وبمناسبة الإنفاق على غير درب الله ، وفي غير سبيله ، وبمناسبة الافتداء يوم لا ينفع الفداء ، يبين البذل الذي يرضاه :
( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون . وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم ) . .
وقد فقه المسلمون وقتها معنى هذا التوجيه الإلهي ، وحرصوا على أن ينالوا البر - وهو جماع الخير - بالنزول عما يحبون ، وببذل الطيب من المال ، سخية به نفوسهم في انتظار ما هو أكبر وأفضل .
روى الإمام أحمد - بإسناده - عن أبي إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة : سمع أنس بن مالك يقول : كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا ، وكان أحب أمواله إليه بير " حاء " . وكانت مستقبله المسجد . وكان النبي [ ص ] يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب . قال أنس : فلما نزلت : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) . . قال أبو طلحة : يا رسول الله ، إن الله يقول : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون )وإن أحب أموالي إلي بير " حاء " وإنها صدقة لله أرجو بها برها وذخرها عند الله تعالى . فضعها يا رسول الله حيث أراك الله . فقال النبي [ ص ] " بخ بخ . ذاك مال رابح . ذاك مال رابح . وقد سمعت . وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين " فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله . فقسمها أبو طلحة في أقاربهوبني عمه " . . [ أخرجه الشيخان ] .
وفي الصحيحين أن عمر - رضي الله عنه - قال : " يا رسول الله لم أصب مالا قط ، هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر . فما تأمرني به ؟ قال : " احبس الأصل ، وسبل الثمرة " " . .
وعلى هذا الدرب سار الكثيرون منهم يلبون توجيه ربهم الذي هداهم إلى البر كله ، يوم هداهم إلى الإسلام . ويتحررون بهذه التلبية من استرقاق المال ، ومن شح النفس ، ومن حب الذات ؛ ويصعدون في هذا المرتقى السامق الوضيء أحرارا خفافا طلقاء . .
{ لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : لن تدركوا أيها المؤمنون البرّ ، وهو البرّ من الله الذي يطلبونه منه بطاعتهم إياه وعبادتهم له ، ويرجونه منه ، وذلك تفضله عليهم بإدخاله جنته ، وصرف عذابه عنهم¹ ولذلك قال كثير من أهل التأويل : البرّ : الجنة ، لأن برّ الربّ بعبده في الآخرة وإكرامه إياه بإدخاله الجنة . ذكر من قال ذلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون في قوله : { لَنْ تَنالُوا البِرّ } قال : الجنة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون في قوله : { لَنْ تَنَالُوا البِرّ } قال : البرّ : الجنة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { لَنْ تَنَالُوا البِرّ } أما البرّ . فالجنة .
فتأويل الكلام : لن تنالوا أيها المؤمنون جنة ربكم ، حتى تنفقوا مما تحبون ، يقول : حتى تتصدّقوا مما تحبون وتهوون أن يكون لكم من نفيس أموالكم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { لَنْ تَنالُوا البِرّ حتى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ } يقول : لن تنالوا برّ ربكم حتى تنفقوا مما يعجبكم ومما تههون من أموالكم .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر ، عن عباد ، عن الحسن ، قوله : { لَنْ تَنالُوا البِرّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ } قال : من المال .
وأما قوله : { وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } فإنه يعني به : ومهما تنفقوا من شيء فتتصدّقوا به من أموالكم ، فإن الله تعالى ذكره بما يتصدّق به المتصدّق منكم ، فينفقه مما يحبّ من ماله في سبيل الله ، وغير ذلك عليم ، يقول : هو ذو علم بذلك كله ، لا يعزب عنه شيء منه حتى يجازى صاحبه عليه جزاءه في الاَخرة . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } يقول : محفوظ لكم ذلك الله به عليم شاكر له .
وبنحو التأويل الذي قلنا تأوّل هذه الاَية جماعة من الصحابة والتابعين . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ :
{ لَنْ تَنالُوا البِرّ حَتى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ } قال : كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى في قتال سعد بن أبي وقاص ، فدعا بها عمر بن الخطاب ، فقال : إن الله يقول : { لَنْ تَنَالُوا البِرّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ } فأعتقها عمر . وهي مثل قول الله عزّ وجلّ : { وَيُطْعِمُونَ الطّعامَ على حُبّهِ مِسكِينا وَيَتِيما وأسِيرا } ، { وَيُؤْثِرُونَ على أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن أبي أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله سواء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن حميد ، عن أنس بن مالك ، قال : لما نزلت هذه الآية : { لَنْ تَنالُوا البِرّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ } أو هذه الآية : { مَنْ ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا } قال أبو طلحة : يا رسول الله حائطي الذي بكذا وكذا صدقة ، ولو استطعت أن أجعله سرّا لم أجعله علانية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اجْعَلْها فِي فُقَرَاءِ أهْلِكَ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك ، قال : لما نزلت هذه الآية :
{ لَنْ تَنَالُوا البِرّ حَتى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ } قال أبو طلحة : يا رسول الله ، إن الله يسألنا من أموالنا ، اشهد أني قد جعلت أرضي بأرْيَحا لله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اجْعَلْها فِي قَرَابَتِكَ » . فجعلها بين حسان بن ثابت وأبيّ بن كعب .
حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا ليث ، عن ميمون بن مهران ، أن رجلاً سأل أبا ذرّ أيّ الأعمال أفضل ؟ قال : الصلاة عماد الإسلام ، والجهاد : سنام العمل ، والصدقة شيء عجيب . فقال : يا أبا ذرّ لقد تركت شيئا هو أوثق عملي في نفسي لا أراك ذكرته ! فقال : ما هو ؟ قال : الصيام ، فقال : قربة ، وليس هناك ! وتلا هذه الآية : { لَنْ تَنَالُوا البِرّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني داود بن عبد الرحمن المكي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين ، عن عمرو بن دينار ، قال : لما نزلت هذه الاَية : { لَنْ تَنَالُوا البِرّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ } جاء زيد بفرس له يقال لها : «سَبَل » إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : تصدّق بهذه يا رسول الله ! فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنة أسامة بن زيد بن حارثة ، فقال : يا رسول الله إنما أردت أن أتصدّق به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قَدْ قُبِلَتْ صَدَقَتُكَ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب وغيره : أنها حين نزلت : { لَنْ تَنَالُوا البِرّ حتى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ } جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها ، فقال : يا رسول الله هذه في سبيل الله ! فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها أسامة بن زيد ، فكأن زيدا وجد في نفسه ، فلما رأى ذلك منه النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «أمَا إنّ اللّهَ قَدْ قَبِلَها » .
استئناف وقع معتَرَضاً بين جملة { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفّار } [ آل عمران : 91 ] الآية ، وبين جملة { كُلّ الطعام كانَ حِلاّ لبني إسرائيل } [ آل عمران : 93 ] .
وافتتاح الكلام ببيان بعض وسائل البرّ إيذَان بأنّ شرائع الإسلام تدور على مِحْور البرّ ، وأنّ البرّ معنى نفساني عظيم لا يخرِم حقيقته إلاّ ما يفضى إلى نقض أصل من أصول الاستقامة النَّفسانيّة . فالمقصود من هذه الآيَة أمران : أوّلهما التَّحريض على الإنفاق والتّنويه بأنّه من البرّ ، وثانيهما التنويه بالبرّ الَّذِي الإنفاق خصلة من خصاله .
ومناسبة موقع هذه الآية تِلْو سابقتها أنّ الآية السّابقة لمّا بينت أنّ الّذين كفروا لن يقبل من أحدهم أعظم ما ينفقه ، بيّنت هذه الآية ما ينفع أهل الإيمان من بذل المال ، وأنّه يبلغ بصاحبه إلى مرتبة البرّ ، فبيْن الطرفيْن مراتب كثيرة قد علمها الفطناء من هذه المقابلة . والخطاب للمؤمنين لأنَّهم المقصود من كُلّ خطاب لم يتقدّم قبله ما يعيِّن المقصود منه .
والبرّ كمال الخير وشموله في نوعه : إذ الخير قد يعظم بالكيفية ، وبالكميّة ، وبهما معاً ، فبذل النَّفس في نصر الدّين يعظم بالكيفية في ملاقاة العدوّ الكثير بالعدد القليل ، وكذلك إنقاذ الغريق في حالة هوْل البحر ، ولا يتصوّر في مثل ذلك تعدّد ، وإطعام الجائع يعظم بالتعدّد ، والإنفاق يعظم بالأمرين جميعاً ، والجزاء على فعل الخير إذا بلغ كمال الجزاء وشموله كان برّاً أيضاً .
وروَى النَّوَّاسُ بن سِمْعان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « البرُّ حُسْن الخُلُق والإثممِ ما حاك في النفْس وكَرهتَ أن يَطَّلع عليه الناس » رواه مسلم .
ومُقابَلَة البرّ بالإثم تدلّ على أنّ البرّ ضدّ الإثم . وتقدّم عند قوله تعالى : { ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قِبل المَشرق والمغرب } [ البقرة : 177 ] .
وقد جعل الإنفاق من نفس المال المُحَبّ غاية لانتفاء نوال البرّ ، ومقتضى الغاية أنّ نوال البرّ لا يحصل بدونها ، وهو مشعر بأنّ قبْل الإنفاق مسافاتتٍ معنوية في الطريق الموصلة إلى البرّ ، وتلك هي خصال البرّ كلّها بقيتْ غير مسلوكة ، وأنّ البرّ لا يحصل إلاّ بنِهايتها وهو الإنفاق من المحبوب ، فظهر ل ( حتّى ) هنا موقع من البلاغة لا يخلفها فيه غيرها : لأنَّه لو قيل إلاّ أن تنفقوا مِمَّا تحبّون ، لتوهمّ السامع أنّ الإنفاق من المحَبِّ وحده يوجب نَوال البِرّ ، وفاتت الدلالة على المسافات والدرجات الَّتي أشعرت بها ( حتَّى ) الغائية .
و ( تنالوا ) مشتقّ من النوال وهو التّحصيل على الشيء المعطي .
والتّعريف في البِرّ تعريف الجنس : لأنّ هذا الجنس مركّب من أفعال كثيرة منها الإنفاق المخصوص ، فبدونه لا تتحقَّق هذه الحقيقة .
والإنفاق : إعطاء المال والقوتِ والكسوة .
وما صدقُ ( ما ) في قوله : { مما تحبون } المال : أي المال النَّفيس العزيز على النَّفس ، وسوّغ هذا الإبهام هنا وجود تنفقوا إذ الإنفاق لا يطلق على غير بذل المال ف ( من ) للتبعيض لا غير ، ومن جوّز أن تكون ( من ) للتبيين فقد سها لأنّ التبيينية لا بدّ أن تُسبق بلفظ مبهم .
والمال المحبوب يختلف باختلاف أحوال المتصدّقين ، ورغباتهم ، وسعة ثرواتهم ، والإنفاقُ منه أي التّصدق دليل على سخاءٍ لوجه الله تعالى ، وفي ذلك تزكية للنّفس من بقية ما فيها من الشحّ ، قال تعالى : { ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون } [ الحشر : 9 ] وفي ذلك صلاح عظيم للأمّة إذ تجود أغنيَاؤها على فقرائها بما تطمح إليه نفوسهم من نفائس الأموال فتشتدّ بذلك أواصر الأخوّة ، ويهنأ عيش الجميع .
روى مالك في « الموطأ » ، عن أنس بن مالك ، قال : كان أبو طلحة أكثر أنصاريّ بالمدينة مالاً ، وكان أحبُّ أمواله بئرَ حاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب ، فلما نزل قوله تعالى { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } جاء أبو طلحة ، فقال : « يا رسول الله إنّ الله قال : { لن تنالوا البرّ حتَّى تنفقوا ممَّا تحبّون } ، وإنّ أحبّ أموالي بئر حاء وإنها صدقة لله أرجو بِرّها وذُخْرَها عندَ الله ، فَضَعْهَا يا رسول الله حيثُ أراك الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فَبَخْ ذلك مال رابح ، ذلك مال رابح ، وقد سمعتُ ما قلتَ وإني أرَى أن تجعلها في الأقربين ، فقال : أفْعلُ يا رسول الله . فجعلها لحسّان بن ثابت ، وأبيّ بن كعب .
وقد بيَّن الله خصال البِرّ في قوله : { ولكن البر من آمن باللَّه واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنَّبيّين وآتى المال على حُبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقامَ الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس } في سورة [ البقرة : 177 ] .
( فالبرّ هو الوفاء بما جاء به الإسلام ممَّا يعرض للمرء في أفعاله ، وقد جمع الله بينه وبين التَّقوى في قوله : { وتعاونوا على البِر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } [ المائدة : 2 ] فقابل البرّ بالإثم كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النّواس بن سِمْعان المتقدّم آنفاً .
وقوله : { وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم } تَذْييل قُصد به تعميم أنواع الإنفاق ، وتبيين أنّ الله لا يخفى عليه شيء من مقاصد المنفقين ، وقد يكون الشيء القليل نفيساً بحسب حال صاحبه كما قال تعالى : { والذين لا يجدون إلاّ جهدهم } [ التوبة : 79 ] .
وقوله : { فإن الله به عليم } مراد به صريحه أي يطّلع على مقدار وقعه ممَّا رغَّب فيه ، ومرَاد به الكناية عن الجزاء عليه .