فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{قُلۡ مَا كُنتُ بِدۡعٗا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدۡرِي مَا يُفۡعَلُ بِي وَلَا بِكُمۡۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ وَمَآ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٞ} (9)

{ قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم }

حجة أتاها الله نبيه محمدا أن يقول : لست أول رسول بُعث للناس ، وإنما بعث الله قبلي أنبياء كثيرين ، فماذا تستغربون من أمري ؟ وما أدري وما أعلم ماذا يحمل الغيب لي ، هل سأقتل كما قتل نبيون من قبلي ؟ أم أُخرج كما أُخرج كثير من إخواني المرسلين ؟ ولا أعلم ماذا يُمضي الله فيكم ؟ أيخسف الأرض بكم أم يرميكم بالحجارة ؟ .

مما أورد أبو عبد الله القرطبي : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا ، لا يدري صلى الله عليه وسلم ما يلحقه وإياهم من مرض وصحة ، ورخص وغلاء ، وغنى وفقر ، ومثله : { . . ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير . . }{[4600]} واختار الطبري أن يكون المعنى : ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا ، أتؤمنون أم تكفرون ، أم تعاجَلون بالعقاب أم تُؤخرون اه .

وذهب بعض المفسرين إلى أن المعنى { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } في الآخرة ؛ ونقلوا : لما نزلت الآية فرح المشركون واليهود والمنافقون وقالوا : كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا ، وأنه لا فضل له علينا ، ولولا أنه ابتدع الذي يقوله من تلقاء نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به ؛ فنزلت : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر . . }{[4601]} فنسخت هذه الآية ، وأرغم الله أنف الكفار ، وقالت الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله ، لقد بين الله لك ما يفعل بك يا رسول الله ، فليت شعرنا ! ما هو فاعل بنا ؟ فنزلت : { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار . . }{[4602]} ؛ كما نقلوا حديثا أورده الثعلبي عن أم العلاء امرأة من الأنصار قالت : اقتسمنا المهاجرين فطار لنا عثمان بن مظعون . . فأنزلناه أبياتنا فتوفي ، فقلت : رحمة الله عليك أبا السائب إن الله أكرمك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " وما يدريك أن الله أكرمه ؟ " فقلت بأبي وأمي يا رسول الله فمن ؟ قال : " أما هو فقد جاءه اليقين وما رأينا إلا خيرا فوالله إني لأرجو له الجنة ووالله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " قالت : فوالله : لا أزكي بعده أحدا أبدا . . قالوا : وإنما قال هذا حين لم يعلم بغفران ذنبه ، وإنما غفر له ذنبه في غزوة الحديبية قبل موته بأربع سنين .

ورد عليهم المحققون من علماء القرآن فقالوا : حديث أم العلاء أخرجه البخاري ، والرواية صحيحة فيه : ( وما أدري ما يفعل به ) ليس فيه " بي ولا بكم " ومحال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة ، ولم يزل صلى الله عليه وسلم من أول مبعثه إلى مماته يخبر أن من مات على الكفر مخلد في النار ، ومن مات على الإيمان واتبعه وأطاعه فهو في الجنة .

أقول : سياق الآية يستشهد به لما اخترناه من أن المعنى : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا ، فإن الذي يأتي على سنن المرسلين{ ما كنت بدعا من الرسل } على بينة من ربه ، وكيف لا والله تعالى يقول : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد }{[4603]} . كما أن المتبع لوحي الله ، والبشير والنذير بما جاءه من الحق يعلم علم اليقين ماذا أُعدّ للمتقين وما هو مصير الكافرين : { فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا }{[4604]} .

{ إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين( 9 ) } .

ما أقول ولا أعمل إلا ما أمر به ربي الذي يعلم ما ظهر وما بطن ، فلست أبتدع شيئا وإنما أستقيم على ما يوحيه إليّ الخبير البصير ، ولست إلا منذرا ومحذرا أن يحملكم العناد على الوقوع في عذاب الله وسخطه ، وإنذاري واضح صادق أيّدني فيه وليي سبحانه بالمعجزات .


[4600]:سورة الأعراف. من الآية 188.
[4601]:سورة الفتح. من الآية 2.
[4602]:سورة الفتح. من الآية 5.
[4603]:سورة غافر. الآية 51.
[4604]:سورة مريم. الآية 97.