{ يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } نزلت في عام الحديبية ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالصيد ، وكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث يتمكنون من صيدها أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم وهم محرمون ، والتقليل والتحقير في بشيء للتنبيه على أنه ليس من العظائم التي تدحض الأقدام كالابتلاء ببذل الأنفس والأموال ، فمن لم يثبت عنده كيف يثبت عند ما هو أشد منه . { ليعلم الله من يخافه بالغيب } ليتميز الخائف من عقابه وهو غائب منتظر لقوة إيمانه ممن لا يخافه لضعف قلبه وقلة إيمانه ، فذكر العلم وأراد وقوع المعلوم وظهوره أو تعلق العلم . { فمن اعتدى بعد ذلك } بعد ذلك الابتلاء بالصيد . { فله عذاب أليم } فالوعيد لاحق به ، فإن من لا يملك جأشه في مثل ذلك ولا يراعي حكم الله فيه فكيف به فيما تكون النفس أميل إليه وأحرص عليه .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد } أي ليختبركم ليرى طاعتكم من معصيتكم وصبركم من عجزكم عن الصيد ، وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة ، وشائعاً عند الجميع منهم مستعملا جداً ، فابتلاهم الله فيه مع الإحرام أو الحرم كما ابتلى بني إسرائيل في أن لا يعتدوا في السبت{[6]} .
و{ من } تحتمل أن تكون للتبعيض ، فالمعنى من صيد البر دون البحر ، ذهب إليه الطبري وغيره ، ويحتمل أن يكون التبعيض في حالة الحرمة إذ قد يزول الإحرام ويفارق الحرم ، فصيد بعض هذه الأحوال بعض الصيد على العموم ، ويجوز أن تكون لبيان الجنس ، قال الزجّاج وهذا كما تقول لأمتحننك بشيء من الرزق ، وكما قال تعالى : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان }{[7]} وقوله { بشيء } يقتضي تبعيضاً ما وقد قال كثير من الفقهاء إن الباء في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم }{[8]} أعطت تبعيضاً ما ، وقرأ ابن وثاب والنخعي «يناله » بالياء منقوطة من تحت ، وقال مجاهد الأيدي تنال الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر ، والرماح تنال كبار الصيد .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن الله تعالى خص الأيدي بالذكر لأنها عظم{[9]} المتصرف في الاصطياد ، وهي آلة الآلات وفيها تدخل الجوارح والحبالات ، وما عمل باليد من فخاخ وشباك ، وخص الرماح بالذكر لأنها ُعْظم ما يجرح به الصيد ، وفيها يدخل السهم ونحوه ، واحتج بعض الناس على أن الصيد{[10]} للآخذ لا للمثير بهذه الآية ، لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئاً ، وقوله تعالى { ليعلم } معناه ليستمر علمه عليه وهو موجود إذ علم تعالى ذلك في الأزل . وقرأ الزهري «ليُعلِم الله » بضم الياء وكسر اللام أي ليعلم عباده ، و { بالغيب } قال الطبري معناه في الدنيا حيث لا يرى العبد ربه فهو غائب عنه ، والظاهر أن المعنى بالغيب من الناس أي في الخلوة فمن خاف الله انتهى عن الصيد من ذات نفسه ، وقد خفي له لو صاد ، ثم توعد تعالى من اعتدى بعد هذا النهي الذي يأتي وهو الذي أراد بقوله { ليبلونكم } وأشار إليه قوله { ذلك } والعذاب الأليم هو عذاب الآخرة .
لا أحسب هذه الآية إلاّ تبييناً لقوله في صدر السورة { غير محلّى الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 1 ] ، وتخلُّصاً لحكم قتل الصيد في حالة الإحرام ، وتمهيداً لقوله : { يأيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 95 ] جرَّتْ إلى هذا التخلّص مناسبة ذكر المحرّمات من الخمر والميسر وما عطف عليهما ؛ فخاطب الله المؤمنين بتنبيههم إلى حالة قد يسبق فيها حرصُهم ، حذَرَهم وشهوتُهم تقواهم . وهي حالة ابتلاء وتمحيص ، يَظهر بها في الوجود اختلاف تمسّكهم بوصايا الله تعالى ، وهي حالة لم تقع وقت نزول هذه الآية ، لأنّ قوله { ليبلونّكم } ظاهر في الاستقبال ، لأنّ نون التوكيد لا تدخل على المضارع في جواب القسم إلاّ وهو بمعنى المستقبل . والظاهر أنّ حكم إصابة الصيد في حالة الإحرام أو في أرض الحرم لم يكن مقرّراً بمثل هذا . وقد روي عن مقاتل : أنّ المسلمين في عمرة الحديبية غشيَهم صيد كثير في طريقهم ، فصار يترامى على رحالهم وخيامهم ، فمنهم المُحِلّ ومنهم المُحرِم ، وكانوا يقدرون على أخذه بالأيدي ، وصيد بعضه بالرماح . ولم يكونوا رأوا الصيد كذلك قط ، فاختلفت أحوالهم في الإقدَام على إمساكه . فمنهم من أخذ بيده وطعن برمحه . فنزلت هذه الآية اهـ . فلعلّ هذه الآية ألحقت بسورة المائدة إلحاقاً ، لتكون تذكرة لهم في عام حجّة الوداع ليحذروا مثلَ ما حلّ بهم يوم الحديبية . وكانوا في حجّة الوداع أحْوج إلى التحذير والبيان ، لكثرة عدد المسلمين عام حجّة الوداع وكثرة من فيهم من الأعراب ، فذلك يبيّن معنى قوله { تناله أيديكم ورماحكم } لإشعار قوله { تناله } بأنّ ذلك في مكنتهم وبسهولة الأخذ .
والخطاب للمؤمنين ، وهو مجمل بيّنه قوله عقبه { يأيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 95 ] . قال أبو بكر بن العربي : اختلف العلماء في المخاطب بهذه الآية على قولين : أحدهما : أنّهم المحلّون ، قاله مالك ، الثاني : أنّهم المحرمون ، قاله ابن عباس وغيره اهـ . وقال في « القبس » : تَوهّم بعض الناس أنّ المراد بالآية تحريم الصيد في حال الإحرام ، وهذه عُضْلة ، إنّما المراد به الابتلاء في حالتي الحلّ والحرمة اهـ .
ومرجع هذا الاختلاف النظر في شمول الآية لحكم ما يصطاده الحلال من صيد الحرم وعدم شمولها بحيث لا يحتاج في إثبات حكمه إلى دليل آخر أو يحتاج . قال ابن العربي في « الأحكام » : « إنّ قوله { ليبلونّكم } الذي يقتضي أنّ التكليف يتحقّق في المُحِلّ بما شرط له من أمور الصيد وما شرط له من كيفية الاصطياد . والتكليف كلّه ابتلاء وإن تفاضل في القلّة والكثرة وتبايَن في الضعف والشدّة » . يريد أنّ قوله : { ليبلونّكم الله بشيء من الصيد } لا يراد به الإصابة ببلوى ، أي مصيبة قتل الصيد المحرّم بل يراد ليكلفنّكم الله ببعض أحوال الصيد .
وهذا ينظر إلى أنّ قوله تعالى : { وأنتم حرم } [ المائدة : 95 ] شامل لحالة الإحرامِ والحلولِ في الحرم .
وقوله : { ليبلونّكم الله بشيء من الصيد } هو ابتلاء تكليف ونهي ، كما دلّ عليه تعلّقه بأمر ممّا يفعل ، فهو ليس كالابتلاء في قوله : { ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع } [ البقرة : 155 ] وإنّما أخبرهم بهذا على وجه التحذير . فالخبر مستعمل في معناه ولازم معناه ، وهو التحذير . ويتعيّن أن يكون هذا الخطاب وُجّه إليهم في حين تردّدهم بين إمساك الصيد وأكله ، وبين مراعاة حرمة الإحرام ، إذ كانوا مُحرمين بعمرة في الحديبية وقد تردّدوا فيما يفعلون ، أي أنّ ما كان عليه الناس من حِرمة إصابة الصيد للمُحْرِم معتدّ به في الإسلام أو غير معتدّ به . فالابتلاء مستقبل لأنّه لا يتحقّق معنى الابتلاء إلاّ من بعد النهي والتحذير . ووجود نون التوكيد يعيّن المضارع للاستقبال ، فالمستقبل هو الابتلاء . وأمّا الصيد ونوال الأيدي والرماح فهو حَاضر .
والصيد : المصيد ، لأنّ قوله من الصيد وقع بياناً لقوله { بشيء } . ويغني عن الكلام فيه وفي لفظ ( شيء ) ما تقدّم من الكلام على نظيره في قوله تعالى : { ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع } في سورة البقرة ( 155 ) . وتنكير شيء هنا للتنويع لا للتحقير ، خلافاً للزمخشري ومن تابَعه .
وأشار بقوله : { تناله أيديكم ورماحكم } إلى أنواع الصيد صغيره وكبيره . فقد كانوا يمسكون الفراخ بأيديهم وما هو وسيلة إلى الإمساك بالأيدي من شباك وحِبالات وجوارح ، لأنّ جميع ذلك يؤول إلى الإمساك باليد . وكانوا يعْدُون وراء الكبار بالخيل والرماح كما يفعلون بالحُمر الوحشية وبقر الوحش ، كما في حديث أبي قتادة أنّه : رأى عام الحديبية حماراً وحشياً ، وهو غير محرم ، فاستوى على فرسه وأخذ رمحه وشدّ وراء الحمار فأدركه فعقره برمحه وأتى به . . إلخ . وربما كانوا يصيدون برمي النبال عن قسيّهم ، كما في حديث « الموطأ » « عن زيد البَهْزي أنّه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد مكّة فإذا ظبي حاقف فيه سَهم » الحديث . فقد كان بعض الصائدين يختبىء في قُتْرة ويمسك قوسه فإذا مرّ به الصيد رماه بسهم . قال ابن عطية : وخصّ الرماح بالذكر لأنّها أعظم ما يجرح به الصيد .
وقد يقال : حذف ما هو بغير الأيدي وبغير الرماح للاستغناء بالطرفين عن الأوساط .
وجملة { تناله أيديكم } صفة للصيد أو حال منه . والمقصود منها استقصاء أنواع الصيد لئلاّ يتوهّم أنّ التحذير من الصيد الذي هو بجرح أو قتل دون القبض باليد أو التقاط البيض أو نحوه .
وقوله : { لِيَعْلَمَ اللّهُ من يخافه بالغيب } علّة لقوله { ليبلونّكم } [ المائدة : 94 ] لأنّ الابتلاء اختبار ، فِعلّته أن يعلم الله مِنه من يخافه . وجَعْل علم الله علّة للابتلاء إنّما هو على معنى ليظهر للناس من يخاف الله من كلّ من علم الله أنّه يخافه ، فأطلق علم الله على لازِمه ، وهو ظهور ذلك وتميّزه ، لأنّ علم الله يلازمه التحقّق في الخارج إذ لا يكون علم الله إلاّ موافقاً لما في نفس الأمر ، كما بينّاه غير مرّة ؛ أو أريد بقوله : { ليعلم الله } التعلّق التنجيزي لعلم الله بفعل بعض المكلّفين ، بناء على إثبات تعلّق تنجيزي لصفة العلم ، وهو التحقيق الذي انفصل عليه عبد الحكيم في « الرسالة الخاقانية » .
وقيل : أطلق العلم على تعلّقه بالمعلوم في الخارج ، ويلزم أن يكون مراد هذا القائل أنّ هذا الإطلاق قصد منه التقريب لعموم أفهام المخاطبين . وقال ابن العربي في القبس : « ليعلم الله مشاهدةً مَا علمه غيباً من امْتثال من امتثل واعتداء من اعتدى فإنّه ، عالم الغيب والشهادة يعلم الغيبَ أوّلاً ، ثم يَخلق المعدوم فيَعْلَمُه مشاهدة ، يتغيّر المعلوم ولا يتغيّر العلم » . والباء إمّا للملابسة أو للظرفية ، وهي في موضع الحال من الضمير المرفوع في { يخافه } .
والغيب ضدّ الحضور وضدّ المشاهدة ، وقد تقدّم في قوله تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 3 ] على أحد وجهين هنالك ، فتعلّق المجرور هنا بقوله { يخافه } الأظهر أنّه تعلّق لمجرّد الكشف دون إرادة تقييد أو احتراز ، كقوله تعالى : { ويقتلون النبيئين بغير حقّ } [ البقرة : 61 ] . أي من يخاف الله وهو غائب عن الله ، أي غير مشاهد له . وجميع مخافة الناس من الله في الدنيا هي مخافة بالغيب . قال تعالى : { إنّ الذين يخشون ربّهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير } [ الملك : 12 ] .
وفائدة ذكره أنه ثناء على الذين يخافون الله أثنى عليهم بصدق الإيمان وتنوّر البصيرة ، فإنّهم خافوه ولم يروا عظمته وجلاله ونعيمه وثوابه ولكنّهم أيقنوا بذلك عن صدق استدلال . وقد أشار إلى هذا ما في الحديث القدسي : " إنّهم آمنوا بي ولم يروني فكيف لو رأوني " ومن المفسرين من فسّر الغيب بالدنيا . وقال ابن عطية : الظاهر أنّ المعنى بالغيب عن الناس ، أي في الخلوة . فمن خاف الله انتهى عن الصيد في ذات نفسه ، يعني أنّ المجرور للتقييد ، أي من يخاف الله وهو غائب عن أعين الناس الذين يتّقى إنكارهم عليه أو صدّهم إيّاه وأخذَهم على يده أو التسميع به ، وهذا ينظر إلى ما بنوا عليه أنّ الآية نزلت في صيد غشيهم في سفرهم عام الحديبية يغشاهم في رحالهم وخيامهم ، أي كانوا متمكّنين من أخذه بدون رقيب ، أو يكون الصيد المحذّر من صيده مماثلاً لذلك الصيد .
وقوله : { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } تصريح بالتحذير الذي أومأ إليه بقوله { ليبلونّكم } ، إذ قد أشعر قوله : { ليبلونّكم } أنّ في هذا الخبر تحذيراً من عمل قد تسبق النفس إليه . والإشارة بذلك إلى التحذير المستفاد من { ليبلونّكم } ، أي بعدما قدّمناه إليكم وأعذرنا لكم فيه ، فلذلك جاءت بعده فاء التفريع . والمراد بالاعتداء الاعتداء بالصيد ، وسمّاه اعتداء لأنّه إقدام على محرّم وانتهاك لحرمة الإحرام أو الحرم .
وقوله : { فله عذاب أليم } ، أي عقاب شديد في الآخرة بما اجترأ على الحرم أو على الإحرام أو كليهما ، وبما خالف إنذار الله تعالى ، وهذه إذا اعتدى ولم يتدارك اعتداءه بالتوبة أو الكفارة ، فالتوبة معلومة من أصول الإسلام ، والكفارة هي جزاء الصيد ، لأنّ الظاهر أنّ الجزاء تكفير عن هذا الاعتداء كما سيأتي .