
والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء الذين يقولون : لو كان لنا من الأمر شىء ما قتل أقاربنا فى هذا المكان من جبل أحد . قل لهم لو كنتم فى بيوتكم ومنازلكم بالمدينة ولم تخرجوا للقتال بجملتكم ، لخرج لسبب من الأسباب الداعية إلى الخروج الذين كتب عليهم القتل فى اللوح الحفوظ إلى مضاجعهم أى أماكن قتلهم التى قدر الله لهم أن يقتلوا فيها لأنه ما من نفس تموت إلا بإذن الله وبإرادته ، ولن يستطيع أحد أن ينجو من قدر الله المحتوم وقضائه النافذ ، فإن الحذر لا يدفع القدر ، والتدبير لا يقاوم التقدير { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } وفى هذا الرد مبالغة فى إبطال ما قاله هؤلاء الذين يظنون بالله الظنون السيئة حيث لم يقتصر - سبحانه - على تحقيق القتل نفسه متى قدره بل عين مكانه - أيضاً - .
ثم بين - سبحانه - بعض الحكم من وراء ما حدث للمسلمين فى أحد فقال : { وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .
والابتلاء : الاختبارن وهو هنا كناية عن أثره ، وهو إظهاره للناس ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه .
والتمحيص تخليص الشىء مما يخالطه مما فيه عيب له .
والجملة معطوفة على كلام سابق يفهم من السياق . والتقدير : نزل بكم ما نزل من الشدائد فى أحد لتتعودوا تحمل الشدائد والمحن ، وليعاملكم - سبحانه - معاملة المختبر لنفوسكم ، فيظهر ما تنطوى عليه من خير أو شر ، حتى يتبين الخبيث من الطيب وليخلص ما فى قلوبكم ويزيل ما عساه يعلق بها من أدران ، ويطهرها مما يخالطها من ظنون سيئة - فإن القلوب يخالطها بحكم العادة وتزيين الشيطان واستيلاء الغفلة وحب الشهوات . ما يضاد ما أودع الله فيها من إيمان وإسلام وبر وتقوى .
فلو تركت فى عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخالطة ، ولم تتمحص من الآثام فاقتضت حكمة الله - تعالى - أن ينزل بها من المحن والبلاء ما يكون بالنسبة لها كالدواء الكريه لمن عرض له داء .
وقوله { والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أى عليم بأسرارها وضمائرها الخفية التى لا تفارقها فهو القائل { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء } وهو القائل { وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى }
ولقد أعقب هول الهزيمة وذعرها ، وهرجها ومرجها ، سكون عجيب . سكون في نفوس المؤمنين الذين ثابوا إلى ربهم ، وثابوا إلى نبيهم . لقد شملهم نعاس لطيف يستسلمون إليه مطمئنين !
والتعبير عن هذه الظاهرة العجيبة يشف ويرق وينعم ، حتى ليصور بجرسه وظله ذلك الجو المطمئن الوديع :
( ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم ) . .
وهي ظاهرة عجيبة تشي برحمة الله التي تحف بعباده المؤمنين ؛ فالنعاس حين يلم بالمجهدين المرهقين المفزعين ، ولو لحظة واحدة ، يفعل في كيانهم فعل السحر ، ويردهم خلقا جديدا ، ويسكب في قلوبهم الطمأنينة ، كما يسكب في كيانهم الراحة . بطريقة مجهولة الكنه والكيف ! أقول هذا وقد جربته في لحظة كرب وشدة . فأحسست فيه رحمة الله الندية العميقة بصورة تعجز عن وصفها العبارة البشرية القاصرة !
روى الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد ابن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال : " رفعت رأسي يوم أحد ، وجعلت أنظر ، وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت جحفته من النعاس " .
وفي رواية أخرى عن أبي طلحة : " غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه " . .
أما الطائفة الأخرى ؛ فهم ذوو الإيمان المزعزع ، الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم ، والذين لم يتخلصوا من تصورات الجاهلية ، ولم يسلموا أنفسهم كلها لله خالصة ، ولم يستسلموا بكليتهم لقدره ، ولم تطمئن قلوبهم إلى أن ما أصابهم إنما هو ابتلاء للتمحيص ، وليس تخليا من الله عن أوليائه لأعدائه ، ولا قضاء منه - سبحانه - للكفر والشر والباطل بالغلبة الأخيرة والنصر الكامل :
( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية . يقولون : هل لنا من الأمر من شيء ؟ ) . .
أن هذه العقيدة تعلم أصحابها - فيما تعلم - أن ليس لهم في أنفسهم شيء ، فهم كلهم لله ؛ وأنهم حين يخرجون للجهاد في سبيله يخرجون له ، ويتحركون له ، ويقاتلون له ، بلا هدف آخر لذواتهم في هذا الجهاد ، وأنهم يسلمون أنفسهم لقدره ، فيتلقون ما يأتيهم به هذا القدر في رضى وفي تسليم ، كائنا هذا القدر ما يكون .
فأما الذين تهمهم أنفسهم ، وتصبح محور تفكيرهم وتقديرهم ، ومحور اهتمامهم وانشغالهم . . فهؤلاء لم تكتمل في نفوسهم حقيقة الإيمان . ومن هؤلاء كانت تلك الطائفة الأخرى التي يتحدث عنها القرآن في هذا الموضع . طائفة الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم ، فهم في قلق وفي أرجحة ، يحسون أنهم مضيعون في أمر غير واضح في تصورهم ، ويرون أنهم دفعوا إلى المعركة دفعا ولا إرادة لهم فيها ؛ وهم مع ذلك يتعرضون للبلاء المرير ، ويؤدون الثمن فادحا من القتل والقرح والألم . . وهم لا يعرفون الله على حقيقته ، فهم يظنون بالله غير الحق ، كما تظن الجاهلية . ومن الظن غير الحق بالله أن يتصوروا أنه - سبحانه - مضيعهم في هذه المعركة ، التي ليس لهم من أمرها شيء ، وإنما دفعوا إليها دفعا ليموتوا ويجرحوا ، والله لا ينصرهم ولا ينقذهم ؛ إنما يدعهم فريسة لأعدائهم ، ويتساءلون :
( هل لنا من الأمر من شيء ؟ ) .
وتتضمن قولتهم هذه الاعتراض على خطة القيادة والمعركة . . ولعلهم ممن كان رأيهم عدم الخروج من المدينة ؛ ممن لم يرجعوا مع عبد الله بن أبي . . ولكن قلوبهم لم تكن قد استقرت واطمأنت . .
وقبل أن يكمل السياق عرض وساوسهم وظنونهم ، يبادر بتصحيح الأمر وتقرير الحقيقة فيما يتساءلون فيه ، ويرد على قولتهم : ( هل لنا من الأمر من شيء ؟ ) .
فلا أمر لأحد . لا لهم ولا لغيرهم . ومن قبل قال الله لنبيه [ ص ] ( ليس لك من الأمر شيء ) . فأمر هذا الدين ، والجهاد لإقامته وتقرير نظامه في الأرض ، وهداية القلوب له . . كلها من أمر الله ، وليس للبشر فيها من شيء ، إلا أن يؤدوا واجبهم ، ويفوا ببيعتهم ، ثم يكون ما يشاؤه الله كيف يكون !
ويكشف كذلك خبيئة نفوسهم قبل أن يكمل عرض وساوسهم وظنونهم :
( يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك ) . .
فنفوسهم ملأى بالوساوس والهواجس ، حافلة بالاعتراضات والاحتجاجات ؛ وسؤالهم : ( هل لنا من الأمر من شيء ) . . يخفي وراءه شعورهم بأنهم دفعوا إلى مصير لم يختاروه ! وأنهم ضحية سوء القيادة ، وأنهم لو كانوا هم الذين يديرون المعركة ما لاقوا هذا المصير .
( يقولون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ) . .
وهو الهاجس الذي يجيش في النفوس التي لم تخلص للعقيدة ، حينما تصطدم في موقعة بالهزيمة ، وحينما تعاني آلام الهزيمة ! حين ترى الثمن أفدح مما كانت تظن ؛ وأن الثمرة أشد مرارة مما كانت تتوقع ؛ وحين تفتش في ضمائرها فلا ترى الأمر واضحا ولا مستقرا ؛ وحين تتخيل أن تصرف القيادة هو الذي القى بها في هذه المهلكة ، وكانت في نجوة من الأمر لو كان أمرها في يدها ! وهي لا يمكن - بهذا الغبش في التصور - أن ترى يد الله وراء الأحداث ، ولا حكمته في الابتلاء . إنما المسألة كلها - في اعتبارها - خسارة في خسارة ! وضياع في ضياع !
هنا يجيئهم التصحيح العميق للأمر كله . لأمر الحياة والموت . ولأمر الحكمة الكامنة وراء الابتلاء :
( قل : لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . وليبتلي الله ما في صدوركم ، وليمحص ما في قلوبكم ، والله عليم بذات الصدور )
قل لو كنتم في بيوتكم ؛ ولم تخرجوا للمعركة تلبية لنداء القيادة ، وكان أمركم كله لتقديركم . . لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . . إن هنالك أجلا مكتوبا لا يستقدم ولا يستأخر . وإن هنالك مضجعا مقسوما لا بد أن يجيء إليه صاحبه فيضجع فيه ! فإذا حم الأجل ، سعى صاحبه بقدميه إليه ، وجاء إلى مضجعه برجليه ، لا يسوقه أحد إلى أجله المرسوم ، ولا يدفعه أحد إلى مضجعه المقسوم !
ويا للتعبير العجيب . . " إلى مضاجعهم " . . فهو مضجع إذن ذلك الرمس الذي تستريح فيه الجنوب ، وتسكن فيه الخطى ، وينتهي إليه الضاربون في الأرض . . مضجع يأتون إليه بدافع خفي لا يدركونه ولا يملكونه ، إنما هو يدركهم ويملكهم ؛ ويتصرف في أمرهم كما يشاء . والاستسلام له أروح للقلب ، وأهدأ للنفس ، وأريح للضمير !
( وليبتلي الله ما في صدوركم ، وليمحص ما في قلوبكم ) . .
فليس كالمحنة محك يكشف ما في الصدور ، ويصهر ما في القلوب ، فينفي عنها الزيف والرياء ، ويكشفها على حقيقتها بلا طلاء . . فهو الابتلاء والاختبار لما في الصدور ، ليظهر على حقيقته ، وهو التطهير والتصفية للقلوب ، فلا يبقى فيها دخل ولا زيف . وهو التصحيح والتجلية للتصور ؛ فلا يبقى فيه غبش ولا خلل :
وذات الصدور هي الأسرار الخفية الملازمة للصدور ، المختبئة فيها ، المصاحبة لها ، التي لا تبارحها ولا تتكشف في النور ! والله عليم بذات الصدور هذه . ولكنه - سبحانه - يريد أن يكشفها للناس ، ويكشفها لأصحابها أنفسهم ، فقد لا يعلمونها من أنفسهم ، حتى تنفضها الأحداث وتكشفها لهم !
يقول تعالى مُمْتَنا على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمَنَة ، وهو النعاس الذي غشيهم وهم مسْتَلْئمو السلاح في حال هَمِّهم وغَمِّهم ، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان{[5947]} كما قال تعالى في سورة الأنفال ، في قصة بدر : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [ وَيُنزلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ ] {[5948]} } [ الأنفال : 11 ] .
وقال [ الإمام ]{[5949]} أبو محمد عبد الرحمن ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو نعيم وكيع{[5950]} عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله بن مسعود قال : النعاس في القتال من الله ، وفي الصلاة من الشيطان .
قال البخاري : قال{[5951]} لي خليفة : حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، عن أبي طلحة ، رضي الله عنه ، قال : كنت فيمن تَغَشاه{[5952]} النعاس يوم أحُد ، حتى سقط سيفي من يدي مرارا ، يسقط وآخذه ، ويسقط وآخذه .
هكذا رواه في المغازي معلقا . ورواه في كتاب التفسير مُسْنَدًا عن شيبان ، عن قتادة ، عن أنس ، عن أبي طلحة قال : غَشينا النعاس ونحن في مَصَافنا يوم أحد . قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه .
وقد رواه الترمذي والنسائي والحاكم ، من حديث حَمَّاد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، عن أبي طلحة قال : رفعت رأسي يوم أحُد ، وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميد{[5953]} تحت جَحَفَتِه من النعاس . لفظ الترمذي ، وقال : حسن صحيح .
ورواه النسائي أيضا ، عن محمد بن المثنى ، عن خالد بن الحارث ، عن أبي قتيبة ، عن ابن أبي عدي ، كلاهما عن حميد ، عن أنس قال : قال أبو طلحة : كنت فيمن ألقي عليه النعاس - الحديث{[5954]} .
وهكذا رُوي عن الزبير وعبد الرحمن بن عوف ، رضي الله عنه{[5955]} .
وقال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو الحسين محمد بن يعقوب ، أخبرنا محمد بن إسحاق الثقفي ، حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخزومي ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا شيبان ، عن قتادة ، حدثنا أنس بن مالك ؛ أن أبا طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحُد ، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ، قال : والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هَمٌّ إلا أنفسهُم ، أجبن قوم وأرعنه ، وأخْذَله للحق { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } كَذَبَةَ ، أهل{[5956]} شك وريب في الله ، عز وجل{[5957]} .
هكذا رواه بهذه الزيادة ، وكأنها من كلام قتادة ، رحمه الله ، وهو كما قال ؛ فإن الله عز وجل يقول : { ثُمَّ أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ } يعني : أهل الإيمان واليقين والثبات{[5958]} والتوكل الصادق ، وهم الجازمون بأن الله سينصر رسوله ويُنْجِز له مأموله ، ولهذا قال : { وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } يعني : لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } كما قال في الآية الأخرى : { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا [ وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ]{[5959]} } [ الفتح : 12 ] وهكذا هؤلاء ، اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنَّها الفيصلة{[5960]} وأن الإسلام قد باد وأهلُه ، هذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة ، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة .
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم { يَقُولُونَ } في تلك الحال : { هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ } قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ } ثم فَسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله : { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } أي : يسرون {[5961]} هذه المقالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال [ محمد ]{[5962]} بن إسحاق بن يسار : فحدثني يحيى بن عباد{[5963]} بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير قال : قال الزبير : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا ، أرسل الله علينا النوم ، فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره ، قال : فوالله إني لأسمع قول مُعْتَب بن قُشَير ، ما أسمعه إلا كالحلم ، [ يقول ]{[5964]} { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } فحفظتها منه ، وفي ذلك أنزل الله [ تعالى ]{[5965]} { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } لقول مُعتَب . رواه ابن أبي حاتم .
قال الله تعالى : { قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } أي : هذا قدر مقدر من الله عز وجل ، وحكم حَتْم لا يحاد{[5966]} عنه ، ولا مناص منه .
وقوله : { وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي : يختبركم بما جرى عليكم ، وليميز الخبيثَ من الطيب ، ويظهر أمْرَ المؤمن والمنافق للناس في الأقوال والأفعال ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بما يختلج{[5967]} في الصدور من السرائر والضمائر .
{ ثُمّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نّعَاساً يَغْشَىَ طَآئِفَةً مّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ يَقُولُونَ هَل لّنَا مِنَ الأمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنّ الأمْرَ كُلّهُ للّهِ يُخْفُونَ فِيَ أَنْفُسِهِم مّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىَ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ }
يعني بذلك جل ثناؤه : ثم أنزل الله أيها المؤمنون من بعد الغمّ الذي أثابكم ربكم بعد غمّ تقدمه قبله أمنة ، وهي الأمان على أهل الإخلاص منكم واليقين ، دون أهل النفاق والشك . ثم بين جلّ ثناؤه عن الأمنة التي أنزلها عليهم ما هي ؟ فقال : نعاسا ، بنصب النعاس على الإبدال من الأمنة .
ثم اختلفت القراء في قراءة قوله : { يَغْشَى } فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والمدينة والبصرة وبعض الكوفيين بالتذكير بالياء : { يَغْشَى } . وقرأ جماعة من قراء الكوفيين بالتأنيث : { تَغْشَى } بالتاء . وذهب الذين قرءوا ذلك بالتذكير إلى أن النعاس هو الذي يغشى الطائفة من المؤمنين دون الأمنة ، فذكره بتذكير النعاس . وذهب الذين قرءوا ذلك بالتأنيث إلى أن الأمنة هي التي تغشاهم ، فأنثوه لتأنيث الأمنة .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراء الأمصار غير مختلفتين في معنى ولا غيره ، لأن الأمنة في هذا الموضع هي النعاس ، والنعاس : هو الأمنة . وسواء ذلك ، وبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب الحقّ في قراءته ، وكذلك جميع ما في القرآن من نظائره من نحو قوله : { إنّ شَجَرَةَ الزّقُومِ طعَامُ الأثِيمِ كالمُهْلِ تَغْلي في البُطُونِ } و { ألَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ منّي تُمْنَى } { وَهُزّي إلَيْكِ بِجذْعِ النّخْلَةِ تُسَاقِطْ } .
فإن قال قائل : وما كان السبب الذي من أجله افترقت الطائفتان اللتان ذكرهما الله عزّ وجلّ فيما افترقتا فيه من صفتهما ، فآمنت إحداهما بنفسها حتى نعست ، وأهمت الأخرى نفسها حتى ظنت بالله غير الحقّ ظنّ الجاهلية ؟ قيل : كان سبب ذلك فيما ذكر لنا ، كما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أن المشركين انصرفوا يوم أُحُد بعد الذي كان من أمرهم وأمر المسلمين ، فواعدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم بدرا من قابل ، فقال لهم : «نعم » فتخوّف المسلمون أن ينزلوا المدينة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً ، فقال : «انْظُر فإنْ رأيتهم قَعدُوا على أثْقَالهم وجَنَبُوا خُيُولَهُمْ ، فإنّ القَوْمَ ذَاهِبُونَ ، وإنْ رأيْتُهمْ قد قعدوا على خيولهم وجَنَبُوا على أثقالهم ، فإنّ القَوْم يَنْزِلُونَ المَدِينَةَ ، فاتّقُوا الله واصْبِرُوا ! » ووطنهم على القتال¹ فلما أبصرهم الرسول تعدوا على الأثقال سراعا عجالاً ، نادى بأعلى صوته بذهابهم¹ فلما رأى المؤمنون ذلك صدّقوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فناموا ، وبقي أناس من المنافقين يظنون أن القوم يأتونهم ، فقال الله جلّ وعزّ يذكر حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم إن كانوا ركبوا الأثقال فإنهم منطلقون فناموا : { ثُمّ أنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمّ أمنَةً نُعاسا يَغْشَى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ويَظُنّونَ باللّهِ غيرِ الحَقّ ظَنّ الجاهِلِيّة } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : أمنهم يومئذ بنعاس غشاهم ، وإنما ينعس من يأمن¹ { يَغْشَى طائِفَةً مِنْكُمْ وطَائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أنْفُسُهُم يَظُنّونَ باللّهِ غير ظَنّ الجاهِلِيّةِ } .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن حميد ، عن أنس بن مالك ، عن أبي طلحة ، قال : كنت فيمن أنزل عليه النعاس يوم أُحد أمنة ، حتى سقط من يدي مرارا .
قال أبو جعفر : يعني : سوطه ، أو سيفه .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، عن أبي طلحة ، قال : رفعت رأسي يوم أُحد ، فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلا تحت حجفته يميد من النعاس .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عمران ، عن قتادة ، عن أنس ، عن أبي طلحة قال : كنت فيمن صبّ عليه النعاس يوم أُحد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : حدثنا أنس بن مالك ، عن أبي طلحة : أنه كان يومئذٍ ممن غشيه النعاس ، قال : كان السيف يسقط من يدي ثم آخذه من النعاس .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ذكر لنا والله أعلم عن أنس أن أبا طلحة حدثهم أنه كان يومئذٍ ممن غشيه النعاس ، قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ويسقط ، والطائفة الأخرى : المنافقون ، ليس لهم همة إلا أنفسهم { يَظُنونَ باللّهِ غيرَ الحَقّ ظَنّ الجاهِلِيّةِ } . . . الاَية كلها .
حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي ، قال : حدثنا ضرار بن صرد ، قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن محمد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة ، عن أبيه قال : سألت عبد الرحمن بن عوف عن قول الله عزّ وجلّ : { ثُمّ أنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمّ أمَنَةً نُعاسا } قال : ألقي علينا النوم يوم أُحد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ثُمّ أنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمّ أمَنَةً نُعاسا } . . . الاَية ، وذاكم يوم أُحد ، كانوا يومئذٍ فريقين¹ فأما المؤمنون فغشاهم الله النعاس أمنة منه ورحمة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، نحوه .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { أمَنَةً نُعاسا } قال : ألقي عليهم النعاس ، فكان ذلك أمنة لهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، قال : قال عبد الله : النعاس في القتال أمنة ، والنعاس في الصلاة من الشيطان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { ثُمّ أنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمّ أمَنَةً نُعاسا } قال : أنزل النعاس أمنة منه على أهل اليقين به ، فهم نيام لا يخافون .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { أمَنَةً نُعاسا } قال : ألقى الله عليهم النعاس ، فكان أمنة لهم . وذكر أن أبا طلحة قال : ألقي عليّ النعاس يومئذٍ ، فكنت أنعس حتى يسقط سيفي من يدي .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا إسحاق بن إدريس ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرنا ثابت ، عن أنس بن مالك ، عن أبي طلحة ، وهشام بن عروة بن الزبير أنهما قالا : لقد رفعنا رءوسنا يوم أُحد ، فجعلنا ننظر ، فما منهم من أحد إلا وهو يميل بجنب حجفته قال : وتلا هذه الاَية : { ثُمّ أنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمّ أمَنَةً نُعاسا } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَطائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أنْفُسُهُمْ يَظُنّونَ باللّهِ غيرَ الحَقّ ظَن الجاهِلِيّة } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وطائفة منكم أيها المؤمنون قد أهمتهم أنفسهم ، يقول : هم المنافقون لا همّ لهم غير أنفسهم ، فهم من حذر القتل على أنفسهم ، وخوف المنية عليها في شغل ، قد طار عن أعينهم الكرى ، يظنون بالله الظنون الكاذبة ، ظنّ الجاهلية من أهل الشرك بالله ، شكا في أمر الله ، وتكذيبا لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وَمَحْسَبَةً منهم أن الله خاذل نبيه ، ومعل عليه أهل الكفر به ، يقولون : هل لنا من الأمر شيء . كالذي :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : والطائفة الأخرى : المنافقون ، ليس لهم همّ إلا أنفسهم ، أجبن قوم وأرعبه ، وأخذله للحقّ ، يظنون بالله غير الحقّ ظنونا كاذبة ، إنما هم أهل شكّ وريبة في أمر الله ، يقولون : { لَوْ كانَ لنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هَهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبرزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ القَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِم } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : والطائفة الأخرى : المنافقون ليس لهم همة إلا أنفسهم ، يظنون بالله غير الحقّ ظنّ الجاهلية ، يقولون : { لَوْ كانَ لنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هَهُنا } قال الله عزّ وجلّ : { قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ } . . . الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَطائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أنْفُسُهُمْ } قال : أهل النفاق قد أهمتهم أنفسهم تخوّف القتل ، وذلك أنهم لا يرجون عاقبة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَطائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أنْفسُهُمْ } إلى آخر الاَية ، قال : هؤلاء المنافقون .
وأما قوله : { ظَنّ الجاهِلِيّةِ } فإنه يعني أهل الشرك . كالذي :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { ظَنّ الجاهِلِيّة } قال : ظنّ أهل الشرك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { ظَنّ الجاهِلِيّة } قال : ظنّ أهل الشرك .
وفي رفع قوله : { وَطائِفَةٌ } وجهان : أحدهما أن تكون مرفوعة بالعائد من ذكرها في قوله : { قَدْ أهَمّتْهُمْ } ، والاَخر بقوله : { يَظُنّونَ باللّهِ غيرَ الحَقّ } ولو كانت منصوبة كان جائزا ، وكانت الواو في قوله : { وَطائفَةٌ } ظرفا للفعل ، بمعنى : وأهمت طائفة أنفسهم ، كما قال : { وَالسّماءَ بَنَيْناها بأيْدٍ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَقُولُونَ هَلْ لنَا مِنَ الأمْرِ مِن شَيّءٍ قُلْ إنّ الأمْرَ كُلّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ في أنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ ، يَقُولُونَ لَوْ كانَ لنَا مِنَ الأمْرِ شَيّءٌ ما قُتِلْنَا هَهُنا } :
يعني بذلك : الطائفة المنافقة التي قد أهمتهم أنفسهم ، يقولون : ليس لنا من الأمر من شيء ، قل إن الأمر كله لله ، ولو كان لنا من الأمر شيء ما خرجنا لقتال من قاتلنا فقتلونا . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قيل لعبد الله بن أبيّ : قتل بنو الخزرج اليوم ! قال : وهل لنا من الأمر من شيء ؟ قل إن الأمر كله لله .
وهذا أمر مبتدأ من الله عزّ وجلّ ، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المنافقين إن الأمر كله لله ، يصرفه كيف يشاء ويدبره كيف يحبّ ، ثم عاد إلى الخبر عن ذكر نفاق المنافقين ، فقال : { يُخْفُونَ في أنْفُسِهُمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ } يقول : يخفي يا محمد هؤلاء المنافقون الذين وصفت لك صفتهم في أنفسهم من الكفر والشكّ في الله ما لا يبدون لك ، ثم أظهر نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانوا يخفونه بينهم من نفاقهم ، والحسرة التي أصابتهم على حضورهم مع المسلمين مشهدهم بأحد ، فقال مخبرا عن قيلهم الكفر ، وإعلانهم النفاق بينهم ، يقولون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا ، يعني بذلك أن هؤلاء المنافقين يقولون : لو كان الخروج إلى حرب من خرجنا لحربه من المشركين إلينا ، ما خرجنا إليهم ، ولا قتل منا أحد في الموضع الذي قُتلوا فيه بأُحد . وذكر أن ممن قال هذا القول معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف . ذكر الخبر بذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق : ثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير ، عن الزبير ، قال : والله إني لأسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف ، والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا .
حدثني سعيد بن يحيى بن الأموي ، قال : ثني أبي ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، بمثله .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق : { قُلْ إنّ الأمْرَ كُلّهُ } بنصب الكلّ على وجه النعت للأمر والصفة له . وقرأه بعض قراء أهل البصرة : { قُلْ إنّ الأمْرُ كُلّهُ لِلّهِ } برفع الكلّ على توجيه الكلّ إلى أنه اسم ، وقوله «لله » خبره ، كقول القائل : إن الأمر بعضه لعبد الله . وقد يجوز أن يكون الكلّ في قراءة من قرأه بالنصب منصوبا على البدل . والقراءة التي هي القراءة عندنا النصب في الكلّ لإجماع أكثر القراء عليه ، من غير أن تكون القراءة الأخرى خطأ في معنى أو عربية . ولو كانت القراءة بالرفع في ذلك مستفيضة في القراء ، لكانت سواء عندي القراءة بأيّ ذلك قرىء لاتفاق معاني ذلك بأي وجهيه قرىء .
{ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ ما فِي صُدُورِكُمُ وَلِيُمَحّصَ ما فِي قُلُوبِكُمُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } :
يعني بذلك جلّ ثناؤه : قل يا محمد للذين وصفت لك صفتهم من المنافقين : لو كنتم في بيوتكم لم تشهدوا مع المؤمنين مشهدهم ، ولم تحضروا معهم حرب أعدائهم من المشركين ، فيظهر للمؤمنين ما كنتم تخفونه من نفاقكم ، وتكتمونه من شرككم في دينكم ، لبرز الذين كتب عليهم القتل ، يقول : لظهر للموضع الذي كتب عليه مصرعه فيه من قد كتب عليه القتل منهم ، ويخرج من بيته إليه ، حتى يصرع في الموضع الذي كتب عليه أن يصرع فيه .
وأما قوله : { وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ } : فإنه يعني به : وليبتلي الله ما في صدوركم أيها المنافقون كنتم تبرزون من بيوتكم إلى مضاجعكم . ويعني بقوله : { وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ ما فِي صُدُورِكُم } : وليختبر الله الذي في صدوركم من الشكّ ، فيميزكم بما يظهره للمؤمنين من نفاقكم من المؤمنين .
وقد دللنا فيما مضى على أن معاني نظائر قوله : { لِيَبْتَلَيَ اللّهُ } { ولِيَعْلَمَ اللّهُ } وما أشبه ذلك ، وإن كان في ظاهر الكلام مضافا إلى الله الوصف به ، فمراد به أولياؤه وأهل طاعته¹ وأن معنى ذلك : وليختبر أولياء الله ، وأهل طاعته ، الذي في صدوركم من الشكّ والمرض ، فيعرفوكم من أهل الإخلاص واليقين . { ولِيُمَحّصَ ما في قُلُوبِكُمْ } يقول : وليتبينوا ما في قلوبكم من الاعتقاد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من العداوة أو الولاية . { وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } يقول : والله ذو علم بالذي في صدور خلقه من خير وشرّ وإيمان وكفر ، لا يخفى عليه شيء من أمورهم ، سرائرها وعلانيتها ، وهو لجميع ذلك حافظ ، حتى يجازي جميعم جزاءهم على قدر استحقاقهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن إسحاق يقول .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة . عن ابن إسحاق ، قال : ذكر الله تلاومهم ، يعني : تلاوم المنافقين وحسرتهم على ما أصابهم . ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لو كنتم في بيوتكم لم تحضروا هذا الموضع الذي أظهر الله جلّ ثناؤه فيه منكم ما أظهر من سرائركم ، لأخرج الذي كتب عليهم القتل إلى موطن غيره يصرعون فيه ، حتى يبتلي به ما في صدوركم¹ وليمحص ما في قلوبكم ، والله عليم بذات الصدور ، أي لا يخفي عليه شيء مما في صدورهم مما استخفوا به منكم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا الحرث بن مسلم ، عن بحر السقاء ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن ، قال : سئل عن قوله : { قُلْ لَوْ كَنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَليْهمْ القَتْلُ إلى مَضَاجِعَهُمْ } قال : كتب الله على المؤمنين أن يقاتلوا في سبيله ، وليس كل من يقاتل يقتل ، ولكن يقتل من كتب الله عليه القتل .
{ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا } أنزل الله عليكم الأمن حتى أخذكم النعاس ، وعن أبي طلحة غشينا النعاس في المصاف حتى كان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ، ثم يسقط فيأخذه . والأمنة الأمن نصب على المفعول ونعاسا بدل منها أو هو المفعول ، و{ أمنة } حال منه متقدمة أو مفعول له أو حال من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة أو على أنه جمع آمن كبار وبررة . وقرئ { أمنة } بسكون الميم كأنها المرة في الإمر { يغشى طائفة منكم } أي النعاس وقرأ حمزة والكسائي بالتاء ردا على الأمنة والطائفة المؤمنون حقا . { وطائفة } هم المنافقون . { قد أهمتهم أنفسهم } أوقعتهم أنفسهم في الهموم ، أو ما يهمهم إلا هم أنفسهم وطلب خلاصها . { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } صفة أخرى لطائفة أو حال أو استئناف على وجه البيان لما قبله ، وغير الحق نصب على المصدر أي : يظنون بالله غير الظن الحق الذي يحق أن يظن به ، و{ ظن الجاهلية } بدله وهو الظن المختص بالملة الجاهلية وأهلها . { يقولون } أي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بدل من يظنون . { هل لنا من الأمر من شيء } هل لنا مما أمر الله ووعد من النصر والظفر نصيب قط . وقيل : أخبر ابن أبي بقتل بني الخزرج فقال ذلك ، والمعنى إنا منعنا تدبير أنفسنا وتصريفها باختيارنا ، فلم يبق لنا من الأمر شيء أو هل يزول عنا هذا القهر فيكون لنا من الأمر شيء { قل إن الأمر كله لله } أي الغلبة الحقيقية لله تعالى ولأوليائه فإن حزب الله هم الغالبون ، أو القضاء له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو اعتراض . وقرأ أبو عمرو ويعقوب كله بالرفع على الابتداء . { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } حال من الضمير يقولون أي يقولون مظهرين إنهم مسترشدون طالبون النصر مبطلين الإنكار والتكذيب . { يقولون } أي في أنفسهم وإذا خلا بعضهم إلى بعض وهو بدل من يخفون أو استئناف على وجه البيان له . { لو كان لنا من الأمر شيء } كما وعد محمد أو زعم أن الأمر كله لله ولأوليائه ، أو لو كان لنا اختيار وتدبير ولم نبرح كما كان ابن أبي وغيره . { ما قتلنا ها هنا } لما غلبنا ، أو لما قتل من قتل منا في هذه المعركة . { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } أي لخرج الذين قدر الله عليهم القتل وكتبه في اللوح المحفوظ إلى مصارعهم ولم تنفعهم الإقامة بالمدينة ولم ينج منهم أحد ، فإنه قدر الأمور ودبرها في سابق قضائه لا معقب لحكمه . { وليبتلي الله ما في صدوركم } وليمتحن ما في صدوركم ويظهر سرائرها من الإخلاص والنفاق ، وهو علة فعل محذوف أي وفعل ذلك ليبتلي أو عطف على محذوف أي لبرز لنفاذ القضاء أو لمصالح جمة وللابتلاء ، أو على لكيلا تحزنوا . { وليمحص ما في قلوبكم } وليكشفه ويميزه أو يخلصه من الوساوس . { والله عليم بذات الصدور } بخفياتها قل إظهارها ، وفيه وعد ووعيد وتنبيه على أنه غني عن الابتلاء وإنما فعل ذلك لتمرين المؤمنين وإظهار حال المنافقين .
ثم ذكر الله تعالى أمر النعاس الذي أمن به المؤمنين ، فغشي أهل الإخلاص ، وذلك أنه لما ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب ، قال النبي عليه السلام لعلي بحضرة أصحابه المتحيزين في تلك الساعة إليه : اذهب فانظر إلى القوم ، فإن جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة ، وإن كانوا على خيلهم فهم عامدون{[3625]} إلى المدينة ، فاتقوا الله واصبروا{[3626]} ، ووطنهم على القتال ، فمضى علي ثم رجع ، فأخبر أنهم جنبوا الخيل وقعدوا على أثقالهم عجالاً ، فآمن الموقنون المصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألقى الله عليهم النعاس ، وبقي المنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يصدقون ، بل كان ظنهم أن أبا سفيان يؤم المدينة ولا بد ، فلم يقع على أحد منهم نوم ، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية ، قال أبو طلحة : لقد نمت في ذلك اليوم حتى سقط سيفي من يدي مراراً{[3627]} ، وقال الزبير بن عوام : لقد رفعت رأسي يوم أحد من النوم فجعلت أنظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فما منهم أحد إلا وهو يميل تحت جحفته{[3628]} ، وقال ابن مسعود : نعسنا يوم -أحد- والنعاس في الحرب أمنة من الله ، والنعاس في الصلاة من الشيطان ، وقرأ جمهور الناس «أمَنة » بفتح الميم ، وقرأ ابن محيصن والنخعي «أمْنة » بسكون الميم ، وهما بمعنى الأمن ، وفتح الميم أفصح ، وقوله : { نعاساً } بدل ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «يغشي » بالياء حملاً على لفظ النعاس بإسناد الفعل إلى ضمير البدل ، وقرأ حمزة والكسائي «تغشى » بالتاء حملاً على لفظ - الأمنة - بإسناد الفعل إلى ضمير المبدل{[3629]} منه ، والواو في قوله تعالى : { وطائفة قد أهمتهم } هي واو الحال كما تقول : جئت وزيد قائم ، قاله سيبويه وغيره قال الزجاج : وجائز أن يكون خبر قوله { وطائفة } قوله - يظنون - ويكون قد أهمتهم صفة للطائفة ، وقوله تعالى : { قد أهمتهم أنفسهم } ذهب أكثر المفسرين قتادة والربيع وابن إسحاق وغيرهم : إلى أن اللفظة من الهم الذي هو بمعنى الغم والحزن ، والمعنى : أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة ، قد جلبت إليهم الهم خوف القتل وذهاب الأموال ، تقول العرب : أهمني الشيء إذا جلب الهم ، وذكر بعض المفسرين : أن اللفظة من قولك : هم بالشيء يهم إذا أراد فعله .
قال القاضي أبو محمد : أهمتهم أنفسهم المكاشفة ، ونبذ الدين ، وهذا قول من قال : قد قتل محمد ، فلنرجع إلى ديننا الأول ونحو هذا من الأقوال .
{ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِى أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قَلْ لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدوُرِ }
قوله تعالى : { غير الحق } معناه : يظنون أن الإسلام ليس بحق وأن أمر محمد عليه السلام يضمحل ويذهب ، وقوله : { ظن الجاهلية } ذهب جمهور الناس إلى أن المراد مدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام ، وهذا كما قال : { حمية الجاهلية } و { تبرج الجاهلية }{[3630]} ، وكما تقول شعر الجاهلية ، وكما قال ابن عباس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا كأساً دهاقاً ، وذهب بعض المفسرين إلى أنه أراد في هذه الآية ظن الفرقة الجاهلية ، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه ، والأمر محتمل ، وقد نحا هذا المنحى قتادة والطبري{[3631]} ، وقوله تعالى : { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } حكاية كلام قالوه ، قال قتادة وابن جريج : قيل لعبد الله بن أبي بن سلول : قتل بنو الخزرج فقال : «وهل لنا من الأمر من شيء » ؟ يريد أن الرأي ليس لنا ، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا فلم يخرج فلم يقتل أحد منا ، وهذا منهم قول بأجلين ، وكان كلامهم يحتمل الكفر والنفاق ، على معنى : ليس لنا من أمر الله شيء ، ولا نحن على حق في اتباع محمد ، ذكره المهدوي وابن فورك ، لكن يضعف ذلك أن الرد عليهم إنما جاء على أن كلامهم في معنى سوء الرأي في الخروج ، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد{[3632]} ، وقوله تعالى : { قل إن الأمر كله لله } اعتراض أثناء الكلام فصيح ، وقرأ جمهور القراء «كلَّه » - بالنصب على تأكيد الأمر ، لأن «كله » بمعنى أجمع ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء «كلُّه لله » برفع كل على الابتداء والخبر ، ورجح الناس قراءة الجمهور لأن التأكيد أملك بلفظة «كل »{[3633]} ، وقوله تعالى : { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } يحتمل أن يكون إخباراً عن تسترهم بمثل هذه الأقوال التي ليست بمحض كفر ، بل هي جهالة ، ويحتمل أن يكون إخباراً عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزعات ، وأخبر تعالى عنهم على الجملة دون تعيين ، وهذه كانت سنته في المنافقين ، لا إله إلا هو ، وقوله تعالى : { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } هي مقالة سمعت من معتب بن قشير المغموص عليه بالنفاق ، وقال الزبير بن العوام فيما أسند الطبري عنه : والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير{[3634]} أخي بني عمرو بن عوف ، والنعاس يغشاني ، ما أسمعه إلا كالحلم حين قال { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } .
قال القاضي أبو محمد : وكلام معتب يحتمل من المعنى ما احتمل كلام عبد الله بن أبي ، ومعتب هذا ممن شهد بدراً ، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره ، وقال ابن عبد البر{[3635]} : إنه شهد العقبة ، وذلك وهم ، والصحيح أنه لم يشهد عقبة ، وقوله تعالى : { قل لو كنتم في بيوتكم } الآية رد على الأقوال ، وإعلام بأن أجل كل امرىء إنما هو واحد ، فمن لم يقتل فهو يموت لذلك الأجل على الوجه الذي قدر الله تعالى ، وإذا قتل فذلك هو الذي كان في سابق الأزل{[3636]} ، وقرأ جمهور الناس «في بُيوتكم » بضم الباء ، وقرأ بعض القراء وهي بعض طرق السبعة «في بِيوتكم » ، بكسر الباء ، وقرأ جمهور الناس «لَبَرَز » بفتح الراء والباء على معنى : صاروا في البراز من الأرض ، وقرأ أبو حيوة «لبُرِّز » بضم الباء وكسر الراء وشدها ، وقرأ جمهور الناس : «عليهم القَتل » أي كتب عليهم في قضاء الله وتقديره ، وقرأ الحسن والزهري : «عليهم القتال » وتحتمل هذه القراءة معنى الاستغناء عن المنافقين ، أي لو تخلفتم أنتم لبرز المؤمنون الموقنون المطيعون في القتال المكتوب عليهم ، وقوله تعالى : { وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم } الآية ، اللام في قوله تعالى : { وليبتلي } متعلقة بفعل متأخر تقديره وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة والابتلاء هنا هو الاختبار ، والتمحيص : تخليص الشيء من غيره ، والمعنى ليختبره فيعلمه علماً مساوقاً لوجوده وقد كان متقرراً قبل وجود الابتلاء أزلاً ، و { ذات الصدور } ما تنطوي عليه من المعتقدات ، هذا هو المراد في هذه الآية .