قوله تعالى : { لن تنالوا البر } يعني الجنة ، قاله ابن عباس وابن مسعود ومجاهد ، وقال مقاتل بن حيان التقوى ، وقيل : الطاعة ، وقيل : الخير ، وقال الحسن : لن تكونوا أبراراً .
أخبرنا محمد بن عبد الله النعيمي ، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا محمد بن حماد الصالحي قال : أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، والفجور يهدي إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً " .
قوله تعالى : { حتى تنفقوا مما تحبون } أي من أحب أموالكم إليكم ، روى الضحاك عن ابن عباس : أن المراد منه أداء الزكاة . وقال مجاهد والكلبي : هذه الآية نسختها آية الزكاة ، وقال الحسن : كل إنفاق يبتغي به المسلم وجه الله حتى الثمرة ينال به هذا البر ، وقال عطاء ( لن تنالوا البر ) أي شرف الدين والتقوى حتى تتصدقوا وأنتم أصحا أشحاء .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحق الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول : " كان أبو طلحة الأنصاري أكثر الأنصار بالمدينة مالاً ، وكان أحب ماله إليه بيرحا ، وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب ، قال انس : فلما نزلت هذه الآية ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن الله تعالى يقول في كتابه ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) وإن أحب أموالي إلي بيرحا ، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث شئت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بخ بخ ذلك مال رابح ، ذلك مال رابح ، وقد سمعت ما قلت فيها ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين ، فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله ، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه " .
وروي عن مجاهد قال : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت فدعا بها فأعجبته ، فقال : إن الله عز وجل يقول ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) فأعتقها عمر .
وعن حمزة بن عبد الله بن عمر قال : خطرت على قلب عبد الله بن عمر هذه الآية ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) قال ابن عمر : فذكرت ما أعطاني الله عز وجل ، فما كان شيء أعجب إلي من فلانة ، هي حرة لوجه الله تعالى ، قال : لولا أنني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها .
قوله تعالى : { وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم } . أي يعلمه ويجازي به .
{ لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ }
تنالوا : من النيل وهو إصابة الشيء والحصول عليه . يقال نال ينال نيلا ، إذا أصاب الشىء ووجده وحصل عليه .
والبر : الإحسان وكمال الخير . وأصله التوسع فى فعل الخير . يقال : بر العبد ربه أى توسع فى طاعته .
والإنفاق البذل ، ومنه إنفاق المار . وعن الحسن : كل شىء أنفقه المسلم من ماله يبتغى به وجه الله ويطلب ثوابه حتى التمرة يدخل فى هذه الآية .
والمعنى : لن تنالوا حقيقة البر ، ولن تبلغوا ثوابه الجزيل الذى يوصلكم إلى رضا الله ، وإلى جنته التى أعدها لعباده الصالحين ، إلا إذا بذلتم مما تحبونه وتؤثرونه من الأموال وغيرها فى سبيل الله ، وما تنفقوا من شيء - ولو قليلا - فإن الله به عليم ، وسيجازيكم عليه بأكثر مما أنفقتم وبذلتم .
ولقد حكى لنا التاريخ كثيرا من صور البذل والإنفاق التى قام بها السلف الصالح من أجل رضا الله وإعلاء كلمته ، ومن ذلك ما رواه الشيخان عن أنس بن مالك قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل ، وكان أحب أمواله إليه بير حاء - موضع بالمدينة - وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء طيب فيها . قال أنس : " فلما أنزلت هذه الآية : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون . . . ، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن الله - تعالى - يقول في كتابه { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } وإن أحب أموالى إلى بير حاء ، وإنها صدقة لله - تعالى - أرجو برها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بخ بخ - كلمة استحسان ومدح - ذلك مال رابح - أى ذو ربح - ذلك مال رباح . وقد سمعت ما قلت . وإنى أرى أن تجعلها فى الأقربين . قال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله . فقسمها أبو طلحة فى أقاربه وبنى عمه " .
قال القرطبى : " وكذلك فعل زيد بن حارثة ، عمد مما يحب إلى فرس له يقال له " سَبل " وقال : اللهم إنك تعلم أنه ليس لى مال أحب إلى من فرسى هذه ، فجاء بها إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : هذا في سبيل الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد : أقبضه ، فكأن زيدا وجد من ذلك فى نفسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله قد قبلها منك " " .
وأعتق عبد الله بن عمر نافعاً مولاه ، وكان أعطاه فيه عبد الله بن جعفر ألف دينار ، قالت صفية بنت أبى عبيد : أظنه تأول قول الله - تعالى - { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } .
وقال الحسن البصرى : إنكم لن تنالوا ما تحبون إلا بترك ما تشتهون ، ولا تدركون ما تؤملون إلا بالصبر على ما تكرهون .
وهكذا نرى أن السلف الصالح قد قدموا ما يحبون من أموالهم وغيرها تقربا إلى الله - تعالى - وشكراً له على نعمائه وعطائه ، فرضى الله عنهم وأرضاهم .
وبمناسبة الإنفاق على غير درب الله ، وفي غير سبيله ، وبمناسبة الافتداء يوم لا ينفع الفداء ، يبين البذل الذي يرضاه :
( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون . وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم ) . .
وقد فقه المسلمون وقتها معنى هذا التوجيه الإلهي ، وحرصوا على أن ينالوا البر - وهو جماع الخير - بالنزول عما يحبون ، وببذل الطيب من المال ، سخية به نفوسهم في انتظار ما هو أكبر وأفضل .
روى الإمام أحمد - بإسناده - عن أبي إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة : سمع أنس بن مالك يقول : كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا ، وكان أحب أمواله إليه بير " حاء " . وكانت مستقبله المسجد . وكان النبي [ ص ] يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب . قال أنس : فلما نزلت : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) . . قال أبو طلحة : يا رسول الله ، إن الله يقول : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون )وإن أحب أموالي إلي بير " حاء " وإنها صدقة لله أرجو بها برها وذخرها عند الله تعالى . فضعها يا رسول الله حيث أراك الله . فقال النبي [ ص ] " بخ بخ . ذاك مال رابح . ذاك مال رابح . وقد سمعت . وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين " فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله . فقسمها أبو طلحة في أقاربهوبني عمه " . . [ أخرجه الشيخان ] .
وفي الصحيحين أن عمر - رضي الله عنه - قال : " يا رسول الله لم أصب مالا قط ، هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر . فما تأمرني به ؟ قال : " احبس الأصل ، وسبل الثمرة " " . .
وعلى هذا الدرب سار الكثيرون منهم يلبون توجيه ربهم الذي هداهم إلى البر كله ، يوم هداهم إلى الإسلام . ويتحررون بهذه التلبية من استرقاق المال ، ومن شح النفس ، ومن حب الذات ؛ ويصعدون في هذا المرتقى السامق الوضيء أحرارا خفافا طلقاء . .
{ لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : لن تدركوا أيها المؤمنون البرّ ، وهو البرّ من الله الذي يطلبونه منه بطاعتهم إياه وعبادتهم له ، ويرجونه منه ، وذلك تفضله عليهم بإدخاله جنته ، وصرف عذابه عنهم¹ ولذلك قال كثير من أهل التأويل : البرّ : الجنة ، لأن برّ الربّ بعبده في الآخرة وإكرامه إياه بإدخاله الجنة . ذكر من قال ذلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون في قوله : { لَنْ تَنالُوا البِرّ } قال : الجنة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون في قوله : { لَنْ تَنَالُوا البِرّ } قال : البرّ : الجنة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { لَنْ تَنَالُوا البِرّ } أما البرّ . فالجنة .
فتأويل الكلام : لن تنالوا أيها المؤمنون جنة ربكم ، حتى تنفقوا مما تحبون ، يقول : حتى تتصدّقوا مما تحبون وتهوون أن يكون لكم من نفيس أموالكم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { لَنْ تَنالُوا البِرّ حتى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ } يقول : لن تنالوا برّ ربكم حتى تنفقوا مما يعجبكم ومما تههون من أموالكم .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر ، عن عباد ، عن الحسن ، قوله : { لَنْ تَنالُوا البِرّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ } قال : من المال .
وأما قوله : { وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } فإنه يعني به : ومهما تنفقوا من شيء فتتصدّقوا به من أموالكم ، فإن الله تعالى ذكره بما يتصدّق به المتصدّق منكم ، فينفقه مما يحبّ من ماله في سبيل الله ، وغير ذلك عليم ، يقول : هو ذو علم بذلك كله ، لا يعزب عنه شيء منه حتى يجازى صاحبه عليه جزاءه في الاَخرة . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } يقول : محفوظ لكم ذلك الله به عليم شاكر له .
وبنحو التأويل الذي قلنا تأوّل هذه الاَية جماعة من الصحابة والتابعين . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ :
{ لَنْ تَنالُوا البِرّ حَتى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ } قال : كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى في قتال سعد بن أبي وقاص ، فدعا بها عمر بن الخطاب ، فقال : إن الله يقول : { لَنْ تَنَالُوا البِرّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ } فأعتقها عمر . وهي مثل قول الله عزّ وجلّ : { وَيُطْعِمُونَ الطّعامَ على حُبّهِ مِسكِينا وَيَتِيما وأسِيرا } ، { وَيُؤْثِرُونَ على أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن أبي أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله سواء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن حميد ، عن أنس بن مالك ، قال : لما نزلت هذه الآية : { لَنْ تَنالُوا البِرّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ } أو هذه الآية : { مَنْ ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا } قال أبو طلحة : يا رسول الله حائطي الذي بكذا وكذا صدقة ، ولو استطعت أن أجعله سرّا لم أجعله علانية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اجْعَلْها فِي فُقَرَاءِ أهْلِكَ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك ، قال : لما نزلت هذه الآية :
{ لَنْ تَنَالُوا البِرّ حَتى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ } قال أبو طلحة : يا رسول الله ، إن الله يسألنا من أموالنا ، اشهد أني قد جعلت أرضي بأرْيَحا لله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اجْعَلْها فِي قَرَابَتِكَ » . فجعلها بين حسان بن ثابت وأبيّ بن كعب .
حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا ليث ، عن ميمون بن مهران ، أن رجلاً سأل أبا ذرّ أيّ الأعمال أفضل ؟ قال : الصلاة عماد الإسلام ، والجهاد : سنام العمل ، والصدقة شيء عجيب . فقال : يا أبا ذرّ لقد تركت شيئا هو أوثق عملي في نفسي لا أراك ذكرته ! فقال : ما هو ؟ قال : الصيام ، فقال : قربة ، وليس هناك ! وتلا هذه الآية : { لَنْ تَنَالُوا البِرّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني داود بن عبد الرحمن المكي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين ، عن عمرو بن دينار ، قال : لما نزلت هذه الاَية : { لَنْ تَنَالُوا البِرّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ } جاء زيد بفرس له يقال لها : «سَبَل » إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : تصدّق بهذه يا رسول الله ! فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنة أسامة بن زيد بن حارثة ، فقال : يا رسول الله إنما أردت أن أتصدّق به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قَدْ قُبِلَتْ صَدَقَتُكَ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب وغيره : أنها حين نزلت : { لَنْ تَنَالُوا البِرّ حتى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ } جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها ، فقال : يا رسول الله هذه في سبيل الله ! فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها أسامة بن زيد ، فكأن زيدا وجد في نفسه ، فلما رأى ذلك منه النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «أمَا إنّ اللّهَ قَدْ قَبِلَها » .
{ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } ( 92 )
ذهب بعض الناس إلى أن يصل معاني هذه الآيات بعضها ببعض ، من حيث أخبر تعالى : أنه لا يقبل من الموافي على الكفر { ملء الأرض ذهباً } [ آل عمران : 91 ] وقد بان أنه يقبل من المؤمن القليل والكثير ، فحض على الإنفاق من المحبوب المرغوب فيه ، ثم ذكر تقرب إسرائيل عليه السلام ، بتحريم ما كان يحب على نفسه ، ليدل تعالى على أن جميع التقربات تدخل بالمعنى في جملة الإنفاق من المحبوب ، وفسر جمهور المفسرين هذه الآيات ، على أنها معان منحازة ، نظمتها الفصاحة المعجزة أجمل نظم ، وقوله تعالى { لن تناولوا } الآية ، خطاب لجميع المؤمنين ، وقال السدي وعمر بن ميمون{[3319]} : { البر } الجنة .
قال الفقيه الإمام : وهذا تفسير بالمعنى ، وإنما الخاص باللفظة أنه ما يفعله البر من أفاعيل الخير ، فتحتمل الآية أن يريد : لن تنالوا بر الله تعالى بكم ، أي رحمته ولطفه ، ويحتمل أن يريد : لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبراراً ، إلا بالإنفاق المنضاف إلى سائر أعمالكم ، وبسبب نزول هذه الآية ، تصدق أبو طلحة{[3320]} بحائطه ، المسمى بيرحاء ، وتصدق زيد بن حارثة بفرس كان يحبها ، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة ابنه{[3321]} ، فكأن زيداً شق عليه فقال له النبي : أما إن الله قد قبل صدقتك{[3322]} ، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يشتري له جارية من سبي جلولاء وقت فتح مدائن كسرى علي يدي سعيد بن أبي وقاص فسيقت إليه وأحبها فدعا بها يوماً وقال : إن الله يقول { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } ، فأعتقها .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : فهذا كله حمل للآية على أن قوله تعالى : { مما تحبون } أي من رغائب الأموال التي يضن بها ، ويتفسر بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( خير الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ){[3323]} - الحديث - وذهب قوم من العلماء إلى أن ما يحب من المطعومات على جهة الاشتهاء يدخل في الآية ، فكان عبد الله بن عمر ، يشتهي أكل السكر باللوز فكان يشتري ذلك ويتصدق به ويتلو الآية .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : وإذا تأملت جميع الطاعات ، وجدتها إنفاقاً مما يحب الإنسان ، إما من ماله ، وإما من صحته ، وإما من دعته وترفهه ، وهذه كلها محبوبات ، وسأل رجل أبا ذر الغفاري رضي الله عنه ، أي الأعمال أفضل ؟ فقال : الصلاة عماد الإسلام ، والجهاد سنام العمل ، والصدقة شيء عجيب ، فقال له الرجل : أراك تركت شيئاً وهو أوثقها في نفسي الصيام ، فقال أبو ذر : قربة وليس هناك ، ثم تلا { لن تنالوا البر } الآية ، وقوله تعالى { وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم } شرط وجواب فيه وعد ، أي عليم مجاز به وإن قل .