36- وقد جعلنا ذبح الإبل والبقر في الحج من أعلام الدين ومظاهره ، وإنكم تتقربون بها إلى الناس ، ولكم فيها خير كثير في الدنيا بركوبها وشُرْب لبنها ، وفي الآخرة بالأجر والثواب على ذبحها وإطعام الفقراء منها ، فاذكروا اسم الله عليها حال كونها مصطفة مُعَدَّة للذبح خالية من العيب . فإذا تم لكم ذبحها فكلوا بعضها إن أردتم ، وأطعموا الفقير القانع المتعفف عن السؤال ، والذي دفعته حاجته إلى ذل السؤال ، وكما سخَّرنا كل شيء لما نريده منه سخرناها لنفعكم ، وذللناها لإرادتكم لتشكرونا على نعمنا الكثيرة عليكم .
قوله تعالى : { والبدن } جمع بدنة سميت بدنة لعظمها وضخامتها ، يريد : الإبل العظام الصحاح الأجسام ، يقال بدن الرجل بدناً وبدانةً إذا ضخم ، فأما إذا أسن واسترخى يقال بدن تبديناً . قال عطاء و السدي : البدن : الإبل والبقر أما الغنم فلا تسمى بدنة . { جعلناها لكم من شعائر الله } من أعلام دينه ، سميت شعائر لأنها تشعر ، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم أنها هدي ، { لكم فيها خير } النفع في الدنيا والأجر في العقبى ، { فاذكروا اسم الله عليها } أي : عند نحرها ، { صواف } أي : قياماً على ثلاث قوائم قد صفت رجليها وإحدى يديها ، ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عبد الله بن مسلمة ، أنبأنا يزيد بن زريع ، عن يونس ، عن زياد بن جبير قال : " رأيت بن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنةً ينحرها ، قال : ابعثها قياماً مقيدةً سنة محمد صلى الله عليه وسلم . وقال مجاهد : الصواف إذا عقلت رجلها اليسرى وقامت على ثلاث قوائم . وقرأ ابن مسعود : صوافن وهى أن تعقل منها يد وتنحر على ثلاث ، وهو مثل صواف . وقرأ أبي والحسن ومجاهد : صوافي بالياء أي : صافية خالصة لله لا شريك له فيها . { فإذا وجبت جنوبها } يعني : سقطت بعد النحر فوقعت جنوبها على الأرض . وأصل الوجوب : الوقوع . يقال : وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب ، { فكلوا منها } أمر إباحة ، { وأطعموا القانع والمعتر } اختلفوا في معناها : فقال عكرمة و إبراهيم و قتادة : القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل ، والمعتر : الذي يسأل . وروى العوفي عن ابن عباس : القانع الذي لا يعترض ولا يسأل ، والمعتر الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل ، فعلى هذين التأويلين يكون القانع : من القناعة ، يقال : قنع قناعة إذا رضي بما قسم له . وقال سعيد بن جبير والحسن والكلبي : القانع : الذي يسأل ، والمعتر : الذي يتعرض ولا يسأل ، فيكون القانع من قنع يقنع قنوعاً إذا سأل . وقرأ الحسن : والمعتري وهو مثل المعتر ، يقال : عره واعتره وعراه واعتراه إذا أتاه بطلب معروفه ، إما سؤالاً وإما تعرضاً . وقال ابن زيد : القانع : المسكين ، والمعتر : الذي ليس بمسكين ، ولا يكون له ذبيحة يجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم . { كذلك } يعني : مثل ما وصفنا من نحرها قياماً ، { سخرناها لكم } نعمة منا لتتمكنوا من نحرها ، { لعلكم تشكرون } لكي تشكروا إنعام الله عليكم .
ثم أكد سبحانه - ما سبق الحديث عنه من وجوب ذكر اسمه - تعالى - عند الذبح ، ومن وجوب شكره على نعمه فقال : { والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله } .
والبدن : جمع بدنة . وهى الإبل خاصة التى تهدى إلى البيت الحرام للتقرب بها إلى الله - تعالى - وقيل : البدن تطلق على الإبل والبقر .
وسميت بهذا الإسم لبدانتها وضخامتها . يقال : بدن الرجل - بوزن كرم - إذا كثر لحمه ، وضخم جسمه .
أى : وشرعنا لكم - أيها المؤمنون - التقرب إلينا بالإبل البدينة السمينة وجعلنا ذلك شعيرة من شعائر ديننا ، وعلامة من العلامات الدالة على قوة إيمان من ينفذ هذه الشعيرة بتواضع وإخلاص .
وقوله - تعالى - { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } جملة مستأنفة مقررة لما قبلها . أى : لكم فيه خير فى الدنيا عن طريق الانتفاع بألبانها ووبرها . . . ولكم فيها خير فى الآخرة عن طريق الثواب الجزيل الذى تنالونه من خالقكم بسبب استجابتكم لما ارشدكم إليه .
وقوله - تعالى - : { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ } إرشاد لما يقوله الذابح عند ذبحها .
وصواف : جمع اصفة . أى : قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن استعدادا للذبخح ! .
أى : إذا ما هيأتم هذه الإبل للذبح ، فاذكروا اسم الله عليها ، بأن تقولوا عند نحرها : بسم الله والله أكبر ، الله منك وإليك .
وقوله - سحبانه - : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر } بيان لما ينبغى عليهم فعله بعد ذبحها .
ووجبت بمعنى سقطت : وهو كناية عن موتها . يقال : وجب الجدار إذا سقط ، ووجبت الشمس إذا غابت .
والقانع : هو الراضى بما قدره الله - تعالى - له ، فلا يتعرض لسؤال الناس مأخوذ من قنع يقنع - كرضى يرضى - وزنا ومعنى .
والمعتر : هو الذى يسأل غيره ليعطيه . يقال : فلان يعترى الأغنياء ، أى : يذهب إليهم طالبا عطاءهم .
وقيل : القانع هو الطامع الذى يسأل غيره ، والمعتر : هو الذى يتعرض للعطاء من غير سؤال وطلب .
أى : فإذا ما سقطت جنوب هذه الإبل على الأرض ، وأعددتموها للأكل فكلوا منها ، وأطعموا الفقير القانع الذى لا يسألكم ، والفقير المعتر الذى يتعرض لكم بالسؤال والطلب .
ثم بين - سبحانه - مظاهر فضله عليهم ، حيث ذلل هذه الأنعام لهم فقال : { كذلك سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
وقوله { كذلك } نعت لمصدر محذوف . أى : مثل ذلك التسخير البديع سخرنا لكم هذه الأنعام ، وذللناها لكم ، وجعلناها منقادة لأمركم ، لعلكم بعد أن شاهدتم هذه النعم ، وانتفعتم بها ، تكونون من الشاكرين لنا ، والمستجيبين لتوجيهاتنا وإرشادنا .
قال صاحب الكشاف : منَّ الله على عباده واستحمد إليهم ، بأن سخر لهم البدن مثل التسخير الذى رأوا وعلموا . يأخذونها منقادة للأخذ طيعة ، فيعقلونها ويحبسونها صافة قوائمها ، ثم يطعنون فى لبانها . ولولا تسخير الله لم تطعن ، ولم تكن بأعجز من بعض الوحوش التى هى أصغر منها جرما ، وأقل قوة ، وكفى بما يتأبد من الإبل شاهدا على ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مّن شَعَائِرِ اللّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا صَوَآفّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرّ كَذَلِكَ سَخّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : والبُدْنَ وهي جمع بَدَنة ، وقد يقال لواحدها : بَدَن ، وإذا قيل بَدَن احتمل أن يكون جمعا وواحدا ، يدلّ على أنه قد يقال ذلك للواحد قول الراجز :
عَليّ حِينَ تَمْلِكُ الأُمُورَا *** صَوْمَ شُهُورٍ وَجَبَتْ نُذُورَا
وَحَلْقَ رأسِي وَافِيا مَضْفُورَا *** وَبَدًنا مُدَرّعا مَوْفُورَا
والبَدَن : هو الضخم من كلّ شيء ، ولذلك قيل لامرىء القيس بن النعمان صاحب الخورنق والسّدِير : البَدَن ، لضخمه واسترخاء لحمه ، فإنه يقال : قد بَدّن تبدينا . فمعنى الكلام : والإبل العظام الأجسام الضخام ، جعلناها لكم أيها الناس من شعائر الله يقول : من أعلام أمر الله الذي أمركم به في مناسك حجكم إذا قلدتموها وجللتموها وأشعرتموها ، علم بذلك وشعر أنكم فعلتم ذلك من الإبل والبقر . كما :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال عطاء : والبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِن شَعائِرِ اللّهِ قال : البقرة والبعير .
وقوله : لَكُمْ فِيها خَيْرٌ يقول : لكم في البدن خير وذلك الخير هو الأجر في الاَخرة بنحرها والصدقة بها ، وفي الدنيا : الركوب إذا احتاج إلى ركوبها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : لَكُمْ فِيها خَيْرٌ قال : أجر ومنافع في البدن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : لَكُمْ فِيها خَيْرٌ قال : اللبن والركوب إذا احتاج .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن منصور ، عن إبراهيم : لَكُمْ فِيها خَيْرٌ قال : إذا اضطررت إلى بدنتك ركبتها وشربت لبنها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : لَكُمْ فِيها خَيْرٌ من احتاج إلى ظهر البدنة ركب ، ومن احتاج إلى لبنها شرب .
وقوله : فاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافّ يقول تعالى ذكره : فاذكروا اسم الله على البدن عند نحركم إياها صوافّ .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : فاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافّ بمعنى مصطفة ، واحدها : صافة ، وقد صفت بين أيديها . ورُوي عن الحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وجماعة أُخر معهم ، أنهم قرءوا ذلك : «صَوَافِيَ » بالياء منصوبة ، بمعنى : خالصة لله لا شريك له فيها صافية له . وقرأ بعضهم ذلك : «صَوَافٍ » بإسقاط الياء وتنوين الحرف ، على مثال : عوارٍ وعوادٍ . ورُوي عن ابن مسعود أنه قرأه : «صَوَافِنٌ » بمعنى : مُعْقلة .
والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأه بتشديد الفاء ونصبها ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه بالمعنى الذي ذكرناه لمن قرأه كذلك . ذكر من تأوّله بتأويل من قرأه بتشديد الفاء ونصبها :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، في قوله : فاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافّ قال : الله أكبر الله أكبر ، اللهمّ منك ولك . صوافّ : قياما على ثلاث أرجل . فقيل لابن عباس : ما نصنع بجلودها ؟ قال : تصدّقوا بها ، واستمتعوا بها .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أيوب بن سويد ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، في قوله : صَوَافّ قال : قائمة ، قال : يقول : الله أكبر ، لا إله إلا الله ، اللهمّ منك ولك .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس : فاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافّ قال : قياما على ثلاث قوائم معقولة باسم الله ، الله أكبر ، اللهمّ منك ولك .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : صَوَافّ قال : معقولة إحدى يديها ، قال : قائمة على ثلاث قوائم .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : فاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافّ يقول : قياما .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافّ والصوافّ : أن تعقل قائمة واحدة ، وتصفها على ثلاث فتنحرها كذلك .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يعلى بن عطاء ، قال : أخبرنا بجير بن سالم ، قال : رأيت ابن عمر وهو ينحر بدنته ، قال : فقال : صَوَافّ كما قال الله ، قال : فنحرها وهي قائمة معقولة إحدى يديها .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا ليث ، عن مجاهد ، قال : الصّوافّ : إذا عقلت رجلها وقامت على ثلاث .
قال : حدثنا ليث ، عن مجاهد ، في قوله : فاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافّ قال : صوافّ بين أوظافها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : صَوَافّ قال : قيام صواف على ثلاث قوائم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : فاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافّ قال : بين وظائفها قياما .
حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا يحيى بن أيوب ، عن خالد بن يزيد ، عن ابن أبي هلال ، عن نافع ، عن عبد الله : أنه كان ينحر البُدن وهي قائمة مستقبلة البيت تصفّ أيديها بالقيود ، قال : هي التي ذكر الله : فاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثني جرير ، عن منصور ، عن رجل ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، قال : قلت له : قول الله فاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافّ ؟ قال : إذا أردت أن تنحر البدنة فانحرها ، وقل : الله أكبر ، لا إله إلا الله ، اللهم منك ولك ، ثم سمّ ثم انحرها . قلت : فأقول ذلك للأضحية ؟ قال : وللأضحية .
ذكر من تأوّله بتأويل من قرأه : «صَوَافِيَ » بالياء :
حدثنا ابن عبد الأعلىء ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن الحسن أنه قال : «فاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافِيَ » قال : مُخْلَصين .
قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : قال الحسن : «صَوَافِيَ » : خالصة .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال الحسن : «صَوَافِيَ » : خالصة لله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن شقيق الضبيّ : «فاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافِيَ » قال : خالصة .
قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أيمن بن نابل ، قال : سألت طاوسا عن قوله : «فاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافِيَ » قال : خالصا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : «فاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافِيَ » قال : خالصة ليس فيها شريك كما كان المشركون يفعلون ، يجعلون لله ولاَلهتهم صوافي صافية لله تعالى .
ذكر من تأوّله بتأويل من قرأه «صَوَافِنَ » :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : في حرف ابن مسعود : «فاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافنَ » : أي معقلة قياما .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة : في حرف ابن مسعود : «فاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافنَ » قال : أي معقلة قياما .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : من قرأها «صَوَافِنَ » قال : معقولة . قال : ومن قرأها : صَوَافّ قال : تصفّ بين يديها .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافّ يعني صوافن ، والبدنة إذا نحرت عقلت يد واحدة ، فكانت على ثلاث ، وكذلك تُنحر .
قال أبو جعفر : وقد تقدم بيان أولى هذه الأقوال بتأويل قوله : صَوَافّ وهي المصطفة بين أيديها المعقولة إحدى قوائمها .
وقوله : فإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُها يقول : فإذا سقطت فوقعت جنوبها إلى الأرض بعد النحر ، فَكُلُوا مِنْها وهو من قولهم : قد وجبت الشمس : إذا غابت فسقطت للتغيب ، ومنه قول أوس ابن حجر :
ألَمْ تُكْسَفِ الشّمْسُ والبَدْرُ والْ *** كوَاكِبُ للْجَبَلِ الوَاجِبِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُها سقطت إلى الأرض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، في قوله : فإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُها قال : إذا فرغت ونُحِرت .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : فإذَا وَجَبَتْ نحرت .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُها قال : إذا نحرت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُها قال : فإذا ماتت .
وقوله : فَكُلُوا مِنْها وهذا مخرجه مخرج الأمر ومعناه الإباحة والإطلاق يقول الله : فإذا نحرت فسقطت ميتة بعد النحر فقد حلّ لكم أكلها ، وليس بأمر إيجاب .
وكان إبراهيم النخعي يقول في ذلك ما :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : المشركون كانوا لا يأكلون من ذبائحهم ، فرخص للمسلمين ، فأكلوا منها ، فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن حصين ، عن مجاهد ، قال : إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل ، فهي بمنزلة : فإذَا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فَكُلُوا مِنْها وأطْعِمُوا القانِعَ والمُعْتَرّ يقول : يأكل منها ويطعم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يونس ، عن الحسن . وأخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، وأخبرنا حجاج ، عن عطاء . وأخبرنا حصين ، عن مجاهد ، في قوله : فَكُلُوا مِنْها قال : إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل ، قال مجاهد : هي رخصة ، هي كقوله : فإذَا قُضِيَتِ الصّلاةُ فانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ ومثل قوله : وَإذَا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا ، وقوله : وأطْعِمُوا القانِعَ والمُعْتَرّ يقول : فأطعموا منها القانع .
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بالقانع والمعترّ ، فقال بعضهم : القانع الذي يقنع بما أعطي أو بما عنده ولا يسأل ، والمعترّ : الذي يتعرّض لك أن تطعمه من اللحم ولا يسأل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : وأطْعِمُوا القانِعَ والمُعْتَرّ قال : القانع : المستغني بما أعطيته وهو في بيته ، والمعترّ : الذي يتعرّض لك ويلمّ بك أن تطعمه من اللحم ولا يسأل . وهؤلاء الذين أمر أن يطعموا من البُدن .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : القانع : جارك الذي يقنع بما أعطيته ، والمعترّ : الذي يتعرّض لك ولا يسألك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن القرظي أنه كان يقول في هذه الاَية : وأطْعِمُوا القانِعَ والمُعْتَرّ القانع : الذي يقنع بالشيء اليسير يرضى به ، والمعترّ : الذي يمرّ بجانبك لا يسأل شيئا فذلك المعترّ .
وقال آخرون : القانع : الذي يقنع بما عنده ولا يسأل والمعترّ : الذي يعتريك فيسألك . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : القانِعَ والمُعْتَرّ يقول : القانع المتعفف والمُعْتَرّ يقول : السائل .
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد ، قال : حدثنا خصيف ، قال : سمعت مجاهدا يقول : القانع : أهل مكة والمعترّ : الذي يعتريك فيسألك .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا عطاء ، عن خصيف ، عن مجاهد مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : ثني كعب بن فروخ ، قال : سمعت قَتادة يحدث ، عن عكرمة ، في قوله : القانِعَ والمُعْتَرّ قال : القانع : الذي يقعد في بيته ، والمعترّ : الذي يسأل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : القانع : المتعفف الجالس في بيته والمعترّ : الذي يعتريك فيسألك .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : القانِعَ والمُعْتَرّ قال : القانع : الطامع بما قِبلك ولا يسألك والمعترّ : الذي يعتريك ويسألك .
حدثني نصر بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا المحاربي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وإبراهيم قالا : القانع : الجالس في بيته والمعترّ : الذي يسألك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة في القانع والمعترّ ، قال : القانع : الذي يقنع بما في يديه والمعترّ : الذي يعتريك ، ولكليهما عليك حقّ يا ابن آدم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : فَكُلُوا منْها وأطْعمُوا القانِعَ والمُعْتَرّ قال : القانع الذي يجلس في بيته . والمعترّ : الذي يعتريك .
وقال آخرون : القانع : هو السائل ، والمعترّ : هو الذي يعتريك ولا يسأل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا يونس ، عن الحسن ، قال : القانع : الذي يقنع إليك ويسألك والمعترّ : الذي يتعرّض لك ولا يسألك .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن ، في هذه الاَية : وأطْعِمُوا القانِعَ والمُعْتَرّ قال : القانع : الذي يقنع ، والمعترّ : الذي يعتريك . قال : وقال الكلبي : القانع : الذي يسألك والمعترّ : الذي يعتريك ، يتعرّض ولا يسألك .
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا المحاربي ، عن سفيان ، عن يونس ، عن الحسن ، في قوله : وأطْعِمُوا القانِعَ والمُعْتَرّ قال : القانع : الذي يسألك ، والمعترّ : الذي يتعرّض لك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، قال : قال سعيد بن جُبير : القانع : السائل .
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : ثني غالب ، قال : ثني شريك ، عن فرات القزاز ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله : القانِعَ قال : هو السائل ، ثم قال : أما سمعت قول الشماخ .
لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنى *** مَفاقَرهُ أعَفّ مِنَ القُنُوعِ
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا يونس ، عن الحسن ، أنه قال في قوله : وأطْعِمُوا القانِعَ والمُعْتَرّ قال : القانع : الذي يقنع إليك يسألك ، والمعترّ : الذي يريك نفسه ويتعرّض لك ولا يسألك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشام ، قال : أخبرنا منصور ويونس ، عن الحسن ، قال : القانع : السائل ، والمعترّ : الذي يتعرّض ولا يسأل .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، قال : قال زيد بن أسلم : القانع : الذي يسأل الناس .
وقال آخرون : القانع : الجار ، والمعترّ : الذي يعتريك من الناس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن مجاهد ، قال : القانع : جارك وإن كان غنيّا ، والمعترّ : الذي يعتريك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، قال : قال مجاهد ، في قوله : وأطْعِمُوا القانِعَ والمُعْتَرّ قال : القانع : جارك الغنيّ ، والمعترّ : من اعتراك من الناس .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله : وأطْعِمُوا القانِعَ والمُعْتَرّ أنه قال : أحدهما السائل ، والاَخر الجار .
وقال آخرون : القانع : الطوّاف ، والمعترّ : الصديق الزائر . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثني أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث ، عن خالد بن يزيد ، عن ابن أبي هلال ، قال : قال زيد بن أسلم ، في قول الله تعالى : القانِعَ والمُعْتَرّ فالقانع : المسكين الذي يطوف ، والمعترّ : الصديق والضعيف الذي يزور .
وقال آخرون : القانع : الطامع ، والمعترّ : الذي يعترّ بالبدن . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : القانِعَ قال : الطامع والمعترّ : من يعترّ بالبدن من غنيّ أو فقير .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني عمر بن عطاء ، عن عكرِمة ، قال : القانع : الطامع .
وقال آخرون : القانع : هو المسكين ، والمعترّ : الذي يتعرّض للحم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأطْعِمُوا القانِعَ والمُعْتَرّ قال : القانع : المسكين ، والمعترّ : الذي يعترّ القوم للحمهم وليس بمكسين ، ولا تكون له ذبيحة ، يجيء إلى القوم من أجل لحمهم ، والبائس الفقير : هو القانع .
حدثنا به ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن فرات ، عن سعيد بن جُبير ، قال : القانع : الذي يقنع ، والمعترّ : الذي يعتريك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن يونس ، عن الحسن بمثله .
قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ومجاهد : القانِعَ والمُعْتَرّ القانع : الجالس في بيته ، والمعترّ : الذي يتعرّض لك .
وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : عني بالقانع : السائل لأنه لو كان المعنيّ بالقانع في هذا الموضع المكتفي بما عنده والمستغني به ، لقيل : وأطعموا القانع والسائل ، ولم يقل : وأطعموا القانع والمعترّ . وفي إتباع ذلك قوله : والمعترّ الدليل الواضح على أن القانع معنيّ به السائل ، من قولهم : قنع فلان إلى فلان ، بمعنى سأله وخضع إليه ، فهو يقنع قنوعا ومنه قول لبيد :
وأعْطانِي المَوْلى عَلى حِينَ فَقْرِهِ *** إذَا قالَ أبْصِرْ خَلّتِي وَقُنُوعي
وأما القانع الذي هو بمعنى المكتفي ، فإنه من قَنِعْت بكسر النون أقنع قناعة وقنعا وقنعانا . وأما المعترّ : فإنه الذي يأتيك معترّا بك لتعطيه وتطعمه .
وقوله : كَذلكَ سَخّرْناها لَكُمْ يقول هكذا سخرنا البدن لكم أيها الناس لَعَلّكُمْ تَشكُرونَ يقول : لتشكروني على تسخيرها لكم .
عطف على جملة { ولكل أمة جعلنا منسكاً } [ الحج : 34 ] أي جعلنا منسكاً للقربان والهدايا ، وجعلنا البدن التي تُهدى ويتقرب بها شعائرَ من شعائر الله .
والمعنى : أنّ الله أمر بقربان البُدْن في الحجّ من عهد إبراهيم عليه السلام وجعلها جزاء عما يترخص فيه من أعمال الحجّ . وأمر بالتطوع بها فوعد عليها بالثواب الجزيل فنالت بذلك الجَعل الإلهي يُمناً وبركة وحرمة ألحقتها بشعائر الله ، وامتن بذلك على الناس بما اقتضته كلمة { لكم } .
والبدن : جمع بَدنَة بالتحريك ، وهي البعير العظيم البَدن . وهو اسم مأخوذ من البَدانة ، وهي عِظم الجثّة والسمن ، وفعله ككرم ونصر ، وليست زنة بدنة وصفاً ولكنها اسم مأخوذ من مادة الوصف ، وجمعه بُدْن . وقياس هذا الجمع أن يكون مضموم الدال مثل خُشُب جمع خشبة ، وثُمرُ جمع ثَمرة ، فتسكين الدال تخفيف شائع ، وغلب اسم البدنة على البعير المعيّن للهدي .
وفي « الموطأ » : " عن أبي هُريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة فقال : اركَبْها ، فقال : إنها بدنة ، فقال : اركَبْها ، فقال : إنها بدنة ، فقال : اركبْها ويلك في الثانية أو الثالثة " فقول الرجل : إنها بدنة ، متعين لإرادة هديه للحجّ .
وتقديم { البُدن } على عامله للاهتمام بها تنويهاً بشأنها .
والاقتصار على البدن الخاصصِ بالإبل لأنها أفضل في الهَدي لكثرة لحمها ، وقد ألحقت بها البقر والغنم بدليل السنّة ، واسم ذلك هَدي .
ومعنى كونها من شعائر الله : أنّ الله جعلها معالم تؤذن بالحج وجعل لها حرمة . وهذا وجه تسميتهم وضع العلامة التي يعلّم بها بعير الهَدْي في جلده إشعاراً .
قال مالك في « الموطأ » : « كان عبد الله بن عمر إذا أهدى هدْياً من المدينة قلّده وأشعره بذي الحليفة ، يقلّده قبل أن يُشعره . . . يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر . . . » بطعن في سنامه فالإشعار إعداد للنحر .
وقد عدها في جملة الحرمات في قوله : { لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي في سورة العقود ( 2 ) .
وتقديم { لكم } على المبتدأ ليتأتى كون المبتدأ نكرة ليفيد تنوينه التعظيم ، وتقديم { فيها } على متعلّقه وهو { خير } للاهتمام بما تجمعه وتحتوي عليه من الفوائد .
والخير : النّفع ، وهو ما يحصل للناس من النفع في الدنيا من انتفاع الفقراء بلحومها وجلودها وجِلالها ونعالها وقَلائدها . وما يحصل للمُهدين وأهلهم من الشبع من لحمها يوم النّحر ، وخير الآخرة من ثواب المُهدين ، وثواب الشكر من المعطَيْن لحومَها لربّهم الذي أغناهم بها .
وفرع على ذلك أن أمَرَ الناس بأن يذكروا اسم الله عليها حين نحرها .
وصوافّ : جمع صافّة . يقال : صف إذا كان مع غيره صفّا بأن اتّصل به . ولعلّهم كانوا يصفُّونها في المنحر يوم النّحر بمِنى ، لأنه كان بمِنى موضع أُعدّ للنحر وهو المنحَر .
وقد ورد في حديث مسلم عن جابر بن عبدالله في حجّة الوداع قال فيه : « ثم انصرف رسول الله إلى المنحرَ فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين بَدنة جعل يطعنها بحَربة في يده ثم أعطى الحربة عليّاً فنحر ما غَبَر ، أي ما بقي وكانت مائة بدنة » وهذا يقتضي أنها كانت مجتمعة متقاربة .
وانتصب { صوافّ } على الحال من الضمير المجرور في قوله { عليها } . وفائدة هذه الحال ذكر محاسن من مَشاهد البُدن فإن إيقاف الناس بدنهم للنحر مجتمعة ومنتظمة غير متفرقة مما يزيد هيئتها جلالاً . وقريب منه قوله تعالى : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص } [ الصف : 4 ] .
ومعنى { وجبت } سقطت ، أي إلى الأرض ، وهو كناية عن زوال الروح التي بها الاستقلال . والقصد من هذا التوقيت المبادرة بالانتفاع بها إسراعاً إلى الخير الحاصل من ذلك في الدنيا بإطعام الفقراء وأكل أصحابها منها فإنه يستحب أن يكون فطور الحاج يوم النحر مِن هديه ، وكذلك الخير الحاصل من ثواب الآخرة .
والأمر في قوله { فكلوا منها } مجمل ، يحتمل الوجوب ويحتمل الإباحة ويحتمل الندب ، وقرينة عدم الوجوب ظاهرة لأنّ المكلف لا يفرض عليه ما الداعي إلى فعله من طبعه . وإنما أراد الله إبطال ما كان عند أهل الجاهلية من تحريم أكل المُهدي من لحوم هديه فبقي النظر في أنه مباح بحت أو هو مندوب .
واختلف الفقهاء في الأكل من لحوم الهدايا الواجبة .
فقال مالك : يباح الأكل من لحوم الهدايا الواجبة ، وهو عنده مستحبّ ولا يؤكل من فدية الأذى وجزاءِ الصيد ونذر المساكين ، والحُجّة لمالك صريح الآية . فإنها عامة إلا ما قام الدّليل على منعه وهي الثلاثة الأشياء المستثناة .
وقال أبو حنيفة : يأكل من هدي التمتّع والقِران ، ولا يأكل من الواجب الذي عيّنه الحاج عند إحرامه .
وقال الشافعي : لا يأكل من لحوم الهدايا بحاللٍ مستنداً إلى القياس ، وهو أن المُهدي أوجب إخراج الهدي من ماله فكيف يأكل منه . كذا قال ابن العربي . وإذا كان هذا قصارى كلام الشافعي فهو استدلال غير وجيه ولفظ القرآن ينافيه لا سيما وقد ثبت أكل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من لحوم الهدايا بأحاديث صحيحة .
وقال أحمد : يؤكل من الهدايا الواجبة إلاّ جزاء الصيد والنذر .
وأما الأمر في قوله : { وأطعموا القانع والمعتر } فقال الشافعي : للوجوب ، وهو الأصح . قال ابن العربي وهو صريح قول مالك . وقلت : المعروف من قول مالك أنه لو اقتصر المُهدي على نحر هديه ولم يتصدق منه ما كان آثماً .
والقانع : المتصف بالقنوع ، وهو التذلل . يقال : قنَع من باب سَأل . قُنوعاً بضم القاف إذا سأل بتذلّل .
وأما القناعة ففعلها من باب تَعِب ويستوي الفعل المضارع مع اختلاف الموجب . ومن أحسن ما جمع من النظائر ما أنشده الخفاجي :
العَبْد حرّ إن قَنِع *** والحـــر عبد إن قنَع
فاقنَع ولا تقنَع فما *** شيء يشين سوى الطمَع
وللزمخشري في « مقاماته » : « يا أبا القاسم اقنَع من القَناعة لا من القنوع ، تستغْن عن كل مِعْطَاءٍ ومنوع » .
وفي « الموطأ » في كتاب الصيد قال مالك : « والقانع هو الفقير » .
والمعتَرّ : اسم فاعل من اعترّ ، إذا تعرّض للعطاء ، أي دون سؤال بل بالتعريض وهو أن يحضر موضع العطاء ، يقال : اعترّ ، إذا تعرّض . وفي « الموطأ » في كتاب الصيد قال مالك : « وسمعت أنّ المعترّ هو الزائر ، أي فتكون من عرا إذا زار » والمراد زيارة التعرض للعطاء .
وهذا التفسير أحسن ويرجحه أنه عطف { المعترّ } على { القانع ، } فدل العطف على المغايرة ، ولو كانا في معنى واحد لما عطف عليه كما لم يعطف في قوله { وأطعموا البائس الفقير } [ الحج : 28 ] .
وجملة { وكذلك سخرناها لكم } استئناف للامتنان بما خلق من المخلوقات لنفع الناس . والأمارة الدالة على إرادته ذلك أنه سخّرها للناس مع ضعف الإنسان وقوّة تلك الأنعام فيأخذ الرجل الواحد العدد منها ويسوقها منقادة ويؤلمونها بالإشعار ثم بالطعن . ولولا أنّ الله أودع في طباعها هذا الانقياد لما كانت أعجزَ من بعض الوحوش التي هي أضعف منها فتنفر من الإنسان ولا تسخّر له .
وقوله { كذلك } هو مثل نظائره ، أي مثلَ ذلك التسخير العجيب الذي ترونه كان تسخيرها لكم .
ومعنى { لعلكم تشكرون } خلقناها مسخرة لكم استجلاباً لأن تشكروا الله بإفراده بالعبادة . وهذا تعريض بالمشركين إذا وضعوا الشكر موضع الشكر .