قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد } ، الآية . نزلت عام الحديبية وكانوا محرمين ، ابتلاهم الله بالصيد ، وكانت الوحوش تغشى رحالهم كثيرة ، ا فهموا بأخذها فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله } ليختبرنكم الله ، وفائدة البلوى إظهار المطيع من العاصي ، وإلا فلا حاجة له إلى البلوى بشيء من الصيد ، وإنما بعض ، فقال : { بشيء } لأنه ابتلاهم بصيد البر خاصةً .
قوله تعالى : { تناله أيديكم } ، يعني : الفرخ والبيض ، وما لا يقدر أن يفر من صغار الصيد .
قوله تعالى : { ورماحكم } ، يعني : الكبار من الصيد .
قوله تعالى : { ليعلم الله } ، ليرى الله ، لأنه قد علمه .
قوله تعالى : { من يخافه بالغيب } ، أي : يخاف الله ولم يره ، وذلك قوله تعالى : { الذين يخشون ربهم بالغيب } [ الأنبياء : 49 ] أي : يخافه فلا يصطاد في حال الإحرام .
قوله تعالى : { فمن اعتدى بعد ذلك } ، أي : صاد بعد تحريمه .
قوله تعالى : { فله عذاب أليم } ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : يوجع ظهره وبطنه جلداً ، ويسلب ثيابه .
وبعد أن حذر الله - تعالى - المؤمنين من تعاطي المنكرات كالخمر والميسر وبين لهم حكم من الآيات قبل تحريم هذه الأشياء بعد كل ذلك بين - سبحانه - بشيء من التفصيل بعض الأحكام التي تتعلق بالصيد فقال - تعالى -
{ ياأيها الذين آمَنُواْ . . . }
قال الآلوسي : هذه الآية - كما خرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان - نزلت في عمرة الحديبية ، حيث ابتلاهم الله - تعالى - بالصيد وهم محرمون ، فكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم ، وكانوا متمكنين من صيدها أخذاً بأيديهم وطعنا برماحهم فهموا بأخذها فنزلت .
وقوله : { لَيَبْلُوَنَّكُمُ } أي : ليخبرنكم وليمتحننكم من الابتلاء بمعنى الاختبار والامتحان ولفظ الصيد في قوله : { مِّنَ الصيد } مصدر بمعنى المصيد أي : ما يصطادونه .
والمعنى : يا أيها الذين آمنوا ليختبرن الله - سبحانه - إيمانكم ومبلغ قوته بأن يرسل إليكم وأنتم محرمون شيئا من الصيد الذي تحبونه ، بحيث يكون في متناول أيديكم ورماحكم .
وقوله : { لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله } جواب قسم محذوف والتقدير : والله ليعاملنكم سبحانه معاملة المختبر ليتبين المطيع من العاصي .
وأكد سبحانه - هذا الخبر بلام القسم ونون التوكيد للإِشارة إلى أهمية هذا الاختبار حتى يسارعوا إلى طاعته - سبحانه - وامتثال أمره .
والتنوين في قوله { بشيء } للتقليل والتحقير . وإنما امتحنوا بهذا الشيء الصغير ، تنبيها إلى أن من لم يثبت ويعصم نفسه عن ارتكاب هذه الأشياء الصغيرة فإنه لن يثبت أمام التكاليف الكبيرة .
ويمكن أن يقال ، إن التنوين هنا للتعظيم باعتبار الجزاء الأليم المترتب على الاعتداء على الصيد في حال الإِحرام .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما معنى التقليل والتصغير في قوله : بشيء من الصيد ؟
قلت : قلل وصغر ليعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تدحض عندها أقدام الثابتين - كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال - وإنما هو شبيه بما ابتلى به أهل أيله من صيد السمك ، وأنهم إذا لم يثبتوا عنده فكيف شأنهم عند ما هو أشد منه .
وقوله : { بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } هو موضع الاختبار { من } في قوله { مِّنَ الصيد } لبيان الجنس . أو التبعيض ، لأن المراد صيد البر دون البحر ، وصيد الإحرام دون صيد الإِحلال .
ومعنى { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } تستطيع أيدكم أن تأخذ هذا الصيد بسهولة ويسر إذا كان كبيراً أو بعيداً بعدا نسبيا منكم .
وخص الأيدي والرماح بالذكر ، لأن معظم التصرفات التي تتعلق بالصيد تكون بالأيدي ، ولأن معظم الآلات التي تستعمل تكون الرماح .
وقوله : { لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب } تعليل قصد به بيان الحكمة من وراء الابتلاء والاختبار .
والمراد بالعلم في قوله : { لِيَعْلَمَ الله . . . } إظهار ما علمه أزلا من أهل طاعته ومعصيته ، حتى يتميز الخبيث من الطيب .
والمعنى : اختبرناكم أيها المؤمنون بنوع من البلايا - وهو تحريم صيد البر صغاراً وكباراً - وأنتم محرمون أو في الحرم ، ليظهر ما علمه أزلا - سبحانه - من أهل طاعته ومعصيته ، وبذلك يتميز للناس الخبيث من الطيب ، ويعرف الشخص الذي يخاف الله ويراقبه - مع أنه لم ير الله - سبحانه - من الشخص الذي لا يخافه بالغيب .
قال الجمل : وقوله { بالغيب } حال من فاعل يخافه ، أي : يخاف الله حاله كونه غائبا عن الله ومعنى كون العبد غائبا عن الله ، أنه لم ير الله تعالى .
أو حال من المفعول : أي : يخاف الله حال كونه - تعالى - ملتبسا بالغيب عن العبد ، أي غير مرئى له .
وقوله : { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } بيان لسوء عاقبة المخالف لأوامر الله والمتجاوز لحدوده .
واسم الإشارة ( ذلك ) يعود ما بينه - سبحانه - لعباده من أحكام .
والمعنى : لقد اختبرناكم - أيها المؤمنون - بما اختبرناكم به ، ليتميز قوى الإِيمان من ضعيفه ، فمن تعدى منكم حدود الله بعد هذا البيان والإِعلام ، فله عذاب شديد الآلام عظيم الإِهانة ، لأن التعدي بعد الإِنذار ، دليل على عدم المبالاة بأوامر الله ومن لم يبال بأوامر الله ساءت عاقبته .
وقبح مصيره . هذا ، ولقد نجحت الأمة الإِسلامية وخصوصا سلفها الصالح في هذا الاختبار فقد تجنب أبناءها وهم محرومون أول في الحرم مصيد البر مما أغراهم قربه منهم ، وحبهم له على صيده والانتفاع به .
بينما أخفق بنو إسرائيل فيما يشبه هذا الاختبار ؛ فقد نهاهم الله - تعالى - عن الصيد في يوم السبت ، فكانت الأسماك تظهر لهم في هذا اليوم امتحانا من الله لهم ، فما كان منهم إلا أن تحايلوا على صيدها ، بأن حبسوها في يوم السبت ليصيدوها في غيره . . فاستحقوا من الله اللعنة والمسخ واستحقت الأمة الإِسلامية أن تكون خير أمة أخرجت للناس .
قال الوالبي ، عن ابن عباس قوله : { لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } قال : هو الضعيف من الصيد وصغيره ، يبتلي الله به عباده في إحرامهم ، حتى لو شاؤوا يتناولونه بأيديهم . فنهاهم الله أن يقربوه .
وقال مجاهد : { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ } يعني : صغار الصيد وفراخه { وَرِمَاحِكُمْ } يعني : كباره .
وقال مُقَاتِل بن حَيَّان : أنزلت هذه الآية في عُمْرة الحُدَيْبِيَّة ، فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم{[10372]} في رحالهم ، لم يروا مثله قط فيما خلا فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون .
{ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ } يعني : أنه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم ، يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سرًا وجهرًا{[10373]} ليظهر طاعة من يطيع منهم في سره وجهره ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ الملك : 12 ] .
وقوله هاهنا : { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } قال السدي وغيره : يعني بعد هذا الإعلام والإنذار والتقدم { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : لمخالفته أمر الله وشرعه .
{ يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } نزلت في عام الحديبية ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالصيد ، وكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث يتمكنون من صيدها أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم وهم محرمون ، والتقليل والتحقير في بشيء للتنبيه على أنه ليس من العظائم التي تدحض الأقدام كالابتلاء ببذل الأنفس والأموال ، فمن لم يثبت عنده كيف يثبت عند ما هو أشد منه . { ليعلم الله من يخافه بالغيب } ليتميز الخائف من عقابه وهو غائب منتظر لقوة إيمانه ممن لا يخافه لضعف قلبه وقلة إيمانه ، فذكر العلم وأراد وقوع المعلوم وظهوره أو تعلق العلم . { فمن اعتدى بعد ذلك } بعد ذلك الابتلاء بالصيد . { فله عذاب أليم } فالوعيد لاحق به ، فإن من لا يملك جأشه في مثل ذلك ولا يراعي حكم الله فيه فكيف به فيما تكون النفس أميل إليه وأحرص عليه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
(يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد): ببعض الصيد، فخص صيد البر خاصة، ولم يَعمَّ الصيدَ كلَّه؛ لأن للبحر صيدا، (تناله أيديكم): تأخذون صغار الصيد بأيديكم أخذاً بغير سلاح، ثم قال سبحانه: (ورماحكم) يعني: وسلاحكم النبل والرماح، بها يصيبون كِبَار الصيد، وهو عام حُبِس النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن مكة عام الحديبية، وأقام بالتنعيم، فصالَحَهم على أن يرجع عامه ذلك، ولا يدخل مكة، فإذا كان العام المُقبِل، أَخْلَوا له مكة فدخلها في أصحابه رضي الله عنهم، وأقام بها ثلاثا، ورضي النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فنحر البُدُن مائة بَدَنة، فجاءت السِّباعُ والطيرُ تأكل منها، فنهى الله عز وجل عن قتل الصيد في الحرم، (ليعلم الله)، لكي يرى الله، (من يخافه بالغيب): من يخاف الله عز وجل ولم يره، فلم يتناول الصيد، وهو مُحرِم. (فمن اعتدى بعد ذلك): فمن أخذ الصيدَ عمداً بعد النهي، فقتَلَ الصيدَ وهو مُحرِم، (فله عذاب أليم)، يعني ضربا وجيعا، ويسلب ثيابه، ويغرم الجزاء، وحُكْم ذلك إلى الإمام، فهذا العذاب الأليم...
فكل شيء ناله الإنسان بيده، أو رمحه أو بشيء من سلاحه، فأنفذه وبلغ مقاتله، فهو صيد.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله "لَيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصّيْدِ": ليختبرنكم الله بشيء من الصيد، يعني: ببعض الصيد. وإنما أخبرهم تعالى ذكره أنه يبلوهم بشيء، لأنه لم يبلهم بصيد البحر وإنما ابتلاهم بصيد البرّ، فالابتلاء ببعض لم يمتنع. وقوله: "تَنالُه أيْدِيكُمْ "يعني: إما باليد، كالبيض والفراخ وإما بإصابة النبل والرماح، وذلك كالحُمُر والبقر والظباء، فيمتحنكم به في حال إحرامكم بعمرتكم أو بحجكم.
" لِيَعْلَمَ اللّهُ مَنْ يَخافُهُ بالغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمُ ": ليختبرنكم الله أيها المؤمنون ببعض الصيد في حال إحرامكم، كي يعلم أهل طاعة الله والإيمان به والمنتهون إلى حدوده وأمره ونهيه، من الذي يخاف الله، فيتقي ما نهاه عنه ويجتنبه خوف عقابه بالغيب، بمعنى: في الدنيا بحيث لا يراه. وقد بينا أن الغيب إنما هو مصدر قول القائل: غاب عني هذا الأمر فهو يغيب غيبا وغيبة، وأن ما لم يعاين فإن العرب تسميه غيبا.
فتأويل الكلام إذن: ليعلم أولياء الله من يخاف الله فيتقي محارمه التي حرّمها عليه من الصيد وغيره، بحيث لا يراه ولا يعاينه.
"فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ": فمن تجاوز حدّ الله الذي حدّه له بعد ابتلائه بتحريم الصيد عليه وهو حرام، فاستحلّ ما حرم الله عليه منه بأخذه وقتله "فَلَهُ عَذَابٌ" من الله "ألِيمٌ": مؤلم موجع.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ} الآية نزلت عام الحديبية ابتلاهم اللّه بالصيد فكان الوحش يغشى رحالهم كثير وهم محرمون، فبينما هم يسيرون بين مكة والمدينة إذ عرض إليهم حمار وحش، فحمل عليه أبو اليسر بن عمرو فطعنه برمحه فقتله، فقيل له: إنك قتلت الصيد وأنت حرم، فأتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فأنزل اللّه {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ}.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أباح الصيد لمن كان حَلاَلاً، وحرَّم الصيد على المُحْرِم الذي قَصْدهُ زيارة البيت. والإشارة فيه أن من قصد بيتنا فينبغي أن يكون الصيد منه في الأمان، لا يتأذى منه حيوان بحال. ويقال الإشارة في هذا أَنّ مَنْ قصَدَنا فعليه نَبْذُ الأطماعِ جملةً، ولا ينبغي أن تكون له مطالبة بحالٍ من الأحوال. وكما أنَّ الصيدَ على المُحْرِم حرامٌ إلى أن يتحلل، فكذلك الطلب والطمع والاختيار -على الواجِد- حرامٌ ما دام مُحْرِمًا بقلبه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
نزلت عام الحديبية ابتلاهم الله بالصيد وهم محرمون، وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في رحالهم فيستمكنون من صيده، أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم {لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب} ليتميز من يخاف عقاب الله وهو غائب منتظر في الآخرة فيتقي الصيد، ممن لا يخافه فيقدم عليه {فَمَنِ اعتدى} فصاد {بَعْدَ ذَلِكَ} الابتلاء فالوعيد لاحق به.
فإن قلت: ما معنى التقليل والتصغير في قوله: {بشيء مّنَ الصيد}؟ قلت: قلل وصغر ليعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تدحض عندها أقدام الثابتين، كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال، وإنما هو شبيه بما ابتلى به أهل أيلة من صيد السمك، وأنهم إذا لم يثبتوا عنده فكيف شأنهم عند ما هو أشدّ منه. وقرأ إبراهيم: يناله، بالياء.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
.. والظاهر أن الله تعالى خص الأيدي بالذكر لأنها عظم 4 المتصرف في الاصطياد، وهي آلة الآلات وفيها تدخل الجوارح والحبالات وما عمل باليد من فخاخ وشباك، وخص الرماح بالذكر لأنها عظم ما يجرح به الصيد، وفيها يدخل السهم ونحوه، واحتج بعض الناس على أن الصيد 5 للآخذ لا للمثير بهذه الآية، لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئاً، وقوله تعالى {ليعلم} معناه ليستمر علمه عليه وهو موجود إذ علم تعالى ذلك في الأزل.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر ما حرم من الطعام في كل حال، وكان الصيد مما حرم في بعض الأوقات، وكان من أمثل مطعوماتهم، وكان قد ذكر لهم بعض أحكامه عقب قوله: {أحلت لكم بهيمة الأنعام} {وأحل لكم الطيبات} أخذ هنا في ذكر شيء من أحكامه، وابتدأها -لأنهم خافوا على من مات منهم على شرب الخمر قبل تحريمها بأنه يبتليهم لتمييز الورع منهم من غيره- بالصيد في الحال التي حرمه عليهم فيها كما ابتلى إسرائيل في السبت، فكان ذلك سبباً لجعلهم قردة، ومنَّ سبحانه على الصحابة من هذه الأمة بالعصمة عند بلواهم بياناً لفضلهم على من سواهم، فقال تعالى منادياً لهم بما يكفّهم ذكره عن المخالفة: {يا أيها الذين آمنوا} أي أوقعوا الإيمان ولو على أدنى وجوهه، فعم بذلك العالي والداني {ليبلونكم الله} أي يعاملكم معاملة المختبر في قبولكم تحريم الخمر وغيره المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، وذكر الاسم الأعظم إشارة بالتذكير بما له من الجلال إلى أن له أن يفعل ما يشاء، وأشار إلى تحقير البلوى تسكيناً للنفوس بقوله: {بشيء من الصيد} أي الصيد في البر في الإحرام، وهو ملتفت إلى قوله: {هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله} [المائدة: 60] وشارح لما ذكر أول السورة في قوله {غير محلي الصيد وأنتم حرم}، وما ذكر بعد المحرمات من قوله: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة: 4]، ووصف المبتلى به بوصف هو من أعلام النبوة فقال: {تناله أيديكم} أي إن أردتم أخذه سالماً {ورماحكم} إن أردتم قتله، ثم ذكر المراد من ذلك وهو إقامة الحجة على ما يتعارفه العباد بينهم فقال: {ليعلم الله} أي وهو الغني عن ذلك بما له من صفات الكمال التي لا خفاء بها عند أحد يعلم هذا الاسم الأعظم {من يخافه بالغيب} أي بما حجب به من هذه الحياة الدنيا التي حجبتهم عن أن يعرفوه حق معرفته سبحانه، والمعنى أنه يخرج بالامتحان ما كان من أفعال العباد في عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فيصير تعلق العلم به تعلقاً شهودياً كما كان تعلقاً غيبياً لتقوم بذلك الحجة على الفاعل في مجاري عاداتهم، ويزداد من له اطلاع على اللوح المحفوظ من الملائكة إيماناً ويقيناً وعرفاناً.
وقد حقق سبحانه معنى هذه الآية فابتلاهم بذلك عام الحديبية حتى كان يغشاهم الصيد في رحالهم ويمكنهم أخذه بأيديهم. ولما كان هذا زاجراً في العادة عن التعرض لما وقعت البلوى به وحاسماً للطمع فيه بمن اتسم بما جعل محط النداء من الإيمان، سبب عنه قوله: {فمن اعتدى} أي كلف نفسه مجاوزة الحد في التعرض له؛ ولما كان سبحانه يقبل التوبة عن عباده، خص الوعيد بمن استغرق الزمان بالاعتداء فأسقط الجار لذلك فقال: {بعد ذلك} أي الزجر العظيم {فله عذاب أليم} بما التذَّ من تعرضه إليه لما عرف بالميل إلى هذا أنه إلى ما هو أشهى منه كالخمر وما معها أميل.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بينا في تفسير الآية (90) أن هذه السورة افتتحت بآيات من أحكام الحلال والحرام في الطعام وأحكام النسك (ومنها الصيد في أرض الحرم أو في حال الإحرام) وتلاها سياق طويل في بيان أحوال أهل الكتاب ومحاجتهم، ثم عاد الكلام إلى شيء من تفصيل تلك الأحكام الخ...
ونقول الآن: إن الله جلت آلاؤه نهى عباده المؤمنين عن تحريم الطيبات وعن الاعتداء فيها وفي غيرها، وأمرهم بأكل الحلال الطيب، ولما كان بعض المبالغين في النسك قد حلفوا على ترك بعض الطيبات، بين لهم بهذه المناسبة كفارة الأيمان، ثم بين لهم تحريم الخمر والميسر لأنهما من أخبث الخبائث، فكان هذا وذاك متمما لما في أول السورة من أحكام الطعام والشراب. وناسب أن يتمم أحكام الصيد في الحرم والإحرام أيضا: فجاءت هذه الآيات في ذلك. وقال الرازي في مناسبة هذا لما قبله ما نصه: ووجه النظم أنه تعالى كما قال: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} ثم استثنى الخمر والميسر عن ذلك – فكذلك استثنى هذا النوع من الصيد عن المحللات وبين دخوله في المحرمات اه. وما قلناه خير منه وأصح، وليست الخمر والميسر من الطيبات فيستثنيان منها بل هما رجس خبيث.
{يأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم} الابتلاء الاختبار، والصيد مصدر أطلق على ما يصطاد من حيوان البحر مطلقا ومن حيوانات البر الوحشية لتؤكل، وقيل مطلقا فيدخل فيه غير المأكول لحمه إلا ما أبيح قتله كما يأتي. وتقدم تفصيل الكلام في الصيد في تفسير أول السورة. وسيأتي في تفسير الآية التالية الخلاف فيما يكفر به المحرم عن صيده. ووصف الصيد بكونه تناله الأيدي والرماح يراد به كثرته وسهولة أخذه، وإمكان الاستخفاء بالتمتع به. وروي عن ابن عباس ومجاهد أن ما يؤخذ بالأيدي صغاره وفراخه وبالرماح كباره. وقال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية فكانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما خلا، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون.
ووجه الابتلاء بذلك أن الصيد ألذ الطعام وأطيبه وناهيك باستطابته وبشدة الحاجة إليه في السفر الطويل كالسفر بين الحرمين، وسهولة تناول اللذيذ تغري به، فترك ما لا ينال إلا بمشقة لا يدل على التقوى والخوف من الله تعالى كما يدل عليه ترك ما ينال بسهولة، وقد قيل إن من العصمة أن لا تجد، وهل يعد ترك الزنا ممن لا يصل إليه إلا بسعي وبذل ومال وتوقع فضيحة كترك يوسف الصديق له إذ غلقت امرأة العزيز الأبواب دونه وقالت: هيت لك؟.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا إن الله تعالى يقسم بأنه سيختبركم بإرسال شيء كثير من الصيد – أو ببعض من أنواعه – يسهل عليكم أخذ بعضه بأيديكم وبعضه برماحكم {ليعلم الله من يخافه بالغيب} أي يبتليكم به وأنتم محرمون ليعلم من يخافه غائبا عن نظر الناس غير مراء لهم ولا خائف من إنكارهم، فيترك أخذ شيء من الصيد، ويختار شظف العيش على لذة اللحم، خوفا من الله تعالى وطاعة له في سره – أو يخافه حال كونه متلبسا بالإيمان بالغيب الذي يقتضي الطاعة في السر، والجهر، فإذا وقع ذلك منكم علمه الله تعالى لأن علمه يتعلق بالواقع الثابت، وترتب على علمه به رضاه عنكم وإثابتكم عليه، كما يعلم حال من يتعدي فيه، وقد بين جزاءه في الجملة الآتية فدل ذلك على ما حذف من جزاء من يخافه. والمشهور أن المراد بمثل هذا التعبير أنه تعالى يعاملكم معاملة المختبر الذي يريد أن يعلم الشيء وإن كان علام الغيوب، لأن هذا من ضروب تربيته لكم، وعنايته بتزكيتكم، وقد تقدم تفسير هذا التعليل بعلم الله تعالى (راجع ج2 و ج4).
{فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (94)} أي فمن اعتدى بأخذ شيء من ذلك الصيد بعد ذلك البيان والإعلام الذي أخبركم الله تعالى به قبل وقوعه فله عذاب شديد الألم في الآخرة – قيل وفي الدنيا بالتعزير والضرب – لأنه لم يبال باختبار الله له، بل سجل على نفسه أنه يخاف الله تعالى بالغيب، ولكنه قد يخاف لوم المؤمنين وتعزيرهم، إذا هو أخذ شيئا من الصيد بمرأى منهم، وهذا شأن المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار، لا شأن المؤمنين الصادقين الأبرار.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} أي: بشيء غير كثير، فتكون محنة يسيرة، تخفيفا منه تعالى ولطفا، وذلك الصيد الذي يبتليكم الله به {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} أي: تتمكنون من صيده، ليتم بذلك الابتلاء، لا غير مقدور عليه بيد ولا رمح، فلا يبقى للابتلاء فائدة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ليعلم الله من يخافه بالغيب).. إن مخافة الله بالغيب هي قاعدة هذه العقيدة في ضمير المسلم. القاعدة الصلبة التي يقوم عليها بناء العقيدة، وبناء السلوك، وتناط بها أمانة الخلافة في الأرض بمنهج الله القويم.. إن الناس لا يرون الله؛ ولكنهم يجدونه في نفوسهم حين يؤمنون.. إنه تعالى بالنسبة لهم غيب، ولكن قلوبهم تعرفه بالغيب وتخافه. إن استقرار هذه الحقيقة الهائلة -حقيقة الإيمان بالله بالغيب ومخافته- والاستغناء عن رؤية الحس والمشاهدة؛ والشعور بهذا الغيب شعورا يوازي -بل يرجح- الشهادة؛ حتى ليؤدي المؤمن شهادة: بأن لا إله إلا الله وهو لم ير الله.. إن استقرار هذه الحقيقة على هذا النحو يعبر عن نقلة ضخمة في ارتقاء الكائن البشري، وانطلاق طاقاته الفطرية، واستخدام أجهزته المركوزة في تكوينه الفطري على الوجه الأكمل؛ وابتعاده -بمقدار هذا الارتقاء- عن عالم البهيمة التي لا تعرف الغيب -بالمستوى الذي تهيأ له الإنسان- بينما يعبر انغلاق روحه عن رؤية ما وراء الحس، وانكماش إحساسه في دائرة المحسوس، عن تعطل أجهزة الالتقاط والاتصال الراقية فيه، وانتكاسه إلى المستوى الحيواني في الحس "المادي "! ومن ثم يجعلها الله سبحانه حكمة لهذا الابتلاء؛ ويكشف للذين آمنوا عن هذه الحكمة كي تحتشد نفوسهم لتحقيقها.. والله سبحانه يعلم علما لدنيا من يخافه بالغيب. ولكنه -سبحانه- لا يحاسب الناس على ما يعلمه عنهم علما لدنيا. إنما يحاسبهم على ما يقع منهم فيعلمه الله -سبحانه- علم وقوع...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لا أحسب هذه الآية إلاّ تبييناً لقوله في صدر السورة {غير محلّى الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 1]، وتخلُّصاً لحكم قتل الصيد في حالة الإحرام، وتمهيداً لقوله: {يأيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 95] جرَّتْ إلى هذا التخلّص مناسبة ذكر المحرّمات من الخمر والميسر وما عطف عليهما؛ فخاطب الله المؤمنين بتنبيههم إلى حالة قد يسبق فيها حرصُهم، حذَرَهم وشهوتُهم تقواهم. وهي حالة ابتلاء وتمحيص، يَظهر بها في الوجود اختلاف تمسّكهم بوصايا الله تعالى، وهي حالة لم تقع وقت نزول هذه الآية، لأنّ قوله {ليبلونّكم} ظاهر في الاستقبال، لأنّ نون التوكيد لا تدخل على المضارع في جواب القسم إلاّ وهو بمعنى المستقبل. والظاهر أنّ حكم إصابة الصيد في حالة الإحرام أو في أرض الحرم لم يكن مقرّراً بمثل هذا...
.وجملة {تناله أيديكم} صفة للصيد أو حال منه. والمقصود منها استقصاء أنواع الصيد لئلاّ يتوهّم أنّ التحذير من الصيد الذي هو بجرح أو قتل دون القبض باليد أو التقاط البيض أو نحوه..وقوله: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} تصريح بالتحذير الذي أومأ إليه بقوله {ليبلونّكم}، إذ قد أشعر قوله: {ليبلونّكم} أنّ في هذا الخبر تحذيراً من عمل قد تسبق النفس إليه. والإشارة بذلك إلى التحذير المستفاد من {ليبلونّكم}، أي بعدما قدّمناه إليكم وأعذرنا لكم فيه، فلذلك جاءت بعده فاء التفريع. والمراد بالاعتداء الاعتداء بالصيد، وسمّاه اعتداء لأنّه إقدام على محرّم وانتهاك لحرمة الإحرام أو الحرم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
(ذكر سبحانه وتعالى أشياء محرمة لذاتها لأنها مستقذرة خبيثة في ذاتها، وفي نتائجها، وهناك محرمات لمكانها وحال التناول لها، وليست في ذاتها حراما، ومن ذلك المحرمات في الحج أو في الإحرام بشكل عام، سواء اكان للحج أم كان للعمرة أم كان لهما وبعد أن أشار إلى بعض المحرمات لخبثها ولذاتها وهي الخمر ذكر سبحانه وتعالى المحرمات لمكانها وحال التناول لها، فقال سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب) ...
... (بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم) وهذا الموضوع للاختبار يتسم بأمور ثلاثة: أولها أنه شيء قليل لأن التنكير هنا للتقليل كما يدل عليه ما بعده والثاني انه بعض الصيد والثالث أنه قريب منكم يغري النفس ويحرضها على فعل المنهى عنه، اذ عن أيديكم تستطيع تناوله اذ كان قريبا صغيرا وتستطيع رماحكم أن تناله إذا كان كبيرا او بعيدا بعدا نسبيا. وإن الاختبار الذي يجعل النفس في مشقة هو في هذا القرب، فالاختبار ليس في أمر يشق على الأجسام كالجهاد إذ يحتاج الى قوة جسم ومهارة وفن عقلي ولكن الاختبار في أمر هين لين، ولكن فيه مشقة على النفس، وجهاد النفس عن شوقها وعن شهوتها يقل عن جهاد الجسم المرن، والعقل المدرب الماهر، ولعل ذلك جهاد أكبر.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
في هذه الآيات حديثٌ عن صيد البر والبحر في حال الإحرام، في ما يتعلّق بأحكامه الشرعيّة، وإيحاءٌ بأنَّ التحريم والتحليل في الإسلام، يعتبران نوعاً من أنواع الاختبار والامتحان للمسلمين، بالإضافة إلى تعلّقهما بالمصالح والمفاسد ...
... فقد فرض على الناس في حال الإحرام، وفي داخل الحرم، ترك الصيد البري...
لأنَّ الله يريد لهم، من جهةٍ، أن يعيشوا حالة السلام مع كل شيءٍ حيٍّ حولهم...