220- ويسألونك بشأن اليتامى والذي يوجبه الإسلام حيالهم ، فقل : إن الخير لكم ولهم في إصلاحهم ، وأن تضمُّوهم إلى بيوتكم ، وأن تخالطوهم بقصد الإصلاح لا الفساد ، فهم إخوانكم في الدنيا يستدعون منكم هذه المخالطة ، والله يعلم المفسد من المصلح منكم فاحذروا . ولو شاء الله لشق عليكم ، فألزمكم رعاية اليتامى من غير مخالطة لهم ، أو تركهم من غير بيان الواجب لهم ، فيربون على بغض الجماعة ويكون ذلك إفساداً لجماعتكم وإعناتاً لكم ، إذ إن قهرهم وذلهم يجعل منهم المبغضين للجماعة المفسدين فيها ، وإن الله عزيز غالب على أمره ، ولكنه حكيم لا يشرع إلا ما فيه مصلحتكم .
ولما بيّن تعالى هذا البيان الشافي ، وأطلع العباد على أسرار شرعه قال : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ } أي : الدالات على الحق ، المحصلات للعلم النافع والفرقان ، { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } أي : لكي تستعملوا أفكاركم في أسرار شرعه ، وتعرفوا أن أوامره ، فيها مصالح الدنيا والآخرة ، وأيضا لكي تتفكروا في الدنيا وسرعة انقضائها ، فترفضوها وفي الآخرة وبقائها ، وأنها دار الجزاء فتعمروها .
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
لما نزل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } شق ذلك على المسلمين ، وعزلوا طعامهم عن طعام اليتامى ، خوفا على أنفسهم من تناولها ، ولو في هذه الحالة التي جرت العادة بالمشاركة فيها ، وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأخبرهم تعالى أن المقصود ، إصلاح أموال اليتامى ، بحفظها وصيانتها ، والاتجار فيها وأن خلطتهم إياهم في طعام أو غيره جائز على وجه لا يضر باليتامى ، لأنهم إخوانكم ، ومن شأن الأخ مخالطة أخيه ، والمرجع في ذلك إلى النية والعمل ، فمن علم الله من نيته أنه مصلح لليتيم ، وليس له طمع في ماله ، فلو دخل عليه شيء من غير قصد لم يكن عليه بأس ، ومن علم الله من نيته ، أن قصده بالمخالطة ، التوصل إلى أكلها وتناولها ، فذلك الذي حرج وأثم ، و " الوسائل لها أحكام المقاصد "
وفي هذه الآية ، دليل على جواز أنواع المخالطات ، في المآكل والمشارب ، والعقود وغيرها ، وهذه الرخصة ، لطف من الله [ تعالى ] وإحسان ، وتوسعة على المؤمنين ، وإلا ف { لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ } أي : شق عليكم بعدم الرخصة بذلك ، فحرجتم . وشق عليكم وأثمتم ، { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } أي : له القوة الكاملة ، والقهر لكل شيء ، ولكنه مع ذلك { حَكِيمٌ } لا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته الكاملة وعنايته التامة ، فعزته لا تنافي حكمته ، فلا يقال : إنه ما شاء فعل ، وافق الحكمة أو خالفها ، بل يقال : إن أفعاله وكذلك أحكامه ، تابعة لحكمته ، فلا يخلق شيئا عبثا ، بل لا بد له من حكمة ، عرفناها ، أم لم نعرفها وكذلك لم يشرع لعباده شيئا مجردا عن الحكمة ، فلا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة ، أو راجحة ، ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة ، لتمام حكمته ورحمته .
قال ابن جرير : حدثنا سفيان بن وَكِيع ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ الإسراء : 34 ] و { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [ النساء : 10 ] انطلق من كان عنده يتيم فعزَل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضُل له الشيء من طعامه فيُحبَس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم{[3802]} .
وهكذا رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن مَرْدويه ، والحاكم في مستدركه من طرق ، عن عطاء بن السائب ، به{[3803]} . وكذا رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وكذا رواه السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود - بمثله . وهكذا ذكر{[3804]} غير واحد في سبب نزول هذه الآية كمجاهد ، وعطاء ، والشعبي ، وابن أبي ليلى ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف .
قال وَكِيع بن الجراح : حدثنا هشام الدَّسْتَوائي{[3805]} عن حماد ، عن إبراهيم قال : قالت عائشة : إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي عُرّة{[3806]} حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي .
فقوله : { قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } أي : على حدَة { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } أي : وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم ، فلا بأس عليكم ؛ لأنهم إخوانكم في الدين ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } أي : يعلم مَنْ قَصْدُه ونيته الإفسادَ أو الإصلاح .
وقوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : ولو شاء لضيّق عليكم وأحرجَكم{[3807]} ولكنه وَسَّع عليكم ، وخفَّف عنكم ، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن ، كما قال : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ الأنعام : 152 ] ، ، بل قد جوز الأكل منه للفقير بالمعروف ، إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر ، أو مجانًا كما سيأتي بيانه في سورة النساء ، إن شاء الله ، وبه الثقة .
فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 220 )
قوله قبل { في الدنيا } ابتداء آية( {[2087]} ) ، وقد تقدم تعلقه ، وكون { تتفكرون } موقفاً يقوي تعلق { في الدنيا } ب { الآيات } ، وقرأ طاوس «قل إصلاح إليهم خير »( {[2088]} ) ، وسبب الآية فيما قال السدي والضحاك أن العرب كانت عادتهم أن يتجنبوا مال اليتيم ولا يخالطوه في مأكل ولا مشرب ولا شيء ، فكانت تلك مشقة عليهم ، فسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن عباس( {[2089]} ) وسعيد بن المسيب : سببها أن المسلمين لما نزلت { ولا تقربوا مال اليتيم }( {[2090]} ) [ الأنعام : 152 ] الآية ونزلت { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً }( {[2091]} ) [ النساء : 10 ] تجنبوا اليتامى وأموالهم وعزلوهم عن أنفسهم ، فنزلت { وإن تخالطوهم فإخوانكم }( {[2092]} ) الآية ، وقيل : إن السائل عبد الله بن رواحة ، وأمر الله تعالى نبيه أن يجيب بأن من قصد الإصلاح في مال اليتيم فهو خير ، وما فعل بعد هذا المقصد من مخالطة وانبساط بعوض منه فلا حرج ، ورفع تعالى المشقة في تجنب اليتيم ومأكله ومشربه ، وأباح الخلطة في ذلك إذا قصد الإصلاح ورفق اليتيم ، مثال ذلك كان يكتفي اليتيم دون خلطة بقدر ما في الشهر ، فإن دعت خلطة الولي إلى أن يزاد في ذلك القدر فهي مخالطة فساد ، وإن دعت إلى الحط من ذلك القدر فهي مخالطة إصلاح( {[2093]} ) ، وقوله تعالى : { فإخوانكم } خبر ابتداء محذوف ، وقوله { والله يعلم المفسد من المصلح } تحذير ، والعنت المشقة ، منه عنت العزبة ، وعقبة عنوت أي شاقة ، وعنت البعير إذا انكسر بعد جبر ، فالمعنى : لأتعبكم في تجنب أمر اليتامى ، ولكنه خفف عنكم ، وقال ابن عباس : المعنى لأوبقكم بما سلف من نيلكم من أموال اليتامى ، و { عزيز } مقتضاه لا يرد أمره ، و { حكيم } أي محكم ما ينفذه .