محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{قُلۡ مَا كُنتُ بِدۡعٗا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدۡرِي مَا يُفۡعَلُ بِي وَلَا بِكُمۡۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ وَمَآ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٞ} (9)

[ 9 ] { قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين 9 } .

{ قل ما كنت بدعا من الرسل } أي : ما كنت أول رسل الله التي أرسلها إلى خلقه . قد كان من قبلي له رسل كثيرة أرسلت إلى أمم قبلكم ، فلم تستنكرون بعثتي ، وتستبعدون رسالتي ، كقوله :{[6549]} { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } و ( البدع ) كالبديع ، بمعنى الجديد المبتدأ . قال ابن جرير :{[6550]} ومن البدع قول عديّ بن زيد :{[6551]}

فلا أنا بدع من حوادث تعتري *** رجالا عرت من بعد بؤسى وأسعد

/ ومن البديع قول الأحوص :{[6552]}

فخرت فانتمت فقلت : ذريني *** ليس جهل أُتيته ببديع

{ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } قال أبو السعود : أي : أي شيء يصيبنا فيما يستقبل من الزمان ، من أفعاله تعالى ، وماذا يقدّر لنا من قضاياه . وعن الحسن رضي الله عنه : ( ما أدري ما يصير إليه أمري ، وأمركم في الدنيا ) . وقيل : يجوز أن يكون المنفي هو الدراية المفصلة . والأظهر أن ( ما ) عبارة عما ليس علمه من وظائف النبوة من الحوادث والواقعات الدنيوية ، دون ما سيقع في الآخرة ، فإن العلم بذلك من وظائف النبوة ، وقد ورد به الوحي الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين . انتهى .

وهذا الأظهر يقرب من قول الحسن . وهو ما عول عليه ابن جرير . قال ابن كثير : بل لا يجوز غيره . كيف ؟ وهو صلى الله عليه وسلم جازم بأنه صائر إلى الجنة ، هو ومن اتبعه بإحسان . وأما في الدنيا ، فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره ، وأمر مشركي قريش ، أيؤمنون ، أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم . فأما الحديث الذي رواه الإمام{[6553]} أحمد عن أم العلاء ، وكانت بايعت / النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : ( طار لنا في السكنى ، حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين ، عثمان بن مظعون رضي الله عنه ، فاشتكى عثمان عندنا ، فمرضناه . حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه ، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت : رحمة الله عليك ، أبا السائب ! شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما هو فقد جاءه اليقين من ربه ، وإني لأرجو له الخير . والله ! ما أدري – وأنا رسول الله – ما يفعل بي ! قالت : فقلت : والله ! لا أزكي أحدا بعده أبدا وأحزنني ذلك . فنمت ، فرأيت لعثمان رضي الله عنه عينا تجري ، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك عمله ) . فقد انفرد بإخراجه البخاري{[6554]} دون مسلم ، وفي لفظ له : ( ما أدري- وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم-ما يفعل به ) . وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ ، بدليل قولها : فأحزنني ذلك . وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة ، إلا الذي نص الشارع على تعيينهم ، كالعشرة وابن سلام والعميصاء وبلال وسراقة وعبد الله بن عمرو بن حرام ( والدجابر ) والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة وزيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة ، وما أشبه هؤلاء رضي الله عنهم . انتهى كلام ابن كثير .

وقال المهايميّ : { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } أي : فيما لم يوح إليّ . والوحي ببعض الأمور لا يستلزم العلم بالباقي . ولم يكن لي أن أضمّ إلى الوحي كذبا من عندي .

{ إن أتبع } أي : في تقرير الأمور الغيبية { إلا ما يوحى إليّ وما أنا إلا نذير مبين } أي منذر عقاب الله على كفركم به ، أبان لكم دعاءه إلى ما فيه صلاحكم وسعادتكم .


[6549]:[3/آل عمران/ 144].
[6550]:انظر الصفحة رقم 5 من الجزء السادس والعشرين(طبعة الحلبي الثانية(.
[6551]:هذا هو البيت السابع عشر من المجمهرة ومطلعها: أتعرف رسم الدار من أم معبد*** نعم. ورماك الشوق قبل التجلد تعتري: أي تتعلق. عرت: أي علقت. بؤسي جمع بؤس. أسعد جمع سعد.
[6552]:كان الأحوص يوما عند سكينة. فأذن مؤذن. فلما قال (أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله) فخرت سكينة بما سمعت. فقال الأحوص: فخرت فانْتَمَتْ..... فأنا ابن الذين حمت لحمه الدبـ *** ر، قتيل اللحيان يوم الرجيع غسّلت خالي الملائكة الأبــــــ*** رار ميتا طوبى له من صريع قال أبو زيد: وقد، لعمري فخري بفخر، لو على غير سكينة، فخر به! وبأبي سكينة صلى الله عليه وسلم، حمت أباه الدَّبْرُ، وغسلت خاله الملائكة. )الأغاني ج 4 ص 234، طبعة الدار(.
[6553]:أخرجه في المسند بالصفحة رقم 436 من الجزء السادس(طبعة الحلبي(.
[6554]:أخرجه في:23- كتاب الجنائز، 3- باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كفنه، حديث رقم666.