{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرسل } أي بديعاً منهم يعني لست مبتدعاً لأمر يخالف أمورهم بل جئت بما جاؤا به من الدعوة إلى التوحيد أو فعلت نحو ما فعلوا من إظهار ما آتاني الله تعالى من المعجزات دون الإتيان بالمقترحات كلها ، فقد قيل : إنهم كانوا يقترحون عليه عليه الصلاة والسلام آيات عجيبة ويسألونه عن المغيبات عناداً ومكابرة فأمر صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم ذلك ، ونظير { بدع } الخف بمعنى الخفيف والخل بمعنى الخليل فهو صفة مشبهة أو مصدر مؤول بها ، وجوز إبقاؤه على أصله . وقرأ عكرمة . وأبو حيوة . وابن أبي عبلة { بِدعاً } بفتح الدال ، وخرج على أنه جمع بدعة كسدرة وسدر ، والكلام بتقدير مضاف أي ذا بدع أو مصدر والاخبار به مبالغة أو بتقدير المضاف أيضاً .
وقال الزمخشري : يجوز أن يكون صفة على فعل كقولهم . دين قيم ولحم زيم أي متفرق ، قال في «البحر » : ولم يثبت سيبويه صفة على هذا الوزن إلا عدي حيث قال : ولا نعلمه جاء صفة إلا في حرف معتل يوصف به الجمع وهو قوم عدي ، واستدرك عليه زيم وهو استدراك صحيح ، وأما قيم فمقصور من قيام ولولا ذلك لصحت عينه كما صحت في حول وعوض ، وأما قول العرب : مكان سوى وماء روى ورجل رضا وماء صرى فمتأولة عند التصريفيين إما بالمصدر أو بالقصر ، وعن مجاهد . وأبي حيوة { بِدْعاً } بفتح الباء وكسر الدار وهو صفة كحذر .
{ وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ } أي في الدارين على التفصيل كما قيل .
وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال في الآية : أما في الآخرة فمعاذ الله تعالى قد علم صلى الله عليه وسلم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل ولكن ما أدري ما يفعل بي في الدنيا أأخرج كما أخرجت الأنبياء عليهم السلام من قبلي أم أقتل كما قتلت الأنبياء عليهم السلام من قبلي ولا بكم أأمتي المكذبة أم أمتي المصدقة أم أمتي المرمية بالحجارة من السماء قذفاً أم المخسوف بها خسفاً ثم أوحى إليه { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس } [ الإسراء : 60 ] يقول سبحانه : أحطت لك بالعرب أن لا يقتلوك فعرف عليه الصلاة والسلام أنه لا يقتل ثم أنزل الله تعالى { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ وكفى بالله شَهِيداً } [ الفتح : 28 ] يقول : أشهد لك على نفسه أنه سيظهر دينك على الأديان ثم قال سبحانه له عليه الصلاة والسلام في أمته : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] فأخبره الله تعالى بما صنع به وما يصنع بأمته ، وعن الكلبي أنه صلى الله عليه وسلم قال له أصحابه وقد ضجروا من أذى المشركين : حتى متى نكون على هذا ؟ فقال : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم أأترك بمكة أم أومر بالخروج إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها يعني في منامه ذات نخل وشجر .
وحكى في «البحر » عن مالك بن أنس . وقتادة . وعكرمة . والحسن أيضاً . وابن عباس أن المعنى ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة ، وأخرج أبو داود في ناسخه من طريق عكرمة عن ابن عباس أنه قال في الآية : نسختها الآية التي في الفتح يعني { لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] فخرج صلى الله عليه وسلم إلى الناس فبشرهم بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال رجل من المؤمنين : هنيئاً لك يا نبي الله قد علمنا الآن ما يفعل بك فماذا يفعل بنا ؟ فأنزل الله تعالى في سورة الأحزاب ( 47 ) { وَبَشّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً } وقال سبحانه : { لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم } [ الفتح : 5 ] فبين الله تعالى ما يفعل به وبهم . واستشكل على تقدير صحته بأن النسخ لا يجري في الخبر فلعل المنسوخ الأمر بقوله تعالى : { قُلْ } إن قلنا : إنه هنا للتكرار أو المراد بالنسخ مطلق التغيير .
وقال أبو حيان : هذا القول ليس بظاهر بل قد أعلم الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام من أول الرسالة بحاله وحال المؤمن وحال الكافر في الآخرة ، وقال الإمام : أكثر المحققين استبعدوا هذا القول واحتجوا بأن النبي لا بد أن يعلم من نفسه كونه نبياً ومتى علم ذلك علم أنه لا يصدر عنه الكبائر وأنه مغفور وإذا كان كذلك امتنع كونه شاكاً في أنه هل هو مغفور له أم لا ، وبأنه لا شك أن الأنبياء أرفع حالاً من الأولياء ، وقد قال الله تعالى فيهم : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ يونس : 62 ] فكيف يعتقد بقاء الرسول وهو رئيس الأنبياء وقدوة الأولياء شاكاً في أنه هل هو من المغفورين أم لا ، وقد يقال : المراد أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام ما يدري ذلك على التفصيل ، وما ذكر لا يتعين فيه حصول العلم التفصيلي لجواز أن يكون عليه الصلاة والسلام قد أعلم بذلك في مبدأ الأمر إجمالاً بل في إعلامه صلى الله عليه وسلم بعد بحال كل شخص شخص على سبيل التفصيل بأن يكون قد أعلم عليه الصلاة والسلام بأحوال زيد مثلاً في الآخرة على التفصيل وبأحوال عمرو وكذلك وهكذا توقف .
وفي «صحيح البخاري » وأخرجه الإمام أحمد . والنسائي . وابن مردويه عن أم العلاء ، وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت لما مات عثمان بن مظعون : رحمة الله تعالى عليك يا أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وما يدريك أن الله تعالى أكرمه ؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفعل بي ولا بكم قالت أم العلاء : فوالله ما أزكي بعده أحداً ، وفي رواية ابن حبان .
والطبراني عن زيد بن ثابت أنها قالت لما قبض طب : أبا السائب نفسك إنك في الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم . وما يدريك ؟ قالت : يا رسول الله عثمان بن مظعون قال : أجل وما رأينا إلا خيراً والله ما أدري ما يصنع بي ، وفي رواية الطبراني . وابن مردويه عن ابن عباس أنه لما مات قالت امرأته أو امرأة : هنيئاً لك ابن مظعون الجنة فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر مغضب وقال : وما يدريك ؟ والله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل الله بي فقالت : يا رسول الله صاحبك وفارسك وأنت أعلم فقال : أرجو له رحمة ربه تعالى وأخاف عليه ذنبه ، لكن في هذه الرواية أن ابن عباس قال : وذلك قبل أن ينزل { لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] وعن الضحاك المراد لا أدري ما أومر به ولا ما تؤمرون به في باب التكاليف والشرائع والجهاد ولا في الابتلاء والامتحان ، والذي اختاره أن المعنى على نفي الدراية من غير جهة الوحي سواء كانت الدراية تفصيلية أو إجمالية وسواء كان ذلك في الأمور الدنيوية أو الأخروية وأعتقد أنه صلى الله عليه وسلم لم ينتقل من الدنيا حتى أوتي من العلم بالله تعالى وصفاته وشؤنه والعلم بأشياء يعد العلم بها كمالاً ما لم يؤته أحد غيره من العالمين ، ولا أعتقد فوات كمال بعدم العلم بحوادث دنيوية جزئية كعدم العلم بما يصنع زيد مثلاً في بيته وما يجري عليه في يومه أو غده ، ولا أرى حسناً قول القائل : إنه عليه الصلاة والسلام يعلم الغيب واستحسن أن يقال بدله : إنه صلى الله عليه وسلم أطلعه الله تعالى على الغيب أو علمه سبحانه إياه أو نحو ذلك ، وفي الآية رد على من ينسب لبعض الأولياء علم كل شيء من الكليات والجزئيات ، وقد سمعت خطيباً على منبر المسجد الجامع المنسوب للشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره يوم الجمة قال بأعلى صوت : يا باز أنت أعلم بي من نفسي ، وقال لي بعض : إني لأعتقد أن الشيخ قدس سرهع يعلم كل شيء مني حتى منابت شعري ، ومثل ذلك مما لا ينبغي أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف ينسب إلى من سواه ؟ فليتق العبد مولاه ، وفيما تقدم من الأخبار في شأن عثمان بن مظعون رد أيضاً على من يقول فيمن دونه في الفضل أو من لم يبشره الصادق بالجنة والكرامة نحو ما قيل فيه .
نعم ينبغي الظن الحسن في المؤمنين أحياء وأمواتاً ورجاء الخير لكل منهم فالله تعالى أرحم الراحمين ، هذا والظاهر أن { مَا } استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء والجملة بعدها خبر وجملة المبتدأ والخبر معلق عنها الفعل القلبي وهو إما متعد لواحد أو اثنين ، وجوز أن تكون { مَا } موصولة في محل نصب على المفعولية لفعل الدراية وهو حينئذ متعد لواحد والجملة بعدها صلة ، وأن تكون حرفاً مصدرياً فالمصدر مفعول { أَدْرِى } والاستفهامية أقضي لحق مقام التبري عن الدراية ، و { لا } لتذكير النفي المنسحب على { مَّا يَفْعَلُ } الخ وتأكيده ، ولولا اعتبار الانسحاب لكان التركيب ما يفعل بي وبكم دون { لا } لأنه ليس محلاً للنفي ولا لزيادة لا ونظير ذلك زيادة { مِنْ } في قوله تعالى : { مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ } [ البقرة : 105 ] لانسحاب النفي فإنه إذا انتفت ودادة التنزيل انتفى التنزيل ، وزيادة الباء في قوله سبحانه : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السموات والارض وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ } [ الأحقاف : 33 ] لانسحاب النفي ، على أن مع ما في حيزها ولولاه ما زيدت الباء في الخبر ، وقيل : الأصل ولا ما يفعل بكم فاختصر ، وقيل : ولا بكم ، وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة { يَفْعَلُ } بالبناء للفاعل وهو ضمير الله عز وجل : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ } أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي على معنى قصر أفعاله صلى الله عليه وسلم على اتباع الوحي ، والمراد بالفعل ما يشمل القول وغيره . وهذا جواب عن اقتراحهم الاخبار عما لو يوح إليه عليه الصلاة والسلام من الغيوب ، والخطاب السابق للمشركين .
وقيل : عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا عن أذية المشركين والخطاب السابق لهم ، والأول أوفق لقوله تعالى : { وَمَا أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ } أنذركم عقاب الله تعالى حسبما يوحى إلى { مُّبِينٌ } بين الإنذار بالمعجزات الباهرة ، والحصر إضافي . وقرأ ابن عمير { يُوحَى } على البناء للفاعل .