إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قُلۡ مَا كُنتُ بِدۡعٗا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدۡرِي مَا يُفۡعَلُ بِي وَلَا بِكُمۡۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ وَمَآ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٞ} (9)

{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً منَ الرسل } البدعُ بمعنى البديعِ كالخِلِّ بمعنى الخليلِ وهو ما لا مثلَ له . وقُرِئ بفتحِ الدالِ على أنه صفةٌ كقِيَمٍ وزِيَمٍ ، أو جمعٌ مقدرٌ بمضافٍ أيْ ذَا بِدَعٍ ، وقد جُوِّزَ ذلكَ في القراءةِ الأُولى أيضاً على أنه مصدرٌ . كانُوا يقترحونَ عليهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ آياتٍ عجيبةً ويسألونَهُ عن المُغيباتِ عِناداً ومُكابرةً فأُمَر عليهِ السَّلامُ بأنْ يقولَ لهم ما كنتُ بديعاً من الرسلِ قادراً على ما لم يقدرُوا عليهِ حَتَّى آتيَكُم بكلِّ ما تقترحونَهُ وأخبركم بكلِّ ما تسألونَ عنْهُ من الغيُوبِ فإنَّ مَنْ قبلي من الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ما كانُوا يأتونَ إلا بما آتاهُم الله تعالى من الآياتِ ولا يُخبرونَهم إلا بَما أُوحيَ إليهم { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بي وَلاَ بِكُمْ } أيُ أيُّ شيءٍ يُصيبنَا فيما يُستقبلُ من الزمانِ من أفعالهِ تعالى وماذا يُقدَّرُ لنا من قضاياهُ . وعن الحسنِ رضيَ الله عنْهُ ما أَدري ما يصيرُ إليه أَمري وأمرُكم في الدُّنيا . وعن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا : ما يفعلُ بي ولا بكُم في الآخرةِ وقال : هيَ منسوخةٌ بقولِه تعالى : { ليَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }{[726]} [ سورة الفتح ، الآية 2 ] ، وقيل : يجوزُ أن يكونَ المنفيُّ هي الدرايةَ المفصَّلةَ ، والأظهرُ الأوفقُ لما ذُكِرَ من سببِ النزولِ أنَّ مَا عبارةٌ عمَّا ليسَ علمُه منْ وظائفِ النبوةِ من الحوادثِ والواقعاتِ الدنيويةِ دونَ ما سيقعُ في الآخرةِ فإنَّ العلمَ بذلكَ من وظائفِ النبوةِ ، وقد وردَ به الوحيُ الناطق بتفاصيلِ ما يُفعلُ بالجانبينِ . هذا وقد رُويَ عن الكلبيِّ أنَّ أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالُوا له عليه السَّلامُ وقد ضجِروا من أذيةِ المشركينَ حتَّى متى نكونُ على هَذا فقالَ : " ما أدري ما يُفعلُ بي ولا بكُم أأُتْركُ بمكةَ أم أُومرُ بالخروجِ إلى أرضٍ ذاتِ نخيلٍ وشجرٍ قد رُفعتْ لي ورأيتُها " يعني في منامِه ، وجُوِّزِ أنْ تكونَ ما موصولةً ، والاستفهاميةُ أقضى لحقِّ مقامِ التبرؤِ عن الدرايةِ .

وتكريرُ لا لتذكيرِ النفيِّ المنسحبِ إليهِ وتأكيدِه . وقُرِئ ما يُفعلُ على إسنادِ الفعلِ على ضميرِه تعالَى . { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ } أيْ ما أفعلُ إلا اتباعَ ما يُوحَى إليَّ ، على مَعْنى قصرِ أفعالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على اتباعِ الوَحي لا قصرِ اتباعِه على الوَحي كما هو المتسارعُ إلى الأفهامِ وقد مرَّ تحقيقُه في سورةِ الأنعامِ . وقُرِئ يُوحِي على البناءِ للفاعلِ ، وهو جوابٌ عن اقتراحِهم الأخبارَ عمَّا لم يُوحَ إليه عليه السَّلامُ من الغيوبِ ، وقيلَ : عن استعجالِ المسلمينَ أنْ يتخلصُوا عن أذيةِ المشركينَ والأولُ هو الأوفقُ لقولِه تعالى : { وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ } أُنذركم عقابَ الله تعال حسبمَا يُوحى إليَّ { مُّبِينٌ } بينُ الإنذارِ بالمعجزاتِ الباهرةِ .


[726]:سورة الفتح، الآية (2)، وانظر "ناسخ القرآن ومنسوخه" لابن الجوزي (ص515، 518).