المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

بدأت السورة بنهي المؤمنين عن موالاة المشركين أعداء الله وأعدائهم لإصرارهم على الكفر ، وإخراجهم رسول الله والمؤمنين من ديارهم بمكة ، وأشارت إلى أن عداوة هؤلاء كامنة للمؤمنين ، لا تلبث أن تستعلن حين يلاقونهم ويتمكنون منهم .

ثم انتقلت إلى بيان الأسوة الحسنة في إبراهيم والذين معه في تبرئتهم من المشركين وما يعبدون من دون الله ، معلنين عداوتهم لهم ، حتى يؤمنوا بالله وحده موضحة أن ذلك شأن الذين يرجون لقاء الله ويخشون عقابه .

ثم بينت من تجوز صلتهم من غير المسلمين ومن لا تجوز ، فأما الذين لا يقاتلوننا في الدين ولا يعينون علينا ، فإن لنا أن نبرهم ونقسط إليهم ، وأما الذين قاتلونا في الدين ، وظاهروا على إخراجنا من ديارنا ، فأولئك الذين نهى الله عن برهم والصلة بهم .

ثم بينت السورة حكم المؤمنات اللاتي هاجرون إلى دار الإسلام ، وتركن أزواجهن مشركين ، وحكم المشركات الآتي هاجر أزواجهن مسلمين وقد تركوهن بدار الشرك .

وأتبعت ذلك ببيان بيعة النساء ، وما بايعن عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ثم ختمت بما بدأت به من النهي عن موالاة الأعداء الذين غضب الله عليهم ، تقريرا للحكم بينته في مفتتحها ، وأكدته في ثناياها .

1- يا أيها الذين صدّقوا بالله ورسوله : لا تتخذوا أعدائي وأعداءكم أنصاراً تُفْضُون إليهم بالمحبة الخالصة ، مع أنهم جحدوا بما جاءكم من الإيمان بالله ورسوله وكتابه ، يخرجون الرسول ويخرجونكم من دياركم ، لإيمانكم بالله ربكم ، إن كنتم خرجتم من دياركم للجهاد في سبيلي وطلب رضائي فلا تتولوا أعدائي ، تُلْقُون إليهم بالمودة سراً ، وأنا أعلم بما أسررتم وما أعلنتم ، ومن يتخذ عدو الله ولياً له فقد ضل الطريق المستقيم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة الممتحنة: سورة الامتحان مدنية...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

سورة الممتحنة مدنية في قول الجميع.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

الممتحِنة -بكسر الحاء- أي المختبرة، أضيف الفعل إليها مجازا، كما سميت سورة "التوبة " المبعثرة والفاضحة؛ لما كشفت من عيوب المنافقين.

ومن قال في هذه السورة: الممتحَنة -بفتح الحاء- فإنه أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، قال الله تعالى: {فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن} [الممتحنة: 10] الآية.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

مقصودها:

براءة من أقر بالإيمان ممن اتسم بالعدوان دلالة على صحة مدعاه كما أن الكفار تبرأوا من المؤمنين وكذبوا بما جاءهم من الحق لئلا يكونوا على باطلهم أحرص من المؤمنين على حقهم، وتسميتها بالممتحنة أوضح شيء فيها وأدله على ذلك لأن الصهر أعظم الوصل وأشرفها بعد الدين، فإذا نفى ومنع دل على أعظم المقاطعة لدلالته على الامتهان بسبب الكفران الذي هو أقبح العصيان...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه السورة حلقة في سلسلة التربية الإيمانية والتنظيم الاجتماعي والدولة في المجتمع المدني. حلقة من تلك السلسلة الطويلة، أو من ذلك المنهج الإلهي المختار للجماعة المسلمة المختارة، التي ناط بها الله تحقيق منهجه الذي يريده للحياة الإنسانية، في صورة واقعية عملية، كيما يستقر في الأرض نظاما ذا معالم وحدود وشخصية مميزة؛ تبلغ إليه البشرية أحيانا، وتقصر عنه أحيانا، ولكنها تبقى معلقة دائما بمحاولة بلوغه؛ وتبقى أمامها صورة واقعية منه، تحققت يوما في هذه الأرض.

وقد اقتضى هذا -كما قلنا في أول هذا الجزء- إعدادا طويلا في خطوات ومراحل. وكانت الأحداث التي تقع في محيط هذه الجماعة، أو تتعلق بها، مادة من مواد هذا الإعداد. مادة مقدرة في علم الله، تقوم عليها مادة أخرى هي التفسير والتوضيح والتعقيب والتوجيه.

وفي مضطرب الأحداث، وفي تيار الحياة المتدفق، تمت عملية بناء النفوس المختارة لتحقيق ذلك المنهج الإلهي في الأرض. فلم تكن هناك عزلة إلا العزلة بالتصور الإيماني الجديد، وعدم خلطه بأية رقع غريبة عنه في أثناء التكوين النفسي لهذه الجماعة. وكانت التربية المستمرة متجهة دائما إلى إنشاء هذا التصور الإيماني الخاص المميز، المنعزل بحقيقته وطبيعته عن التصورات السائدة في العالم كله يومذاك، وفي الجزيرة العربية بصفة خاصة. أما الناس الذين ينشأ هذا التصور المتميز في نفوسهم فلم يكونوا بمعزل عن واقع الحياة ومضطرب الأحداث، بل كانوا يصهرون في بوتقة الحوادث يوما بعد يوم، ومرة بعد مرة، ويعاد صهرهم في الأمر الواحد والخلق الواحد مرات كثيرة، وتحت مؤثرات متنوعة؛ لأن الله الذي خلق هذه النفوس يعلم أنها ليست كلها مما يتأثر ويستجيب ويتكيف ويستقر على ما تكيف به منذ اللمسة الأولى. وكان يعلم أن رواسب الماضي، وجواذب الميول الطبيعية، والضعف البشري، وملامسات الواقع، وتحكم الإلف والعادة، كلها قد تكون معوقات قوية تغلب عوامل التربية والتوجيه مرة بعد مرة. وتحتاج في مقاومتها إلى التذكير المتكرر، والصهر المتوالي.. فكانت الأحداث تتوالى كما هي منسوقة في قدر الله، وتتوالى الموعظة بها. والتحذير على ضوئها، والتوجيه بهديها، مرة بعد مرة.

وكان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقوم في يقظة دائمة وإلهام بصير، بالتقاط الأحداث والوقائع والمناسبات في كل فرصة، واستخدامها بحكمة بالغة في بناء هذه النفوس. والوحي والإلهام يؤيدانه ويسددانه [صلى الله عليه وسلم] حتى تصنع تلك الجماعة المختارة على عين الله. بتوفيق الله. على يدي رسول الله.

هذه السورة حلقة في سلسلة ذلك الإعداد الطويل، تستهدف -مع غيرها مما جاء في مثل موضوعها- إقامة عالم رباني خالص في ضمير المسلم. عالم محوره الإيمان بالله وحده، يشد المسلمين إلى هذا المحور وحده، بعروة واحدة لا انفصام لها؛ ويبرئ نفوسهم من كل عصبية أخرى. عصبية للقوم أو للجنس أو للأرض أو للعشيرة أو للقرابة. ليجعل في مكانها جميعا عقدة واحدة. هي عقدة الإيمان بالله. والوقوف تحت راية الله. في حزب الله.

إن العالم الذي يريده الإسلام عالم رباني إنساني. رباني بمعنى أنه يستمد كل مقوماته من توجيه الله وحكمه، ويتجه إلى الله بكل شعوره وعمله. وإنساني بمعنى أنه يشمل الجنس الإنساني كله -في رحاب العقيدة- وتذوب فيه فواصل الجنس والوطن واللغة والنسب. وسائر ما يميز إنسانا عن إنسان، عدا عقيدة الإيمان. وهذا هو العالم الرفيع اللائق أن يعيش فيه الإنسان الكريم على الله، المتضمن كيانه نفحة من روح الله.

ودون إقامة هذا العالم تقف عقبات كثيرة -كانت في البيئة العربية وما تزال في العالم كله إلى اليوم- عقبات من التعصب للبيت، والتعصب للعشيرة، والتعصب للقوم، والتعصب للجنس، والتعصب للأرض. كما تقف عقبات أخرى من رغائب النفوس وأهواء القلوب، من الحرص والشح وحب الخير للذات، ومن الكبرياء الذاتية والالتواءات النفسية.. وألوان غيرها كثير من ذوات الصدور!

وكان على الإسلام أن يعالج هذا كله في الجماعة التي يعدها لتحقيق منهج الله في الأرض في صورة عملية واقعة. وكانت هذه الصورة حلقة في سلسلة هذا العلاج الطويل.

وكان بعض المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم في سبيل عقيدتهم، ما تزال نفوسهم مشدودة إلى بعض من خلفوا هنالك من ذرية وأزواج وذوي قربى. وعلى الرغم من كل ما ذاقوا من العنت والأذى في قريش فقد ظلت بعض النفوس تود لو وقعت بينهم وبين أهل مكة المحاسنة والمودة؛ وأن لو انتهت هذه الخصومة القاسية التي تكلفهم قتال أهليهم وذوي قرابتهم، وتقطع ما بينهم وبينهم من صلات!

وكان الله يريد استصفاء هذه النفوس واستخلاصها من كل هذه الوشائج، وتجريدها لدينه وعقيدته ومنهجه. وهو -سبحانه- يعلم ثقل الضغط الواقع عليها من الميول الطبيعية ورواسب الجاهلية جميعا -وكان العرب بطبيعتهم أشد الناس احتفالا بعصبية القبيلة والعشيرة والبيت- فكان يأخذهم يوما بعد يوم بعلاجه الناجع البالغ، بالأحداث وبالتعقيب على الأحداث، ليكون العلاج على مسرح الحوادث وليكون الطرق والحديد ساخن!

وتذكر الروايات حادثا معينا نزل فيه صدر هذه السورة. وقد تكون هذه الروايات صحيحة في سبب النزول المباشر. ولكن مدى النصوص القرآنية دائما أبعد من الحوادث المباشرة.

وقد قيل في هذا الحادث: إن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من المهاجرين. وكان من أهل بدر أيضا. وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفا لعثمان. فلما عزم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على فتح مكة لما نقض أهلها عهد الحديبية أمر المسلمين بالتجهيز لغزوهم، وقال: " اللهم عم عليهم خبرنا".. وأخبر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] جماعة من أصحابه بوجهته، كان منهم حاطب. فعمد حاطب فكتب كتابا وبعثه مع امرأة مشركة -قيل من مزينة- جاءت المدينة تسترفد -إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يدا. فأطلع الله- تعالى -رسوله على ذلك استجابة لدعائه. وإمضاء لقدره في فتح مكة. فبعث في أثر المرأة، فأخذ الكتاب منها.

وقد روى البخاري في المغازي، ورواه مسلم في صحيحه من حديث حصين بن عبدالرحمن، عن سعد ابن عبيدة عن أبي عبدالرحمن السلمي، عن علي- رضي الله عنه -قال: " بعثني رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأبا مرثد والزبير بن العوام- وكلنا فارس -وقال: " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين". فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقلنا: الكتاب؟ فقالت ما معي كتاب. فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا. فقلنا: ما كذب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لتخرجن الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها، وهي محتجزة بكساء، فأخرجته. فانطلقنا به إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقال عمر: يا رسول الله. قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضربن عنقه. فقال النبي [صلى الله عليه وسلم]: " ما حملك على ما صنعت؟ " قال حاطب: والله ما بي إلا أن أكون مؤمنا بالله ورسوله [صلى الله عليه وسلم] أردت أن تكون لي عند القوم يد. يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله. فقال: " صدق لا تقولوا إلا خيرا". فقال عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه. فقال: " أليس من أهل بدر؟- فقال -: لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة -أو- قد غفرت لكم " فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.. وزاد البخاري في كتاب المغازي: فأنزل الله السورة: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة).. وفي رواية أخرى أن الذين أرسلوا كانوا هم علي والزبير والمقداد.

ولوقوف قليلا أمام هذا الحادث وما دار بشأنه لا يخرج بنا عن " ظلال القرآن " والتربية به وبالأحداث والتوجيهات والتعقيبات عن طريق رسول الله [صلى الله عليه وسلم] القائد المربي العظيم..

وأول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب، وهو المسلم المهاجر، وهو أحد الذين أطلعهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على سر الحملة.. وفيها ما يكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها؛ وأن لا عاصم إلا الله من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها.

ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول [صلى الله عليه وسلم] وهو لا يعجل حتى يسأل: " ما حملك على ما صنعت " في سعة صدر وعطف على لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق، ومن ثم يكف الصحابة عنه: " صدق لا تقولوا إلا خيرا".. ليعينه وينهضه من عثرته، فلا يطارده بها ولا يدع أحدا يطارده. بينما نجد الإيمان الجاد الحاسم الجازم في شدة عمر: " إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين. فدعني فلأضرب عنقه".. فعمر -رضي الله عنه- إنما ينظر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وإيمانه الجازم. أما رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها، ومن كل جوانبها، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية. في موقف المربي الكريم العطوف المتأني الناظر إلى جميع الملابسات والظروف..

ثم يقف الإنسان أمام كلمات حاطب، وهو في لحظة ضعفه، ولكن تصوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح.. ذلك حين يقول: " أردت أن تكون لي عند القوم يد.. يدفع الله بها عن أهلي ومالي".. فالله هو الذي يدفع، وهذه اليد لا تدفع بنفسها، إنما يدفع الله بها. ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه وهو يقول: " وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع.. الله.. به عن أهله وماله " فهو الله حاضر في تصوره، وهو الذي يدفع لا العشيرة. إنما العشيرة أداة يدفع الله بها..

ولعل حس رسول الله الملهم قد راعى هذا التصور الصحيح الحي في قول الرجل، فكان هذا من أسباب قوله [صلى الله عليه وسلم]: " صدق. لا تقولوا إلا خيرا"..

وأخيرا يقف الإنسان أمام تقدير الله في الحادث؛ وهو أن يكون حاطب من القلة التي يعهد إليها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بسر الحملة. وأن تدركه لحظة الضعف البشري وهو من القلة المختارة. ثم يجري قدر الله بكف ضرر هذه اللحظة عن المسلمين. كأنما القصد هو كشفها فقط وعلاجها! ثم لا يكون من الآخرين الذين لم يعهد إليهم بالسر اعتراض على ما وقع، ولا تنفج بالقول: ها هو ذا أحد من استودعوا السر خانوه، ولو أودعناه نحن ما بحنا به! فلم يرد من هذا شيء. مما يدل على أدب المسلمين مع قيادتهم، وتواضعهم في الظن بأنفسهم، واعتبارهم بما حدث لأخيهم...

والحادث متواتر الرواية. أما نزول هذه الآيات فيه فهو أحد روايات البخاري. ولا نستبعد صحة هذه الرواية؛ ولكن مضمون النص القرآني -كما قلنا- أبعد مدى، وأدل على أنه كان يعالج حالة نفسية أوسع من حادث حاطب الذي تواترت به الروايات، بمناسبة وقوع هذا الحادث، على طريقة القرآن.

كان يعالج مشكلة الأواصر القريبة، والعصبيات الصغيرة، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة ليخرج بها من هذا الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني.

وكان ينشئ في هذه النفوس صورة جديدة، وقيما جديدة، وموازين جديدة، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان، ووظيفة المؤمنين في الأرض، وغاية الوجود الإنساني.

وكان كأنما يجمع هذه النبتات الصغيرة الجديدة في كنف الله؛ ليعلمهم الله ويبصرهم بحقيقة وجودهم وغايته، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد، وليشعرهم أنهم رجاله وحزبه، وأنه يريد بهم أمرا، ويحقق بهم قدرا. ومن ثم فهم يوسمون بسمته ويحملون شارته، ويعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعا. في الدنيا والآخرة. وإذن فليكونوا خالصين له، منقطعين لولايته، متجردين من كل وشيجة غير وشيجته. في عالم الشعور وعالم السلوك.

والسورة كلها في هذا الاتجاه. حتى الآيات التشريعية التنظيمية الواردة في آخرها عن معاملة المهاجرات المؤمنات، ومبايعة من يدخلن في الإسلام، والفصل بين المؤمنات وأزواجهن من الكفار. وبين المؤمنين وزوجاتهم من الكوافر.. فكلها تنظيمات منبثقة من ذلك التوجيه العام.

ثم ختام السورة كما بدأت بالنهي عن موالاة أعداء الله، ممن غضب عليهم الله، سواء من المشركين أو من اليهود. ليتم التمييز والانفراد والمفاصلة من جميع الوشائج والروابط غير رابطة العقيدة وغير وشيجة الإيمان..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عرفت هذه السورة في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف ب (سورة الممتحنة).ووجه التسمية أنها جاءت فيها آية امتحان إيمان النساء اللاتي يأتين من مكة مهاجرات إلى المدينة وهي آية {يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن} إلى قوله {بعصم الكوافر}. فوصف الناس تلك الآية بالممتحنة لأنها شرعت الامتحان... واتفقوا على أن الآية الأولى نزلت في شأن كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين من أهل مكة. وهذه السورة قد عدت الثانية والتسعين في تعداد نزول السور. عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة العقود وقبل سورة النساء. أغراض هذه السورة اشتملت من الأغراض على تحذير المؤمنين من اتخاذ المشركين أولياء مع أنهم كفروا بالدين الحق وأخروجهم من بلادهم. وإعلامهم بأن اتخاذهم أولياء ضلال وأنهم لو تمكنوا من المؤمنين لأساءوا إليهم بالفعل والقول، وأن ما بينهم وبين المشركين من أواصر القرابة لا يعتد به تجاه العداوة في الدين، وضرب لهم مثلا في ذلك قطيعة إبراهيم لأبيه وقومه. وأردف ذلك باستئناس المؤمنين برجاء أن تحصل مودة بينهم وبين الذين أمرهم الله بمعاداتهم أي هذه معاداة غير دائمة. وأردف بالرخصة في حسن معاملة الكفرة الذين لم يقاتلوا المسلمين قتال عداوة في دين ولا أخرجوهم من ديارهم. وهذه الأحكام إلى نهاية الآية التاسعة. وحكم المؤمنات اللاء يأتين مهاجرات واختبار صدق إيمانهن وأن يحفظن من الرجوع إلى دار الشرك ويعوض أزواجهن المشركون ما أعطوهن من المهور ويقع التراد كذلك مع المشركين. ومبايعة المؤمنات المهاجرات ليعرف التزامهن لأحكام الشريعة الإسلامية. وهي الآية الثانية عشرة. وتحريم تزوج المسلمين المشركات وهذا في الآيتين العاشرة والحادية عشرة. والنهي عن موالاة اليهود وأنهم أشبهوا المشركين وهي الآية الثالثة عشرة.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

في السورة نهي عن موالاة الكفار الأعداء المعتدين مهما ربطت بينهم وبين المسلمين أرحام. ودعوة للتأسي بإبراهيم والمؤمنين معه في موقفهم من قومهم الكافرين. وتأميل باهتداء الكفار. وتقرير بأن النهي لا يتناول المسالمين بحيث لا حرج على المسلمين من موادة هؤلاء والبر بهم. وإنما يتناول الأعداء المؤذين والمتظاهرين معهم على الإسلام والمسلمين. وأمر بعدم إرجاع المسلمات المهاجرات إلى الكفار. وتحريم بقاء المسلمين مرتبطين بزوجاتهم الكافرات. وأمر بمبايعة المسلمات وأخذ العهد عليهن استقلالا. وانطوى في السورة صور عديدة من السيرة النبوية. وتلقينات جليلة المدى. وهي فصلان مستقلان في الموضوع متناسبان في الظروف، وإذا صحت الروايات التي سوف نوردها بعد، فإن الأمر بمبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للنساء المسلمات يكون قد نزل بعد الفتح المكي. وعلى كل حال فالذي نرجحه أنها من السور التي ألفت تأليفا في وقت متأخر بعد نزول ما اقتضت حكمة الله ورسوله أن تحتويه من فصول...

والمصحف الذي اعتمدنا عليه وكذلك روايات ترتيب النزول الأخرى تذكر أن هذه السورة نزلت بعد سورة الأحزاب، وقبل سورة الفتح التي احتوت إشارة إلى رحلة الحديبية وصلحها بسور عديدة. في حين أن مضامينها والروايات الواردة في صددها تسوغ القول – بقوة – بأنها نزلت بعد ذلك الصلح، بل وبين يدي فتح مكة الذي كان بعد ذلك الصلح بسنتين. وهذا ما جعلنا نخالف روايات الترتيب فيها كما فعلنا في بعض السور ونؤخرها إلى ما بعد سورة الفتح التي نزلت عقب ذلك الصلح مباشرة، ثم إلى ما بعد سورة المائدة التي نزل فصلها الأول كذلك عقبه على ما شرحناه في سياق تفسير السورتين. وبذلك يتم التساوق في ترتيب النزول في نطاق ما هو معروف من صحيح الوقائع. والله أعلم...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

في أجواء السورة:

في هذه السورة حديثٌ عن طبيعة العلاقات الواقعية بين المؤمنين والكافرين، في جانبها النفسي والعملي، حيث يوجّه الله النداء للمؤمنين أن لا يتخذوا أعداء الله وأعداء المسلمين أولياء، في ما تعنيه الولاية من المودة القلبية ومن الدعم العملي، لأن ذلك يمثل السذاجة في فهم مسألة الصراع، كما يسيء إلى طبيعة الموقف القوي الذي ينبغي للمؤمنين أن يتخذوه في قضية المواجهة بين الكفر والإيمان...

. ولذلك فلا يجوز برّهم والإحسان إليهم والموادة معهم. أما الذين لا يتحركون في دائرة العدوان ويقتصر الأمر لديهم على الاختلاف مع المسلمين في العقيدة، فلا مانع من برهم والعدل فيهم والإحسان إليهم والتعايش معهم في المجتمع الواحد، أو في البلدة الواحدة أو البلدان المتعددة ....

.... اسم السورة: جاء اسم السورة «الممتحنة» باعتبار أن المسألة البارزة فيها تتمثل في امتحان المؤمنات المهاجرات، في صدقهن في إيمانهن، وهي المسألة الحيوية التي لم يرد لها ذكر في مكان آخر من القرآن، بينما ورد ذكر الامتناع عن موالاة أعداء الله في أكثر من سورة، مما اقتضى توجيه الأنظار إلى هذه المسألة من مواضيع السورة، لا سيما أنها تتصل بالدور الإيماني في قضية المرأة التي تتكامل مع الرجل في هذا الجانب، وتؤكد على عمق الإيمان الذي ينتصر على العاطفة عندها...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

محتوى السورة:

تتكوّن موضوعات هذه السورة من قسمين: القسم الأوّل: يتحدّث عن موضوع «الحبّ في الله» و «البغض في الله»، وينهى عن عقد الولاء والودّ مع المشركين، ويدعو المسلمين لكي يستلهموا من سيرة الرّسول العظيم إبراهيم (عليه السلام) فيما يتعلّق بموقفه من أقرب الأقربين إليه (أبيه آزر) بلحاظ ما يمليه عليه الموقف المبدئي، كما تذكر بعض الخصوصيات الأخرى في هذا المجال ويتكرّر هذا المعنى في نهاية السورة، كما في بدايتها. القسم الثاني: يتناول هذا القسم مسائل المرأة المهاجرة وضرورة تمحيصها، كما يبيّن أحكاماً أخرى في هذا الصدد.

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالجهاد وعسكر، وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، إن محمدا قد عسكر، وما أراه ألا يريدكم فخذوا حذركم وأرسل بالكتاب مع سارة مولاة أبى عمرو بن صيفي بن هاشم وكانت قد جاءت من مكة إلى المدينة فأعطاها حاطب بن أبي بلتعة عشرة دنانير على أن تبلغ كتابه أهل مكة وجاء جبريل، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الكتاب، وأمر حاطب فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، عليه السلام، والزبير بن العوام، وقال لهما: إن أعطتكما الكتاب غفوا خليا سبيلها، وإن أبت فاضربا عنقها، فسارا حتى أدركا بالجحفة وسألاها عن الكتاب فحلفت، ما معها كتاب، وقالت: لأنا إلى خيركم أفقر مني إلى ذلك، فتبحثاها، فلم يجدا معها شيئا، فقال الزبير لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهما أرجع بنا، فإنا لا نرى معها شيئا...

فقال علي: والله لأضربن عنقها، والله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، فقال الزبير: صدقت اضرب عنقها، فسل علي سيفه، فلما عرفت الجد منهما أخذت عليهما المواثيق، لئن أعطيتكما الكتاب لا تقتلاني، ولا تسبياني، ولا ترداني إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ولتخليان سبيلي فأعطياها المواثيق، فاستخرجت الصحيفة من ذؤابتها ودفعتها فخليا سبيلها وأقبلا بالصحيفة فوضعاها في يدي رسول الله فقرأها، فأرسل إلى حاطب بن أبي بلتعة، فقال له: أتعرف هذا الكتاب؟ قال: نعم، قال: فما حملك على أن تنذر بنا عدونا؟...

قال حاطب: اعف عني عفا الله عنك، فوالذي أنزل عليك الكتاب ما كفرت منذ أسلمت ولا كذبتك منذ صدقتك، ولا أبغضتك منذ أحببتك، ولا واليتهم منذ هاديتهم، وقد علمت أن كتابي لا ينفعهم ولا يضرك فاعذرني، جعلني الله فداك فإنه ليس من أصحابك أحد إلا وله بمكة من يمنع ماله وعشيرته غيري وكنت حليفا وليس من أنفس القوم، وكان حلفائي قد هاجروا كلهم، وكنت كثير المال والضيعة بمكة فخفت المشركين على مالي فكتبت إليهم لأتوسل بها وأتخذها عندهم مودة لأدفع عن مالي، وقد علمت أن الله منزل بهم خزيه ونقمته وليس كتابي يغني عنهم شيئا، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد صدق فيما قال، فأنزل الله تعالى عظة للمؤمنين أن يعودوا لمثل صنيع حاطب بن أبي بلتعة، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} يعني الصحيفة...، {وقد كفروا بما جاءكم من الحق} يعني القرآن، {يخرجون الرسول} من مكة {وإياكم} قد أخرجوا من دياركم يعني من مكة {أن تؤمنوا} يعني بأن آمنتم {بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي} فلا تلقوا إليهم بالمودة، {تسرون إليهم بالمودة} يعني بالصحيفة فيها النصيحة، {وأنا أعلم بما أخفيتم} يعني بما أسررتم في أنفسكم من المودة والولاية، {وما أعلنتم} لهم من الولاية، {ومن يفعله منكم} يعني ومن يسر بالمودة إلى الكفار {فقد ضل سواء السبيل} يقول فقد أخطأ قصد طريق الهدى...

تفسير الشافعي 204 هـ :

قال الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد، عن عبيد الله بن أبي رافع قال: سمعت عليا يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والمقداد والزبير فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب. فخرجنا تعادي بنا خيلنا، فإذا نحن بالظعينة فقلنا لها: أخرجي الكتاب فقالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتخرجنَّ الكتاب أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين ممن بمكة. يخبر ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما هذا يا حاطب؟» قال: لا تعجل علي يا رسول الله إني كنت امرءا مُلْصَقًا في قريش، ولم أكن من أنفسها. وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها قراباتهم، ولم يكن لي بمكة قرابة، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا، والله ما فعلته شكا في ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنه قد صدق» فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله عز وجل قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» قال: فنزلت: {يَاأَيُّهَا اَلذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمُ أَوْلِيَاء}.

قال الشافعي رحمه الله تعالى: في هذا الحديث مع ما وصفنا لك طرح الحكم باستعمال الظنون، لأنه لما كان الكتاب يحتمل أن يكون ما قال حاطب كما قال: من أنه لم يفعله شكا في الإسلام وأنه فعله ليمنع أهله، ويحتمل أن يكون زلة لا رغبة عن الإسلام، واحتمل المعنى الأقبح كان القول قوله في ما احتمل فعله.

وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بأن لم يقتله، ولم يستعمل عليه الأغلب، ولا أحد أتى في مثل هذا أعظم في الظاهر من هذا، لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مباين في عظمته لجميع الآدميين بعده.

فإذا كان من خابر المشركين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غرتهم فصدقه ما عاب عليه الأغلب مما يقع في النفوس، فيكون لذلك مقبولا، كان من بعده في أقل من حاله وأولى أن يقبل منه مثل ما قبل منه.

قيل للشافعي: أفرأيت إن قال قائل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « قد صدق» إنما تركه لمعرفته بصدقه لا بأن فعله كان يحتمل الصدق وغيره. فيقال له: قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المنافقين كاذبون، وحقن دماءهم بالظاهر، فلو كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم في حاطب بالعلم بصدقه كان حكمه على المنافقين القتل بالعلم بكذبهم، ولكنه إنما حكم في كل بالظاهر، وتولى الله عز وجل منهم السرائر، ولئلا يكون لحاكم بعده أن يدع حكما له مثل ما وصفت من علل أهل الجاهلية. وكل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عام حتى يأتي عنه دلالة على أنه أراد به خاصا، أو عن جماعة المسلمين الذين لا يمكن فيهم أن يجهلوا له سنة، أو يكون ذلك موجودا في كتاب الله عز وجل. (الأم: 4/249-250. ون أحكام الشافعي: 2/46-49.)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي "من المشركين "وَعَدُوّكُمْ أوْلياءَ" يعني أنصارا.

وقوله: {تُلْقُونَ إلَيْهمْ بالمَوَدّة} يقول جلّ ثناؤه: تلقون إليهم مودّتكم إياه...

{وقد كَفَرُوا بِمَا جاءَكُمْ مِنَ الحَقّ} يقول: وقد كفر هؤلاء المشركون الذين نهيتكم أن تتخذوهم أولياء بما جاءكم من عند الله من الحقّ، وذلك كفرهم بالله ورسوله وكتابه الذي أنزله على رسوله.

وقوله: {يَخْرِجُونَ الرّسُولَ وَإيّاكُمْ أنْ تُؤمِنُوا باللّهِ رَبّكُمْ} يقول جلّ ثناؤه: يخرجون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإياكم، بمعنى: ويخرجونكم أيضا من دياركم وأرضكم، وذلك إخراج مشركي قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة.

وقوله: {أن تُؤمِنُوا باللّهِ رَبّكُمْ} يقول جلّ ثناؤه: يخرجون الرسول وإياكم من دياركم، لأن آمنتم بالله.

وقوله: {إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهادا فِي سَبِيلي وَابْتِغاءَ مَرْضَاتِي} من المؤخر الذي معناه التقديم، ووجه الكلام: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة وقد كفروا بما جاءكم من الحقّ إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي، وابتغاء مرضاتي يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم. ويعني بقوله تعالى ذكره: {إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهادا فِي سَبِيلي}: إن كنتم خرجتم من دياركم، فهاجرتم منها إلى مهاجرَكم للجهاد في طريقي الذي شرعته لكم، وديني الذي أمرتكم به والتماس مرضاتي.

وقوله: {تُسِرّونَ إلَيْهِمْ بالمَوَدّةَ} يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: تسرّون أيها المؤمنون بالمودّة إلى المشركين بالله، {وأنا أعْلَمُ بِمَا أخْفَيْتُمْ} يقول: وأنا أعلم منكم بما أخفى بعضكم من بعض، فأسره منه {وَما أعْلَنْتُمْ} يقول: وأعلم أيضا منكم ما أعلنه بعضكم لبعض، {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَاء السّبيلِ} يقول جلّ ثناؤه: ومن يسرّ منكم إلى المشركين بالمودّة أيها المؤمنون فقد ضلّ: يقول: فقد جار عن قصد السبيل التي جعلها الله طريقا إلى الجنة ومحجة إليها.

وذُكر أن هذه الآيات من أوّل هذه السورة نزلت في شأن حاطب بن أبي بَلتعة...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا دلالة واضحة أن الإيمان ذو حد في نفسه، وهو التصديق في القلب، وغيره من الطاعات في شرائعه، والله أعلم. {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} وهذا مخرجه في الظاهر على العموم، ولكنه لما قال: {تلقون إليهم بالمودة} ومعلوم أن الذي كان يلقي بالمودة خاص لا كل المؤمنين، فكان يجب أن يكون مجراها على الخصوص لما بين إليهم في سياق هذه الآية. ولكن الحكمة توجب تعميم هذه الآية وكذلك قوله: {وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم} خرج مخرج العموم في الظاهر، ولكن الذين أخرجوه إنما كانوا أهل مكة خاصة دون سائر الكفرة.وفي هذه الآية دلالة رسالته صلى الله عليه وسلم وذلك أن قوله {تسرون إليهم بالمودة} أن ذلك الرجل، لم يطلع على سره أحدا، وقد أطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم حين أخبرهم بالكتاب، فثبت أن علمه بالوحي، والله اعلم.ثم في ما نهانا أن نتخذ عدونا وعدوه أولياء دلالة أن ليس في الحكمة اتخاذ الولاية مع الأعداء. وقوله تعالى: {تلقون إليهم بالمودة} أي بما كتب في الكتاب...

"إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي" ذلك في من هاجر من مكة إلى المدينة لأن حاطبا، إنما كان هاجر من مكة إلى المدينة، وفيه نزلت الآية وقوله تعالى: {تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم} أي هو {أعلم بما أخفيتم} من كتبة الكتاب إلى أهل مكة {وما أعلنتم} بما أظهرتم من العذر. وقوله تعالى: {ومن يفعله منكم} أي من اتخاذ الولاية مع أعدائه، {فقد ضل سواء السبيل} في الاعتقاد، أي من اعتقد ذلك، وفي الفعل أي لم يعتقده، والله اعلم. ثم قوله عز وجل {تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم} التزام مراقبة الله تعالى في السر والعلانية وتحذير منه ليجمعوا بين السر والعلانية، وتخويف لهم من أن يطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرائرهم كما أطلعه على أمر الكتاب إلى أهل مكة. ثم في الآية أعظم شيء في زجرهم ونهيهم عن المعاصي، وذلك أنه لما أطلعه على جميع ما يتعاطونه من الذنوب سرا وعلانية فإذا علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم من سرهم ما يعلم من علانيتهم بما يطلعه الله عليه يحملهم ذلك على الانتهاء عن المعاصي في السر والعلانية، وعلى الإجابة إلى ما يدعوهم إليه، والله أعلم.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

وفي قوله تعالى: {تسرون إليهم بالمودة} وجهان:

أحدهما: تعلمونهم سراً أن بينكم وبينهم مودة.

الثاني: تعلمونهم سراً بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم بمودة بينكم وبينهم...

جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :

شهد الله لحاطب بن أبي بلتعة بالإيمان في قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

وأصلُ الإيمانِ الموالاةُ والمعاداةُ في الله، ومَنْ جَنَحَ إلى الخارجين عن دائرة الإسلام انحاز إلى جانبهم.

أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :

فيه دلالة على أن خوف الجائحة على المال والولد لا يبيح التقية في دين الله تعالى، وأن العذر الذي أبرزه حاطب بن أبي بلتعة لا أثر له. ويحتمل أن يقال إن ذلك لم يكن إكراماً، وإنما كان تودداً إليهم، لما كان يأمل من نفع من جهتهم...

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

السورة أصل في النهي عن مولاة الكفار.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{يا أيها الذين آمنوا} منادياً بأداة البعد وإن كان من نزلت بسببه من أهل القرب، ومعبراً بالماضي إقامة لمن والى الكفار نوع موالاة في ذلك المحل إلهاباً له وتهييجاً إلى الترفع عنه لئلا يقدح في خصوصيته ويحط من عليّ رتبته مع اللطف به بالتسمية له بالإيمان حيث شهد سبحانه على من فعل نحو فعله مع بني النضير بالنفاق وأحله محل أهل الشقاق، فحكم على القلوب في الموضعين فقال هناك: {الذين نافقوا} كما قال هنا: {الذين آمنوا}. ولما كان قد تقدم في المجادلة النهي الشديد عن إظهار مطلق الموادة للكفار، وفي الحشر الزجر العظيم عن إبطان ذلك فتكفلت السورتان بالمنع من مصاحبة ودهم ظاهراً أو باطناً، بكت هنا من اتصف بالإيمان وقرعه ووبخه على السعي في موادتهم والتكلف لتحصيلها، فإن ذلك قادح في اعتقاد تفرده سبحانه بالعزة والحكمة، فعبر لذلك بصيغة الافتعال فقال بعد التبكيت بالنداء بأداة البعد والتعبير بأدنى أسنان الإيمان: {لا تتخذوا} وزاد في ذلك المعنى من وجهين: التعبير بما منه العداوة تجرئة عليهم وتنفيراً منهم والتوحيد لما يطلق على الجمع لئلا يظن أن المنهي عنه المجموع بقيد الاجتماع والإشارة إلى أنهم في العداوة على قلب واحد، فأهل الحق أولى بأن يكونوا كذلك في الولاية فقال: {عدوي} أي وأنتم تدعون موالاتي ومن المشهور أن مصادق العدو أدنى مصادقة لا يكون ولياً...

. {وعدوكم} أي العريق في عداوتكم ما دمتم على مخالفته في الدين.وأبلغ في الإيقاظ بقوله...

ولما وحد لأجل ما تقدم من الإشارة إلى اتحاد الكلمة، بين أن المراد الجمع فقال: {أولياء} ثم استأنف بيان هذا الاتحاد بقوله مشيراً إلى غاية الإسراع والمبادرة إلى ذلك بالتعبير بقوله: {تلقون} أي جميع ما هو في حوزتكم مما لا تطمعون فيه إلقاء الشيء الثقيل من علو {إليهم} على بعدهم منكم حساً ومعنى {بالمودة} أي بسببها...

. {وقد} أي هو الحال أنهم قد {كفروا} أي غطوا جميع ما لكم من الأدلة {بما} أي بسبب ما {جاءكم من الحق} أي الأمر الثابت الكامل في الثبات الذي لا شيء أعظم ثباتاً منه،...

. {يخرجون الرسول} أي الكامل في الرسلية الذي يجب على كل أحد عداوة من عاداه أدنى عداوة ولو كان أقرب الناس فكيف إذا كان عدواً...

{وإياكم} أي من دياركم من مكة المشرفة...

{أن} أي أخرجوكم من أوطانكم لأجل أن {تؤمنوا} أي توقعوا حقيقة الإيمان مع التجديد والاستمرار...

. {بالله} أي الذي اختص بجميع صفات الكمال...

{ربكم} ولما ألهبهم على مباينتهم لهم بما فعلوا معهم وانقضى ما أريد من التنبيه بسياق الغيبة عاد إلى التكلم لأنه أشد تحبباً وأعظم استعطافاً وأدل على الرضا فألهبهم بما كان من جانبهم من ذلك الفعل أن لا يضيعوه، فقال معلماً إن ولايته سبحانه لا تصح إلا بالإيمان، ولا يثبت الإيمان إلا بدلائله من الأعمال، ولا تصح الأعمال إلا بالإخلاص، ولا يكون الإخلاص إلا بمباينة الأعداء: {إن كنتم} أي كوناً راسخاً حين أخرجوكم من أوطانكم لأجل إيمانكم بي، {خرجتم} أي منها وهي أحب البلاد إليكم {جهاداً} أي لأجل الجهاد {في سبيلي} أي بسبب إرادتكم تسهيل طريقي التي شرعتها لعبادي أن يسلكوها {وابتغاء مرضاتي} أي ولأجل تطلبكم بأعظم الرغبة لرضاي ولكل فعل يكون موضعاً له، وجواب هذا الشرط محذوف لدلالة {لا تتخذوا} عليه. ولما فرغ من بيان حال العدو وشرط إخلاص الولي، وكان التقدير: فلا تتخذوهم أولياء، بنى عليه قوله مبيناً {تلقون} إعلاماً بأن الإسرار إلى أحد بما فيه نفعه لا يكون إلا تودداً: {تسرون} أي توجدون إسرار جميع ما يدل على مناصحتهم والتودد إليهم، وأشار إلى بعدهم عنهم بقوله: {إليهم} إبلاغاً في التوبيخ بالإشارة إلى أنهم يتجشمون في ذلك مستفتين إبلاغ الأخبار التي يريد النبي صلى الله عليه وسلم وهو المؤيد بالوحي كتمها عنهم على وجه الإسرار خوف الافتضاح والإبلاغ إلى المكان البعيد {بالمودة} أي بسببها أو بسبب الإعلام بأخبار يراد بها أو يلزم منها المودة...

{وأنا} أي والحال أني {أعلم} أي من كل أحد من نفس الفاعل {بما أخفيتم} أي من ذلك {وما أعلنتم} فأيّ فائدة لإسراركم إن كنتم تعلمون أني عالم به، وإن كنتم تتوهمون أني لا أعلمه فهي القاصمة...

{ومن يفعله} أي يوجد الاتخاذ سراً أو علناً أو يوجد الإسرار بالمودة فالإعلان أولى في وقت من الأوقات ماض أو حال أو استقبال...

{فقد ضل} أي عمي ومال وأخطأ {سواء السبيل} أي قويم الطريق الواسع الموسع إلى القصد قويمه وعدله...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

تبدأ السورة بذلك النداء الودود الموحي: يا أيها الذين آمنوا.. نداء من ربهم الذي آمنوا به...

ويحذرهم حبائل أعدائهم، ويذكرهم بالمهمة الملقاة على عاتقهم. (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة).. فيشعر المؤمنين بأنهم منه وإليه. يعاديهم من يعاديه. فهم رجاله المنتسبون إليه الذين يحملون شارته في هذه الأرض، وهم أوداؤه وأحباؤه. فلا يجوز أن يلقوا بالمودة إلى أعدائهم وأعدائه...

. (وقد كفروا بما جاءكم من الحق. يخرجون الرسول وإياكم. أن تؤمنوا بالله ربكم).. فماذا أبقوا بعد هذه الجرائر الظالمة للموالاة والمودة؟ كفروا بالحق. وأخرجوا الرسول والمؤمنين...

وإذا تمحضت القضية هكذا وبرزت، ذكرهم بأنه لا محل إذن للمودة بينهم وبين المشركين إن كانوا قد خرجوا من ديارهم ابتغاء رضوان الله وجهادا في سبيله: (إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي..) فما يجتمع في قلب واحد أن يهاجر جهادا في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، مع مودة لمن أخرجه من أجل إيمانه بالله، وهو عدو الله وعدو رسول الله! ثم يحذرهم تحذيرا خفيا مما تكن قلوبهم، وما يسرون به إلى أعدائهم وأعداء الله من المودة، وهو مطلع على خفية القلوب وعلانيتها: (تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم). ثم يهددهم تهديدا مخيفا، يثير في القلب المؤمن الوجل والمخافة: (ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل).. وهل يخيف المؤمن شيء ما يخيفه أن يضل سواء السبيل بعد الهداية والوصول؟! وهذا التهديد وذلك التحذير يتوسطان تبصير المؤمنين بحقيقة أعدائهم وما يضمرون لهم من الشر والكيد.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وقد وجه الخطاب بالنهي إلى جميع المؤمنين تحذيراً من إتيان مثل فعل حاطب. والعدوّ: ذو العداوة والمراد العداوة في الدين فإن المؤمنين لم يبدؤوهم بالعداوة وإنما أبدى المشركون عداوة المؤمنين انتصاراً لشركهم فعدُّوا من خرجوا عن الشرك أعداء لهم. وقد كان مشركو العرب متفاوتين في مناوأة المسلمين فإن خزاعة كانوا مشركين وكانوا موالين النبي. فمعنى إضافة عدوّ إلى ياء التكلم على تقدير: عدوّ ديني، أو رسولي. والاتخاذ: افتعال من الأخذ صيغ الافتعال للمبالغة في الأخذ المجازي فأطلق على التلبس والملازمة. والإِلقاء حقيقته رمي ما في اليد على الأرض. واستعير لإيقاع الشيء بدون تدبر في موقعه، أي تصرفون إليهم مودتكم بغير تأمل. والباء في {بالمودة} لتأكيد اتصال الفعل بمفعوله. وأصل الكلام: تلقون إليهم المودة، كقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195] وقوله: {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6] وذلك تصوير لقوة مودتهم لهم. وزيد في تصوير هذه الحالة بجملة الحال التي بعدها وهي {وقد كفروا بما جاءكم من الحق} « وما جاءكم من الحق» هو القرآن والدين فذكر بطريق الموصولية ليشمل كل ما أتاهم به الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه الإِيجاز مع ما في الصلة من الإِيذان بتشنيع كفرهم بأنه كفر بما ليس من شأنه أن يكفر به طلاب الهدي فإن الحق محبوب مرغوب.وتعدية جاء إلى ضمير المخاطبين وهم الذين آمنوا لأنهم الذين انتفعوا بذلك الحق وتقبلوه فكأنه جاء إليهم لا إلى غيرهم وإلاّ فإنه جاء لدعوة الذين آمنوا والمشركين فقبله الذين آمنوا ونبذه المشركون. وفيه إيماء إلى أن كفر الكافرين به ناشئ عن حسدهم الذين آمنوا قبلهم. وفي ذلك أيضاً إلهاب لقلوب المؤمنين ليحذروا من موالاة المشركين. وجملة {يخرجون الرسول وإياكم} حال من ضمير {كفروا}، أي لم يكتفوا بكفرهم بما جاء من الحق فتلبسوا معه بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم وإخراجكم من بلدكم لأنْ تؤمنوا بالله ربكم، أي هو اعتداء حملهم عليه أنكم آمنتم بالله ربكم. وأن ذلك لا عذر لهم فيه لأن إيمانكم لا يضيرهم...

{وقد كفروا} كان إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في تلك الحالة عملاً فظيعاً، فأريد استحضار صورة ذلك الإِخراج العظيم فظاعة اعتلالهم له. والإِخراج أريد به: الحمل على الخروج بإتيان أسباب الخروج من تضييق على المسلمين وأذى لهم. وأسند الإِخراج إلى ضمير العدوّ كلهم لأن جميعهم كانوا راضين بما يصدر من بعضهم من أذى المسلمين. وربما أغْرَوا به سفهاءهم، ولذلك فالإِخراج مجاز في أسبابه، وإسناده إلى المشركين إسناد حقيقي. وهذه الصفات بمجموعها لا تنطبق إلا على المشركين من أهل مكة ومجموعها هو علة النهي عن موادتهم. وجيء بصيغة المضارع في قوله تعالى: {أن تؤمنوا}، لإِفادة استمرار إيمان المؤمنين وفيه إيماء إلى الثناء على المؤمنين بثباتهم على دينهم، وأنهم لم يصدهم عنه ما سبَّب لهم الخروج من بلادهم. وقوله: {إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي} والخبر مستعمل في التوبيخ والتعجيب، فالتوبيخ مستفاد من إيقاع الخبر عقب النهي المتقدم، والتعجيب مستفاد من تعقيبه بجملة {وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم}، أي كيف تظنون أن إسراركم إليهم يخفى علينا ولا نطلع عليه رسولنا. {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أعلنتم}. والمعنى: لا يقع منكم اتخاذ عدوي وعدوكم أولياء ومودّتهم، مع أنهم كفروا بما جاءكم من الحق، وأخرجوكم لأجل إيمانكم. إن كنتم خرجتم من بلادكم جهاداً في سبيلي وابتغاءَ مرضاتي، فكيف تُوالون من أخرجوكم وكان إخراجهم إياكم لأجلي وأنا ربكم. و {سواء السبيل} مستعار لأعمال الصلاح والهُدَى لشبهها بالطريق المستوي الذي يَبلُغ من سلكه إلى بغيته ويقع من انحرف عنه في هلكة. والمراد به هنا ضلّ عن الإِسلام وضلّ عن الرشد.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

عبارات الآيات واضحة. وقد تضمنت:

(1) نداء للمؤمنين فيه نهي عن اتخاذ الكفار أولياء ونصراء وعن فعل ما فيه مودة ومحبة وفائدة لهم، وتعليلا لهذا النهي: فهم أعداء الله تعالى وأعداؤهم، كفروا بما جاءهم من عند الله من الحق وآذوهم، وآذوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واضطروهم إلى الخروج من وطنهم بدون ذنب بسبب إيمانهم بالله وحده.

(2) وتنبيها لهم بأن فعل ما فيه مودة للكفار وبخاصة بصورة سرية متناقض مع الإخلاص في الإيمان إذا كانوا حقا مخلصين فيه، وإذا كانوا حقا قد هاجروا من وطنهم ابتغاء وجه الله وجهادا في سبيله.

(3) وإنذارا بأن الله يعلم ما يخفون وما يعلنون، وبأن من يواد الكفار منهم يكون قد ضل عن سبيل الحق وانحراف عن واجب الإخلاص.

(4) وتذكيرا لهم بشدة حقد الكفار عليهم: فهم لو لقوهم وظفروا بهم لعاملوهم معاملة الأعداء الألداء، ولبسطوا إليهم أيديهم وألسنتهم بالشر والأذى. وإنهم ليودون أن يكفروا بعد إيمانهم.

(5) وتقريرا بأنه لن تكون أية فائدة ونفع للأرحام والأولاد يوم القيامة، وبأن الله تعالى سوف يفصل بينهم فيه حسب أعمالهم، وهو البصير الرقيب على كل ما يفعلونه.

(6) وضرب مثلا لهم بموقف إبراهيم والذين آمنوا معه من قومهم: فقد أعلنوا جهرا ومواجهة براءتهم من قومهم وما يعبدونه من دون الله. وعالنوهم العداء والبغضاء إلى الأبد ما داموا كفارا، مقررين إيمانهم بالله وحده وإسلام النفس إليه واعتمادهم عليه، معترفين بأنه هو مرجعهم. طالبين منه المعونة، ملتمسين منه أن لا يجعلهم موضع فتنة الكفار وأذاهم، وأن يغفر لهم هفواتهم وذنوبهم. وفي هذا الأسوة الحسنة للمؤمنين المخلصين حقا الذين يرجون رضاء الله وحسن العاقبة في اليوم الآخر. أما الذين ينحرفون عنه فهم وشأنهم والله غني عنهم حميد للمخلصين الصادقين...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{يا أيّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} هذا هو النداء الأول الذي يخاطب المؤمنين من خلال عنوان الإيمان...

. {لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} لأن مسألة العداوة تختزن في داخلها الحقد في الشعور والرغبة في التدبير، والتخطيط للهلاك والعمل على إرباك الوضع كله من حولكم، فليس من الطبيعي أن توالي عدوك وتمحضه المودة...

وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ} فليس هناك أيَّة قاعدةٍ فكريةٍ وروحيةٍ وعمليةٍ تربطهم بكم، فمن أين جاء أساس المودة التي لا بد من أن ترتكز على التوافق في الفكر والموقف {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} في ما يمثّله ذلك من موقفٍ عدواني عنيفٍ...

{أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} فذلك هو سر المشكلة المعقدة فيما بينكم وبينهم، فكيف تغفلون عن ذلك وتستهينون به، في الوقت الذي لا يتناسب فيه موقفكم الموالي لهم مع خطّ الجهاد الذي ينطلق على أساس مواجهة كل القوى المعادية بالرفض القويّ الذي يعمل على كسر شوكة العدو، وتدمير مواقعه ومواقفه، فلا تسيروا في هذا الاتجاه المنحرف، {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً في سَبِيلِي} من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله {وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي} بالعمل على ما يرضاه الله في مواقع طاعته...

{وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ} فإذا كنتم تستخفون من الناس فكيف تستخفون من الله الذي يعلم السر والعلانية، {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} لأن السبيل السويّ يفرض على الإنسان أن تكون حركته في خط إيمانه، وأن يكون موقفه في مصلحة قضيته، وأن يكون سره وعلانيته في الحق سواء، وبذلك يكون الموقف الذي اتخذتموه منحرفاً عن خط الاستقامة.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

علمنا ممّا تقدّم أنّ سبب نزول الآيات السابقة هو التصرّف المشين الذي صدر من أحد المسلمين (حاطب بن أبي بلتعة) ورغم أنّه لم يكن قاصداً التجسّس إلاّ أنّ عمله نوع من إظهار المودّة لأعداء الإسلام، فجاءت الآيات الكريمة تحذّر المسلمين من تكرار مثل هذه التصرّفات مستقبلا وتنهاهم عنها. يقول سبحانه في البداية: {يا أيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء} مؤكّداً أنّ أعداء الله وحدهم هم الذين يضمرون العداء للمؤمنين والحقد عليهم، ومع هذا التصوّر فكيف تمدّون يد الصداقة والودّ لهم؟. ويضيف تعالى: {تلقون إليهم بالمودّة وقد كفروا بما جاءكم من الحقّ يخرجون الرّسول وإيّاكم أن تؤمنوا بالله ربّكم}. إنّهم يخالفونكم في العقيدة، كما أنّهم شنّوا عليكم الحرب عمليّاً، ويعتبرون إيمانكم بالله الذي هو أكبر فخر لكم وأعظم قداسة تجلّلكم غاية الجرم وأعظم الذنب، ولهذا السبب قاموا بإخراجكم من دياركم وشتّتوكم من بلادكم.. ومع هذه الأعمال التي مارسوها معكم، هل من المناسب إظهار المودّة لهم، والسعي لإنقاذهم من يد العدالة والجزاء الإلهي على يد المقاتلين المسلمين المقتدرين؟. ثمّ يضيف القرآن الكريم موضّحاً: {إن كنتم خرجتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي} فلا تعقدوا معهم أواصر الولاء والودّ. فإذا كنتم ممّن تدّعون حبّ الله حقّاً، وهاجرتم من دياركم لأجله سبحانه وترغبون في الجهاد في سبيله طلباً لرضاه تعالى، فإنّ هذه الأهداف العظيمة لا يناسبها إظهار الولاء لأعداء الله سبحانه. ثمّ يضيف عزّ وجلّ للمزيد من الإيضاح فيقول: {تسرّون إليهم بالمودّة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم}. وبناءً على هذا فما عسى أن يغني الإخفاء وهو واقع بعلم الله في الغيب والشهود؟. وفي نهاية الآية نجد تهديداً شديداً لمن يجانب السبيل الذي أمر به الله سبحانه بقوله: {ومن يفعله منكم فقد ضلّ سواء السبيل}. فمن جهة انحرف عن معرفة الله تعالى بظنّه أنّ الله لا يعلم ولا يرى ما يصنع، وكذلك انحرف عن طريق الإيمان والإخلاص والتقوى، حينما يعقد الولاء وتقام أواصر المودّة مع أعداء الله، وبالإضافة إلى ذلك فانّه وجّه ضربة قاصمة إلى حياته حينما أفشى أسرار المسلمين إلى الأعداء، ويمثّل ذلك أقبح الأعمال وأسوأ الممارسات حينما يسقط الشخص المؤمن بهذا الوحل ويقوم بمثل هذه الأعمال المنحرفة بعد بلوغه مرتبة الإيمان والقداسة.