13- لقد كان لكم آية بيِّنة وعبرة ظاهرة في طائفتين من المحاربين التقتا يوم بدر ، إحداهما مؤمنة تحارب لإعلاء كلمة الله ونشر الحق ، والأخرى كافرة تحارب في سبيل الأهواء والشهوات ، فكان من تأييد الله للمؤمنين أن جعل الكافرين يرونهم ضعف عددهم الحقيقي ، وبذلك وقع الرعب في قلوب الكفار فانهزموا ، والله يمنح نصره لمن يشاء . وإن في ذلك لعبرة لأصحاب البصائر الرشيدة التي لا تنحرف في إدراكها عن الحق .
{ قد كان لكم آية } أي : عبرة عظيمة { في فئتين التقتا } وهذا يوم بدر { فئة تقاتل في سبيل الله } وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه { وأخرى كافرة } أي : كفار قريش الذين خرجوا من ديارهم بطرا وفخرا ورئاء الناس ، ويصدون عن سبيل الله ، فجمع الله بين الطائفتين في بدر ، وكان المشركون أضعاف المؤمنين ، فلهذا قال { يرونهم مثليهم رأي العين } أي : يرى المؤمنون الكافرين يزيدون عليها زيادة كثيرة ، تبلغ المضاعفة وتزيد عليها ، وأكد هذا بقوله { رأي العين } فنصر الله المؤمنين وأيدهم بنصره فهزموهم ، وقتلوا صناديدهم ، وأسروا كثيرا منهم ، وما ذاك إلا لأن الله ناصر من نصره ، وخاذل من كفر به ، ففي هذا عبرة لأولي الأبصار ، أي : أصحاب البصائر النافذة والعقول الكاملة ، على أن الطائفة المنصورة معها الحق ، والأخرى مبطلة ، وإلا فلو نظر الناظر إلى مجرد الأسباب الظاهرة والعدد والعدد لجزم بأن غلبة هذه الفئة القليلة لتلك الفئة الكثيرة من أنواع المحالات ، ولكن وراء هذا السبب المشاهد بالأبصار سبب أعظم منه لا يدركه إلا أهل البصائر والإيمان بالله والتوكل على الله والثقة بكفايته ، وهو نصره وإعزازه لعباده المؤمنين على أعدائه الكافرين .
( قد كان لكم آية في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين . والله يؤيد بنصره من يشاء . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) . .
وقوله تعالى : ( يرونهم مثليهم رأي العين ) يحتمل تفسيرين : فإما أن يكون ضمير( يرون ) راجعا إلى الكفار ، وضمير( هم ) راجعا إلى المسلمين ، ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين( مثليهم ) . . وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة وهم قلة ، فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم .
وإما أن يكون العكس ، ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين ( مثليهم ) هم - في حين أن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم - ومع هذا ثبتوا وانتصروا .
والمهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره . . وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد . كما أن فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم . . وكان الموقف - كما ذكرنا في التمهيد للسورة - يقتضي هذا وذاك . . وكان القرآن يعمل هنا وهناك . .
وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة . وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة . . إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله ، قائم في كل لحظة . ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة - ولو قل عددها - قائم كذلك في كل لحظة . وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ ، وسنة ماضية لم تتوقف .
وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة ؛ وتثق في ذلك الوعد ؛ وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة ؛ وتصبر حتى يأذن الله ؛ ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله ، المدبر بحكمته ، المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة .
( إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) . .
ولا بد من بصر ينظر وبصير تتدبر ، لتبرز العبرة ، وتعيها القلوب . وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار !
{ قد كان لكم آية } الخطاب لقريش أو لليهود ، وقيل للمؤمنين . { في فئتين التقتا } يوم بدر . { فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم } يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين ، وكان قريبا من ألف ، أو مثلي عدد المسلمين وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، وذلك كان بعد ما قللهم في أعينهم حتى اجترؤوا عليهم وتوجهوا إليهم ، قلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا مددا من الله تعالى للمؤمنين ، أو يرى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين وكانوا ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم ويتيقنوا بالنصر الذي وعدهم الله به في قوله : { فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } . ويؤيده قراءة نافع ويعقوب بالتاء وقرئ بهما على البناء للمفعول أي يريهم الله ، أو يريكم ذلك بقدرته ، وفئة بالجر على البدل من فئتين والنصب على الاختصاص ، أو الحال من فاعل التفتا . { رأي العين } رؤية ظاهرة معاينة { والله يؤيد بنصره من يشاء } نصره كما أيد أهل بدر . { إن في ذلك } أي التقليل والتكثير ، أو غلبة القليل عديم العدة في الكثير شاكي السلاح ، وكون الواقعة آية أيضا يحتملها ويحتمل وقوع الأمر على ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم . { لعبرة لأولى الأبصار } أي لعظة لذوي البصائر . وقيل لمن أبصرهم .
الخطاب في قوله : { قد كان لكم آية } خطاب للذين كفروا ، كما هو الظاهر ؛ لأنّ المقام للمحاجّة ، فأعقب الإنذار والوعيد بإقامة الحجّة . فيكون من جملة المقول ، ويجوز أن يكون الخطاب للمسلمين ، فيكون استئنافاً ناشئاً عن قوله ستُغلبون ؛ إذ لعلّ كثرة المخاطبين من المشركين ، أو اليهود ، أو كليهما ، يثير تعجّب السامعين من غلبهم فذكرهم الله بما كان يوم بدر .
والفئتان هما المسلمون والمشركون يوم بدر .
والالتقاء : اللقاء ، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة ، واللقاء مصادفة الشخصصِ شخصاً في مَكان واحد ، ويطلق اللقاء على البروز للقتال كما في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } وسيأتي . والالتقاء يطلق كذلك كقول أنيف بن زبان :
فلما التقينا بين لسيف بيننا *** لسائلة عنا حفي سؤالها .
وقوله { فئة تقاتل } تفصيل للفئتين ، وهو مرفوع على أنه صدر جملة للاستئناف في التفصيل والتقسيم ، الوارد بعد الإجمال والجمع .
والفئة : الجماعة من الناس ، وقد نقدم الكلام عليها في قوله تعالى { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } في سورة البقرة .
والخطاب في { ترونهم } كالخطاب في قوله : { قد كان لكم } .
والرؤية هنا بصرية بقوله { رأي العين } والظاهر أن الكفار رأو المسلمين يوم بدر عند اللقاء والتلاحم مثلي عددهم ، فوقع الرعب في قلوبهم فانهزموا . فهذه الرؤية جعلت آية لمن رأوها وتحققوا بعد الهزيمة أنهم كانوا واهمين فيما رأوه ليكون ذلك أشد حسرة لهم ، وتكون هذه الرؤية غير الرؤية المذكورة في الأنفال بقوله : { ويقللكم في أعينهم } فإن تلك يناسب أن تكون وقعت قبل التلاحم ، حتى يستخف المشركون بالمسلمين ، فلا يأخذوا أهميتهم للقائهم ، فلما لاقوهم رأوهم مثلي عددهم فدخلهم الرعب والهزيمة ، وتحققوا قلة المسلمين بعد انكشاف الملحمة فقد كانت إرادة القلة وإرادة الكثرة سببي نصر المسلمين بعجيب صنع الله تعالى . وجوز أن يكون المسلمون رأوا المشركين مثلي عدد المؤمنين ، وكان المشركون ثلاثة أمثالهم ، فقللهم الله في أعين المسلمين لئلا يفشلوا لأنهم قد علموا من قبل أن المسلم يغلب كافرَين فلو علموا أنهم ثلاثة أضعافهم لخافو الهزيمة ، وتكون هذه الإراءة هي الإراءة المذكورة في سورة الأنفال { وإذ يريكموهم إذ القتيتم في أعينكم قليلا } ويكون ضمير الغيبة في قوله { مثليهم } راجعا للمسلمين على طريقة الالتفات ، وأصله ترونهم مثليكم على أنه من المقول .
وقرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب : ترونهم – بناء الخطاب – وقرأه الباقون بياء الغيبة : على أنه حال من { أخرى كافرة } ، أو من { فئة تقاتل في سبيل الله } أي مثلي عدد المرئين . إن كان الراءون هم المشركون ، أو مثلي عدد الرائين ، إن كان الراءون هم المسلمين . لأن كليهما جرى ضميره على الغيبة وكلتا الرؤيتين قد وقعت يوم بدر وكل فئة علمت رؤيتها وتُحديت بهاته الآية ، وعلى هذه القراءة يكون العدول عن التغيير بفئتكم إلى قوله { فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة } لقصد صلوحية ضمير الغيبة لكلتا الفئتين ، فيفيد اللفظ آيتين على التوزيع بطريقة التوجيه .
و { رأي العين } مصدر مبين لنوع الرؤية : إذ كان فعل رأى يحتمل البصر والقلب وإضافته إلى العين دليل على أنه يستعمل مصدرا لرأى القلبية . كيف والرأي اسم للعقل ، وتشار فيها رأى البصرية ، بخلاف الرؤية فخاصة بالبصرية .
وجملة { والله يؤيد بنصره من يشاء } تذييل لأن تلك الرؤية كيفما فسرت تأييد للمسلمين . قال تعالى { إذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا } .