الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{قُلۡ مَا كُنتُ بِدۡعٗا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدۡرِي مَا يُفۡعَلُ بِي وَلَا بِكُمۡۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ وَمَآ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٞ} (9)

{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ } بديعاً مثل نصف ونصيف ، من الرسل ، لست بأوّل مرسل ، فَلِمَ تنكرون نبوّتي ؟ هل أنا إلاّ كالأنبياء قبلي ؟ وجمع البدع : أبداع ، قال عدي بن زيد :

فلا أنا بدعٌ من حوادث تعتري *** رجالاً عرت من بعد بؤسي وأسعدي

{ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } اختلف العلماء في معنى هذه الآية وحكمها ، فقال بعضهم : معناها وما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة . فلمّا نزلت هذه الآية فرح المشركون فرحاً شديداً ، وقالوا : واللات والعُزّى ما أمرنا وأمر محمّد صلى الله عليه وسلم عند الله إلاّ واحد ، وما له علينا من مزية وفضل ، ولولا إنّه ابتدع ما يقوله من ذات نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به . فأنزل الله تعالى

{ لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] .

فبيّن له أمره ونسخت هذه الآية ، فقالت الصحابة : هنيئاً لك يا نبيّ الله ، قد علمنا ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فأنزل الله تعالى :

{ لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } [ الفتح : 5 ] الآية . وأنزل

{ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً } [ الأحزاب : 47 ] فبيّن الله تعالى ما يفعل به وبهم . وهذا قول أنس وقتادة والحسن وعكرمة .

أخبرني الحسين بن محمّد بن الحسين الدينوري ، حدّثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق السني ، حدّثنا إسماعيل بن داود ، حدّثنا هارون بن سعيد ، حدّثنا ابن وهب ، أخبرني يونس بن يزيد ، " عن أبي شهاب إنّ خارجة بن زيد بن ثابت أخبره أنّ أُمّ العلاء امرأة من الأنصار قد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته أنّهم اقتسموا والمهاجرين سكناهم قُرعة .

قالت : فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه أبياتنا موضعه الّذي توفي فيه ، فلمّا توفي غسّل وكفّن في أثوابه ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لعثمان بن مظعون : رحمة الله عليك أبا السائب ، لقد أكرمك الله ، فقال رسول الله : " وما يدريك إنّ الله تعالى أكرمه " . قالت : فقلت : بأبي أنت وأمي لا أدري . قال : " أما هو فقد جاءه اليقين وما رأينا إلاّ خيراً . فوالله إنّي لأرجو له الجنّة ، فوالله ما أدري وأنا رسول الله ماذا يفعل بي " . قالت : فوالله لا أزكّي بعده أحداً " .

قالوا : وإنّما قال هذا حين لم يخبر بغفران ذنبه ، وإنّما غفر الله له ذنبه في غزوة الحديبية قبل موته بسنتين وشيء ، وقال ابن عبّاس : " لمّا اشتدّ البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رسول الله فيما يرى النائم وهو بمكّة أرضاً ذات سباخ ونخل رُفعت له ، يهاجر إليها .

فقال له أصحابه وهم بمكّة : إلى متى نكون في هذا البلاء الّذي نحن فيه ؟ ومتى نهاجر إلى الأرض التي أُريت . فسكت .

فأنزل الله تعالى : { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } "

أُترك في مكاني أو أخرج إلى الأرض التي رفعت لي ، وقال بعضهم : معناها : ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم ، إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدُّنيا ؟

أنبأني عقيل بن محمّد ، أخبرنا المعافى بن زكريا ، أخبرنا محمّد بن جرير ، أخبرنا ابن حميد ، حدّثنا يحيى بن واضح ، حدّثنا أبو بكر الهذل ، عن الحسن . في قوله تعالى : { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } ، فقال : أمّا في الآخرة فمعاذ الله قد علم إنّه في الجنّة حين أخذ ميثاقه في الرسل ، ولكن قال : { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } في الدُّنيا ، أُخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي ولا أدري ما يفعل بكم ، أُمّتي المكذِّبة أم المصدّقة ، أم أُمّتي المرميّة بالحجارة من السّماء قذفاً أم مخسوف بها خسفاً .

ثمّ أنزل الله تعالى :

{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً } [ الفتح : 28 ] . يقول : سيظهر دينكم على الأديان . ثمّ قال في أُمّته :

{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] فأخبره الله تعالى ما يصنع به وبأُمّته . وهذا قول السدي واليماني ، وقال الضحّاك : { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } أي ما تؤمرون وما تنهون عنه .

{ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }