154- ثم أسبغ الله عليكم من بعد الغم نعمة أمن ، وكان مظهرها نعاساً يغشى فريق الصادقين في إيمانهم وتفويضهم لله ، أما الطائفة الأخرى فقد كان همهم أنفسهم لا يعنون إلا بها ، ولذلك ظنوا بالله الظنون الباطلة كظن الجاهلية ، يقولون مستنكرين : هل كان لنا من أمر النصر الذي وعدنا به شيء ؟ قل - أيها النبي : - الأمر كله في النصر والهزيمة لله ، يصرف الأمر في عباده إن اتخذوا أسباب النصر ، أو وقعوا في أسباب الهزيمة . وهم إذ يقولون ذلك يخفون في أنفسهم أمراً لا يبدونه . إذ يقولون في أنفسهم : لو كان لنا اختيار لم نخرج فلم نغلب . قل لهم : لو كنتم في منازلكم وفيكم من كتب عليهم القتل لخرجوا إلى مصارعهم فقتلوا . وقد فعل الله ما فعل في أُحد لمصالح جمة ، ليختبر ما في سرائركم من الإخلاص وليطهر قلوبكم ، والله يعلم ما في قلوبكم من الخفايا علماً بليغاً .
ولقد أعقب هول الهزيمة وذعرها ، وهرجها ومرجها ، سكون عجيب . سكون في نفوس المؤمنين الذين ثابوا إلى ربهم ، وثابوا إلى نبيهم . لقد شملهم نعاس لطيف يستسلمون إليه مطمئنين !
والتعبير عن هذه الظاهرة العجيبة يشف ويرق وينعم ، حتى ليصور بجرسه وظله ذلك الجو المطمئن الوديع :
( ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم ) . .
وهي ظاهرة عجيبة تشي برحمة الله التي تحف بعباده المؤمنين ؛ فالنعاس حين يلم بالمجهدين المرهقين المفزعين ، ولو لحظة واحدة ، يفعل في كيانهم فعل السحر ، ويردهم خلقا جديدا ، ويسكب في قلوبهم الطمأنينة ، كما يسكب في كيانهم الراحة . بطريقة مجهولة الكنه والكيف ! أقول هذا وقد جربته في لحظة كرب وشدة . فأحسست فيه رحمة الله الندية العميقة بصورة تعجز عن وصفها العبارة البشرية القاصرة !
روى الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد ابن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال : " رفعت رأسي يوم أحد ، وجعلت أنظر ، وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت جحفته من النعاس " .
وفي رواية أخرى عن أبي طلحة : " غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه " . .
أما الطائفة الأخرى ؛ فهم ذوو الإيمان المزعزع ، الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم ، والذين لم يتخلصوا من تصورات الجاهلية ، ولم يسلموا أنفسهم كلها لله خالصة ، ولم يستسلموا بكليتهم لقدره ، ولم تطمئن قلوبهم إلى أن ما أصابهم إنما هو ابتلاء للتمحيص ، وليس تخليا من الله عن أوليائه لأعدائه ، ولا قضاء منه - سبحانه - للكفر والشر والباطل بالغلبة الأخيرة والنصر الكامل :
( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية . يقولون : هل لنا من الأمر من شيء ؟ ) . .
أن هذه العقيدة تعلم أصحابها - فيما تعلم - أن ليس لهم في أنفسهم شيء ، فهم كلهم لله ؛ وأنهم حين يخرجون للجهاد في سبيله يخرجون له ، ويتحركون له ، ويقاتلون له ، بلا هدف آخر لذواتهم في هذا الجهاد ، وأنهم يسلمون أنفسهم لقدره ، فيتلقون ما يأتيهم به هذا القدر في رضى وفي تسليم ، كائنا هذا القدر ما يكون .
فأما الذين تهمهم أنفسهم ، وتصبح محور تفكيرهم وتقديرهم ، ومحور اهتمامهم وانشغالهم . . فهؤلاء لم تكتمل في نفوسهم حقيقة الإيمان . ومن هؤلاء كانت تلك الطائفة الأخرى التي يتحدث عنها القرآن في هذا الموضع . طائفة الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم ، فهم في قلق وفي أرجحة ، يحسون أنهم مضيعون في أمر غير واضح في تصورهم ، ويرون أنهم دفعوا إلى المعركة دفعا ولا إرادة لهم فيها ؛ وهم مع ذلك يتعرضون للبلاء المرير ، ويؤدون الثمن فادحا من القتل والقرح والألم . . وهم لا يعرفون الله على حقيقته ، فهم يظنون بالله غير الحق ، كما تظن الجاهلية . ومن الظن غير الحق بالله أن يتصوروا أنه - سبحانه - مضيعهم في هذه المعركة ، التي ليس لهم من أمرها شيء ، وإنما دفعوا إليها دفعا ليموتوا ويجرحوا ، والله لا ينصرهم ولا ينقذهم ؛ إنما يدعهم فريسة لأعدائهم ، ويتساءلون :
( هل لنا من الأمر من شيء ؟ ) .
وتتضمن قولتهم هذه الاعتراض على خطة القيادة والمعركة . . ولعلهم ممن كان رأيهم عدم الخروج من المدينة ؛ ممن لم يرجعوا مع عبد الله بن أبي . . ولكن قلوبهم لم تكن قد استقرت واطمأنت . .
وقبل أن يكمل السياق عرض وساوسهم وظنونهم ، يبادر بتصحيح الأمر وتقرير الحقيقة فيما يتساءلون فيه ، ويرد على قولتهم : ( هل لنا من الأمر من شيء ؟ ) .
فلا أمر لأحد . لا لهم ولا لغيرهم . ومن قبل قال الله لنبيه [ ص ] ( ليس لك من الأمر شيء ) . فأمر هذا الدين ، والجهاد لإقامته وتقرير نظامه في الأرض ، وهداية القلوب له . . كلها من أمر الله ، وليس للبشر فيها من شيء ، إلا أن يؤدوا واجبهم ، ويفوا ببيعتهم ، ثم يكون ما يشاؤه الله كيف يكون !
ويكشف كذلك خبيئة نفوسهم قبل أن يكمل عرض وساوسهم وظنونهم :
( يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك ) . .
فنفوسهم ملأى بالوساوس والهواجس ، حافلة بالاعتراضات والاحتجاجات ؛ وسؤالهم : ( هل لنا من الأمر من شيء ) . . يخفي وراءه شعورهم بأنهم دفعوا إلى مصير لم يختاروه ! وأنهم ضحية سوء القيادة ، وأنهم لو كانوا هم الذين يديرون المعركة ما لاقوا هذا المصير .
( يقولون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ) . .
وهو الهاجس الذي يجيش في النفوس التي لم تخلص للعقيدة ، حينما تصطدم في موقعة بالهزيمة ، وحينما تعاني آلام الهزيمة ! حين ترى الثمن أفدح مما كانت تظن ؛ وأن الثمرة أشد مرارة مما كانت تتوقع ؛ وحين تفتش في ضمائرها فلا ترى الأمر واضحا ولا مستقرا ؛ وحين تتخيل أن تصرف القيادة هو الذي القى بها في هذه المهلكة ، وكانت في نجوة من الأمر لو كان أمرها في يدها ! وهي لا يمكن - بهذا الغبش في التصور - أن ترى يد الله وراء الأحداث ، ولا حكمته في الابتلاء . إنما المسألة كلها - في اعتبارها - خسارة في خسارة ! وضياع في ضياع !
هنا يجيئهم التصحيح العميق للأمر كله . لأمر الحياة والموت . ولأمر الحكمة الكامنة وراء الابتلاء :
( قل : لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . وليبتلي الله ما في صدوركم ، وليمحص ما في قلوبكم ، والله عليم بذات الصدور )
قل لو كنتم في بيوتكم ؛ ولم تخرجوا للمعركة تلبية لنداء القيادة ، وكان أمركم كله لتقديركم . . لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . . إن هنالك أجلا مكتوبا لا يستقدم ولا يستأخر . وإن هنالك مضجعا مقسوما لا بد أن يجيء إليه صاحبه فيضجع فيه ! فإذا حم الأجل ، سعى صاحبه بقدميه إليه ، وجاء إلى مضجعه برجليه ، لا يسوقه أحد إلى أجله المرسوم ، ولا يدفعه أحد إلى مضجعه المقسوم !
ويا للتعبير العجيب . . " إلى مضاجعهم " . . فهو مضجع إذن ذلك الرمس الذي تستريح فيه الجنوب ، وتسكن فيه الخطى ، وينتهي إليه الضاربون في الأرض . . مضجع يأتون إليه بدافع خفي لا يدركونه ولا يملكونه ، إنما هو يدركهم ويملكهم ؛ ويتصرف في أمرهم كما يشاء . والاستسلام له أروح للقلب ، وأهدأ للنفس ، وأريح للضمير !
( وليبتلي الله ما في صدوركم ، وليمحص ما في قلوبكم ) . .
فليس كالمحنة محك يكشف ما في الصدور ، ويصهر ما في القلوب ، فينفي عنها الزيف والرياء ، ويكشفها على حقيقتها بلا طلاء . . فهو الابتلاء والاختبار لما في الصدور ، ليظهر على حقيقته ، وهو التطهير والتصفية للقلوب ، فلا يبقى فيها دخل ولا زيف . وهو التصحيح والتجلية للتصور ؛ فلا يبقى فيه غبش ولا خلل :
وذات الصدور هي الأسرار الخفية الملازمة للصدور ، المختبئة فيها ، المصاحبة لها ، التي لا تبارحها ولا تتكشف في النور ! والله عليم بذات الصدور هذه . ولكنه - سبحانه - يريد أن يكشفها للناس ، ويكشفها لأصحابها أنفسهم ، فقد لا يعلمونها من أنفسهم ، حتى تنفضها الأحداث وتكشفها لهم !
يقول تعالى مُمْتَنا على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمَنَة ، وهو النعاس الذي غشيهم وهم مسْتَلْئمو السلاح في حال هَمِّهم وغَمِّهم ، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان{[5947]} كما قال تعالى في سورة الأنفال ، في قصة بدر : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [ وَيُنزلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ ] {[5948]} } [ الأنفال : 11 ] .
وقال [ الإمام ]{[5949]} أبو محمد عبد الرحمن ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو نعيم وكيع{[5950]} عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله بن مسعود قال : النعاس في القتال من الله ، وفي الصلاة من الشيطان .
قال البخاري : قال{[5951]} لي خليفة : حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، عن أبي طلحة ، رضي الله عنه ، قال : كنت فيمن تَغَشاه{[5952]} النعاس يوم أحُد ، حتى سقط سيفي من يدي مرارا ، يسقط وآخذه ، ويسقط وآخذه .
هكذا رواه في المغازي معلقا . ورواه في كتاب التفسير مُسْنَدًا عن شيبان ، عن قتادة ، عن أنس ، عن أبي طلحة قال : غَشينا النعاس ونحن في مَصَافنا يوم أحد . قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه .
وقد رواه الترمذي والنسائي والحاكم ، من حديث حَمَّاد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، عن أبي طلحة قال : رفعت رأسي يوم أحُد ، وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميد{[5953]} تحت جَحَفَتِه من النعاس . لفظ الترمذي ، وقال : حسن صحيح .
ورواه النسائي أيضا ، عن محمد بن المثنى ، عن خالد بن الحارث ، عن أبي قتيبة ، عن ابن أبي عدي ، كلاهما عن حميد ، عن أنس قال : قال أبو طلحة : كنت فيمن ألقي عليه النعاس - الحديث{[5954]} .
وهكذا رُوي عن الزبير وعبد الرحمن بن عوف ، رضي الله عنه{[5955]} .
وقال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو الحسين محمد بن يعقوب ، أخبرنا محمد بن إسحاق الثقفي ، حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخزومي ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا شيبان ، عن قتادة ، حدثنا أنس بن مالك ؛ أن أبا طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحُد ، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ، قال : والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هَمٌّ إلا أنفسهُم ، أجبن قوم وأرعنه ، وأخْذَله للحق { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } كَذَبَةَ ، أهل{[5956]} شك وريب في الله ، عز وجل{[5957]} .
هكذا رواه بهذه الزيادة ، وكأنها من كلام قتادة ، رحمه الله ، وهو كما قال ؛ فإن الله عز وجل يقول : { ثُمَّ أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ } يعني : أهل الإيمان واليقين والثبات{[5958]} والتوكل الصادق ، وهم الجازمون بأن الله سينصر رسوله ويُنْجِز له مأموله ، ولهذا قال : { وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } يعني : لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } كما قال في الآية الأخرى : { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا [ وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ]{[5959]} } [ الفتح : 12 ] وهكذا هؤلاء ، اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنَّها الفيصلة{[5960]} وأن الإسلام قد باد وأهلُه ، هذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة ، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة .
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم { يَقُولُونَ } في تلك الحال : { هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ } قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ } ثم فَسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله : { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } أي : يسرون {[5961]} هذه المقالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال [ محمد ]{[5962]} بن إسحاق بن يسار : فحدثني يحيى بن عباد{[5963]} بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير قال : قال الزبير : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا ، أرسل الله علينا النوم ، فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره ، قال : فوالله إني لأسمع قول مُعْتَب بن قُشَير ، ما أسمعه إلا كالحلم ، [ يقول ]{[5964]} { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } فحفظتها منه ، وفي ذلك أنزل الله [ تعالى ]{[5965]} { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } لقول مُعتَب . رواه ابن أبي حاتم .
قال الله تعالى : { قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } أي : هذا قدر مقدر من الله عز وجل ، وحكم حَتْم لا يحاد{[5966]} عنه ، ولا مناص منه .
وقوله : { وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي : يختبركم بما جرى عليكم ، وليميز الخبيثَ من الطيب ، ويظهر أمْرَ المؤمن والمنافق للناس في الأقوال والأفعال ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بما يختلج{[5967]} في الصدور من السرائر والضمائر .
{ ثُمّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نّعَاساً يَغْشَىَ طَآئِفَةً مّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ يَقُولُونَ هَل لّنَا مِنَ الأمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنّ الأمْرَ كُلّهُ للّهِ يُخْفُونَ فِيَ أَنْفُسِهِم مّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىَ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ }
يعني بذلك جل ثناؤه : ثم أنزل الله أيها المؤمنون من بعد الغمّ الذي أثابكم ربكم بعد غمّ تقدمه قبله أمنة ، وهي الأمان على أهل الإخلاص منكم واليقين ، دون أهل النفاق والشك . ثم بين جلّ ثناؤه عن الأمنة التي أنزلها عليهم ما هي ؟ فقال : نعاسا ، بنصب النعاس على الإبدال من الأمنة .
ثم اختلفت القراء في قراءة قوله : { يَغْشَى } فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والمدينة والبصرة وبعض الكوفيين بالتذكير بالياء : { يَغْشَى } . وقرأ جماعة من قراء الكوفيين بالتأنيث : { تَغْشَى } بالتاء . وذهب الذين قرءوا ذلك بالتذكير إلى أن النعاس هو الذي يغشى الطائفة من المؤمنين دون الأمنة ، فذكره بتذكير النعاس . وذهب الذين قرءوا ذلك بالتأنيث إلى أن الأمنة هي التي تغشاهم ، فأنثوه لتأنيث الأمنة .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراء الأمصار غير مختلفتين في معنى ولا غيره ، لأن الأمنة في هذا الموضع هي النعاس ، والنعاس : هو الأمنة . وسواء ذلك ، وبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب الحقّ في قراءته ، وكذلك جميع ما في القرآن من نظائره من نحو قوله : { إنّ شَجَرَةَ الزّقُومِ طعَامُ الأثِيمِ كالمُهْلِ تَغْلي في البُطُونِ } و { ألَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ منّي تُمْنَى } { وَهُزّي إلَيْكِ بِجذْعِ النّخْلَةِ تُسَاقِطْ } .
فإن قال قائل : وما كان السبب الذي من أجله افترقت الطائفتان اللتان ذكرهما الله عزّ وجلّ فيما افترقتا فيه من صفتهما ، فآمنت إحداهما بنفسها حتى نعست ، وأهمت الأخرى نفسها حتى ظنت بالله غير الحقّ ظنّ الجاهلية ؟ قيل : كان سبب ذلك فيما ذكر لنا ، كما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أن المشركين انصرفوا يوم أُحُد بعد الذي كان من أمرهم وأمر المسلمين ، فواعدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم بدرا من قابل ، فقال لهم : «نعم » فتخوّف المسلمون أن ينزلوا المدينة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً ، فقال : «انْظُر فإنْ رأيتهم قَعدُوا على أثْقَالهم وجَنَبُوا خُيُولَهُمْ ، فإنّ القَوْمَ ذَاهِبُونَ ، وإنْ رأيْتُهمْ قد قعدوا على خيولهم وجَنَبُوا على أثقالهم ، فإنّ القَوْم يَنْزِلُونَ المَدِينَةَ ، فاتّقُوا الله واصْبِرُوا ! » ووطنهم على القتال¹ فلما أبصرهم الرسول تعدوا على الأثقال سراعا عجالاً ، نادى بأعلى صوته بذهابهم¹ فلما رأى المؤمنون ذلك صدّقوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فناموا ، وبقي أناس من المنافقين يظنون أن القوم يأتونهم ، فقال الله جلّ وعزّ يذكر حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم إن كانوا ركبوا الأثقال فإنهم منطلقون فناموا : { ثُمّ أنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمّ أمنَةً نُعاسا يَغْشَى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ويَظُنّونَ باللّهِ غيرِ الحَقّ ظَنّ الجاهِلِيّة } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : أمنهم يومئذ بنعاس غشاهم ، وإنما ينعس من يأمن¹ { يَغْشَى طائِفَةً مِنْكُمْ وطَائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أنْفُسُهُم يَظُنّونَ باللّهِ غير ظَنّ الجاهِلِيّةِ } .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن حميد ، عن أنس بن مالك ، عن أبي طلحة ، قال : كنت فيمن أنزل عليه النعاس يوم أُحد أمنة ، حتى سقط من يدي مرارا .
قال أبو جعفر : يعني : سوطه ، أو سيفه .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، عن أبي طلحة ، قال : رفعت رأسي يوم أُحد ، فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلا تحت حجفته يميد من النعاس .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عمران ، عن قتادة ، عن أنس ، عن أبي طلحة قال : كنت فيمن صبّ عليه النعاس يوم أُحد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : حدثنا أنس بن مالك ، عن أبي طلحة : أنه كان يومئذٍ ممن غشيه النعاس ، قال : كان السيف يسقط من يدي ثم آخذه من النعاس .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ذكر لنا والله أعلم عن أنس أن أبا طلحة حدثهم أنه كان يومئذٍ ممن غشيه النعاس ، قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ويسقط ، والطائفة الأخرى : المنافقون ، ليس لهم همة إلا أنفسهم { يَظُنونَ باللّهِ غيرَ الحَقّ ظَنّ الجاهِلِيّةِ } . . . الاَية كلها .
حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي ، قال : حدثنا ضرار بن صرد ، قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن محمد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة ، عن أبيه قال : سألت عبد الرحمن بن عوف عن قول الله عزّ وجلّ : { ثُمّ أنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمّ أمَنَةً نُعاسا } قال : ألقي علينا النوم يوم أُحد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ثُمّ أنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمّ أمَنَةً نُعاسا } . . . الاَية ، وذاكم يوم أُحد ، كانوا يومئذٍ فريقين¹ فأما المؤمنون فغشاهم الله النعاس أمنة منه ورحمة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، نحوه .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { أمَنَةً نُعاسا } قال : ألقي عليهم النعاس ، فكان ذلك أمنة لهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، قال : قال عبد الله : النعاس في القتال أمنة ، والنعاس في الصلاة من الشيطان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { ثُمّ أنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمّ أمَنَةً نُعاسا } قال : أنزل النعاس أمنة منه على أهل اليقين به ، فهم نيام لا يخافون .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { أمَنَةً نُعاسا } قال : ألقى الله عليهم النعاس ، فكان أمنة لهم . وذكر أن أبا طلحة قال : ألقي عليّ النعاس يومئذٍ ، فكنت أنعس حتى يسقط سيفي من يدي .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا إسحاق بن إدريس ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرنا ثابت ، عن أنس بن مالك ، عن أبي طلحة ، وهشام بن عروة بن الزبير أنهما قالا : لقد رفعنا رءوسنا يوم أُحد ، فجعلنا ننظر ، فما منهم من أحد إلا وهو يميل بجنب حجفته قال : وتلا هذه الاَية : { ثُمّ أنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمّ أمَنَةً نُعاسا } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَطائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أنْفُسُهُمْ يَظُنّونَ باللّهِ غيرَ الحَقّ ظَن الجاهِلِيّة } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وطائفة منكم أيها المؤمنون قد أهمتهم أنفسهم ، يقول : هم المنافقون لا همّ لهم غير أنفسهم ، فهم من حذر القتل على أنفسهم ، وخوف المنية عليها في شغل ، قد طار عن أعينهم الكرى ، يظنون بالله الظنون الكاذبة ، ظنّ الجاهلية من أهل الشرك بالله ، شكا في أمر الله ، وتكذيبا لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وَمَحْسَبَةً منهم أن الله خاذل نبيه ، ومعل عليه أهل الكفر به ، يقولون : هل لنا من الأمر شيء . كالذي :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : والطائفة الأخرى : المنافقون ، ليس لهم همّ إلا أنفسهم ، أجبن قوم وأرعبه ، وأخذله للحقّ ، يظنون بالله غير الحقّ ظنونا كاذبة ، إنما هم أهل شكّ وريبة في أمر الله ، يقولون : { لَوْ كانَ لنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هَهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبرزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ القَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِم } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : والطائفة الأخرى : المنافقون ليس لهم همة إلا أنفسهم ، يظنون بالله غير الحقّ ظنّ الجاهلية ، يقولون : { لَوْ كانَ لنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هَهُنا } قال الله عزّ وجلّ : { قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ } . . . الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَطائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أنْفُسُهُمْ } قال : أهل النفاق قد أهمتهم أنفسهم تخوّف القتل ، وذلك أنهم لا يرجون عاقبة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَطائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أنْفسُهُمْ } إلى آخر الاَية ، قال : هؤلاء المنافقون .
وأما قوله : { ظَنّ الجاهِلِيّةِ } فإنه يعني أهل الشرك . كالذي :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { ظَنّ الجاهِلِيّة } قال : ظنّ أهل الشرك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { ظَنّ الجاهِلِيّة } قال : ظنّ أهل الشرك .
وفي رفع قوله : { وَطائِفَةٌ } وجهان : أحدهما أن تكون مرفوعة بالعائد من ذكرها في قوله : { قَدْ أهَمّتْهُمْ } ، والاَخر بقوله : { يَظُنّونَ باللّهِ غيرَ الحَقّ } ولو كانت منصوبة كان جائزا ، وكانت الواو في قوله : { وَطائفَةٌ } ظرفا للفعل ، بمعنى : وأهمت طائفة أنفسهم ، كما قال : { وَالسّماءَ بَنَيْناها بأيْدٍ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَقُولُونَ هَلْ لنَا مِنَ الأمْرِ مِن شَيّءٍ قُلْ إنّ الأمْرَ كُلّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ في أنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ ، يَقُولُونَ لَوْ كانَ لنَا مِنَ الأمْرِ شَيّءٌ ما قُتِلْنَا هَهُنا } :
يعني بذلك : الطائفة المنافقة التي قد أهمتهم أنفسهم ، يقولون : ليس لنا من الأمر من شيء ، قل إن الأمر كله لله ، ولو كان لنا من الأمر شيء ما خرجنا لقتال من قاتلنا فقتلونا . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قيل لعبد الله بن أبيّ : قتل بنو الخزرج اليوم ! قال : وهل لنا من الأمر من شيء ؟ قل إن الأمر كله لله .
وهذا أمر مبتدأ من الله عزّ وجلّ ، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المنافقين إن الأمر كله لله ، يصرفه كيف يشاء ويدبره كيف يحبّ ، ثم عاد إلى الخبر عن ذكر نفاق المنافقين ، فقال : { يُخْفُونَ في أنْفُسِهُمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ } يقول : يخفي يا محمد هؤلاء المنافقون الذين وصفت لك صفتهم في أنفسهم من الكفر والشكّ في الله ما لا يبدون لك ، ثم أظهر نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانوا يخفونه بينهم من نفاقهم ، والحسرة التي أصابتهم على حضورهم مع المسلمين مشهدهم بأحد ، فقال مخبرا عن قيلهم الكفر ، وإعلانهم النفاق بينهم ، يقولون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا ، يعني بذلك أن هؤلاء المنافقين يقولون : لو كان الخروج إلى حرب من خرجنا لحربه من المشركين إلينا ، ما خرجنا إليهم ، ولا قتل منا أحد في الموضع الذي قُتلوا فيه بأُحد . وذكر أن ممن قال هذا القول معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف . ذكر الخبر بذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق : ثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير ، عن الزبير ، قال : والله إني لأسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف ، والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا .
حدثني سعيد بن يحيى بن الأموي ، قال : ثني أبي ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، بمثله .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق : { قُلْ إنّ الأمْرَ كُلّهُ } بنصب الكلّ على وجه النعت للأمر والصفة له . وقرأه بعض قراء أهل البصرة : { قُلْ إنّ الأمْرُ كُلّهُ لِلّهِ } برفع الكلّ على توجيه الكلّ إلى أنه اسم ، وقوله «لله » خبره ، كقول القائل : إن الأمر بعضه لعبد الله . وقد يجوز أن يكون الكلّ في قراءة من قرأه بالنصب منصوبا على البدل . والقراءة التي هي القراءة عندنا النصب في الكلّ لإجماع أكثر القراء عليه ، من غير أن تكون القراءة الأخرى خطأ في معنى أو عربية . ولو كانت القراءة بالرفع في ذلك مستفيضة في القراء ، لكانت سواء عندي القراءة بأيّ ذلك قرىء لاتفاق معاني ذلك بأي وجهيه قرىء .
{ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ ما فِي صُدُورِكُمُ وَلِيُمَحّصَ ما فِي قُلُوبِكُمُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } :
يعني بذلك جلّ ثناؤه : قل يا محمد للذين وصفت لك صفتهم من المنافقين : لو كنتم في بيوتكم لم تشهدوا مع المؤمنين مشهدهم ، ولم تحضروا معهم حرب أعدائهم من المشركين ، فيظهر للمؤمنين ما كنتم تخفونه من نفاقكم ، وتكتمونه من شرككم في دينكم ، لبرز الذين كتب عليهم القتل ، يقول : لظهر للموضع الذي كتب عليه مصرعه فيه من قد كتب عليه القتل منهم ، ويخرج من بيته إليه ، حتى يصرع في الموضع الذي كتب عليه أن يصرع فيه .
وأما قوله : { وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ } : فإنه يعني به : وليبتلي الله ما في صدوركم أيها المنافقون كنتم تبرزون من بيوتكم إلى مضاجعكم . ويعني بقوله : { وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ ما فِي صُدُورِكُم } : وليختبر الله الذي في صدوركم من الشكّ ، فيميزكم بما يظهره للمؤمنين من نفاقكم من المؤمنين .
وقد دللنا فيما مضى على أن معاني نظائر قوله : { لِيَبْتَلَيَ اللّهُ } { ولِيَعْلَمَ اللّهُ } وما أشبه ذلك ، وإن كان في ظاهر الكلام مضافا إلى الله الوصف به ، فمراد به أولياؤه وأهل طاعته¹ وأن معنى ذلك : وليختبر أولياء الله ، وأهل طاعته ، الذي في صدوركم من الشكّ والمرض ، فيعرفوكم من أهل الإخلاص واليقين . { ولِيُمَحّصَ ما في قُلُوبِكُمْ } يقول : وليتبينوا ما في قلوبكم من الاعتقاد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من العداوة أو الولاية . { وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } يقول : والله ذو علم بالذي في صدور خلقه من خير وشرّ وإيمان وكفر ، لا يخفى عليه شيء من أمورهم ، سرائرها وعلانيتها ، وهو لجميع ذلك حافظ ، حتى يجازي جميعم جزاءهم على قدر استحقاقهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن إسحاق يقول .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة . عن ابن إسحاق ، قال : ذكر الله تلاومهم ، يعني : تلاوم المنافقين وحسرتهم على ما أصابهم . ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لو كنتم في بيوتكم لم تحضروا هذا الموضع الذي أظهر الله جلّ ثناؤه فيه منكم ما أظهر من سرائركم ، لأخرج الذي كتب عليهم القتل إلى موطن غيره يصرعون فيه ، حتى يبتلي به ما في صدوركم¹ وليمحص ما في قلوبكم ، والله عليم بذات الصدور ، أي لا يخفي عليه شيء مما في صدورهم مما استخفوا به منكم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا الحرث بن مسلم ، عن بحر السقاء ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن ، قال : سئل عن قوله : { قُلْ لَوْ كَنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَليْهمْ القَتْلُ إلى مَضَاجِعَهُمْ } قال : كتب الله على المؤمنين أن يقاتلوا في سبيله ، وليس كل من يقاتل يقتل ، ولكن يقتل من كتب الله عليه القتل .
{ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا سغشى طائفة منكم }
الضمير في قوله : { ثم أنزل } ضمير اسم الجلالة ، وهو يرجّح كون الضمير { أثابكم } مثله لئلا يكون هذا رجوعاً إلى سياق الضمائر المتقدّمة من قوله : { ولقد صدقكم الله وعده } والمعنى ثمّ أغشاكم بالنعاس بعد الهزيمة . وسمّي الأغشاء إنزالاً لأنّه لمّا كان نعاساً مقدّراً من الله لحكمة خاصّة ، كان كالنازل من العوالم المشرّفة كما يقال : نزلت السكينة .
والأمَنةُ بفتح الميم الأمن ، والنعاس : النوم الخفيف أو أوّل النَّوم ، وهو يزيل التعب ولا يغيّب صاحبه ، فلذلك كان أمنة إذ لو ناموا نوماً ثقيلاً لأخذوا ، قال أبو طلحة الأنصاري ، والزبير ، وأنس بن مالك : غشينا نعاس حتَّى أنّ السيف ليسقط من يد أحدنا . وقد استجدّوا بذلك نشاطهم ، ونسوا حزنهم ، لأنّ الحزن تبتدىء خفّته بعد أوّل نومة تعفيه ، كما هو مشاهد في أحزان الموت وغيرها . و ( نعاساً ) بَدل على ( أمنة ) بدل مطابق .
وكان مقتضى الظاهر أن يقدّم النعاس ويؤخّر أمنة : لأنّ أمنة بمنزلة الصفة أو المفعول لأجله فحقّه التقديم على المفعول كما جاء في آية [ الأنفال : 11 ] : { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } ولكنّه قدّم الأمنة هنا تشريفاً لشأنها لأنَّها جعلت كالمنزل من الله لنصرهم ، فهو كالسكينة ، فناسب أن يجعل هو مفعول أنزل ، ويجعل النعاس بدلاً منه .
وقرأ الجمهور : يَغشى بالتحتية على أنّ الضّمير عائد إلى نعاس ، وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف بالفوقية بإعادة الضّمير إلى أمَنة ، ولذلك وصفها بقوله : { منكم } .
{ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَىْءٍ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هاهنا } .
لمّا ذكر حال طائفة المؤمنين ، تخلّص منه لذكر حال طائفة المنافقين ، كما علم من المقابلة ، ومن قوله : { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } ، ومِن ترك وصفها بمنكم كما وصف الأولى .
{ وطائفة } مبتدأ وصف بجملة { قد أهمتهم أنفسهم } . وخبره جملة { يظنون بالله غير الحق } والجملة من قوله : { وطائفة قد أهمتهم } إلى قوله : { والله عليم بذات الصدور } اعتراض بين جملة { ثم أنزل عليكم } الآية . وجملة { إن الذين تولوا منكم } [ آل عمران : 155 ] الآية .
ومعنى { أهمتهم أنفسهم } أي حَدّثتهم أنفسهم بما يدخل عليهم الهَمّ وذلك بعدم رضاهم بقدر الله ، وبشدّة تلّهفهم على ما أصابهم وتحسّرهم على ما فاتهم مِمّا يظّنونه منجياً لهم لو عملوه : أي من الندم على ما فات ، وإذ كانوا كذلك كانت نفوسهم في اضطراب وتحرّق يمنعهم من الاطمئنان ومن المنام ، وهذا كقوله الآتي : { ليجعل اللَّه ذلك حسرة في قلوبهم } [ آل عمران : 156 ] . وقيل معنى { أهمّتهم } أدخلت عليهم الهَمّ بالكفر والارتداد ، وكان رأسُ هذه الطائفة معتّب بن قشير .
وجملة { يظنون بالله غير الحق } إمَّا استئناف بياني نشأ عن قوله : { قد أهمتهم أنفسهم } وإمَّا حال من ( طائفة ) . ومعنى { يظنون بالله غير الحق } أنَّهم ذهبت بهم هواجسهم إلى أن ظنوا بالله ظنوناً باطلة من أوهام الجاهلية . وفي هذا تعريض بأنَّهم لم يزالوا على جاهليتهم لم يخلصوا الدين لله ، وقد بيّن بعض ما لهم الظنّ بقوله : { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } وهل للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي ، بقرينة زيادة ( من ) قبل النكرة ، وهي من خصائص النفي ، وهو تبرئة لأنفسهم من أن يكونوا سبباً في مقابلة العدوّ . حتَّى نشأ عنه ما نشأ ، وتعريض بأنّ الخروج للقتال يوم أحُدُ خطأ وغرور ، ويظنّون أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم ليس برسول إذ لو كان لكان مؤيّداً بالنصر .
والقول في { هل لنا من الأمر من شيء } كالقول في { ليس لك من الأمر شيء } [ آل عمران : 128 ] المتقدّم آنفاً . والمراد بالأمر هنا شأن الخروج إلى القتال ، والأمر بمعنى السيادة الذي منه الإمارة ، ومنه أولو الأمر .
وجملة { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } بدل اشتمال من جملة { يظنّون } لأنّ ظنّ الجاهلية يشتمل على معنى هذا القول . ومعنى { لو كان لنا من الأمر شيء } أي من شأن الخروج إلى القتال ، أو من أمر تدبير النَّاس شيء ، أي رأي ما قتلنا ههنا ، أي ما قتل قومنا . وليس المراد انتفاء القتل مع الخروج إلى القتال في أحُدُ ، بل المراد انتفاء الخروج إلى أحُدُ الَّذي كان سبباً في قتل من قُتل ، كما تدلّ عليه قرينة الإشارة بقوله : ( ههنا ) ، فالكلام كناية . وهذا القول قاله عبد الله بن أُبَي ابن سلول لمّا أخبروه بمن استشهد من الخزرج يومئذ ، وهذا تنصّل من أسباب الحرب وتعريض بالنَّبيء ومن أشار بالخروج من المؤمنين الَّذين رغبوا في إحدى الحسنيين .
وإنَّما كان هذا الظنّ غيرَ الحقّ لأنَّه تخليط في معرفة صفات الله وصفات رسوله وما يجوز وما يستحيل ، فإنّ لله أمراً وهدياً وله قدَر وتيسير ، وكذلك لرسوله الدعوة والتشريع وبذل الجهد في تأييد الدّين وهو في ذلك معصوم ، وليس معصوماً من جريان الأسباب الدنيوية عليه ، ومن أن يكون الحرب بينه وبين عدوّه سجالاً ، قال أبو سفيان لهرقل وقد سأله : كيف كان قتالكم له ؟ فقال أبو سفيان : ينال منّا وننال منه ، فقال هرقل : وكذلك الإيمان حتَّى يتمّ . فظنّهم ذلك ليس بحقّ .
وقد بيّن الله تعالى أنَّه ظنّ الجاهلية الَّذين لم يعرفوا الإيمان أصلاً فهؤلاء المتظاهرون بالإيمان لم يدخل الإيمان في قلوبهم فبقيت معارفهم كما هي من عهد الجاهلية ، والجاهلية صفة جرت على موصوف محذوف يقدّر بالفئة أو الجماعة ، وربما أريد به حالة الجاهلية في قولهم أهل الجاهلية ، وقوله تعالى : { تبرّج الجاهلية الأولى } ، والظاهر أنَّه نسبة إلى الجاهل أي الَّذي لا يعلم الدين والتَّوحيد ، فإنّ العرب أطلقت الجهل على ما قابل الحلم ، قال ابن الرومي :
بجهل كجهل السيف والسيف منتضى *** وحلم كحلم السيف والسيف مغمد
وأطلقت الجهل على عدم العلم قال السموأل :
وأحسب أن لفظ الجاهلية من مبتكرات القرآن ، وصف به أهل الشرك تنفيراً من الجهل ، وترغيباً في العلم ، ولذلك يذكره القرآن في مقامات الذمّ في نحو قوله : { أفحكم الجاهلية يبغون } [ المائدة : 50 ] { ولاَ تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الجاهليّة الأولى } [ الأحزاب : 33 ] { إذ جعل الَّذين كفروا في قلوبهم الحَمِيَّة حَمِيَّة الجَاهلية } [ الفتح : 26 ] . وقال ابن عبَّاس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا كأساً دِهاقاً ، وفي حديث حكيم بن حِزام : أنَّه سأل النَّبيء صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يتحنّث بها في الجاهلية من صدقة وعتاقة وصلة رحم . وقالوا : شعر الجاهلية ، وأيَّامُ الجاهلية . ولم يسمع ذلك كُلّه إلاّ بعد نزول القرآن وفي كلام المسلمين .
وقوله : { غير الحق } منتصب على أنَّه مفعول { يظنّون } كأنَّه قيل الباطلَ . وانتصب قوله : { ظن الجاهلية } على المصدر المبيّن للنوع إذ كلّ أحد يعرف عقائد الجاهلية إن كان متلبِّساً بها أو تاركاً بها .
وجملة { يخفون } حال من الضّمير في { يقولون } أي يقولون ذلك في حال نيّتهم غيرَ ظَاهِرِه ، ف { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } إعلان بنفاقهم ، وأنّ قولهم : { هل لنا من الأمر من شيء } وقولهم : { لو كان من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } هو وإن كان ظاهره صورة العتاب عن ترك مشورتهم فنِيَّتهم منه تخطئة النَّبيء في خروجه بالمسلمين إلى أُحُد ، وأنَّهم أسدّ رأياً منه .
وجملة { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء } بدل اشتمال من جملة { يخفون في أنفسهم } إذ كانوا قد قالوا ذلك فيما بينهم ولم يظهروه ، أو هي بيان لجملة { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } إذا أظهروا قولهم للمسلمين ، فترجع الجملة إلى معنى بدل الاشتمال من جملة { يظنّون } لأنها لما بينت جملة هي بدل فهي أيضا كالتي بينتها ، وهذا أظهر لأجل قوله بعدَه : { قل لو كنتم في بيوتكم } فإنَّه يقتضي أنّ تلك القالة فشت وبلغت الرسولَ ، ولا يحسن كون جملة { يقولون لو كان } إلى آخره مستأنفة خلافا لما في « الكشاف » .
وهذه المقالة صدرت من مُعَتِّب بن قُشير قال الزبير بن العوّام : غشيني النُّعاس فسمعت معتّب بن قشير يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا . فحكى القرآن مقالته كما قالها ، وأسندت إلى جميعهم لأنَّهم سمعوها ورضوا بها .
وجملة { قل إن الأمر كله لله } ردّ عليهم هذا العذر الباطل أي أنّ الله ورسوله غير محتاجين إلى أمركم . والجملة معترضة . وقرأ الجمهور : كلَّه بالنصب تأكيداً لاسم إنّ ، وقرأه أبو عمرو ، ويعقوب بالرفع على نيّة الابتداء .
{ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ } .
لقن الله رسوله الجواب عن قولهم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا . والجواب إبطال لقولهم ، وتعليم للمؤمنين لدفع ما عسى أن يقع في نفوسهم من الريب ، إذا سمعوا كلام المنافقين ، أو هو جواب للمنافقين ويحصل به علم للمؤمنين . وفُصلت الجملة جرياً على حكاية المقاولة كما قرّرنا غير مرّة . وهذا الجواب جار على الحقيقة وهي جريان الأشياء على قَدر من الله والتسليمِ لذلك بعد استفراغ الجهد في مصادفة المأمول ، فليس هذا الجواب ونظائره بمقتض ترك الأسباب ، لأنّ قدر الله تعالى وقضاءه غير معلومَين لنا إلاّ بعد الوقوع ، فنحن مأمورون بالسعي فيما عساه أن يكون كاشفاً عن مصادفة قدر الله لمأمولنا ، فإن استفرغنا جهودنا وحُرمنا المأمول ، علمنا أنّ قدر الله جرى من قبل على خلاف مرادنا . فأمَّا ترك الأسباب فليس من شأننا ، وهو مخالف لما أراد الله منّا ، وإعراض عمّا أقامنا الله فيه في هذا العالم وهو تحريف لمعنى القدَر . والمعنى : لو لم تكونوا ههنا وكنتم في بيوتكم لخرج الَّذين كتب الله عليهم أن يموتوا مقتولين فقتلوا في مضاجعهم الَّتي اضطجعوا فيها يوم أُحُد أي مصارعهم فالمراد بقوله : { كتب } قدّر ، ومعنى { برز } خرج إلى البراز وهو الأرض .
وقرأ الجمهور باء ( بيوتكم ) بالكسر . وقرأه أبو عمرو ، وورش عن نافع ، وحفص ، وأبو جعفر بالضم .
والمضاجع جمع مضجع بفتح الميم وفتح الجيم وهو محلّ الضجوع ، والضجوع : وضع الجنب بالأرض للراحة والنَّوم ، وفعله من باب منع ومصدره القياسي الضجْع ، وأمَّا الضجوع فغير قياسي ، ثمّ غلب إطلاق المضجع على مكان النَّوم قال تعالى : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } [ السجدة : 16 ] وفي حديث أمّ زرع : « مَضْجَعه كمَسلّ شَطْبَة » فحقيقة الضجوع هو وضع الجنب للنَّوم والراحة وأطلق هنا على مصارع القتلى على سبيل الاستعارة ، وحسّنها أنّ الشهداء أحياء ، فهو استعارة أو مشاكلة تقديرية لأنّ قولهم ، ما قُتلنا ههنا يتضمَّن معنى أنّ الشهداء كانوا يَبْقون في بيوتهم متمتَّعين بفروشهم .
{ وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .
{ وليبتلي الله ما في صدوركم } عطف على قوله : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } [ آل عمران : 153 ] وما بينهما جمل بعضها عطف على الجملة المعلّلة ، وبعضها معترضة ، فهو خطاب للمؤمنين لا محالة ، وهو علَّة ثانية لقوله : { فأثابكم غما بغم } [ آل عمران : 153 ] .
والصّدُور هنا بمعنى الضّمائر ، والابتلاءُ : الاختبار ، وهو هنا كناية عن أثره ، وهو إظهاره للنَّاس والحجّة على أصحاب تلك الضّمائر بقرينة قوله : { والله عليم بذات الصدور } كما تقدّم في قوله تعالى : { وليعلم اللَّه الذين ءامنوا } [ آل عمران : 140 ] .
والتمحيص تخليص الشيء ممَّا يخالطه ممَّا فيه عيب له فهو كالتزكية . والقلوب هنا بمعنى العقائد ، ومعنى تمحيص ما فيه قلوبهم تطهيرها ممَّا يخامرها من الريب حين سماع شُبه المنافقين الّتي يبثُّونها بينهم .
وأطلق الصدور على الضّمائر لأنّ الصدر في كلام العرب يطلق على الإحساس الباطني ، وفي الحديث : « الإثم ما حاك في الصّدر » وأطلق القلب على الاعتقاد لأنّ القلب في لسان العرب هو ما به يحصّل التفكّر والاعتقاد . وعُدّي إلى الصّدور فعل الابتلاء لأنَّه اختبار الأخلاق والضّمائر : ما فيها من خير وشَرّ ، وليتميّز ما في النفس . وَعُدِّيَ إلى القلوب فعل التمحيص لأنّ الظنون والعقائد محتاجة إلى التمحيص لتكون مصدر كلّ خير .