قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد } ، الآية . نزلت عام الحديبية وكانوا محرمين ، ابتلاهم الله بالصيد ، وكانت الوحوش تغشى رحالهم كثيرة ، ا فهموا بأخذها فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله } ليختبرنكم الله ، وفائدة البلوى إظهار المطيع من العاصي ، وإلا فلا حاجة له إلى البلوى بشيء من الصيد ، وإنما بعض ، فقال : { بشيء } لأنه ابتلاهم بصيد البر خاصةً .
قوله تعالى : { تناله أيديكم } ، يعني : الفرخ والبيض ، وما لا يقدر أن يفر من صغار الصيد .
قوله تعالى : { ورماحكم } ، يعني : الكبار من الصيد .
قوله تعالى : { ليعلم الله } ، ليرى الله ، لأنه قد علمه .
قوله تعالى : { من يخافه بالغيب } ، أي : يخاف الله ولم يره ، وذلك قوله تعالى : { الذين يخشون ربهم بالغيب } [ الأنبياء : 49 ] أي : يخافه فلا يصطاد في حال الإحرام .
قوله تعالى : { فمن اعتدى بعد ذلك } ، أي : صاد بعد تحريمه .
قوله تعالى : { فله عذاب أليم } ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : يوجع ظهره وبطنه جلداً ، ويسلب ثيابه .
وبعد أن حذر الله - تعالى - المؤمنين من تعاطي المنكرات كالخمر والميسر وبين لهم حكم من الآيات قبل تحريم هذه الأشياء بعد كل ذلك بين - سبحانه - بشيء من التفصيل بعض الأحكام التي تتعلق بالصيد فقال - تعالى -
{ ياأيها الذين آمَنُواْ . . . }
قال الآلوسي : هذه الآية - كما خرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان - نزلت في عمرة الحديبية ، حيث ابتلاهم الله - تعالى - بالصيد وهم محرمون ، فكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم ، وكانوا متمكنين من صيدها أخذاً بأيديهم وطعنا برماحهم فهموا بأخذها فنزلت .
وقوله : { لَيَبْلُوَنَّكُمُ } أي : ليخبرنكم وليمتحننكم من الابتلاء بمعنى الاختبار والامتحان ولفظ الصيد في قوله : { مِّنَ الصيد } مصدر بمعنى المصيد أي : ما يصطادونه .
والمعنى : يا أيها الذين آمنوا ليختبرن الله - سبحانه - إيمانكم ومبلغ قوته بأن يرسل إليكم وأنتم محرمون شيئا من الصيد الذي تحبونه ، بحيث يكون في متناول أيديكم ورماحكم .
وقوله : { لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله } جواب قسم محذوف والتقدير : والله ليعاملنكم سبحانه معاملة المختبر ليتبين المطيع من العاصي .
وأكد سبحانه - هذا الخبر بلام القسم ونون التوكيد للإِشارة إلى أهمية هذا الاختبار حتى يسارعوا إلى طاعته - سبحانه - وامتثال أمره .
والتنوين في قوله { بشيء } للتقليل والتحقير . وإنما امتحنوا بهذا الشيء الصغير ، تنبيها إلى أن من لم يثبت ويعصم نفسه عن ارتكاب هذه الأشياء الصغيرة فإنه لن يثبت أمام التكاليف الكبيرة .
ويمكن أن يقال ، إن التنوين هنا للتعظيم باعتبار الجزاء الأليم المترتب على الاعتداء على الصيد في حال الإِحرام .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما معنى التقليل والتصغير في قوله : بشيء من الصيد ؟
قلت : قلل وصغر ليعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تدحض عندها أقدام الثابتين - كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال - وإنما هو شبيه بما ابتلى به أهل أيله من صيد السمك ، وأنهم إذا لم يثبتوا عنده فكيف شأنهم عند ما هو أشد منه .
وقوله : { بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } هو موضع الاختبار { من } في قوله { مِّنَ الصيد } لبيان الجنس . أو التبعيض ، لأن المراد صيد البر دون البحر ، وصيد الإحرام دون صيد الإِحلال .
ومعنى { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } تستطيع أيدكم أن تأخذ هذا الصيد بسهولة ويسر إذا كان كبيراً أو بعيداً بعدا نسبيا منكم .
وخص الأيدي والرماح بالذكر ، لأن معظم التصرفات التي تتعلق بالصيد تكون بالأيدي ، ولأن معظم الآلات التي تستعمل تكون الرماح .
وقوله : { لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب } تعليل قصد به بيان الحكمة من وراء الابتلاء والاختبار .
والمراد بالعلم في قوله : { لِيَعْلَمَ الله . . . } إظهار ما علمه أزلا من أهل طاعته ومعصيته ، حتى يتميز الخبيث من الطيب .
والمعنى : اختبرناكم أيها المؤمنون بنوع من البلايا - وهو تحريم صيد البر صغاراً وكباراً - وأنتم محرمون أو في الحرم ، ليظهر ما علمه أزلا - سبحانه - من أهل طاعته ومعصيته ، وبذلك يتميز للناس الخبيث من الطيب ، ويعرف الشخص الذي يخاف الله ويراقبه - مع أنه لم ير الله - سبحانه - من الشخص الذي لا يخافه بالغيب .
قال الجمل : وقوله { بالغيب } حال من فاعل يخافه ، أي : يخاف الله حاله كونه غائبا عن الله ومعنى كون العبد غائبا عن الله ، أنه لم ير الله تعالى .
أو حال من المفعول : أي : يخاف الله حال كونه - تعالى - ملتبسا بالغيب عن العبد ، أي غير مرئى له .
وقوله : { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } بيان لسوء عاقبة المخالف لأوامر الله والمتجاوز لحدوده .
واسم الإشارة ( ذلك ) يعود ما بينه - سبحانه - لعباده من أحكام .
والمعنى : لقد اختبرناكم - أيها المؤمنون - بما اختبرناكم به ، ليتميز قوى الإِيمان من ضعيفه ، فمن تعدى منكم حدود الله بعد هذا البيان والإِعلام ، فله عذاب شديد الآلام عظيم الإِهانة ، لأن التعدي بعد الإِنذار ، دليل على عدم المبالاة بأوامر الله ومن لم يبال بأوامر الله ساءت عاقبته .
وقبح مصيره . هذا ، ولقد نجحت الأمة الإِسلامية وخصوصا سلفها الصالح في هذا الاختبار فقد تجنب أبناءها وهم محرومون أول في الحرم مصيد البر مما أغراهم قربه منهم ، وحبهم له على صيده والانتفاع به .
بينما أخفق بنو إسرائيل فيما يشبه هذا الاختبار ؛ فقد نهاهم الله - تعالى - عن الصيد في يوم السبت ، فكانت الأسماك تظهر لهم في هذا اليوم امتحانا من الله لهم ، فما كان منهم إلا أن تحايلوا على صيدها ، بأن حبسوها في يوم السبت ليصيدوها في غيره . . فاستحقوا من الله اللعنة والمسخ واستحقت الأمة الإِسلامية أن تكون خير أمة أخرجت للناس .
قال الوالبي ، عن ابن عباس قوله : { لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } قال : هو الضعيف من الصيد وصغيره ، يبتلي الله به عباده في إحرامهم ، حتى لو شاؤوا يتناولونه بأيديهم . فنهاهم الله أن يقربوه .
وقال مجاهد : { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ } يعني : صغار الصيد وفراخه { وَرِمَاحِكُمْ } يعني : كباره .
وقال مُقَاتِل بن حَيَّان : أنزلت هذه الآية في عُمْرة الحُدَيْبِيَّة ، فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم{[10372]} في رحالهم ، لم يروا مثله قط فيما خلا فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون .
{ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ } يعني : أنه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم ، يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سرًا وجهرًا{[10373]} ليظهر طاعة من يطيع منهم في سره وجهره ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ الملك : 12 ] .
وقوله هاهنا : { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } قال السدي وغيره : يعني بعد هذا الإعلام والإنذار والتقدم { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : لمخالفته أمر الله وشرعه .
القول في تأويل قوله تعالى : { يََأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مّنَ الصّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَىَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . .
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله لَيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصّيْدِ يقول : ليختبرنكم الله بشيء من الصيد ، يعني : ببعض الصيد . وإنما أخبرهم تعالى ذكره أنه يبلوهم بشيء ، لأنه لم يبلهم بصيد البحر وإنما ابتلاهم بصيد البرّ ، فالابتلاء ببعض لم يمتنع . وقوله : تَنالُه أيْدِيكُمْ يعني : إما باليد ، كالبيض والفراخ وإما بإصابة النبل والرماح ، وذلك كالحُمُر والبقر والظباء ، فيمتحنكم به في حال إحرامكم بعمرتكم أو بحجكم .
وبنحو ذلك قالت جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : لَيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصّيْدِ تَنالُهُ أيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال : أيديكم صغار الصيد ، أخذ الفراخ والبيض . و «الرماح » ، قال : كبار الصيد .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن داود ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : تَنالُهُ أيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال : النبل ، ورماحكم تنال كبير الصيد ، وأيديكم تنال صغير الصيد ، أخذ الفراخ والبيض .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد في قوله : لَيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصّيْدِ تَنالُهُ أيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال : ما لا يستطيع أن يفرّ من الصيد .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : أيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال : هو الضعيف من الصيد وصغيره ، يبتلي الله تعالى به عباده في إحرامهم حتى لو شاءوا نالوه بأيديهم ، فنهاهم الله أن يقربوه .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن حميد الأعرج ، وليث عن مجاهد في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصّيْدِ تَنالُهُ أيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال : الفراخ والبيض ، وما لا يستطيع أن يفرّ .
القول في تأويل قوله تعالى : " لِيَعْلَمَ اللّهُ مَنْ يَخافُهُ بالغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمُ " .
يعني تعالى ذكره : ليختبرنكم الله أيها المؤمنون ببعض الصيد في حال إحرامكم ، كي يعلم أهل طاعة الله والإيمان به والمنتهون إلى حدوده وأمره ونهيه ، من الذي يخاف الله ، فيتقي ما نهاه عنه ويجتنبه خوف عقابه بالغيب ، بمعنى : في الدنيا بحيث لا يراه . وقد بينا أن الغيب إنما هو مصدر قول القائل : غاب عني هذا الأمر فهو يغيب غيبا وغيبة ، وأن ما لم يعاين فإن العرب تسميه غيبا .
فتأويل الكلام إذن : ليعلم أولياء الله من يخاف الله فيتقي محارمه التي حرّمها عليه من الصيد وغيره ، بحيث لا يراه ولا يعاينه .
وأما قوله : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فإنه يعني : فمن تجاوز حدّ الله الذي حدّه له بعد ابتلائه بتحريم الصيد عليه وهو حرام ، فاستحلّ ما حرم الله عليه منه بأخذه وقتله فَلَهُ عَذَابٌ من الله ألِيمٌ يعني : مؤلم موجع .
{ يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } نزلت في عام الحديبية ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالصيد ، وكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث يتمكنون من صيدها أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم وهم محرمون ، والتقليل والتحقير في بشيء للتنبيه على أنه ليس من العظائم التي تدحض الأقدام كالابتلاء ببذل الأنفس والأموال ، فمن لم يثبت عنده كيف يثبت عند ما هو أشد منه . { ليعلم الله من يخافه بالغيب } ليتميز الخائف من عقابه وهو غائب منتظر لقوة إيمانه ممن لا يخافه لضعف قلبه وقلة إيمانه ، فذكر العلم وأراد وقوع المعلوم وظهوره أو تعلق العلم . { فمن اعتدى بعد ذلك } بعد ذلك الابتلاء بالصيد . { فله عذاب أليم } فالوعيد لاحق به ، فإن من لا يملك جأشه في مثل ذلك ولا يراعي حكم الله فيه فكيف به فيما تكون النفس أميل إليه وأحرص عليه .