قوله تعالى : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل . . . } لما حكى طعنهم في كون القرآن معجزاً بقولهم : إنه يختلقه من عند نفسه ثم نسبه إلى كلام الله تعالى على سبيل الفِرْيَة حكى عنهم شُبْهَةً أخرى وهي أنهم كانوا يقترحون عليه معجزاتٍ عجيبة ، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات ، فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل }{[50809]} .
أحدهما : أنه على حذف مضاف تقديره : ذَا بِدْعٍ ، قاله أبو البقاء : وهذا على أن يكون البدْعُ مَصْدراً{[50810]} .
والثاني : أن البِدْعَ نفسه صفة على فِعْلٍ{[50811]} بمعنى بَدِيعٍ كالخِفِّ والخَفِيف ؛ والبِدْعُ والبَدِيعُ ما لم ير له مِثْلٌ ، وهو من الابْتِدَاع وهو الاختراع . أنشد قطرب :
4451 فَمَا أنا بِدْعٌ مِنْ حَوَادِث تَعْتَرِي *** رِجَالاً عَرَتْ مِنْ بَعْدِ بُؤْسٍ وَأَسْعد{[50812]}
قال البغوي ( رحمه الله ) : ( البِدْعُ ){[50813]} مثلُ نصْف ونَصِيفٍ ، وجمع البِدْعِ أَبْداع{[50814]} . وقرأ عكرمة وأبو حَيْوَة وابنُ أَبِي عَبْلَةَ : بِدعٌ بفتح{[50815]} الدال جمع بِدْعَةٍ ، أي ما كنت ذا بِدَعٍ . وجوز الزمخشري أن يكون صفة على فِعَلٍ ، كِدين قِيَم ، ولَحْمٍ زِيَمٍ{[50816]} .
قال أبو حيان : ولم يُثْبِتْ سيبوَيْهِ صفةً على «فِعلٍ » إلاَّ قَومْاً عِدًى{[50817]} . وقد استدرك عليه لحمٌ زِيَمٌ . أي متفرق . وهو صحيحٌ . وأما قيم فمقصور من قيام ، ولولا ذلك لصحت عينه كما صحت في حول وعوض وأما قول العرب : مَكَانٌ سِوى ، وماء رِوًى{[50818]} ، ورجل رِضًى ، ومَاءٌ صرّى{[50819]} ، وسَبْيٌ طِيَبٌ{[50820]} ، فمتأولة عند التصريفيين{[50821]} . قال شهاب الدين : تأويلها إما بالمصدرية أو القَصْر ، كِقيَم في قِيام . وقرأ أبو حيوةَ أيضاً ومجاهدٌ بَدِع بفتح الباء كسر الدال ، وهو وصف كَحَذِرٍ{[50822]} .
البدع والبديع من كل شيء المَبْدَأ ، والبدعة ما اخترع ما لم يكن موجوداً قبله{[50823]} . قال المفسرون معناه إني لست بأول مُرْسَل ، قد بعث قبلي كثيرٌ من الأنبياء فكيف تنكرون نبوّتي ؟ ! وكيف تنكرون إخباري بأني رسول الله ؟ ! وقيل : إنهم طلبوا منه معجزة عظيمةً وإخباراً عن الغيوب فقال : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل } والمعنى أن الإتيان بهذه المعجزات القاهرة والأخبار عن الغيوب ليس في وُسْعِ البشر ، وأما جنس الرسل فأنا واحد منهم ، فإذا لم يقْدِروا على ما تُرِيدُونَه فكيف أقدر عليه ؟ ! وقيل : إنهم كانوا يعيبونه بأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، وبأنه فقير ، وأن أتباعه فقراء فقال : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل } . وهم كلهم على هذه الصفةِ{[50824]} فهذه الأشياء لا تقدح في نُبُوَّتي كما لا تقدح في نُبُوَّتِهِم{[50825]} .
قوله : { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي } العامة على نيابة المفعول . وابن أبي عبلة وزيد بن علي مبنياً للفاعل{[50826]} ، أي الله تعالى . والظاهر أن ( ما ) في قوله : «مَا يَفْعَلُ » استفهامية مرفوعة بالابتداء ، وما بعدها الخبر ، وهي معلقة «لأَدْرِي » عن العمل ، فتكون سَادَّةً مسَدَّ مفعوليها{[50827]} .
وجوَّزَ الزمخشري أن تكون موصولة منصوبة{[50828]} ، يعني أنها متعدية لواحدٍ ، أي لا أعرف الذي يفعلُه اللهُ .
أحدهما : أن يحمل ذلك على أحوال الدنيا . والثاني : أن يحمل ذلك على أحوال الآخرة . أما الأول ففيه وجوه :
الأول : معناه لا أدْرِي ما يصير إليه أمري وأمركم ، ومَن الغالب منَّا ومن المغلوب ؟{[50829]} .
الثاني : قال ابن عباس في رواية الكلبي : لما اشتد البلاء بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمكة رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخلٍ وشجرٍ وماءٍ فقصها على الصحابة فاستبشروا بذلك ورأوا أن ذلك فرج ممَّا هم فيه من أذى المشركين .
ثم إنَّهم مكثوا بُرهَةً من الدهر لا يروْنَ أثر ذلك فقالوا : يا رسول الله : ما رأيْنا الذي قُلْتَ ، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيتَها في المنام ؟ فكست النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } وهو شيء رأيته في المنام وأنا لا أتبع إلا ما يوحيه الله إِلَيِّ .
الثالث : قال الضحاك : لا أدري ما تُؤمَرُونَ به ، ولا ما أومر به من التكاليف ، والشرائع ، ولا من الابتلاء والامتحان وإنما أنذكركم بما أعلمني الله به من أحوال الآخرة من الثواب والعقاب ، ثم أخبر تعالى يظهر دينه على الأديان فقال : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } [ الفتح : 28 ] وقال في أمته : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] فأخبره الله ما يصنع{[50830]} به وبأمته قال السدي .
الرابع : كأنه يقول : ما أدري ما يفعل بي في الدنيا ، أموت أو أُقْتَلُ ، كما قتل الأنبياء قبلي ولا أدري ما يفعل بكم أيها المُكَذِّبون أَتُرْمَوْنَ بالحجارة من السماء أو يُخْسَف بكم أو يفعل بكم ما يفعل بسائر الأمم ، وأما من حمل الآية على أحوال الآخرة فروى عن ابن عباس أنه قال : لَما نزلت هذه الآية فرح المشركون والمنافقون واليهود وقالوا : كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ربُّه فأنزل الله تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } إلى قوله : { وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً } [ الفتح : 1-5 ] فقالت الصحابة : هنيئاً لك يا نبي الله ، قد علمنا ما يفعل بك فما يفعل بنا ؟ فأَنزَلَ اللهُ عز وجلّ : { لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ الفتح : 5 ] الآية وأنزل : { وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً } [ الأحزاب : 47 ] فبين الله ما يفعل به وبهم ، وهذا قول أنس وقتادة والحَسَنِ وعكرمةَ . وقالوا : إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه وإنما أخبر بغُفْرَان ذنبه عام الحديبية فنسخ ذلك قال ابن الخطيب : وأكثر المحققين استبعدوا هذا القول لوجهين :
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم لا بدّ وأن يعلم من نفسه كَوْنَهُ نَبيًّا ، ومتى علم كونَه نبياً ، علم أنه لا يصدر عنه الكبائرُ وأنه مغفور له ، وإذا كان كذلك امتنع كونُه شاكًّا في أنه هل هو مغفور له أم لا ؟ .
الثاني : أن الأنبياء أرفع حالاً من الأولياء وقد قال في حق هؤلاء : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ الأحقاف : 13 ] فكيف يعقل أن يبقى الرسول الذي هو رئيس الأنبياء وقُدْوةُ الأولياء شاكًّا في أنه هل هو من المغفور لهم ؟ فثَبَتَ ضَعْفُ هذا القَوْلِ{[50831]} .
قوله : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ } العامة على بناء «يُوحَى » للمفعول ، وقرأ ابن عمر{[50832]} بكسر الحاء على البناء للفاعل وهو الله تعالى . والمعنى{[50833]} إنِّي لا أقول قولاً ولا أعمل عملاً إلاَّ بمقتضى الوَحْي . واحتج نُفَاةُ القياس بهذه الآية فقالوا : النبي صلى الله عليه وسلم ما قال قولاً ولا عمل عملاً إلاَّ بالنص الذي أوحاه الله ( إليه ){[50834]} فوجب أن يكون حالُنَا كذلك . ثم قال الله تعالى : { وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } لأنهم كانوا يطالبونه بالمعجزات العجيبة ، وبالإخبار عن الغيوب فقال : قُلْ مَا أنا إلا نذير مبين والقادر على تلك الأعمال الخارجة عن قدرة ( البشر والعالم بتلك الغيوب ليس إلاَّ اللهُ تَعَالَى ){[50835]} . .