السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قُلۡ مَا كُنتُ بِدۡعٗا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدۡرِي مَا يُفۡعَلُ بِي وَلَا بِكُمۡۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ وَمَآ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٞ} (9)

ولما حكى تعالى طعنهم في كون القرآن معجزاً بقولهم : إنه يختلقه من عند نفسه ثم ينسبه إلى أنه كلام الله تعالى على سبيل الفرية حكى عنهم شبهة أخرى وهو أنهم كانوا يقترحون عليه معجزات عجيبة ، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات ، فأجاب الله تعالى عن ذلك . بقوله عز وجل : { قل } أي : لهؤلاء الذين نسبوك إلى الافتراء { ما كنت } أي : كونا مّا { بدعاً } أي : منشأ مبتدعاً محدثاً مخترعاً ، بحيث أكون أجنبياً منقطعاً { من الرسل } أي : لم يتقدّم لي منهم مثال في أصل ما جئت به وهو التوحيد ومحاسن الأخلاق بل قد تقدّمني رسل كثيرون أتوا بمثل ما أتيت به ، ودعوا إليه كما دعوت إليه ، وصدّقهم الله تعالى بمثل ما صدّقني به . فثبت بذلك رسالتهم وسعد بهم من صدّقهم من قومهم وشقي من كذبهم فانظروا إلى آثارهم واسألوا عن سيرهم من أتباعهم وأنصارهم وأشياعهم .

{ تنبيه } البدع والبديع من كل شيء : المبدأ والبدعة ؛ ما اخترع مما لم يكن موجوداً قبله . وفي الحديث «كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار » قال البقاعي معناه والله أعلم : أنه يبتدع ما يخالف السنة إذا كانت البدعة ضدّ السنة فإذا أحدث ما يخالفها كان بإحداثه ضالاً مشركاً وكان وما أحدث في النار . ولم يدخل تحت هذا ما يخترعه الإنسان من أفعال البّر يسمى بدعة لعدم فعله قبل ذلك فيخرج عما ذكر . ا . ه . وقال ابن عبد السلام : البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرّمة ومندوبة ومكروهة ومباحة : قال والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة ؛ فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة ، كالاشتغال بعلم النحو ، أو في قواعد التحريم فمحّرمة ، كمذهب القدرية والمجسمة والرافضة ، قال : والردّ على هؤلاء من البدع الواجبة ، أوفى قواعد المندوب ، فمندوبة كبناء الربط والمدارس ، وكل إحسان لم يحدث في العصر الأوّل كصلاة التراويح ، أو في قواعد المكروه فمكروهة كزخرفة المساجد وتزويق المصاحف أو في قواعد المباح فمباحة ، كالمصافحة عقب الصبح والعصر والتوسع في المآكل والملابس . وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعيّ رضى الله تعالى عنه أنه قال : المحدثات ضربان ؛ أحدهما : ما خالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً فهو بدعة وضلالة ، والثاني : ما أحدث من الخير فهو غير مذموم .

واختلف في تفسير قوله تعالى عن قوله عليه الصلاة والسلام : { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } على وجهين ؛ أحدهما : أن يحمل ذلك على أحوال الدنيا والثاني : أن يحمل على أحوال الآخرة . أما الأوّل ؛ ففيه وجوه . أحدها : أنّ معناه لا أدري ما يصير إليه أمري وأمركم ، ومن الغالب منا ومن المغلوب . ثانيها : قال ابن عباس في رواية الكلبي : لما اشتد البلاء بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمكة : رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك ورأوا أن ذلك فرج ما بهم من أذى المشركين . ثم إنهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك فقالوا يا رسول الله ما رأينا الذي قلت متى تهاجر إلى الأرض التي رأيتها في المنام ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : { قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } هو شيء رأيته في المنام . { إن } أي : ما { أتبع } أي : بغاية جهدي وجدّي { إلا ما } أي : الذي { يوحى } أي : يجدّد لقاؤه ممن لا يوحى بحق سواه { إلي } على سبيل التدريج لا يطلع عليه حق اطلاعه غيري . ثالثها : قال الضحاك : لا أدري ما تؤمرون به ولا ما أومر به من التكاليف والشرائع ، ولا من الابتلاء والامتحان .

{ وما أنا } أي : بإخباري لكم عما يوحى إليّ { إلا نذير مبين } أي : بيّن الإنذار . رابعها : كأنه يقول : ما أدري ما يفعل بي في الدنيا ؛ أموت أو أقتل كما قتل الأنبياء قبلي ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون ؛ أترمون بالحجارة من السماء ، أو يخسف بكم ، أو يفعل بكم ما يفعل بسائر الأمم ؟ قال السدّي : ثم أخبره الله تعالى أنه يظهر دينه على الأديان بقوله تعالى : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } ( التوبة : 33 ) وقال في أمّته { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } ( الأنفال : 33 ) فأخبره الله تعالى بما يصنع به وبأمّته .

وأما من حمل الآية على أحوال الآخرة ، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما نزلت هذه الآية ، فرح المشركون والمنافقون واليهود . وقالوا : كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ولا بنا ؟ فأنزل الله تعالى : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ( 1 ) ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر } إلى قوله تعالى : { وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً } ( الفتح : 1 _ 5 ) فقالت الصحابة : هنيئاً لك يا رسول الله قد علمنا ما يفعل بك فما يفعل بنا ؟ فأنزل الله عز وجل : { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } ( الفتح : 5 ) الآية وأنزل : { وبشر المؤمنين بأنّ لهم من الله فضلاً كبيراً } ( الأحزاب : 47 ) فبين لهم ما يفعل به وبهم وبهذا قال أنس والحسن وعكرمة . وقالوا إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه ، لأنه إنما أخبر به عام الحديبية فنسخ ذلك .

قال الرازي : وأكثر المحققين استبعدوا هذا القول من وجهين ؛ أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم لا بدّ وأن يعلم من نفسه ومتى علم كونه نبياً علم أنه لا تصدر عنه الكبائر ، وأنه مغفور له وإذا كان كذلك امتنع كونه شاكاً في أنه هل هو مغفور له أو لا ثانيهما : أن الأنبياء أرفع حالاً من الأولياء وقد قال تعالى في حقهم { إنّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ( الأحقاف : 13 ) فكيف يعقل أن يبقى الرسول الذي هو رئيس الأنبياء وقدوة الأولياء شاكاً في أنه هل هو من المغفور لهم ؟ فثبت ضعف هذا القول .