176- ولو شئنا رفعه إلى منازل الأبرار لرفعناه إليها ، بتوفيقه للعمل بتلك الآيات ، ولكنه تعلق بالأرض ولم يرتفع إلى سماء الهداية ، واتبع هواه ، فصار حاله في قلقه الدائم ، وانشغاله بالدنيا ، وتفكيره المتواصل في تحصيلها كحال الكلب في أسوأ أحواله عندما يلهث دائما ، إن زجرته أو تركته ، إذ يندلع لسانه من التنفس الشديد ، وكذلك طالب الدنيا يلهث وراء متعه وشهواته دائما . إن ذلك الوصف الذي اتصف به المنسلخ من آياتنا ، هو وصف جميع الذين كذبوا بآياتنا المنزلة . فاقصص عليهم قصصه ليتفكروا فيؤمنوا{[70]} .
قوله تعالى : { ولو شئنا لرفعناه بها } ، أي : رفعنا درجته ومنزلته بتلك الآيات ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لرفعناه بعلمه بها . وقال مجاهد وعطاء : لرفعنا عنه الكفر ، وعصمناه بالآيات .
قوله تعالى : { ولكنه أخلد إلى الأرض } ، أي : سكن إلى الدنيا ومال إليها . قال الزجاج : خلد وأخلد واحد . وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام ، يقال : أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ، والأرض هاهنا عبارة عن الدنيا ، لأن ما فيها من القفار والرباع كلها أرض ، وسائر متاعها مستخرج من الأرض .
قوله تعالى : { واتبع هواه } ، انقاد لما دعاه إليه الهوى ، قال ابن زيد : كان هواه مع القوم ، قال عطاء : أراد الدنيا ، وأطاع شيطانه ، وهذه أشد آية على العلماء ، وذلك أن الله أخبر أنه آتاه آياته من اسمه الأعظم والدعوات المستجابة ، والعلم ، والحكمة ، فاستوجب بالسكون إلى الدنيا ، واتباع الهوى ، تغيير النعمة عليه والانسلاخ عنها ، ومن الذي يسلم من هاتين الخلتين إلا من عصمه الله ؟
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنا عبد الله بن محمود ، أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنا عبد الله بن المبارك ، عن زكريا بن أبي زائدة ، عن محمد بن عبد الرحمن ابن سعيد بن زرارة ، عن كعب بن مالك الأنصاري ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ) .
قوله تعالى : { فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } ، يقال : لهث الكلب يلهث لهثاً : إذا أدلع لسانه . قال مجاهد : هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به ، والمعنى : أن هذا الكافر إن زجرته لم ينزجر ، وإن تركته لم يهتد ، فالحالتان عنده سواء ، كحالتي الكلب ، إن طرد وحمل عليه بالطرد كان لاهثاً ، وإن ترك وربض كان لاهثاً ، قال القتبي : كل شيء يلهث إنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب ، فإنه يلهث في حال الكلال وفي حال الراحة ، وفي حال العطش ، فضربه الله مثلاً لمن كذب بآياته فقال : إن وعظته فهو ضال ، كالكلب إن طردته لهث ، وإن تركته على حاله لهث ، نظيره قوله تعالى : { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } [ الأعراف : 193 ] ، ثم عم بهذا التمثيل جميع من يكذب بآيات الله .
قوله تعالى : { ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون } ، وقيل : هذا مثل لكفار مكة ، وذلك أنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم ، ويدعوهم إلى طاعة الله ، فلما جاءهم نبي لا يشكون في صدقه كذبوه ، فلم يهتدوا تركوا أو دعوا .
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا بأن نوفقه للعمل بها ، فيرتفع في الدنيا والآخرة ، فيتحصن من أعدائه . وَلَكِنَّهُ فعل ما يقتضي الخذلان ، فَأَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ ، أي : إلى الشهوات السفلية ، والمقاصد الدنيوية . وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وترك طاعة مولاه ، فَمَثَلُهُ في شدة حرصه على الدنيا وانقطاع قلبه إليها ، كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أي : لا يزال لاهثا في كل حال ، وهذا لا يزال حريصا ، حرصا قاطعا قلبه ، لا يسد فاقته شيء من الدنيا .
ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا بعد أن ساقها اللّه إليهم ، فلم ينقادوا لها ، بل كذبوا بها وردوها ، لهوانهم على اللّه ، واتباعهم لأهوائهم ، بغير هدى من اللّه .
فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ في ضرب الأمثال ، وفي العبر والآيات ، فإذا تفكروا علموا ، وإذا علموا عملوا .
وقوله { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } كلام مستأنف مسوق لبيان ما ذكر من الانسلاخ وما يتبعه .
والضمير في قوله { لَرَفَعْنَاهُ } يعود إلى الشخص المعبر عنه بالاسم الموصول { الذي } والضمير في قوله { بِهَا } يعود إلى الآيات . ومفعول المشيئة محذوف .
أى : ولو شئنا رفعه بسبب تلك الآيات إلى درجات الكمال والعرفان لرفعنان لأننا لا يستعصى على قدرتنا شىء ، ولكننا لم نفعل ذلك لأن سنتنا جرت أن نرفع من عنده الاستعداد لذلك أما الذين استحبوا العمى على الهدى فنذرهم في ضلالهم يعمهون .
وقد بين القرآن هذا المعنى في قوله : { ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ } أخلد إلى الأرض : أى ركن إليها . وأصل الإخلاد اللزوم للمكان من الخلود .
أى : ولو شئنا لرفعنا هذا الإنسان إلى منازل الأبرار بسبب تلك الآيات ولكنه هو الذي ركن إلى الدنيا ، واطمأن بها ، واستحوذت بشهواتها على نفسه ، واختار لنفسه طريق التسفل المنافى للرفعة ، واتبع هواه في ذلك فلم ينتفع بشىء من الآيات التي آتيناه إياه .
أى : أن مقتضى هذه الآيات أن ترفع صاحبها إلى أعلى عليين ، ولكن هذا المقتضى عارضه مانع وهو إخلاد من أتى هذه الآيات إلى الأرض واتباعه للهوى ، فتغلب المانع على المقتضى ، فهو كما قال القائل :
قالوا فلان عالم فاضل . . . فأكرموه مثلما يقتضى
فقلت : لما لم يكن عاملا . . . تعارض المانع والمقتضى
قال الآلوسى : وما ألطف نسبة إتيان الآيات والرفع إليه - تعالى - ونسبة الانسلاخ والإخلاد إلى العبد ، مع أن الكل من الله - تعالى - ، أذ فيه من تعليم العباد حسن الأدب ما فيه . ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم " اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك " .
وقوله { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } .
اللهث : إدلاع اللسان بالنفس الشديد . يقال : لهث الكلب يلهث - كسمع ومنع - لهثا ولهاثا ، إذا أخرج لسانه في التنفس .
والمعنى : فمثل هذا الإنسان الذي آتيناه فانسلخ منها وأصبح إيتاء الآيات وعدمها بالنسبة له سواء ، مثله كمثل الكلب إن شددت عليه وأتبعته لهث ، وإن تركته على حاله لهث - أيضا - ، فهو دائم اللهث في الحالين . لأن اللهث طبيعة فيه ، وكذلك حال الحريص على الدنيا ، المعرض عن الآيات بعد إيتائها ، إن وعظته فهو لإيثاره الدنيا على الآخرة لا يقبل الوعظ ، وإن تركت وعجه فهو حريص - أيضا - على الدنيا وشهواتها .
والإشارة في قوله { ذَّلِكَ مَثَلُ القوم } إلى وصف الكلب أو إلى المنسلخ من الآيات ، أى : ذلك المثل البعيد الشأن في الغرابة مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا من الجاحدين المستكبرين المنسلخين عن الهدى بعد أن كان في حوزتهم .
وقوله { اقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أى : إذا ثبت ذلك ، فاقصص على قومك أيها الرسول الكريم المقصوص عليك من جهتنا لعلهم يتفكرون فينزجرون عما هم عليه من الكفر والضلال .
والفاء في قوله { اقصص } لترتيب ما بعدها على ما قبلها . والقصص مصدر بمعنى اسم المفعول ، واللام فيه للعهد ، وجملة الترجى في محل نصب على أنها حال من ضمير المخاطب أو في موضع المفعول له . أى فاقصص القصص راجيا لتفكرهم ، أو رجاءً لتفكرهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلََكِنّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : ولو شئنا لرفعنا هذا الذي آتيناه آياتنا بآياتنا التي آتيناه ، ولَكِنّهُ أخْلَدَ إلى الأَرْضِ يقول : سكن إلى الحياة الدنيا في الأرض ومال إليها ، وآثر لذتها وشهواتها على الاَخرة ، واتبع هواه ، ورفض طاعة الله وخالف أمره .
وكانت قصة هذا الذي وصف الله خبره في هذه الاَية ، على اختلاف من أهل العلم في خبره وأمره ، ما :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، أنه سئل عن الاَية : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها فحدّث عن سيار أنه كان رجلاً يقال له بَلْعام ، وكان قد أوتي النبوّة ، وكان مجاب الدعوة . قال : وإن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام أو قال الشام قال : فرعب الناس منه رعبا شديدا ، قال : فأتوا بَلْعاما ، فقالوا ادع الله على هذا الرجل وجيشه قال : حتى أؤامر ربي أو حتى أؤامر قال : فآمر في الدعاء عليهم ، فقيل له : لا تدع عليهم فإنهم عبادي وفيهم نبيهم قال : فقال لقومه : إني آمرت ربي في الدعاء عليهم ، وإني قد نُهيت . قال : فأهدوا إليه هدية فَقبِلها . ثم راجعوه فقالوا : ادع عليهم فقال : حتى أؤامر ربي . فآمر فلم يأمره بشيء . قال : فقال : قد وامرت فلم يأمرني بشيء ، فقالوا : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرّة الأولى . قال : فأخذ يدعو عليهم ، فإذا دعا عليهم جرى على لسانه الدعاء على قومه وإذا أراد أن يدعو أن يُفْتَح لقومه ، دعا أن يُفْتَح لموسى عليه السلام وجيشه أو نحوا من ذلك إن شاء الله . قال : فقالوا ما نراك تدعو إلاّ علينا . قال : ما يجري على لساني إلاّ هكذا ، ولو دعوتُ عليه ما استجيب لي ، ولكن سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم إن الله يبغض الزنا ، وإنهم إن وقعوا بالزنا هلكوا ، ورجوت أن يهلكهم الله ، فأخرِجوا النساء لتستقبلهم وإنهم قوم مسافرون ، فعسى أن يزنوا فيهلكوا . قال : ففعلوا وأخرجوا النساء تستقبلهم . قال : وكان للملك ابنة ، فذكر من عظمها ما الله أعلم به ، قال : فقال أبوها أو بَلْعام : لا تمكني نفسك إلاّ من موسى قال : ووقعوا في الزنا . قال : وأتاها رأس سبط من أسباط بني إسرائيل ، فأرادها على نفسه ، قال : فقالت : ما أنا بممكنة نفسي إلاّ من موسى ، قال : فقال : إن من منزلتي كذا وكذا ، وإن من حالى كذا وكذا . قال : فأرسلت إلى أبيها تستأمره ، قال : فقال لها : مَكّنِيهِ قال : ويأتيهما رجل من بني هارون ومعه الرمح فيطعنهما ، قال : وأيّده الله بقوّة فانتظمهما جميعا ، ورفعهما على رمحه . قال : فرآهما الناس ، أو كما حدّث . قال : وسلط الله عليهم الطاعون ، قال : فمات منهم سبعون ألفا . قال : فقال أبو المعتمر : فحدثني سيار أن بلعاما ركب حمارة له ، حتى إذا أتى المُعْلَوْلي أو قال : طريقا من المعلولي جعل يضربها ولا تتقدّم . قال : وقامت عليه ، فقالت : علام تضربني ؟ أما ترى هذا الذي بين يديك ؟ قال : فإذا الشيطان بين يديه ، قال : فنزل فسجد له . قال الله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها فَأتْبَعَهُ الشّيْطانُ فَكانَ مِنَ الغاوِينَ . . . إلى قوله : لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ . قال : فحدثني بهذا سيّار ، ولا أدري لعله قد دخل فيه شيء من حديث غيره .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : فبلغني حديث رجل من أهل الكتاب يحدّث أن موسى سأل الله أن يطبعه وأن يجعله من أهل النار . قال : ففعل الله . قال : أنبئت أن موسى قتله بعد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن سالم أبي النضر ، أنه حدث : أن موسى لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قومُ بَلْعم إلى بَلْعم ، فقالوا له : يا بلعم إن هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل ، قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويُحِلها بني إسرائيل ويسكنها ، وإنا قومك ، وليس لنا منزل ، وأنت رجل مجاب الدعوة ، فاخرج وادع الله عليهم فقال : ويلكم نبيّ الله معه الملائكة والمؤمنون ، كيف أذهب أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم ؟ قالوا : ما لنا من منزل . فلم يزالوا به يرفعونه ويتضرّعون إليه حتى فتنوه فافتتن . فركب حمارة له متوجها إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل ، وهو جبل حسان فلما سار عليها غير كثير ربضت به ، فنزل عنها ، فضربها ، حتى إذا أذلقها قامت فركبها فلم تَسر به كثيرا حتى ربضت به . ففعل بها مثل ذلك ، فقامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت به . فضربها حتى إذا أذلقها أذن الله لها ، فكلمته حجة عليه ، فقالت : ويحك يا بلعم أين تذهب ؟ أما ترى الملائكة تردني عن وجهي هذا ؟ أتذهب إلى نبيّ الله والمؤمنين تدعو عليهم فلم ينزع عنها فضربها فخلى الله سبيلها حين فعل بها ذلك . قال : فانطلقت به حتى إذا أشرفت على رأس جبل حسان على عسكر موسى وبني إسرائيل جعل يدعو عليهم ولا يدعو عليهم بشرّ إلاّ صرف به لسانه إلى قومه ، ولا يدعو لقومه بخير إلاّ صرف لسانه إلى بني إسرائيل . قال : فقال له قومه : أتدري يا بلعم ما تصنع ؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا قال : فهذا ما لا أملك ، هذا شيء قد غلب الله عليه . قال : واندلع لسانه فوقع على صدره ، فقال لهم : قد ذهبت مني الاَن الدنيا والاَخرة ، فلم يبق إلاّ المكر والحيلة ، فسأمكر لكم وأحتال ، حمّلوا النساء وأعطوهنّ السّلَع ، ثم أرسلوهنّ إلى العسكر يبعنها فيه ، ومروهنّ فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها ، فإنهم إن زني منهم واحد كُفيتموهم ففعلوا فلما دخل النساء العسكر مرّت امرأة من الكنعانيين اسمها كستى ابنة صور رأس أمته برجل من عظماء بني إسرائيل ، وهو زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها ، ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى عليه السلام فقال : إني أظنك ستقول هذه حرام عليك ؟ فقال : أجَلْ هي حرام عليك لا تقرَبْها قال : فوالله لا أطيعك في هذا ، فدخل بها قبته فوقع عليها . وأرسل الله الطاعون في بني إسرائيل ، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى ، وكان رجلاً قد أُعْطِي بسطة في الخلق وقوّة في البطش ، وكان غائبا حين صنع زمري بن شلوم ما صنع . فجاء والطاعون يجوس في بني إسرائيل ، فأخبر الخبر ، فأخذ حربته ، وكانت من حديد كلها ، ثم دخل عليه القبة وهما متضاجعان ، فانتظمهما بحربته ، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء ، والحربة قد أخذها بذراعه ، واعتمد بمرفقه على خاصرته ، وأسند الحربة إلى لَحييه ، وكان بكر العيزار ، وجعل يقول : اللهمّ هكذا نفعل بمن يعصيك ورُفع الطاعون ، فحُسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون ، فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص ، فوُجدوا قد هلك منهم سبعون ألفا ، والمقلل يقول : عشرون ألفا في ساعة من النهار . فمن هنالك يعطى بنو إسرائيل ولد فنحاص بن العيزار بن هارون من كلّ ذبيحة ذبحوها الفشة والذراع واللّحْي ، لاعتماده بالحربة على خاصرته وأخذه إياها بذراعه وإسناده إياها إلى لحييه ، والبكر من كلّ أموالهم وأنفسهم ، لأنه كان بكر العيزار . ففي بلعم بن باعورا أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها يعني بلعم ، فأتْبَعَهُ الشّيْطانُ فَكانَ مِنَ الغاوِينَ . . . إلى قوله : لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : انطلق رجل من بني إسرائيل يقال له بَلْعم ، فأتى الجبارين فقال : لا ترهبوا من بني إسرائيل ، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم فخرج يوشع يقاتل الجبارين في الناس . وخرج بلعم مع الجبارين على أتانه وهو يريد أن يلعن بني إسرائيل ، فكلما أراد أن يدعو على بني إسرائيل دعا على الجبارين ، فقال الجبارون : إنك إنما تدعو علينا فيقول : إنما أردت بني إسرائيل . فلما بلغ باب المدينة أخذ ملك بذنب الأتان ، فأمسكها فجعل يحرّكها فلا تتحرّك ، فلما أكثر ضربها تكلمت فقالت : أنت تنكحني بالليل وتركبني بالنهار ؟ ويلي منك ولو أني أطقت الخرج لخرجت ، ولكن هذا الملك يحبسني . وفي بَلْعم يقول الله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا . . . الاَية .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : ثني رجل سمع عكرمة ، يقول : قالت امرأة منهم : أروني موسى ، فأنا أفتنه قال : فتطيبتْ ، فمرّت على رجل يشبه موسى ، فواقعها ، فأتى ابن هارون فأُخبر ، فأخذ سيفا ، فطعن به في إحليله حتى أخرجه من قبلها ، ثم رفعهما حتى رآهما الناس ، فعلم أنه ليس موسى ، ففُضّل آل هارون في القربان على آل موسى بالكَتِف والعَضُد والفخذ ، قال : فهو الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ، يعني بلعم .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بها فقال بعضهم : معناه : لرفعناه بعلمه بها . ذكر من قال ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بها لرفعه الله تعالى بعلمه .
وقال آخرون : معناه لرفعنا عنه الحال التي صار إليها من الكفر بالله بآياتنا . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نُجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بها : لرفعنا عنه بها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بها : لرفعناه عنه .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال : إن الله عمّ الخبر بقوله : وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بها أنه لو شاء رفعه بآياته التي آتاه إياها . والرفع يعمّ معاني كثيرة ، منها الرفع في المنزلة عنده ، ومنها الرفع في شرف الدنيا ومكارمها . ومنها الرفع في الذكر الجميل والثناء الرفيع . وجائز أن يكون الله عنى كلّ ذلك أنه لو شاء لرفعه ، فأعطاه كلّ ذلك بتوفيقه للعمل بآياته التي كان آتاها إياه .
وإذ كان ذلك جائزا ، فالصواب من القول فيه أن لا يُخَصّ منه شيء ، إذ كان لا دلالة على خصوصه من خبر ولا عقل .
وأما قوله : بِها فإن ابن زيد قال في ذلك كالذي قلنا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بها بتلك الاَيات .
وأما قوله : وَلَكِنّهُ أخْلَدَ إلى الأرْض فإن أهل التأويل قالوا فيه نحو قولنا فيه . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير : وَلَكنّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ يعني : ركن إلى الأرض .
قال : ثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : وَلَكِنّهُ أخْلَدَ إلى الأرْض قال : نزع إلى الأرض .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أخلد : سكن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تُمَيلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان في بني إسرائيل بلعام بن باعر أوتي كتابا ، فأخلد إلى شهوات الأرض ولذتها وأموالها ، لم ينتفع بما جاء به الكتاب .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلَكِنّهُ أخْلَدَ إلى الأرْض وَاتّبَع هَوَاهُ أما أخلد إلى الأرض : فاتبع الدنيا ، وركن إليها .
وأصل الإخلاد في كلام العرب : الإبطاء والإقامة ، يقال منه : أخلد فلان بالمكان إذا أقام به وأخلد نفسه إلى المكان إذا أتاه من مكان آخر ، ومنه قول زهير :
لَمن الدّيارُ غَشِيتُها بالغَرْقَد ***كالوَحْي في حَجَر المَسِيل المُخْلِدِ
يعني المقيم ، ومنه قول مالك بن نُوَيْرة :
بأبْناءِ حَيَ مِنْ قَبائِلِ مالِكٍ ***وَعمْرِو بن يَرْبُوعٍ أقامُوا فأخْلَدوا
وكان بعض البصريين يقول : معنى قوله : أخلد : لزم وتقاعس وأبطأ ، والمخلد أيضا : هو الذي يبطىء شيبه من الرجال ، وهو من الدوابّ الذي تبقى ثناياه حتى تخرج رباعيتاه .
وأما قوله وَاتّبَعَ هَوَاهُ فإن ابن زيد قال في تأويله ما :
حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَاتّبَعَ هَوَاهُ قال : كان هواه مع القوم .
القول في تأويل قوله تعالى : فَمَثَلُهُ كمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَترُكْهُ يَلْهَثْ .
يقول تعالى ذكره : فمثل هذا الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ، مثل الكلب الذي يلهث ، طردته أو تركته .
ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله جعل الله مثله كمثل الكلب فقال بعضهم : مثّله به في اللهث لتركه العمل بكتاب الله وآياته التي آتاها إياه وإعراضه عن مواعظ الله التي فيها إعراض من لم يؤته الله شيئا من ذلك ، فقال جلّ ثناؤه فيه : إذا كان سواء أمره وعظ بآيات الله التي آتاها إياه ، أو لم يوعظ في أنه لا يتعظ بها ، ولا يترك الكفر به ، فمثله مثل الكلب الذي سواء أمره في لهثه ، طرد أو لم يطرد ، إذ كان لا يترك اللهث بحال . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ قال : تطرده ، هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : فَمَثَلُهُ كمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ قال : تطرده بدابتك ورجلك يلهث ، قال : مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل بما فيه .
قال ابن جريج : الكلب منقطع الفؤاد ، لا فؤاد له ، إن حملت عليه يلهث ، أو تتركه يلهث . قال : مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له ، إنما فؤاده منقطع .
حدثني ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن توبة ، عن معمر ، عن بعضهم : فَمَثَلُهُ كمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ فذلك هو الكافر ، هو ضالّ إن وعظته وإن لم تعظه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَمَثَلُهُ كمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ الحكمة لم يحملها ، وإن ترك لم يهتد لخير ، كالكلب إن كان رابضا لهث وإن طُرد لهث .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : آتاه الله آياته فتركها ، فجعل الله مثله كمثل الكلب ، إن تحمل عليه يلهث ، أو تتركه يلهث .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قِتادة : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها فأتْبَعَهُ الشّيْطانُ . . . الاَية ، هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى ، فأبى أن يقبله وتركه . قال : وكان الحسن يقول : هو المنافق . وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلَكِنّهُ أخْلَدَ إلى الأرْض وَاتّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كمَثَل الكَلْب إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ قال : هذا مثل الكافر ميت الفؤاد .
وقال آخرون : إنما مثّله جلّ ثناؤه بالكلب لأنه كان يلهث كما يلهث الكلب . ذكر من قال ذلك .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَمَثَلُهُ كمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ وكان بلعم يلهث كما يلهث الكلب . وأما تحمل عليه : فتشدّ عليه .
قال : أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من قال : إنما هو مثل لتركه العمل بآيات الله التي آتاها إياه ، وأن معناه : سواء وعظ أو لم يوعظ في أنه لا يترك ما هو عليه من خلافه أمر ربه ، كما سواء حمل على الكلب وطرد أو ترك فلم يطرد في أنه لا يدع اللهث في كلتا حالتيه .
وإنما قلنا ذلك أولى القولين بالصواب لدلالة قوله تعالى ذلك : مَثَلُ القَوم الّذينَ كَذّبُوا بآياتِنا فجعل ذلك مثل المكذّبين بآياته . وقد علمنا أن اللهاث ليس في خلقة كلّ مكذّب كتب عليه ترك الإنابة من تكذيب بآيات الله ، وأن ذلك إنما هو مثل ضربه الله لهم ، فكان معلوما بذلك أنه للذي وصف الله صفته في هذه الاَية ، كما هو لسائر المكذّبين بآيات الله مَثَل .
القول في تأويل قوله تعالى : ذلكَ مَثَلُ القَوْم الّذينَ كَذّبُوا بآياتِنا فاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ .
يقول تعالى ذكره : هذا المثل الذي ضربته لهذا الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ، مثل القوم الذين كذّبوا بحججنا وأعلامنا وأدلتنا ، فسلكوا في ذلك سبيل هذا المنسلخ من آياتنا الذي آتيناها إياه في تركه العمل بما آتيناه من ذلك .
وأما قوله : فاقْصُصِ القَصَصَ فإنه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فاقصص يا محمد هذا القصص الذي قصصته عليك من نبإ الذي آتيناه آياتنا ، وأخبار الأمم التي أخبرتك أخبارهم في هذه السورة وقصصت عليك نبأهم ونبأ أشباههم ، وما حلّ بهم من عقوبتنا ونزل بهم ، حين كذّبوا رسلنا من نقمتنا على قومك من قريش ومَنْ قِبَلَك من يهود بني إسرائيل ، ليتفكروا في ذلك فيعتبروا وينيبوا إلى طاعتنا ، لئلا يحل بهم مثل الذي حلّ بمن قبلهم من النقم والمثلات ، ويتدبره اليهود من بني إسرائيل فيعلموا حقيقة أمرك وصحة نبوّتك ، إذ كان نبأ الذي آتيناه آياتنا من خفيّ علومهم ومكنون أخبارهم لا يعلمه إلاّ أحبارهم ومن قرأ الكتب ودرسها منهم ، وفي علمك بذلك وأنت أمي لا تكتب ولا تقرأ ولا تدرس الكتب ولم تجالس أهل العلم الحجةُ البينة لك عليهم بأنك لله رسول ، وأنك لم تعلم ما علمت من ذلك ، وحالك الحال التي أنت بها إلاّ بوحي من السماء .
وبنحو ذلك كان أبو النضر يقول .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد ، عن سالم أبي النضر : فاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ يعني : بني إسرائيل ، إذ قد جئتهم بخبر ما كان فيهم مما يخفون عليك ، لعلهم يتفكرون ، فيعرفون أنه لم يأت بهذا الخبر عما مضى فيهم إلاّ نبيّ يأتيه خبر السماء .
{ ولو شئنا لرفعناه } إلى منازل الأبرار من العلماء . { بها } بسبب تلك الآيات وملازمتها . { ولكنه أخلد إلى الأرض } مال إلى الدنيا أو إلى السفالة . { واتبع هواه } في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات ، وإنما علق رفعه بمشيئة الله تعالى ثم استدرك عنه بفعل العبد ، تنبيها على أن المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه وأن عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه ، وأن السبب الحقيقي هو المشيئة وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة في حصول المسبب من حيث أن المشيئة تعلقت به كذلك ، وكان من حقه أن يقول ولكنه أعرض عنها فأوقع موقعه { أخلد إلى الأرض واتبع هواه } ، مبالغة وتنبيها على ما حمله عليه وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة . { فمثله } فصفته التي هي مثل في الخسة . { كمثل الكلب } كصفته في أخس أحواله وهو { إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } أي يلهث دائما سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك ولم يتعرض له ، بخلاف سائر الحيوانات لضعف فؤاده . واللهث إدلاع اللسان من التنفس الشديد والشرطية في موضع الحال والمعنى . لاهثا في الحالتين ، والتمثيل واقع موقع لازم التركيب الذي هو نفي الرفع ووضع المنزلة للمبالغة والبيان . وقيل لما دعا على موسى صلى الله عليه وسلم خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كالكلب . { ذلك مثل القوم الذين كذّبوا بآياتنا فاقصص القصص } القصة المذكورة على اليهود فإنها نحو قصصهم . { لعلهم يتفكرون } تفكرا يؤدي بهم إلى الاتعاظ .
يقول الله عز وجل : { ولو شئنا لرفعناه } قالت فرقة معناه لأخذناه كما تقول رفع الظالم إذا هلك ، والضمير في : { بها } عائد على المعصية في الانسلاخ وابتدأ وصف حاله بقوله تعالى : { ولكنه أخلد إلى الأرض } فهي عبارة عن إمهاله وإملاء الله له ، وقال ابن أبي نجيح { لرفعناه } معناه لتوفيناه قبل أن يقع في المعصية ورفعناه عنها ، والضمير على هذا عائد على الآيات ، ثم ابتدأ وصف حاله ، وقال ابن عباس وجماعة معه معنى { لرفعناه } أي لشرفنا ذكره ورفعنا منزلته لدينا بهذه الآيات التي آتيناه ، { ولكنه أخلد إلى الأرض } فالكلام متصل ، ذكر فيه السبب الذي من أجله لم يرفع ولم يشرف كما فعل بغيره ، ممن أوتي هدى . و { أخلد } معناه لازم وتقاعس وثبت ، والمخلد الذي يثبت شبابه فلا يغشاه الشيب ومنه الخلد ، ومنه قول زهير : [ الكامل ]
لمن الديار غشيتها بالفدفد*** كالوحي في حجر المسيل المخلد
وقوله : { إلى الأرض } يحتمل أن يرد إلى شهواتنا ولذاتها وما فيها من الملاذ ، قاله السدي وغيره ، ويحتمل أن يريد بها العبارة عن الأسفل والأخس كما يقال فلان في الحضيض ، ويتأيد ذلك من جهة المعنى المعقول وذلك أن الأرض وما ارتكز فيها هي الدنيا وكل ما عليها فان ، من أخلد إليه فقد حرم حظ الآخرة الباقية ، وقوله : { فمثله كمثل الكلب } قال السدي وغيره : إن هذا الرجل عوقب في الدنيا بأنه يلهث كما يلهث الكلب فشبه به صورة وهيئة ، وقال الجمهور إنما شبه به في أنه كان ضالاً قبل أن يؤتى الآيات ثم أوتيها فكان أيضاً ضالاً لم تنفعه ، فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في حال حمل المشقة عليه ، وتركه دون حمل عليه ، وتحرير المعنى فالشيء الذي تتصوره النفوس من حاله هو كالذي تتصور من حال الكلب ، وبهذا التقدير يحسن دخول الكاف على «مثل » ، واللهث تنفس بسرعة وتحرك أعضاء الفم معه وامتداد اللسان ، وأكثر ما يعتري ذلك مع الحر والتعب ، وهو في الفرس : ضبح ، وخلقة الكلب أنه يلهث على كل حال ، وذكر الطبري أن معنى { إن تحمل عليه } أي تطرده وحكاه عن مجاهد وابن عباس .
قال القاضي أبو محمد : وذلك داخل ي جملة المشقة التي ذكرنا ، وقوله : { ذلك مثل القوم } أي هذا المثل يا محمد مثل هؤلاء القوم الذين كانوا ضالين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة ثم جئتهم بذلك فبقوا على ضلالتهم ولم ينتفعوا بذلك ، فمثلهم كمثل الكلب ، وقوله : { فاقصص القصص } أي اسرد ما يعلمون أنه من الغيوب التي لا يعلمها إلا أهل الكتب الماضية ولست منهم { لعلهم يتفكرون } في ذلك فيؤمنون .
قوله تعالى : { ولو شئنا لرَفَعْناه بها } أفاد أن تلك الآيات شأنها أن تكون سبباً للهداية والتزكية ، لو شاء الله له التوفيق وعصمه من كيد الشيطان وفتنته فلم ينسلخ عنها ، وهذه عبرة للموفقين ليعلموا فضل الله عليهم في توفيقهم ، فالمعنى : ولو شئنا لزاد في العمل بما آتيناه من الآيات فلرَفعه الله بعلمه .
والرفعة مستعارة لكمال النفس وزكائها ، لأن الصفات الحميدة تُخيل صاحبها مرتفعاً على من دونه ، أي لو شئنا لاكتسب بعمله بالآيات فضلاً وزكاء وتميزاً بالفضل ، فمعنى لرفعناه ليسرّنا له العمل بها الذي يشرُف به .
وقد وقع الاستدراك على مضمون قوله : { ولو شئنا لرفعناه بها } بذكر ما يناقض تلك المشيئة الممتنعة ، وهو الاستدراك بأنه انعكست حاله فأخلد إلى الأرض ، أي ركن ومال إلى الأرض ، والكلام تمثيل لحال المتلبس بالنقائص والكفر بعد الإيمان والتقوى ، بحال من كان مرتفعاً عن الأرض فنزل من اعتلاء إلى أسفل ، فبذكر الأرض عُلمَ أن الإخلاد هنا ركون إلى السفل أي تلبس بالنقائص والمفاسد .
واتباع الهوى ترجيح ما يحسن لدى النفس من النقائص المحبوبة ، على ما يدعو إليه الحق والرشد ، فالاتباع مستعار للاختيار والميل ، والهوى شاع في المحبة المذمومة الخاسرة عاقبتها .
وقد تفرع على هذه الحالة تمثيله بالكلب اللاهث ، لأن اتصافه بالحالة التي صيرته شبيهاً بحال الكلب اللاهث تفرع على إخلاده إلى الأرض واتباع هواه ، فالكلام في قوة أن يقال : ولكنه أخلد إلى الأرض فصار في شَقاء وعناد ، كمثل الكلب إلخ .
واستعمال القرآن لفظ المثل بعد كاف التشبيه مألوف بأنه يراد به تشبيه الحالة بالحالة ، وتقدم قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } في سورة البقرة ( 17 ) ، فلذلك تعين أن التشبيه هنا لا يخرج عن المتعارف في التشبيه المركب ، فهذا الضال تحمل كلفة اتباع الدين الصالح وصار يطلبه في حينَ كان غير مكلف بذلك في زمن الفترة فلقي من ذلك نصباً وعناء ، فلما حان حين اتباع الحق ببعثة محمد تحمل مشقة العناد والإعراض عنه في وقت كان جديراً فيه بأن يستريح من عنائه ؛ لحصول طلبته فكانت حالته شبيهة بحالة الكلب الموصوف باللّهث ، فهو يلهث في حالة وجود أسباب اللهث من الطرد والإرهاب والمشقة وهي حالة الحمل عليه ، وفي حالة الخلو عن ذلك السبب وهي حالة تركه في دعة ومسالمة ، والذي ينبه على هذا المعنى هو قوله { أو تَتْركه } .
وليس لشيء من الحيوان حالة تصلح للتشبيه بها في الحالتين غير حالة الكلب اللاهث ، لأنه يلهث إذا أتْعب وإذا كان في دعة ، فاللهث في أصل خلقته .
وهذا التمثيل من مبتكرات القرآن فإن اللهث حالة تؤذن بحرج الكلب من جراء عسر تنفسه عن اضطراب باطنه وإن لم يكن لاضطراب باطنه ، سبب آت من غيره فمعنى { إن تحمل عليه } إن تُطارده وتُهاجمه . مشتق من الحَمل الذي هو الهجوم على أحد لقتاله ، يقال حمل فلانٌ على القوم حملة شعواء أو حملة منكرة . وقد أغفل المفسرون توضيحه ، وأغفل الراغب في « مفردات القرآن » هذا المعنى لهذا الفعل .
فهذا تشبيهُ تمثيل مُركب منتزعةٌ فيه الحالة المشبهة والحالةُ المشبه بها من متعدد ، ولما ذُكر { تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } في شق الحالة المشبه بها ، تعين أن يكون لها مقابل في الحالة المشبهة ، وتتقابل أجزاءُ هذا التمثيل بأن يشبّه الضال بالكلب ، ويشبه شقاؤُه واضطرابُ أمره في مدة البحث عن الدين بلهث الكلب في حالة تركه في دعة ، تشبيهَ المعقول بالمحسوس ، ويشبّه شقاؤه في إعراضه عن الدين الحق عند مجيئه بلهث الكلب في حالة طرده وضربه تشبيه المعقول بالمحسوس . وقد أغفل هذا الذين فسروا هذه الآية فقرروا التمثيل بتشبيه حالة بسيطة بحالة بسيطة في مجرد التشويه أو الخسة . فيؤول إلى أن الغرض من تشبيهه بالكلب إظهار خسة المشبه ، كما درج عليه في « الكشاف » ، ولو كان هذا هو المراد لما كان لذكر { إنْ تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } كبير جدوى ، بل يقتصر على أنه لتشويه الحالة المشبه بها ، لتكتسب الحالةُ المشبهة تشويها ، وذلك تقصير في حق التمثيل .
والكلب حيوان من ذوات الأربع ذو أنياب وأظفار كثير النبح في الليل قليل النوم فيه كثير النوم في النهار ، يألف من يعاشره ويحرس مكانه من الطارقين الذين لا يألفهم ، ويحرس الأنعام التي يعاشرها ، ويعدو على الذئاب ، ويقبل التعليم ، لأنه ذكي .
ويلهث إذا أتعب أو اشتد عليه الحر ، ويلهث بدون ذلك ، لأن في خلقته ضيقاً في مجاري النفس يرتاح له باللهث .
وجملة : { إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } في موضع الحال من الكلب والخطاب في { تَحْمل } وتترك لمخاطب غير معيّن ، والمعنى إن يحمل عليه حامل ، أو يتركه تارك .
واللهث : سرعة التنفس مع امتداد اللسان لضيق النفس ، وفعله بفتح الهاء وبكسرها ، ومضارعه بفتحها لا غير ، والمصدر اللهث بفتح اللام والهاء ويقال اللهاث بضم اللام ، لأنه من الأدواء ، وليس بصوت .
جملة مبيّنة لجملة : { واتْلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } الآيتين ، والمثال الحال أي ذلك التمثيل مثل للمشركين المكذبين بالقرآن ، تشبيه بليغ ، لأن حالة الكلب المشتبه شبيهة بحال المكذبين وليست عينها .
والإشارة بذلك إلى { الذي آتيناه آياتنا } ، وهو صاحب القصة ، هو مَثل المشركين ، لأنهم شابهوه في أنهم أتوا القرآن فكذبوا به ، فكانت حالهم كحال ذلك المكذب ، والأظهر أن تكون الإشارة إلى المثَل في قوله : { كمثل الكلب } أي حالُ الكلب المذكورة كحال المشركين المكذبين في أنهم كانوا يودون معرفة دين إبراهيم ، ويتمنون مساواة أهل الكتاب في العلم والفضل ، فكانوا بذلك في عناء وحيرة في الجاهلية فلما جاءهم رسول منهم بكتاب مبين انتقلوا إلى عناء معاندته كقوله تعالى : { أو تقولوا لو أنا أنْزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } [ الأنعام : 157 ] وهذا تأويل ما روي عن عبادة بن الصامت أن آية { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } إلى آخرها نزلت في قريش .
وفُرع على ذلك الأمرُ بقوله : { فاقْصص القصصَ لعلهم يتفكرون } أي اقصص هذه القصة وغيرها ، وهذا تذييل للقصة الممثل بها يشملها وغيرها من القصص التي في القرآن ، فإن في القصص تفكراً وموعظة ، فيرجى منه تفكرهم وموعظتهم ، لأن للأمثال واستحضار النظائر شاناً عظيماً في اهتداء النفوس بها وتقريب الأحوال الخفية إلى النفوس الذاهلة أو المتغافلة ، لما في التنظير بالقصة المخصوصة من تذكر مشاهدة الحالة بالحواس ، بخلاف التذكير المجرد عن التنظير بالشيء المحسوس .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولو شئنا لرفعنا هذا الذي آتيناه آياتنا بآياتنا التي آتيناه، "ولَكِنّهُ أخْلَدَ إلى الأَرْضِ "يقول: سكن إلى الحياة الدنيا في الأرض ومال إليها، وآثر لذتها وشهواتها على الآخرة، واتبع هواه، ورفض طاعة الله وخالف أمره.
وقال آخرون: معناه لرفعنا عنه الحال التي صار إليها من الكفر بالله بآياتنا... وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عمّ الخبر بقوله: "وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بها "أنه لو شاء رفعه بآياته التي آتاه إياها. والرفع يعمّ معاني كثيرة، منها الرفع في المنزلة عنده، ومنها الرفع في شرف الدنيا ومكارمها، ومنها الرفع في الذكر الجميل والثناء الرفيع. وجائز أن يكون الله عنى كلّ ذلك أنه لو شاء لرفعه، فأعطاه كلّ ذلك بتوفيقه للعمل بآياته التي كان آتاها إياه.
وإذ كان ذلك جائزا، فالصواب من القول فيه أن لا يُخَصّ منه شيء، إذ كان لا دلالة على خصوصه من خبر ولا عقل...
"وَلَكِنّهُ أخْلَدَ إلى الأرْض"... وأصل الإخلاد في كلام العرب: الإبطاء والإقامة، يقال منه: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به وأخلد نفسه إلى المكان إذا أتاه من مكان آخر... وكان بعض البصريين يقول: معنى قوله: أخلد: لزم وتقاعس وأبطأ...
"فَمَثَلُهُ كمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَترُكْهُ يَلْهَثْ"
يقول تعالى ذكره: فمثل هذا الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، مثل الكلب الذي يلهث، طردته أو تركته.
ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله جعل الله مثله كمثل الكلب؛ فقال بعضهم: مثّله به في اللهث لتركه العمل بكتاب الله وآياته التي آتاها إياه وإعراضه عن مواعظ الله التي فيها إعراض من لم يؤته الله شيئا من ذلك، فقال جلّ ثناؤه فيه: إذا كان سواء أمره وُعظ بآيات الله التي آتاها إياه أو لم يوعظ في أنه لا يتعظ بها ولا يترك الكفر به، فمثله مثل الكلب الذي سواء أمره في لهثه، طرد أو لم يطرد، إذ كان لا يترك اللهث بحال... قال مجاهد:... مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل بما فيه...
وقال آخرون: إنما مثّله جلّ ثناؤه بالكلب لأنه كان يلهث كما يلهث الكلب...
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من قال: إنما هو مثل لتركه العمل بآيات الله التي آتاها إياه، وأن معناه: سواء وعظ أو لم يوعظ في أنه لا يترك ما هو عليه من خلافه أمر ربه، كما سواء حمل على الكلب وطرد أو ترك فلم يطرد في أنه لا يدع اللهث في كلتا حالتيه.
وإنما قلنا ذلك أولى القولين بالصواب لدلالة قوله تعالى ذلك: "مَثَلُ القَوم الّذينَ كَذّبُوا بآياتِنا" فجعل ذلك مثل المكذّبين بآياته. وقد علمنا أن اللهاث ليس في خلقة كلّ مكذّب كتب عليه ترك الإنابة من تكذيب بآيات الله، وأن ذلك إنما هو مثل ضربه الله لهم، فكان معلوما بذلك أنه للذي وصف الله صفته في هذه الآية، كما هو لسائر المكذّبين بآيات الله مَثَل.
"ذلكَ مَثَلُ القَوْم الّذينَ كَذّبُوا بآياتِنا فاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ.
يقول تعالى ذكره: هذا المثل الذي ضربته لهذا الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، مثل القوم الذين كذّبوا بحججنا وأعلامنا وأدلتنا، فسلكوا في ذلك سبيل هذا المنسلخ من آياتنا الذي آتيناها إياه في تركه العمل بما آتيناه من ذلك.
وأما قوله: "فاقْصُصِ القَصَصَ" فإنه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فاقصص يا محمد هذا القصص الذي قصصته عليك من نبأ الذي آتيناه آياتنا، وأخبار الأمم التي أخبرتك أخبارهم في هذه السورة وقصصت عليك نبأهم ونبأ أشباههم، وما حلّ بهم من عقوبتنا ونزل بهم، حين كذّبوا رسلنا من نقمتنا على قومك من قريش ومَنْ قِبَلَك من يهود بني إسرائيل، ليتفكروا في ذلك فيعتبروا وينيبوا إلى طاعتنا، لئلا يحل بهم مثل الذي حلّ بمن قبلهم من النقم والمثلات، ويتدبره اليهود من بني إسرائيل فيعلموا حقيقة أمرك وصحة نبوّتك، إذ كان نبأ الذي آتيناه آياتنا من خفيّ علومهم ومكنون أخبارهم لا يعلمه إلاّ أحبارهم ومن قرأ الكتب ودرسها منهم، وفي علمك بذلك وأنت أمي لا تكتب ولا تقرأ ولا تدرس الكتب ولم تجالس أهل العلم الحجةُ البينة لك عليهم بأنك لله رسول، وأنك لم تعلم ما علمت من ذلك، وحالك الحال التي أنت بها إلاّ بوحي من السماء...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {أخلد إلى الأرض}...كناية عن الذل والهوان؛ لأن كل خير وبركة إنما يطلب من السماء، وهم إذا اختاروا ذلك اختاروا الذل والهوان...
{واتبع هواه فمثله كمثل الكلب} قال: هذا مثل الكافر، أميت فؤاده كما أميت فؤاد الكلب... وجه ضرب مثل الذي كذّب بالآيات بالكلب، من عادته أن يذلّ، ويخضع لكل أحد لما يطمع أن ينال منه أدنى شيء، ولا يبالي ما يصيبه من الذل والهوان في ذلك بعد أن ينال منه شيئا. فعلى ذلك الكافر والمكذّب بالآيات لا يبالي ما يلحقه من الذل والهوان بعد أن يصيب من الدنيا شيئا. ويشبه أن يكون وجه ضرب المثل بالكلب لما أن من عادة الكلاب إذا ظفرت بالجيف تنكبّ عليها، حتى إذا نودي و دعي، لا تكثرت، ولا تلتفت. فعلى ذلك هذا الكافر ينكب على كل جيفة، ويخضع، ولا يلتفت إلى ما نودي، ودعي إليه.
وقوله تعالى: {إن تحمل عليه يلهث} أي يخرج لسانه، ويتنفس تنفسا {أو تتركه يلهث} ومعناه، والله اعلم، إذا أصابه العطش والجوع لهث، وإذا لم يصبه لهث أيضا. فعلى ذلك الكافر يميل إلى ذلك، ويختار، أصابه شدة، أو لم تصبه، أو كلام نحو هذا...
وقوله تعالى: {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} كذا؛ وهو قوله تعالى: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا} [الأعراف: 175]. أمر رسوله ليقص أنباء الأمم السالفة على هؤلاء ليكون زجرا وتحذيرا للكفار ليعلموا ما حصل بأولئك بصنيعهم ليحذروا من صنيعهم، ويكون عظة وتذكيرا للمؤمنين كقوله تعالى: {وموعظة للمتقين}...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(واتبع هواه) وهذه أشد آية في حق العلماء، وقلما يخلو عن أحد هذين عالم من الركون إلى الدنيا، ومتابعة الهوى...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه بِهَا}: لعظمناه ورفعناه إلى منازل الأبرار من العلماء بتلك الآيات، {ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض}: مال إلى الدنيا ورغب فيها. وقيل: مال إلى السفالة... ولو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
..وقال الجمهور إنما شبه به في أنه كان ضالاً قبل أن يؤتى الآيات ثم أوتيها فكان أيضاً ضالاً لم تنفعه، فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في حال حمل المشقة عليه، وتركه دون حمل عليه،...
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
{ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا} يعني أن المثل الذي ضربناه للذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، فعم هذا المثل جميع من كذب بآيات الله وجحدها، فوجه التمثيل بينهم وبين الكلب اللاهث أنهم إذا جاءتهم الرسل ليهدوهم لم يهتدوا وإن تركوا لم يهتدوا أيضاً بل هم ضلاّل في كل حال... {لعلهم يتفكرون} يعني فيتعظون،...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
فشبه سبحانه من أتاه كتابه، وعلمه العلم الذي منعه غيره، فترك العمل به واتبع هواه، وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق: فالكلب الذي هو من أخس الحيوانات، وأوضعها قدرا، وأخسها نفسا، وهمته لا تتعدى بطنه. وأشدها شرها وحرصا. ومن حرصه: أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمم، ويستروح حرصا وشرها، ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزاء جسمه، وإذا رميت إليه بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته، وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان، وأرضاها بالدنايا والجيف القذرة المروحة أحب إليه من اللحم، والعذرة أحب إليه من الحلوى، وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا واحدا يتناول منها شيئا إلا هر عليه وقهره، لحرصه وبخله وشرهه.
ومن عجيب أمره وحرصه: أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية، وحال زرية نبحه، وحمل عليه، كأنه يتصور مشاركته له، ومنازعته في قوته. وإذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورياسة: وضع له خطمه بالأرض، وخضع له، ولم يرفع إليه رأسه.
وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه: بالكلب في حال لهثه: سر بديع، وهو أن الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه: إنما كان لشدة لهفه على الدنيا، لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة، فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه. واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى.
قال ابن جريج: الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له: إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث. فهو مثل الذي يترك الهدى، لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع.
قلت: مراده بانقطاع فؤاده: أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك اللهث وهكذا الذي انسلخ من آيات الله، لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا، وترك اللهف عليها، فهذا يلهث على الدنيا من قلة صبره عنها، وهذا يلهث من قلة صبره عن الماء، فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء، وإذا عطش أكل الثرى من العطش، وإن كان فيه صبر على الجوع، وعلى كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثا: يلهث قائما، وقاعدا، وماشيا، وواقفا، وذلك لشدة حرصه، فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث.
فهكذا مشبهه: شدة الحرص وحرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث فإن حملت عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث، وإن تركته ولم تعظه فهو يلهث.
قال مجاهد: وذلك مثل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها، وإن تركته لم يهتد إلى خيرا كالكلب إن كان رابضا، لهث، وإن طرد لهث...
وقال أبو محمد بن قتيبة: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب، فإنه يلهث في حال الكلال، وحال الراحة، وحال الصحة، وحال المرض، والعطش.
فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته، وقال: إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال، كالكلب إن طردته لهث، وإن تركته على حاله لهث..
ونظيره قوله سبحانه: {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون} [الأعراف: 193].
وتأمل ما في هذا المثل من الحكم والمعاني:
فمنها: قوله: {آتيناه آياتنا} فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته، فإنها نعمة والله هو الذي أنعم بها عليه، فأضافها إلى نفسه ثم قال: {فانسلخ منها} أي خرج منها، كما تنسلخ الحية من جلدها، وفارقها فراق الجلد يسلخ عن اللحم.
ولم يقل: فسلخناه منها:؛ لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباعه هواه.
ومنها: قوله سبحانه {فأتبعه الشيطان} أي لحقه وأدركه، كما قال في قوم فرعون: {فأتبعوهم مشرقين} [الشعراء: 60] وكان محفوظا محروسا بآيات الله محمي الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئا إلا على غرة وخطفة، فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته {فكان من الغاوين} العاملين بخلاف علمهم، الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه كعلماء السوء.
ومنها: أنه سبحانه قال: {ولو شئنا لرفعناه بها} فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم، فإن هذا كان من العلماء، وإنما هي باتباع الحق وإيثاره، وقصد مرضاة الله، فإن هذا كان من أعلم أهل زمانه، ولم يرفعه الله بعلمه، ولم ينفعه به، فنعوذ بالله من علم لا ينفع.
وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه من العلم، وإن لم يرفعه الله فهو موضوع، لا يرفع أحد به رأسا، فإن الخافض الرافع سبحانه خفضه ولم يرفعه.
والمعنى: لو شئنا فضلناه وشرفناه ورفعنا قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ولو شئنا لرفعناه بعمله.
بها وقالت طائفة: الضمير في قوله «لرفعناه» عائد على الكفر. والمعنى: لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بما معه من آياتنا. قال مجاهد وعطاء: لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه.
وهذا المعنى حق، والأول هو مراد الآية. وهذا من لوازم المراد.
وقد تقدم أن السلف كثيرا ما ينبهون على لازم معنى الآية، فيظن الظان أن ذلك هو المراد منها.
وقوله: {ولكنه أخلد إلى الأرض} قال سعيد بن جبير: ركن إلى الأرض.
وقال مجاهد: سكن، وقال مقاتل رضي بالدنيا، وقال أبو عبيدة: لزمها وأبطأ.
والمخلد من الرجال: هو الذي يبطئ مشيته، ومن الدواب: التي تبقى ثناياه إلى أن تخرج رباعيته.
وقال الزجاج: خلد وأخلد، وأصله من الخلود. وهو الدوام والبقاء، ويقال: «أخلد فلان بالمكان»إذا أقام به...قلت: ومنه قوله تعالى: {يطوف عليهم ولدان مخلدون} [الواقعة: 17] أي قد خلقوا للبقاء، لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون، وهم على سن واحد أبدا...
وقوله: {واتبع هواه} قال الكلبي: اتبع مسافل الأمور، وترك معاليها.
وقال أبو روق: اختار الدنيا على الآخرة، وقال عطاء: أراد الدنيا وأطاع شيطانه...
فإن قيل: الاستدراك «بلكن» يقتضي أن يثبت بعدها ما نفي قبلها، أو ينفي ما أثبت، كما تقول: لو شئت لأعطيته، لكني لم أعطه ولو شئت لما فعلت كذا لكني فعلته، فالاستدراك يقتضي: ولو شئنا لرفعناه بها ولكنا لم نشأ، أو لم نرفع، فكيف استدرك بقوله: {ولكنه أخلد إلى الأرض} بعد قوله: {ولو شئنا لرفعناه بها}؟
قيل: هذا من الكلام الملحوظ فيه جانب المعنى، المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني وذلك أن مضمون قوله: {ولو شئنا لرفعناه بها} أنه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات: من إيثار الله ومرضاته على هواه، ولكنه آثر الدنيا، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولو شئنا لرفعناه بها} أي ولو أردنا أن نرفعه بتلك الآيات إلى درجات الكمال والعرفان، التي تقرن فيها العلوم بالأعمال، {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11] – لفعلنا بأن تخلق له الهداية خلقا، ونحمله عليها طوعا أو كرها، فإن ذلك لا يعجزنا، وإنما هو مخالف لسنتنا...
وحاصل معنى الشرط والاستدراك أن من شأن من أوتي آيات الله تعالى أن ترتقي نفسه، وترتفع في مراقي الكمال درجته، لما فيها من الهداية والإرشاد والذكرى، وإنما يكون ذلك لمن أخذ هذه الآيات وتلقاها بهذه النية {وإنما لكل امرئ ما نوى} وأما من لم ينو ذلك ولم تتوجه إليه نفسه وإنما تلقى الآيات الإلهية اتفاقا بغير قصد، أو بنية كسب المال والجاه، ووجد مع ذلك في نفسه ما يصرفه عن الاهتداء بها فلن يستفيد منها، وأسرع به أن ينسلخ منها، فهو يقول لو شئنا لرفعناه بها لأنها في نفسها هدى ونور، ولكن تعارض المقتضي والمانع وهو إخلاده إلى الأرض واتباع هواه...
{ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا}... فكان مثلهم مثل الذي أوتي الآيات فانسلخ منها، وذلك لا يعيب الآيات وإنما يعيب أهل الأهواء الذين حرمهم سوء اختيارهم الانتفاع بها، وكأين من إنسان حرم الانتفاع بمواهبه الفطرية بعدم استعماله إياها فيما يرفعه درجات في العلم والعمل، وكأي من إنسان استعمل حواسه في الضر، وعقله وذكاءه في الشر، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
"وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا" بأن نوفقه للعمل بها، فيرتفع في الدنيا والآخرة، فيتحصن من أعدائه. "وَلَكِنَّهُ" فعل ما يقتضي الخذلان، فَأَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ، أي: إلى الشهوات السفلية، والمقاصد الدنيوية. وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وترك طاعة مولاه، فَمَثَلُهُ في شدة حرصه على الدنيا وانقطاع قلبه إليها، كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أي: لا يزال لاهثا في كل حال، وهذا لا يزال حريصا، حرصا قاطعا قلبه، لا يسد فاقته شيء من الدنيا. ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا بعد أن ساقها اللّه إليهم، فلم ينقادوا لها، بل كذبوا بها وردوها، لهوانهم على اللّه، واتباعهم لأهوائهم، بغير هدى من اللّه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم إذا نحن أولاء أمام مشهد مفزع بائس نكد.. إذا نحن بهذا المخلوق، لاصقا بالأرض، ملوثا بالطين. ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب، يلهث إن طورد ويلهث إن لم يطارد.. كل هذه المشاهد المتحركة تتتابع وتتوالى؛ والخيال شاخص يتبعها في انفعال وانبهار وتأثر.. فإذا انتهى إلى المشهد الأخير منها.. مشهد اللهاث الذي لا ينقطع. سمع التعليق المرهوب الموحي، على المشهد كله:
(ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون. ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون)..
ذلك مثلهم! فلقد كانت آيات الهدى وموحيات الإيمان متلبسة بفطرتهم وكيانهم وبالوجود كله من حولهم. ثم إذا هم ينسلخون منها انسلاخاً. ثم إذا هم أمساخ شائهو الكيان، هابطون عن مكان "الإنسان "إلى مكان الحيوان.. مكان الكلب الذي يتمرغ في الطين.. وكان لهم من الإيمان جناح يرفون به إلى عليين؛ وكانوا من فطرتهم الأولى في أحسن تقويم، فإذا هم ينحطون منها إلى أسفل سافلين!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والرفعة مستعارة لكمال النفس وزكائها، لأن الصفات الحميدة تُخيل صاحبها مرتفعاً على من دونه، أي لو شئنا لاكتسب بعمله بالآيات فضلاً وزكاء وتميزاً بالفضل، فمعنى لرفعناه ليسرّنا له العمل بها الذي يشرُف به.
وقد وقع الاستدراك على مضمون قوله: {ولو شئنا لرفعناه بها} بذكر ما يناقض تلك المشيئة الممتنعة، وهو الاستدراك بأنه انعكست حاله فأخلد إلى الأرض، أي ركن ومال إلى الأرض، والكلام تمثيل لحال المتلبس بالنقائص والكفر بعد الإيمان والتقوى، بحال من كان مرتفعاً عن الأرض فنزل من اعتلاء إلى أسفل، فبذكر الأرض عُلمَ أن الإخلاد هنا ركون إلى السفل أي تلبس بالنقائص والمفاسد.
واتباع الهوى ترجيح ما يحسن لدى النفس من النقائص المحبوبة، على ما يدعو إليه الحق والرشد، فالاتباع مستعار للاختيار والميل، والهوى شاع في المحبة المذمومة الخاسرة عاقبتها.
وقد تفرع على هذه الحالة تمثيله بالكلب اللاهث، لأن اتصافه بالحالة التي صيرته شبيهاً بحال الكلب اللاهث تفرع على إخلاده إلى الأرض واتباع هواه، فالكلام في قوة أن يقال: ولكنه أخلد إلى الأرض فصار في شَقاء وعناد، كمثل الكلب إلخ.
واستعمال القرآن لفظ المثل بعد كاف التشبيه مألوف بأنه يراد به تشبيه الحالة بالحالة، وتقدم قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} في سورة البقرة (17)، فلذلك تعين أن التشبيه هنا لا يخرج عن المتعارف في التشبيه المركب، فهذا الضال تحمل كلفة اتباع الدين الصالح وصار يطلبه في حينَ كان غير مكلف بذلك في زمن الفترة فلقي من ذلك نصباً وعناء، فلما حان حين اتباع الحق ببعثة محمد تحمل مشقة العناد والإعراض عنه في وقت كان جديراً فيه بأن يستريح من عنائه؛ لحصول طلبته فكانت حالته شبيهة بحالة الكلب الموصوف باللّهث، فهو يلهث في حالة وجود أسباب اللهث من الطرد والإرهاب والمشقة وهي حالة الحمل عليه، وفي حالة الخلو عن ذلك السبب وهي حالة تركه في دعة ومسالمة، والذي ينبه على هذا المعنى هو قوله {أو تَتْركه}.
وليس لشيء من الحيوان حالة تصلح للتشبيه بها في الحالتين غير حالة الكلب اللاهث، لأنه يلهث إذا أتْعب وإذا كان في دعة، فاللهث في أصل خلقته.
وهذا التمثيل من مبتكرات القرآن فإن اللهث حالة تؤذن بحرج الكلب من جراء عسر تنفسه عن اضطراب باطنه وإن لم يكن لاضطراب باطنه، سبب آت من غيره فمعنى {إن تحمل عليه} إن تُطارده وتُهاجمه. مشتق من الحَمل الذي هو الهجوم على أحد لقتاله، يقال حمل فلانٌ على القوم حملة شعواء أو حملة منكرة. وقد أغفل المفسرون توضيحه، وأغفل الراغب في « مفردات القرآن» هذا المعنى لهذا الفعل.
فهذا تشبيهُ تمثيل مُركب منتزعةٌ فيه الحالة المشبهة والحالةُ المشبه بها من متعدد، ولما ذُكر {تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} في شق الحالة المشبه بها، تعين أن يكون لها مقابل في الحالة المشبهة، وتتقابل أجزاءُ هذا التمثيل بأن يشبّه الضال بالكلب، ويشبه شقاؤُه واضطرابُ أمره في مدة البحث عن الدين بلهث الكلب في حالة تركه في دعة، تشبيهَ المعقول بالمحسوس، ويشبّه شقاؤه في إعراضه عن الدين الحق عند مجيئه بلهث الكلب في حالة طرده وضربه تشبيه المعقول بالمحسوس. وقد أغفل هذا الذين فسروا هذه الآية فقرروا التمثيل بتشبيه حالة بسيطة بحالة بسيطة في مجرد التشويه أو الخسة. فيؤول إلى أن الغرض من تشبيهه بالكلب إظهار خسة المشبه، كما درج عليه في « الكشاف»، ولو كان هذا هو المراد لما كان لذكر {إنْ تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} كبير جدوى، بل يقتصر على أنه لتشويه الحالة المشبه بها، لتكتسب الحالةُ المشبهة تشويها، وذلك تقصير في حق التمثيل...
وجملة: {إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} في موضع الحال من الكلب والخطاب في {تَحْمل} وتترك لمخاطب غير معيّن، والمعنى إن يحمل عليه حامل، أو يتركه تارك.
واللهث: سرعة التنفس مع امتداد اللسان لضيق النفس، وفعله بفتح الهاء وبكسرها، ومضارعه بفتحها لا غير، والمصدر اللهث بفتح اللام والهاء ويقال اللهاث بضم اللام، لأنه من الأدواء، وليس بصوت.
جملة مبيّنة لجملة: {واتْلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا} الآيتين، والمثال الحال أي ذلك التمثيل مثل للمشركين المكذبين بالقرآن، تشبيه بليغ، لأن حالة الكلب المشتبه شبيهة بحال المكذبين وليست عينها.
والإشارة بذلك إلى {الذي آتيناه آياتنا}، وهو صاحب القصة، هو مَثل المشركين، لأنهم شابهوه في أنهم أتوا القرآن فكذبوا به، فكانت حالهم كحال ذلك المكذب، والأظهر أن تكون الإشارة إلى المثَل في قوله: {كمثل الكلب} أي حالُ الكلب المذكورة كحال المشركين المكذبين في أنهم كانوا يودون معرفة دين إبراهيم، ويتمنون مساواة أهل الكتاب في العلم والفضل، فكانوا بذلك في عناء وحيرة في الجاهلية فلما جاءهم رسول منهم بكتاب مبين انتقلوا إلى عناء معاندته كقوله تعالى: {أو تقولوا لو أنا أنْزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} [الأنعام: 157] وهذا تأويل ما روي عن عبادة بن الصامت أن آية {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا} إلى آخرها نزلت في قريش.
وفُرع على ذلك الأمرُ بقوله: {فاقْصص القصصَ لعلهم يتفكرون} أي اقصص هذه القصة وغيرها، وهذا تذييل للقصة الممثل بها يشملها وغيرها من القصص التي في القرآن، فإن في القصص تفكراً وموعظة، فيرجى منه تفكرهم وموعظتهم، لأن للأمثال واستحضار النظائر شاناً عظيماً في اهتداء النفوس بها وتقريب الأحوال الخفية إلى النفوس الذاهلة أو المتغافلة، لما في التنظير بالقصة المخصوصة من تذكر مشاهدة الحالة بالحواس، بخلاف التذكير المجرد عن التنظير بالشيء المحسوس.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ولو نشاء لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث}...
أي إن أولئك الذين ينسلخون من الآيات التي ينعم الله تعالى عليهم ببيانها يستوي عندهم البيان والترك بل إنهم يضلون دائما، إن ضلالهم في حال البيان أشد وأوغل، فالجامع بين المشبه والمشبه به هو البقاء على حال سوء دائما، سواء أكان البيان أم لم يكن...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
{ولو شئنا لرفعنا بها}... والوجه في تأويل العبارة على ما يتبادر لنا هو: أن الله قادر على رفعه بالآيات التي آتاه إياها، ولكنه تركه لاختياره وقابليته التي أودعها فيه فساقه ذلك إلى ما هو متسق مع سجيته الفاسدة ونيته الخبيثة...
وهنا أمران اثنان، الرفعة: وهي العلو والتسامي، ويأتي بعدها الأمر الثاني وهو الإخلاد إلى الأرض أي إلى التسفل، والفعلان منسوبان لفاعلين مختلفين. {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ}، والفعل رفع هنا مسند لله. ولكنه اختار أن يخلد في الأرض. وجاء الأمر كذلك لأن الرفعة من المعقول أن تنسب لله. لكن التسفل لا يصح أن يُنسب لله، وكان كل فعل هو بأمر صاحب الكون. وربنا هنا يرفع من يسير على المنهج، وحين يقول الحق تبارك وتعالى {ولو شئنا} أي أنها مشيئتنا. فلو أردنا أن نرفعه كانت المشيئة صالحة، لكن هذا الأمر ينقص الاختيار، والحق يريد أن يُبقَى للإنسان الاختيار، فإن اختار الصواب فأهلا به وجزاؤه الجنة، وإن أراد الضلال فلسوف يَلْقى العذاب الحق،... و {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ}، أي أنه اختار أن ينزل إلى الهاوية، رغم أن الحق هدى الإنسان وبين له طريق الخير ليسلكه فيصعد إلى العلو،...
{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} (من الآية 176 سورة الأعراف). ومن يريد أن يرفعه الله إلى السماء بالوحي بالمنهج ثم يهبط إلى الأرض نجد الحق سبحانه وتعالى يمثل حاله بحال الكلب، مع الفارق بين الاثنين؛ لأن الكلب يلهث غريزة. فهو غير مذموم حين يلهث وهو مطرود، ويلهث غير مطرود فهي غريزة فيه، ولا يذم على هذه ولا على تلك، لكن الإنسان الذي فطره الله على حب الخير وميز غرائزه بمنهج عقلي يصون حركته ما كان يصح له أن يفعل ذلك...
والإنسان الذي لا يتبع منهج الله يكون مضطرب الحركة في الحياة، حتى وإن كان في نعمة، لأنه معزول عن الله، ومادام معزولا عن الله تجده دائم التساؤل: أيدوم لي هذا النعيم أو لا يدوم؟ ويعيش دائما في قلق ورعب مخافة أن يفوت النعيم أو ألا يدوم له النعيم، ومثله كالكلب يلهث حال راحته ويلهث حال تعبه. {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}...