ولما حكى تعالى طعنهم في كون القرآن معجزاً بقولهم : إنه يختلقه من عند نفسه ثم ينسبه إلى أنه كلام الله تعالى على سبيل الفرية حكى عنهم شبهة أخرى وهو أنهم كانوا يقترحون عليه معجزات عجيبة ، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات ، فأجاب الله تعالى عن ذلك . بقوله عز وجل : { قل } أي : لهؤلاء الذين نسبوك إلى الافتراء { ما كنت } أي : كونا مّا { بدعاً } أي : منشأ مبتدعاً محدثاً مخترعاً ، بحيث أكون أجنبياً منقطعاً { من الرسل } أي : لم يتقدّم لي منهم مثال في أصل ما جئت به وهو التوحيد ومحاسن الأخلاق بل قد تقدّمني رسل كثيرون أتوا بمثل ما أتيت به ، ودعوا إليه كما دعوت إليه ، وصدّقهم الله تعالى بمثل ما صدّقني به . فثبت بذلك رسالتهم وسعد بهم من صدّقهم من قومهم وشقي من كذبهم فانظروا إلى آثارهم واسألوا عن سيرهم من أتباعهم وأنصارهم وأشياعهم .
{ تنبيه } البدع والبديع من كل شيء : المبدأ والبدعة ؛ ما اخترع مما لم يكن موجوداً قبله . وفي الحديث «كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار » قال البقاعي معناه والله أعلم : أنه يبتدع ما يخالف السنة إذا كانت البدعة ضدّ السنة فإذا أحدث ما يخالفها كان بإحداثه ضالاً مشركاً وكان وما أحدث في النار . ولم يدخل تحت هذا ما يخترعه الإنسان من أفعال البّر يسمى بدعة لعدم فعله قبل ذلك فيخرج عما ذكر . ا . ه . وقال ابن عبد السلام : البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرّمة ومندوبة ومكروهة ومباحة : قال والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة ؛ فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة ، كالاشتغال بعلم النحو ، أو في قواعد التحريم فمحّرمة ، كمذهب القدرية والمجسمة والرافضة ، قال : والردّ على هؤلاء من البدع الواجبة ، أوفى قواعد المندوب ، فمندوبة كبناء الربط والمدارس ، وكل إحسان لم يحدث في العصر الأوّل كصلاة التراويح ، أو في قواعد المكروه فمكروهة كزخرفة المساجد وتزويق المصاحف أو في قواعد المباح فمباحة ، كالمصافحة عقب الصبح والعصر والتوسع في المآكل والملابس . وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعيّ رضى الله تعالى عنه أنه قال : المحدثات ضربان ؛ أحدهما : ما خالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً فهو بدعة وضلالة ، والثاني : ما أحدث من الخير فهو غير مذموم .
واختلف في تفسير قوله تعالى عن قوله عليه الصلاة والسلام : { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } على وجهين ؛ أحدهما : أن يحمل ذلك على أحوال الدنيا والثاني : أن يحمل على أحوال الآخرة . أما الأوّل ؛ ففيه وجوه . أحدها : أنّ معناه لا أدري ما يصير إليه أمري وأمركم ، ومن الغالب منا ومن المغلوب . ثانيها : قال ابن عباس في رواية الكلبي : لما اشتد البلاء بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمكة : رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك ورأوا أن ذلك فرج ما بهم من أذى المشركين . ثم إنهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك فقالوا يا رسول الله ما رأينا الذي قلت متى تهاجر إلى الأرض التي رأيتها في المنام ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : { قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } هو شيء رأيته في المنام . { إن } أي : ما { أتبع } أي : بغاية جهدي وجدّي { إلا ما } أي : الذي { يوحى } أي : يجدّد لقاؤه ممن لا يوحى بحق سواه { إلي } على سبيل التدريج لا يطلع عليه حق اطلاعه غيري . ثالثها : قال الضحاك : لا أدري ما تؤمرون به ولا ما أومر به من التكاليف والشرائع ، ولا من الابتلاء والامتحان .
{ وما أنا } أي : بإخباري لكم عما يوحى إليّ { إلا نذير مبين } أي : بيّن الإنذار . رابعها : كأنه يقول : ما أدري ما يفعل بي في الدنيا ؛ أموت أو أقتل كما قتل الأنبياء قبلي ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون ؛ أترمون بالحجارة من السماء ، أو يخسف بكم ، أو يفعل بكم ما يفعل بسائر الأمم ؟ قال السدّي : ثم أخبره الله تعالى أنه يظهر دينه على الأديان بقوله تعالى : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } ( التوبة : 33 ) وقال في أمّته { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } ( الأنفال : 33 ) فأخبره الله تعالى بما يصنع به وبأمّته .
وأما من حمل الآية على أحوال الآخرة ، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما نزلت هذه الآية ، فرح المشركون والمنافقون واليهود . وقالوا : كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ولا بنا ؟ فأنزل الله تعالى : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ( 1 ) ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر } إلى قوله تعالى : { وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً } ( الفتح : 1 _ 5 ) فقالت الصحابة : هنيئاً لك يا رسول الله قد علمنا ما يفعل بك فما يفعل بنا ؟ فأنزل الله عز وجل : { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } ( الفتح : 5 ) الآية وأنزل : { وبشر المؤمنين بأنّ لهم من الله فضلاً كبيراً } ( الأحزاب : 47 ) فبين لهم ما يفعل به وبهم وبهذا قال أنس والحسن وعكرمة . وقالوا إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه ، لأنه إنما أخبر به عام الحديبية فنسخ ذلك .
قال الرازي : وأكثر المحققين استبعدوا هذا القول من وجهين ؛ أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم لا بدّ وأن يعلم من نفسه ومتى علم كونه نبياً علم أنه لا تصدر عنه الكبائر ، وأنه مغفور له وإذا كان كذلك امتنع كونه شاكاً في أنه هل هو مغفور له أو لا ثانيهما : أن الأنبياء أرفع حالاً من الأولياء وقد قال تعالى في حقهم { إنّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ( الأحقاف : 13 ) فكيف يعقل أن يبقى الرسول الذي هو رئيس الأنبياء وقدوة الأولياء شاكاً في أنه هل هو من المغفور لهم ؟ فثبت ضعف هذا القول .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.