ويمضي معهم في مناقشة القضية - قضية الوحي - من زاوية أخرى واقعية مشهودة . فماذا ينكرون من أمر الوحي والرسالة ؛ ولم يعجلون بتهمة السحر أو تهمة الافتراء ? وليس في الأمر غريب ولا عجيب :
( قل : ما كنت بدعا من الرسل . وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . إن أتبع إلا ما يوحى إلي . وما أنا إلا نذير مبين ) . .
إنه[ صلى الله عليه وسلم ] ليس أول رسول . فقد سبقته الرسل . وأمره كأمرهم . وما كان بدعا من الرسل . بشر يعلم الله أنه أهل للرسالة فيوحي إليه ، فيصدع بما يؤمر . هذا هو جوهر الرسالة وطبيعتها . . والرسول حين يتصل قلبه لا يسأل ربه دليلا ، ولا يطلب لنفسه اختصاصا إنما يمضي في سبيله ، يبلغ رسالة ربه ، حسبما أوحي بها إليه : ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) . . فهو لا يمضي في رسالته لأنه يعلم الغيب ؛ أو لأنه يطلع على ما يكون من شأنه وشأن قومه وشأن الرسالة التي يبشر بها . إنما هو يمضي وفق الإشارة وحسب التوجيه . واثقا بربه ، مستسلما لإرادته ، مطيعا لتوجيهه ، يضع خطاه حيث قادها الله . والغيب أمامه مجهول ، سره عند ربه . وهو لا يتطلع إلى السر من وراء الستر لأن قلبه مطمئن ، ولأن أدبه مع ربه ينهاه عن التطلع لغير ما فتح له . فهو واقف أبدا عند حدوده وحدود وظيفته : ( وما أنا إلا نذير مبين ) . .
وإنه لأدب الواصلين ، وإنها لطمأنينة العارفين ، يتأسون فيها برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيمضون في دعوتهم لله . لا لأنهم يعرفون مآلها ، أو يعلمون مستقبلها . أو يملكون فيها قليلا أو كثيرا . ولكن لأن هذا واجبهم وكفى . وما يطلبون من ربهم برهانا فبرهانهم في قلوبهم . وما يطلبون لأنفسهم خصوصية فخصوصيتهم أنه اختارهم . وما يتجاوزون الخط الدقيق الذي خطه لهم ، ورسم لهم فيه مواقع أقدامهم على طول الطريق .
وقوله : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ } أي : لست بأول رسول طرق العالم ، بل قد جاءت الرسل من قبلي ، فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا {[26382]} بعثتي إليكم ، فإنه قد أرسل الله قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ } ما أنا بأول رسول . ولم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم غير ذلك .
وقوله : { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية : نزل بعدها { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] . وهكذا قال عكرمة ، والحسن ، وقتادة : إنها منسوخة بقوله : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } ، قالوا : ولما نزلت هذه الآية قال رجل من المسلمين : هذا قد بين الله ما هو فاعل بك يا رسول الله ، فما هو فاعل بنا ؟ فأنزل الله : { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ } [ الفتح : 5 ] .
هكذا قال ، والذي هو ثابت في الصحيح أن المؤمنين قالوا : هنيئا لك يا رسول الله ، فما لنا ؟ فأنزل الله هذه الآية .
وقال الضحاك : { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ } : ما أدري بماذا أومر ، وبماذا أنهى بعد هذا ؟
وقال أبو بكر الهذلِيّ ، عن الحسن البصري في قوله : { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ } قال : أما في الآخرة فمعاذ الله ، قد علم أنه في الجنة ، ولكن قال : لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا ، أخرج كما أخرجت الأنبياء [ من ] {[26383]} قبلي ؟ أم أقتل كما قتلت الأنبياء من قبلي ؟ ولا أدري أيخسف بكم أو تُرمون بالحجارة ؟
وهذا القول هو الذي عَوّل عليه ابن جرير ، وأنه لا يجوز غيره ، ولا شك أن هذا هو اللائق به ، صلوات الله وسلامه عليه ، فإنه بالنسبة إلى الآخرة جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه ، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يئُول إليه أمره وأمر مشركي قريش إلى ماذا : أيؤمنون أم يكفرون ، فيعذبون فيستأصلون بكفرهم{[26384]} ؟ فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن شهاب عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أم العلاء - وهي امرأة من نسائهم - أخبرته - وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - قالت : طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين عثمانُ بن مظعون . فاشتكى عثمان عندنا فَمرَّضناه ، حتى إذا توفي أدْرَجناه في أثوابه ، فدخل علينا رسول الله فقلت : رحمة الله عليك أبا السائب ، شهادتي عليك ، لقد أكرمك الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وما يدريك أن الله أكرمه ؟ " فقلت : لا أدري بأبي أنت وأمي ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما هو فقد جاءه{[26385]} اليقين من ربه ، وإني لأرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ! " قالت : فقلت : والله لا أزكي أحدا بعده أبدا . وأحزنني ذلك ، فنمت فرأيت لعثمان عينا تجري ، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذاك{[26386]} عمله " .
فقد انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم{[26387]} ، وفي لفظ له : " ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به " {[26388]} . وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ ، بدليل قولها : " فأحزنني ذلك " . وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إلا الذي {[26389]} نص الشارع على تعيينهم ، كالعشرة ، وابن سلام ، والغُميصاء ، وبلال ، وسراقة ، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد{[26390]} جابر ، والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة ، وزيد بن حارثة ، وجعفر ، وابن رواحة ، وما أشبه هؤلاء .
وقوله : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ } أي : إنما أتبع ما ينزله الله عليَّ من الوحي ، { وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي : بين النّذَارة ، وأمري {[26391]} ظاهر لكل ذي لب وعقل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.