220- ويسألونك بشأن اليتامى والذي يوجبه الإسلام حيالهم ، فقل : إن الخير لكم ولهم في إصلاحهم ، وأن تضمُّوهم إلى بيوتكم ، وأن تخالطوهم بقصد الإصلاح لا الفساد ، فهم إخوانكم في الدنيا يستدعون منكم هذه المخالطة ، والله يعلم المفسد من المصلح منكم فاحذروا . ولو شاء الله لشق عليكم ، فألزمكم رعاية اليتامى من غير مخالطة لهم ، أو تركهم من غير بيان الواجب لهم ، فيربون على بغض الجماعة ويكون ذلك إفساداً لجماعتكم وإعناتاً لكم ، إذ إن قهرهم وذلهم يجعل منهم المبغضين للجماعة المفسدين فيها ، وإن الله عزيز غالب على أمره ، ولكنه حكيم لا يشرع إلا ما فيه مصلحتكم .
قوله تعالى : { ويسألونك عن اليتامى } . قال ابن عباس وقتادة : لما نزل قوله تعالى : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) وقوله تعالى ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً . ) تحرج المسلمون من أموال اليتامى تحرجاً شديداً حتى عزلوا أموال اليتامى عن أموالهم ، حتى كان يصنع لليتيم طعام فيفضل منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية : قوله تعالى : { قل إصلاح لهم خير } . أي الإصلاح لأموالهم من غير أجرة ولا أخذ عوض ، خير لكم وأعظم أجراً ، لما لكم في ذلك من الثواب ، وخير لهم ، لما في ذلك من توفر أموالهم عليهم ، قال مجاهد : يوسع عليهم من طعام نفسه ، ولا يوسع من طعام اليتيم .
قوله تعالى : { وإن تخالطوهم } . هذه إباحة المخالطة ، أي وأن تشاركوهم في أموالهم وتخلطوها بأموالكم في نفقاتكم ومساكنكم وخدمكم ودوابكم ، فتصيبوا من أموالهم عوضاً من قيامكم بأمورهم أوتكافئوهم على ما تصيبون من أموالهم .
قوله تعالى : { فإخوانكم } . أي فهم إخوانكم ، والإخوان يعين بعضهم بعضاً ، ويصيب بعضهم من أموال بعض على وجه الإصلاح والرضا .
قوله تعالى : { والله يعلم المفسد } . لأموالهم .
قوله تعالى : { من المصلح } . لها يعني الذي يقصد بالمخالطة ، الخيانة وإفساد أموال اليتيم وأكله بغير حق من الذي يقصد الإصلاح .
قوله تعالى : { ولو شاء الله لأعنتكم } . أي لضيق عليكم وما أباح لكم مخالطتهم ، وقال ابن عباس : ولو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً لكم ، وأصل العنت الشدة والمشقة . ومعناه : كلفكم في كل شيء ما يشق عليكم .
قوله تعالى : { إن الله عزيز } . أي عزيز في سلطانه وقدرته على الإعنات وقيل : العزيز الذي يأمر بعزه . سهل على العباد أو شق عليهم .
أما السؤال الثالث والأخير الذي ورد في هاتين الآيتين فهو قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } .
أخرج أبو داود والحاكم والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال : لما نزل قوله - تعالى - { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } وقوله - تعالى - : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه . وشرابه من شرابه ، قفجعل يفضل له الشيء من طعامه وشرابه ، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه سولم فأنزل الله - تعالى - { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } فخلطوا طعامهم وشرابهم بشرابهم .
والمعنى : ويسألونك يا محمد عن القيام بأمر اليتامى أو التصرف في أموالهم أو عن أموالهم وكيف يكونوا معهم فقل لهم : إن المطلوب هو إصلاحهم بالتهذيب والتربية الرشيدة والمعاملة الحسنة ، وإصلاح أموالهم بالمحافظة عليها وعدم إنفاقها إلا في الوجوه المشروعة فهذا الإِصلاح المفيد لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم ، وتركهم ، ولذا قال - تعالى - بعد ذلك : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } أي : وإن تعاشروهم وتضموهم إليكم فاعتبروهم إخوانكم في العقيدة الإِنسانية ، وعاملوهم بمقتضى ما تفرضه الأخوة من تراحم وتعاطف ومساواة .
والجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها . و " إصلاح " مبتدأ وسوغ الابتداء به مع أنه نركة وصفة بالجار والمجرور " لهم " و " خير " خبره ، وقوله : { فَإِخْوَانُكُمْ } الفاء واقعة في جواب الشرط ، وإخوانكم خبر لمبتدأ محذوف والتقدير فهم إخوانكم ، والجملة في محل جزم على أنها جواب الشرط .
وقوله : { والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } وعد ووعيد ، وترغيب في الإِصلاح وترهيب من الإِفساد ، أي : والله يعلم المفسد لشئون هؤلاء اليتامى من المصلح لها ، كما أنه - سبحانه - لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وسيجازي كل إنسان على حسب عمله ، فاحذورا الإِفساد ولا تتحروا غير الإِصلاح .
ثم قال - تعالى - { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } العنت : الشدة والمشقة والتضييق . يقال : أعنته في كذا يعنته إعناتا ، إّا أجهده وألزمنه ما يشقع عليه .
أي : ولو شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم بتحريم مخالطة هؤلاء اليتامى ، وبغير ذلك ما يشرع لكم ، ولكنه - سبحانه - وسع عليكم وخفف فأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن ، فاشكروه على ذلك .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : إن الله - تعالى - غالب على أمره لا يعجزه أمر من الأمور التي من جملتها إعناتكم قادر على أن يعز من أعز اليتامى ويذل من سذلهم ، حكيم في كل تصرفاته وأفعاله ، فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها .
وقدق استدل العلماء بهذه الآية على جواز التصرف في أموال اليتامى على وجه الإصلاح ، وعلى أن للوالي أن يخالط اليتيم بنفيسه في المصاهرة والمشاركة وغير ذلك مما تقتضيه المصلحة .
وقد وردت أحاديث متعددة في رعاية اليتيم وإصلاح أحواله ومن ذلك ما رواه البخاري عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ، وأشار بالسبابة والوسطى وفرق بينهما " .
وروى الطبراين عن أبي الدرداء . قال : " أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أتحب أن يلين وتدرك حاجتك ؟ ارحم اليتيم ، وامسح رأسه ، وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك " .
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد اشتملتا على أفضل ألوان الإِصلاح للأفراد والجماعات في مطاعمهم ومشاربهم ونفقتهم وعلاقتهم بغيرهم ولا سيما اليتامى الذين فقدوا الأب الحاني ، والقلب الرحيم ، ومن شأن الأمة التي تعمل بهذا التوجيه السامي الحكيم أن تنال السعادة في دنياها . ورضاه الله - في أخراها .
ثم تحدثت السورة بعد ذلك في اثنتين وعشرين آية عن بعض أحكام وآداب الزواج والمعاشرة ، والإِيلاء والطلاق ، والعدة ، والنفقة ، والرضاعة ، والخطبة ، والمتعة ، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها ، وبنائها على أفضل الدعائم ، وأحكم الروابط ، إذ الأسرة هي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع ، ومن مجموعها يتكون ، فإذا صلحت الوحدات والمكونات صلح البنيان ، وإذا تصدعت تصدع .
( ويسألونك عن اليتامى ؟ قل : إصلاح لهم خير . وإن تخالطوهم فإخوانكم . والله يعلم المفسد من المصلح . ولو شاء الله لأعنتكم ، إن الله عزيز حكيم ) . .
إن التكافل الاجتماعي هو قاعدة المجتمع الإسلامي . والجماعة المسلمة مكلفة أن ترعى مصالح الضعفاء فيها . واليتامى بفقدهم آباءهم وهم صغار ضعاف أولى برعاية الجماعة وحمايتها . رعايتها لنفوسهم وحمايتها لأموالهم . ولقد كان بعض الأوصياء يخلطون طعام اليتامى بطعامهم . وأموالهم بأموالهم للتجارة فيها جميعا ؛ وكان الغبن يقع أحيانا على اليتامى . فنزلت الآيات في التخويف من أكل أموال الأيتام . عندئذ تحرج الأتقياء حتى عزلوا طعام اليتامى من طعامهم . فكان الرجل يكون في حجره اليتيم . يقدم له الطعام من ماله . فإذا فضل منه شيء بقي له حتى يعاود أكله أو يفسد فيطرح ! وهذا تشدد ليس من طبيعة الإسلام . فوق ما فيه من الغرم أحيانا على اليتيم . فعاد القرآن يرد المسلمين إلى الاعتدال واليسر في تناول الأمور ؛ وإلى تحري خير اليتيم والتصرف في حدود مصلحته . فالإصلاح لليتامى خير من اعتزالهم . والمخالطة لا حرج فيها إذا حققت الخير لليتيم . فاليتامى أخوان للأوصياء . كلهم أخوة في الإسلام . أعضاء في الأسرة المسلمة الكبيرة . والله يعلم المفسد من المصلح ، فليس المعول عليه هو ظاهر العمل وشكله . ولكن نيته وثمرته . والله لا يريد إحراج المسلمين وإعناتهم والمشقة عليهم فيما يكلفهم . ولو شاء الله لكلفهم هذا العنت . ولكنه لا يريد . وهو العزيز الحكيم . فهو قادر على ما يريد . ولكنه حكيم لا يريد إلا الخير واليسر والصلاح .
وهكذا يربط الأمر كله بالله ؛ ويشده إلى المحور الأصيل التي تدور عليه العقيدة ، وتدور عليه الحياة . . وهذه هي ميزة التشريع الذي يقوم على العقيدة . فضمانة التنفيذ للتشريع لا تجيء أبدا من الخارج ، إن لم تنبثق وتتعمق في أغوار الضمير . .
{ في الدنيا والآخرة } في أمر الدارين فتأخذون بالأصلح والأنفع فيهما ، وتجتنبون عما يضركم ولا ينفعكم ، أو يضركم أكثر مما ينفعكم . { ويسألونك عن اليتامى } لما نزلت { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } الآية اعتزلوا اليتامى ومخالطتهم والاهتمام بأمرهم فشق ذلك عليهم ، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت { قل إصلاح لهم خير } أي مداخلتهم لإصلاحهم ، أو إصلاح أموالهم خير من مجانبتهم . { وإن تخالطوهم فإخوانكم } حث على المخالطة ، أي أنهم إخوانكم في الدين ومن حق الأخ أن يخالط الأخ . وقيل المراد بالمخالطة المصاهرة . { والله يعلم المفسد من المصلح } وعيد ووعد لمن خالطهم لإفساد وإصلاح ، أي يعلم أمره فيجازيه عليه . { ولو شاء الله لأعنتكم } أي ولو شاء الله إعناتكم لأعنتكم ، أي كلفكم ما يشق عليكم ، من العنت وهي المشقة ولم يجوز لكم مداخلتهم . { إن الله عزيز } غالب يقدر على الإعنات . { حكيم } يحكم ما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة .
فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 220 )
قوله قبل { في الدنيا } ابتداء آية( {[2087]} ) ، وقد تقدم تعلقه ، وكون { تتفكرون } موقفاً يقوي تعلق { في الدنيا } ب { الآيات } ، وقرأ طاوس «قل إصلاح إليهم خير »( {[2088]} ) ، وسبب الآية فيما قال السدي والضحاك أن العرب كانت عادتهم أن يتجنبوا مال اليتيم ولا يخالطوه في مأكل ولا مشرب ولا شيء ، فكانت تلك مشقة عليهم ، فسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن عباس( {[2089]} ) وسعيد بن المسيب : سببها أن المسلمين لما نزلت { ولا تقربوا مال اليتيم }( {[2090]} ) [ الأنعام : 152 ] الآية ونزلت { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً }( {[2091]} ) [ النساء : 10 ] تجنبوا اليتامى وأموالهم وعزلوهم عن أنفسهم ، فنزلت { وإن تخالطوهم فإخوانكم }( {[2092]} ) الآية ، وقيل : إن السائل عبد الله بن رواحة ، وأمر الله تعالى نبيه أن يجيب بأن من قصد الإصلاح في مال اليتيم فهو خير ، وما فعل بعد هذا المقصد من مخالطة وانبساط بعوض منه فلا حرج ، ورفع تعالى المشقة في تجنب اليتيم ومأكله ومشربه ، وأباح الخلطة في ذلك إذا قصد الإصلاح ورفق اليتيم ، مثال ذلك كان يكتفي اليتيم دون خلطة بقدر ما في الشهر ، فإن دعت خلطة الولي إلى أن يزاد في ذلك القدر فهي مخالطة فساد ، وإن دعت إلى الحط من ذلك القدر فهي مخالطة إصلاح( {[2093]} ) ، وقوله تعالى : { فإخوانكم } خبر ابتداء محذوف ، وقوله { والله يعلم المفسد من المصلح } تحذير ، والعنت المشقة ، منه عنت العزبة ، وعقبة عنوت أي شاقة ، وعنت البعير إذا انكسر بعد جبر ، فالمعنى : لأتعبكم في تجنب أمر اليتامى ، ولكنه خفف عنكم ، وقال ابن عباس : المعنى لأوبقكم بما سلف من نيلكم من أموال اليتامى ، و { عزيز } مقتضاه لا يرد أمره ، و { حكيم } أي محكم ما ينفذه .