تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{قُلۡ مَا كُنتُ بِدۡعٗا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدۡرِي مَا يُفۡعَلُ بِي وَلَا بِكُمۡۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ وَمَآ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٞ} (9)

المفردات :

بدعا : البدع بالكسر : الشيء المبتدع .

قال الرازي : والبدع والبديع من كل شيء المبدع ، والبدعة ما اخترع مما لم يكن موجودا قبله بحكم السنة .

إن أتبع : ما أتبع .

التفسير :

9- { قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين } .

لقد أرسل الله الرسل قبلي ، وأنزل عليهم الكتب ، واتخذ الله إبراهيم خليلا ، وكلم موسى تكليما ، وبشر عيسى قومه برسالة أحمد صلى الله عليه وسلم ، فرسالتي إليكم ليست بالأمر البديع أو الغريب .

أما الغيب فعلمه عند الله ، وكان المشركون قد اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم الإتيان بمعجزات ، والإخبار عن مغيبات ، فأنزل الله عليه هذه الآية لتفيد الآتي :

- لست أول من أرسله الله رسولا .

- أنا بشر يوحى إلي ، أؤدي واجبي في تبليغ الرسالة والجهاد في سبيلها ، أما الغيب فعلمه عند الله ، والمعجزات يأتي بها الله حين يشاء هو ، لا تلبية لطلب المشركين .

- أنا أتبع الوحي وأبلغه ، وأنفذ ما يدعوني إليه ربي .

- رسالتي لا تقوم على المعجزات المادية ، فالقرآن أسلوب يخاطب العقل والفطرة ، ويحذر من معصية الله ، وأنا أحذركم عقاب الله تعالى ، على نحو واضح لكل عاقل .

وقد أورد ابن كثير في تفسيره طائفة من الأحاديث الصحيحة عند تفسيره لهذه الآية ، منها ما رواه أحمد ، والبخاري ، عن أم العلاء -وهي امرأة من نساء الأنصار- قالت : لما مات عثمان بن مظعون ، قلت : رحمك الله أبا السائب ، شهادتي عليك لقد أكرمك الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وما يدريك أن الله أكرمه ؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه ، وإني لأرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله ، ما يفعل بي ولا بكم ) ، قالت أم العلاء : فوالله لا أزكي بعده أحدا3 .

قال المفسرون :

وفيه دليل على أنه لا يقطع لشخص معين بالجنة ، إلا الذين نص الشارع على تعيينهم ، كالعشرة المبشرين بالجنة4 ، وعبد الله بن سلام ، والعميصاء ، وبلال ، وسراقة ، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر ، والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة ، وزيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، وعبد الله بن رواحة ، ومن أشبه هؤلاء رضي الله عنهم .

من تفسير القرطبي

ذكر القرطبي تعليقا طويلا على قوله تعالى في هذه الآية :

{ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . . . }

ثم قال القرطبي : والصحيح في الآية قول الحسن ، كما قرأ علي بن محمد ، عن الحسن : { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا } .

قال أبو جعفر الطبري : وهذا أصح قول وأحسنه ، لا يدري ما يلحقه وإياهم من مرض وصحة ، ورخص وغلاء ، وغنى وفقر .

ومثله قوله تعالى : { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير . . . } ( الأعراف : 188 ) .

وقال المهايمي :

{ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . . . }

أي : فيما لم يوح إلي ، والوحي ببعض الأمور لا يستلزم العلم بالباقي ، ولم يكن لي أن أضم إلى الوحي كذبا من عندي5 .

من تفسير ابن كثير

قال عكرمة والحسن وقتادة6 :

إن قوله تعالى : { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . . . } منسوخ بقوله تعالى : { ليفغر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر . . . } ( الفتح : 2 ) .

ولما نزلت هذه الآية قالوا : هنيئا لك يا رسول الله ، فما لنا ؟ فأنزل الله تعالى : { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما } . ( الفتح : 5 ) .

قال المفسرون :

وفي هذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدري ما يئول إليه أمره وأمر المشركين في دار الدنيا ، أما في الآخرة فهو صلى الله عليه وسلم جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه ، وذلك في الجملة7 اه .

خاطرة

ورد في الأحاديث النبوية الشريفة أن الله تعالى زوى الأرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي من الأرض ، وسيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار ، بعز عزيز أو بذل ذليل ) . 8

وفي البخاري ما يفيد أن رجلا من أمة النبي صلى الله عليه وسلم يركبون ثبج البحر غزاة في سبيل الله ، كأنهم الملوك على الأسرة9 .

وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر أمته بفتح القطر المصري ، وقال : ( سيفتح عليكم بعدي بلد يذكر فيه القيراط ، فاستوصوا بأهله خيرا فإن لهم ذمة ورحما )10 .

وروح الأحاديث النبوية تبشر بنصر هذه الأمة ، وفي غزوة الخندق اعترضت المسلمين صخرة لم يستطيعوا كسرها ، فاستعانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول المعول وضرب الصخرة فصارت كثيبا أهيل ، وقال للمسلمين : ( إن الله أضاء لي منها كنوز كسرى وقيصر )11 .

كما بشر النبي صلى الله عليه وسلم سراقة بن مالك بن جشعم ، وقال له : ( أسلم يا سراقة ولك سوار كسرى )12 ، وكل هذا يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر بالنصر ، وبشر أمته بذلك .

وخلاصة الأمر : أن القضاء والقدر في علم الله ، ولا يعلم الغيب إلا الله ، والرسول صلى الله عليه وسلم بشر يوحى إليه ، وهو لا يعلم الغيب ، كما قال القرآن الكريم : { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء . . . } ( الأعراف : 188 ) .

لكن الله تعالى بشره في الجملة بنصره على المشركين ، وبشر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بنصر الإسلام على بلاد الفرس والروم والحيرة ومصر وغيرها .

وفي القرآن الكريم طائفة من هذه البشارات ، مثل قوله تعالى : { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } . ( الصف : 8 ، 9 ) .

ومثل قوله سبحانه : { ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم } . ( الروم : 4 ، 5 ) .

وقوله عز شأنه : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } . ( المجادلة : 21 ) .

وقوله عز شأنه : { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } . { الروم : 47 ) .