ولما كان نور الإيمان والقرآن أكثر وقوع أسبابه في المساجد ، ذكرها منوها بها فقال : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ }
أي : يتعبد لله { فِي بُيُوتٍ } عظيمة فاضلة ، هي أحب البقاع إليه ، وهي المساجد . { أَذِنَ اللَّهُ } أي : أمر ووصى { أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } هذان مجموع أحكام المساجد ، فيدخل في رفعها ، بناؤها ، وكنسها ، وتنظيفها من النجاسة والأذى ، وصونها من المجانين والصبيان الذين لا يتحرزون عن النجاسة ، وعن الكافر ، وأن تصان عن اللغو فيها ، ورفع الأصوات بغير ذكر الله .
{ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } يدخل في ذلك الصلاة كلها ، فرضها ، ونفلها ، وقراءة القرآن ، والتسبيح ، والتهليل ، وغيره من أنواع الذكر ، وتعلم العلم وتعليمه ، والمذاكرة فيها ، والاعتكاف ، وغير ذلك من العبادات التي تفعل في المساجد ، ولهذا كانت عمارة المساجد على قسمين : عمارة بنيان ، وصيانة لها ، وعمارة بذكر اسم الله ، من الصلاة وغيرها ، وهذا أشرف القسمين ، ولهذا شرعت الصلوات الخمس والجمعة في المساجد ، وجوبا عند أكثر العلماء ، أو استحبابا عند آخرين . ثم مدح تعالى عمارها بالعبادة فقال : { يُسَبِّحُ لَهُ } إخلاصا { بِالْغُدُوِّ } أول النهار { وَالْآصَالِ } آخره
ذلك النور الطليق ، الشائع في السماوات والأرض الفائض في السماوات والأرض ، يتجلى ويتبلور في بيوت الله التي تتصل فيها القلوب بالله ، تتطلع إليه وتذكره وتخشاه ، وتتجرد له وتؤثره على كل مغريات الحياة :
( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة . يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار . ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله ، والله يرزق من يشاء بغير حساب ) . .
وهناك صلة تصويرية بين مشهد المشكاة هناك ومشهد البيوت هنا ، على طريقة التناسق القرآنية في عرض المشاهد ذات الشكل المتشابه أو المتقارب . وهناك صلة مثلها بين المصباح المشرق بالنور في المشكاة ، والقلوب المشرقة بالنور في بيوت الله .
تلك البيوت ( أذن الله أن ترفع )- وإذن الله هو أمر للنفاذ - فهي مرفوعة قائمة ، وهي مطهرة رفيعة . يتناسق مشهدها المرفوع مع النور المتألق في السماوات والأرض . وتتناسق طبيعتها الرفيعة مع طبيعة النور السني الوضيء . وتتهيأ بالرفعة والارتفاع لأن يذكر فيها اسم الله : ( ويذكر فيها اسمه ) . وتتسق معها القلوب الوضيئة الطاهرة ، المسبحة الواجفة ، المصلية الواهبة .
لما ضرب الله تعالى [ مثل ]{[21194]} قلب المؤمن ، وما فيه من الهدى والعلم ، بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقّد من زيت طيب ، وذلك كالقنديل ، ذكر محلها وهي المساجد ، التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض ، وهي بيوته التي يعبد فيها ويُوَحّد ، فقال : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } أي : أمر الله تعالى برفعها ، أي : بتطهيرها من الدنس واللغو ، والأفعال والأقوال التي لا تليق فيها ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية الكريمة : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } قال : نهى الله سبحانه عن اللغو فيها . وكذا قال عكرمة ، وأبو صالح ، والضحاك ، ونافع بن جبير ، وأبو بكر بن سليمان بن أبي حَثْمة{[21195]} وسفيان بن حسين ، وغيرهم من علماء المفسرين{[21196]} . وقال قتادة : هي هذه المساجد ، أمر الله ، سبحانه ، ببنائها ورفعها ، وأمر بعمارتها وتطهيرها . وقد ذكر لنا أن كعبًا كان يقول : إن في التوراة مكتوبًا : " ألا إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإنه من توضأ فأحسن وضوءه ، ثم زارني في بيتي أكرمته ، وحَقّ على المَزُور كرامةُ الزائر " . رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره .
وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد ، واحترامها وتوقيرها ، وتطييبها وتبخيرها . وذلك له محل مفرد يذكر فيه ، وقد كتبت في ذلك جزءًا على حدَة ، ولله الحمد والمنة . ونحن بعون الله تعالى نذكر{[21197]} هاهنا طرفا من ذلك ، إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة وعليه التكلان :
فعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله ، بنى الله له مثله في الجنة " . أخرجاه في الصحيحين{[21198]} .
وروى ابن ماجه ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله ، بنى الله له بيتا في الجنة " {[21199]} .
وللنسائي عن عمرو بن عَبَسَة{[21200]} مثله{[21201]} . والأحاديث في هذا كثيرة جدا .
وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور ، وأن تنظف
وتطيب{[21202]} . رواه أحمد وأهل السنن إلا النسائي . ولأحمد وأبي داود ، عن سَمُرة بن جُنْدب نحوه . {[21203]} وقال البخاري : قال عمر : ابن للناس ما يكنهم ، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس{[21204]} .
وروى ابن ماجه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما ساء عملُ قوم قطّ إلا زخرفوا مساجدهم " . {[21205]} وفي إسناده ضعف .
وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أمِرْتُ بتشييد المساجد " . قال ابن عباس : لَتُزَخرفُنّها كما زَخْرَفت اليهود والنصارى{[21206]} وعن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد " . رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي{[21207]} وعن بُرَيْدَةَ أن رَجُلا أنشدَ في المسجد ، فقال : من دعا إلى الجمل الأحمر ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا وجدت ، إنما بُنِيت المساجد لما بنيت له " . رواه مسلم . {[21208]} وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن البيع والابتياع ، وعن تناشد الأشعار في المساجد . رواه أحمد وأهل السنن{[21209]} ، وقال الترمذي : حسن .
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه سلم : قال : " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد ، فقولوا : لا أربح الله تجارتك . وإذا رأيتم من يَنشُد ضالة في المسجد ، فقولوا : لا رَدَّ الله عليك " . رواه الترمذي ، وقال : حسن غريب . {[21210]} وقد روى ابن ماجه وغيره ، من حديث ابن عمر مرفوعًا ، قال : " خصال لا تنبغي في المسجد : لا يُتَّخذُ طريقًا ، ولا يُشْهَرُ فيه سلاح ، ولا يُنبَض فيه بقوس ، ولا ينثر فيه نبل ، ولا يُمرّ فيه بلحم نيئ : ولا يُضرَبُ فيه حَدٌّ ، ولا يُقْتَص فيه من أحد ، ولا يُتَّخذ سوقًا " {[21211]} .
وعن واثلة بن الأسقع ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جَنِّبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم ، وشراءكم وبيعكم ، وخصوماتكم ورفع أصواتكم ، وإقامة حدودكم وسل سيوفكم ، واتخذوا على أبوابها المطاهر ، وجَمّروها في الجُمَع " .
ورواه ابن ماجه أيضًا{[21212]} وفي إسنادهما{[21213]} ضعف .
أما أنه " لا يتخذ طريقًا " فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلا لحاجة إذا وَجَد مندوحة عنه . وفي الأثر : " إن الملائكة لتتعجب من الرجل يمر بالمسجد لا يصلي فيه " .
وأما أنه " لا يشهر فيه بسلاح{[21214]} . ولا ينبض فيه بقوس ، ولا ينثر فيه نبل{[21215]} . فلما يخشى من إصابة بعض الناس به ، لكثرة المصلين فيه ؛ ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر أحد بسهام أن يقبض على نصالها ؛ لئلا يؤذي أحدًا ، كما ثبت في الصحيح{[21216]} .
وأما النهي عن المرور باللحم النيء فيه ، فَلِما يخشى من تقاطر الدم منه ، كما نهيت الحائض عن المرور فيه إذا خافت التلويث .
وأما أنه " لا يضرب فيه حد ولا يقتص " ، فلما يخشى من إيجاد نجاسة فيه من المضروب أو المقطوع .
وأما أنه " لا يتخذ سوقًا " ، فلما تقدم من النهي عن البيع والشراء فيه ، فإنه إنما بني لذكر الله والصلاة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام ، {[21217]} لذلك الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد : " إن المساجد لم تبن لهذا ، إنما بنيت لذكر الله والصلاة فيها " . ثم أمر بسَجْل من ماء ، فأهريق على بوله{[21218]} .
وفي الحديث الثاني : " جَنِّبوا مساجدكم صبيانكم " ، وذلك لأنهم يلعبون فيه ولا يناسبهم ، وقد كان عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، إذا رأى صبيانًا يلعبون في المسجد{[21219]} ، ضربهم بالمِخْفَقَة - وهي الدِّرَّة - وكان يَعُسّ{[21220]} المسجد بعد العشاء ، فلا يترك فيه أحدًا .
" ومجانينكم " يعني : لأجل ضعف عقولهم ، وسَخْر الناس بهم ، فيؤدي إلى{[21221]} اللعب فيها ، ولما يخشى من تقذيرهم المسجد ، ونحو ذلك .
" وخصوماتكم " يعني : التحاكم والحكم فيه ؛ ولهذا نص كثير من العلماء على أن الحاكم لا ينتصب لفصل الأقضية في المسجد ، بل يكون في موضع غيره ؛ لما فيه من كثرة الحكومات والتشاجر والعياط{[21222]} الذي لا يناسبه ؛ ولهذا قال بعده : " ورفع أصواتكم " .
وقال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا الجُعَيْد{[21223]} بن عبد الرحمن قال : حدثني{[21224]} يزيد بن خُصَيفَة{[21225]} ، عن السائب بن يَزيدَ الكنْديِّ قال : كنت قائمًا في المسجد ، فحصبني رجل ، فنظرت فإذا عمر{[21226]} بن الخطاب ، فقال : اذهب فأتني بهذين . فجئته بهما ، فقال : من أنتما ؟ أو : من أين أنتما ؟ قالا من أهل الطائف . قال : لو كنتما من أهل
البلد لأوجعتكما : ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم{[21227]} .
وقال النسائي : حدثنا سُوَيْد بن نصر ، عن عبد الله بن المبارك ، عن شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال : سمع عمر صوت رجل في المسجد فقال : أتدري أين أنت ؟ وهذا أيضًا صحيح . {[21228]} وقوله : " وإقامة حدودكم ، وسل سيوفكم " : تقدما{[21229]} . وقوله : " واتخذوا على أبوابها المطاهر " يعني : المراحيض التي يستعان بها على الوضوء وقضاء الحاجة . وقد كانت قريبًا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم آبار{[21230]} يستقون منها ، فيشربون ويتطهرون ، ويتوضؤون وغير ذلك .
وقوله : " وجمِّروها في الجُمَع " يعني : بخروها في أيام الجُمَع لكثرة اجتماع الناس يومئذ .
وقد قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبيد الله ، حدثنا عبد الرحمن{[21231]} بن مهدي ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع عن ابن عمر ؛ أن عمر كان يُجَمِّر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جمعة . إسناده حسن لا بأس به{[21232]} والله أعلم .
وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " صلاة الرجل في الجماعة تُضَعَّف على صلاته في بيته وفي سوقه ، خمسًا وعشرين ضعفًا . وذلك أنه إذا توضأ فأحسن وضوءه{[21233]} ثم خرج إلى المسجد ، لا يخرجه إلا الصلاة ، لم يَخطُ خَطوة إلا رُفع له بها درجة ، وحطّ عنه بها خطيئة ، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مُصَلاه : اللهم صل عليه ، اللهم ارحمه ، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة " {[21234]} وعند الدارقطني مرفوعًا : " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " {[21235]} .
وفي السنن : " بشِّر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة " {[21236]} .
والمستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى ، وأن يقول كما ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عَمرو{[21237]} رضي الله عنه{[21238]} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال :
أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم ، من الشيطان الرجيم " [ قال : أقط ؟ قال : نعم ]{[21239]} . قال : فإذا قال ذلك قال الشيطان : حُفظ مني سائر اليوم{[21240]} .
وروى مسلم بسنده عن أبي حميد - أو : أبي أسَيْد - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج فليقل : اللهم إني أسألك من فضلك " .
ورواه النسائي عنهما ، عن النبي{[21241]} صلى الله عليه وسلم [ مثله ]{[21242]} -{[21243]} .
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دخل أحدكم المسجد ، فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك . وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم " .
ورواه ابن ماجه ، وابن خزيمة وابن حِبَّان في صحيحيهما{[21244]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا لَيْث بن أبي سليم ، عن عبد الله بن حسن{[21245]} . عن أمه فاطمة بنت حسين ، عن جدتها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم ، ثم قال : " اللهم ، اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك " . وإذا خرج صلى على محمد وسلم ثم قال : " اللهم ، اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب فضلك " .
ورواه الترمذي وابن ماجه{[21246]} ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن وإسناده ليس بمتصل ؛ لأن فاطمة بنت الحسين الصغرى لم تدرك فاطمة الكبرى .
فهذا الذي ذكرناه ، مع ما تركناه من الأحاديث الواردة في ذلك لحال الطول{[21247]} . كله داخل في قوله تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } .
وقوله : { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } أي : اسم الله ، كقوله : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [ الأعراف : 31 ] ، وقوله { وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ الأعراف : 29 ] ، وقوله { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [ الجن : 18 ] .
قال ابن عباس : { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } يعني : يتلى فيها كتابه .
وقوله : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } أي : في البُكَرات والعَشِيَّات . والآصال : جمع أصيل ،
وقال سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس : كل تسبيح في القرآن هو الصلاة .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني بالغدو : صلاة الغداة ، ويعني بالآصال : صلاة العصر ، وهما أول ما افترض الله من الصلاة ، فأحب أن يَذْكُرهما وأن يُذَكِّر بهما عباده .
وكذا قال الحسن ، والضحاك : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } يعني : الصلاة .
ومن قرأ من القَرَأَة{[21248]} " يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ " - بفتح الباء من " يُسبح " على أنه مبني لما لم يسم فاعله - وقف{[21249]} على قوله : { والآصَال } وقفًا تامًا ،
وابتدأ بقوله : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } وكأنه مفسر للفاعل المحذوف ، كما قال الشاعر{[21250]} .
لِيُبْكَ يزيدُ ، ضارعٌ لخُصُومة *** ومُخْتَبطٌ مما تُطيح الطّوَائحُ
كأنه قال : من يبكيه ؟ قال : هذا يبكيه . وكأنه قيل : من يسبح له فيها ؟ قال : رجال .
وأما على قراءة مَنْ قرأ : { يسبِّح } - بكسر الباء - فجعله فعلا وفاعله : { رِجَال } فلا يحسن الوقف إلا على الفاعل ؛ لأنه تمام الكلام .
فقوله : { رِجَال } فيه إشعار بهممهم السامية ، ونياتهم وعزائمهم العالية ، التي بها صاروا عُمَّارا للمساجد ، التي هي بيوت الله في أرضه ، ومواطن عبادته وشكره ، وتوحيده وتنزيهه ، كما قال تعالى : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ] .
فأما النساء فَصَلاتهن في بيوتهن أفضل لهن ؛ لما رواه أبو داود ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها ، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها " {[21251]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غَيْلان ، حدثنا رِشْدِين ، حدثني عمرو ، عن أبي السمح ، عن السائب مولى أم سلمة عن أم سلمة - رضي الله عنها ، - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خير مساجد النساء [ قعر ]{[21252]} بيوتهن " {[21253]} .
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا هارون ، أخبرني عبد الله بن وهب ، حدثنا داود بن قيس ، عن عبد الله بن سُوَيد الأنصاري ، عن عمته أم حميد - امرأة أبي حميد الساعدي - أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إني أحب الصلاة معك قال : " قد علمت أنك تحبين الصلاة معي ، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك ، وصلاتك في حُجْرَتك خير من صلاتك في دارك ، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك ، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي " . قال : فأمَرَت فبُني لها مسجد في أقصى بيت من بيوتها وأظلمه{[21254]} ، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله ، عز وجل . لم يخرجوه . {[21255]}
هذا ويجوز لها شهود جماعة الرجال ، بشرط أن لا تؤذي أحدًا من الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب كما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عُمَر أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " {[21256]} .
رواه البخاري ومسلم ، ولأحمد وأبي داود : " وبيوتهن خير لهن " {[21257]} وفي رواية : " وليخرجن وهن تَفِلات " {[21258]} أي : لا ريح لهن .
وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن زينب - امرأة ابن مسعود - قالت : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبًا " {[21259]} . وفي الصحيحين عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : كان نساء المؤمنين{[21260]} يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يرجعن متلفعات بمُرُوطهن ، ما يُعْرَفْن من الغَلَس{[21261]} .
وفي الصحيحين أيضًا عنها أنها قالت : لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهُنّ المساجد ، كما مُنعت نساء بني إسرائيل{[21262]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ * رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مّن فَضْلِهِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرفَعَ الله نور السموات والأرض ، مَثَل نورِه كمشكاة فيها مصباح ، في بيوت أذن الله أن ترفع . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : المِشكاة : التي فيها الفتيلة التي فيها المصباح . قال : المصابيح في بيوت أذن الله أن ترفع .
قال أبو جعفر : قد يحتمل أن تكون «من » في صلة «توقد » ، فيكون المعنى : تُوقَد من شجرة مباركة ذلك المصباح في بيوت أذن الله أن ترفع . وعنى بالبيوت : المساجد .
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم بالذي قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، ونصر بن عبد الرحمن الأَوْديّ ، قالا : حدثنا حَكّام ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قول الله : فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ قال : المساجد .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ وهي المساجد تُكْرَم ، ونهي عن اللغو فيها .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ يعني : كل مسجد يصلّى فيه ، جامع أو غيره .
حدثني محمد بن عمرو ، قالي : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ قال : مساجد تُبْني .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ قال : في المساجد .
قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، قال : أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون : المساجد : بيوت الله ، وإنه حقّ على الله أن يُكْرِم من زاره فيها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن سالم بن عمر ، في قوله : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ قال : هي المساجد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فِي بُيُوتٍ أَذِن الله أنْ تُرْفَعَ قال : المساجد .
وقال آخرون : عَنَى بذلك البيوتَ كلّها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، ونصر بن عبد الرحمن الأَوْديّ ، قالا : حدثنا حَكّام بن سلم ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عكرمة : فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ قال : هي البيوت كلها .
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك ، لدلالة قوله : يُسَبّحُ لَهُ فِيها بالغُدُوّ والاَصَالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ على أنها بيوت بنيت للصلاة فلذلك قلنا هي المساجد .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : أَذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ فقال بعضهم : معناه : أذن الله أن تُبْنَي . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عصام ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ قال : تُبْنَى .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد مثله .
وقال آخرون : معناه : أذن الله أن تعظّم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ يقول : أن تعظّم لذكره .
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب القول الذي قاله مجاهد ، وهو أن معناه : أذن الله أن ترفع بناء ، كما قال جلّ ثناؤهِ : وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وذلك أن ذلك هو الأغلب من معنى الرفع في البيوت والأبنية .
وقوله : وَيُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ يقول : وأَذِن لعباده أن يذكروا اسمه فيها . وقد قيل : عُنِي به أنه أذن لهم بتلاوة القرآن فيها . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : ثم قال : وَيُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ يقول : يُتْلَى فيها كتابه .
وهذا القول قريب المعنى مما قلناه في ذلك ، لأن تلاوة كتاب الله من معاني ذكر الله . غير أن الذي قلنا به أظهر معنييه ، فلذلك اخترنا القول به .
وقوله : يُسَبّحُ لَهُ فِيها بالغُدُوّ والاَصَالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ اختلفت القرّاء في قراءة قوله : يُسَبّحُ لَهُ ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار : يُسَبّحُ لَهُ بضم الياء وكسر الباء ، بمعنى : يصلّي له فيها رجال ، وبجعل «يسبّح » فعلاً ل«الرجال » وخبرا عنهم ، وترفع به «الرجال » . سوى عاصم وابن عامر ، فإنهما قرءا ذلك : «يُسَبّحُ له » بضمّ الياء وفتح الباء ، على ما لم يسمّ فاعله ، ثم يرفعان «الرجال » بخبر ثان مضمر ، كأنهما أرادا : يسبّح الله في البيوت التي أذن الله أن ترفع ، فسبّح له رجال فرفعا «الرجال » بفعل مضمر .
والقراءة التي هي أولاهما بالصواب : قراءة من كسر الباء ، وجعله خبرا ل«الرجال » وفعلاً لهم . وإنما كان الاختيار رفع الرجال بمضمر من الفعل لو كان الخبر عن البيوت لا يتمّ إلا بقوله : يُسَبّحُ لَهُ فِيها ، فأما والخبر عنها دون ذلك تام ، فلا وجه لتوجيه قوله : يُسَبّحُ لَهُ إلى غيره ، أيْ غير الخبر عن الرجال . وعُنِي بقوله : يُسَبّحُ لَهُ فِيها بالغُدُوّ والاَصَالِ يصلّي له في هذه البيوت بالغُدُوات والعَشيات رجال .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن الحسن الأزديّ ، قال : حدثنا المَعافى بن عمران ، عن سفيان ، عن عَمّار الدّهني ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : كلّ تسبيح في القرآن فهو صلاة .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : ثم قال : يُسَبّحُ لَهُ فِيها بالغُدُوّ والاَصَالِ يقول : يصلى له فيها بالغداة والعشيّ . يعني بالغدوّ : صلاة الغَداة ، ويعني بالاَصال : صلاة العصر . وهما أوّل ما افترض الله من الصلاة ، فأحبّ أن يذكرهما ويذكر بهما عبادته .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن : يُسَبّحُ لَهُ فِيها بالغُدُوّ والاَصَالِ رِجالٌ أذِن الله أن تُبْنى ، فيصلّى فيها بالغدوّ والاَصال .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول في قوله : يُسَبّحُ لَهُ فِيها بالغُدُوّ والاَصَالِ يعني الصلاة المفروضة .
{ في بيوت } متعلق بما قبله أي كمشكاة في بعض بيوت ، أو توقد في بيوت فيكون تقييد للممثل به بما لا يكون تحبيرا ومبالغة فيه فإن قناديل المساجد تكون أعظم ، أو تمثيلا لصلاة المؤمنين أو أبدانهم بالمساجد ، ولا ينافي جمع البيوت وحدة المشكاة إذ المراد بها ما له هذا الوصف بلا اعتبار وحدة ولا كثرة أو بما بعده وهو يسبح ، وفيها تكرير مؤكد لا بيذكر لأنه من صلة أن فلا يعمل فيما قبله أو بمحذوف مثل سبحوا في بيوت ، والمراد بها المساجد لأن الصفة تلائمها . وقيل المساجد الثلاثة والتنكير للتعظيم . { أذن الله أن ترفع } بالبناء أو التعظيم { ويذكر فيها اسمه } عام فيما يتضمن ذكره حتى المذاكرة في أفعاله والمباحثة في أحكامه . { يسبح له فيها بالغدو والآصال } ينزهونه أي يصلون له فيها بالغدوات والعشيات ، والغدو مصدر أطلق للوقت ولذلك حسن اقترانه بالآصال وهو جمع أصيل ، وقرئ " والايصال " وهو الدخول في الأصيل وقرأ ابن عامر وأبو بكر " يسبح " بالفتح على إسناده إلى أحد الظروف الثلاثة ورفع رجال بما يدل عليه ، وقرئ تسبح بالتاء مكسورا لتأنيث الجمع ومفتوحا على إسناده إلى أوقات الغدو .
الباء في { بيوت } : تضم وتكسر ، واختلف في الفاء من قوله { في } فقيل هي متعلقة ب { مصباح } [ النور : 35 ] قال أبو حاتم وقيل متعلقة ب { يسبح } المتأخر ، فعلى هذا التأويل يوقف على { عليم } [ النور : 38 ] قال الرماني هي متعلقة ب { يوقد } [ النور : 35 ] واختلف الناس في البيوت التي أَرادها بقوله تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع } فقال ابن عباس والحسن ومجاهد هي المساجد المخصوصة لله تعالى التي من عادتها أن تنور بذلك النوع من المصابيح ، وقال الحسن بن أَبي الحسن أراد بيت المقدس وسماه بيوتاً من حيث فيه مواضيع يتحيز بعضها عن بعض .
قال الفقيه الإمام القاضي : ويؤثر ، أن عادة بني إسرائيل في وقيد بيت المقدس كانت غاية في التهمم به ، وكان الزيت منتخباً مختوماً على ظروفه قد صنع صنعة وقدس حتى لا يجزى الوقيد بغيره ، فكان لهذا ونحوه أضوأ بيوت الأرض ، وقال عكرمة أراد بيوت الإِيمان على الإطلاق مساجد ومساكن فهي التي يستصبح فيها بالليل للصلاة وقراءة العلم ، وقال مجاهد أراد بيوت النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى : { يسبح له فيها بالغدو والآصل رجال } يقوي أنها المساجد وقوله : { أذن } بمعنى أمر وقضى ، وحقيقة الإذن العلم والتمكين دون حظر فإن اقتران بذلك أمر وإنفاذ كان أقوى ، و { ترفع } ، قيل معناه تبنى وتعالى ، قاله مجاهد وغيره فذلك كنحو قوله تعالى : { وإذ يرفع إبراهيم القواعد }{[8728]} [ البقرة : 127 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من بنى مسجداً من ماله بنى الله له بيتاً في الجنة »{[8729]} ، وفي هذا المعنى أحاديث ، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره معناه تعظم ويرفع شأنها ، وذكر { اسمه } تعالى ، هو بالصلاة والعبادة قولاً وفعلاً ، وقرأ ابن كثير وعاصم{[8730]} «يسبَّح » بفتح الباء المشددة ، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم «يسبِّح » بكسر الباء ، ف { رجال } على القراءة الأولى مرتفع بفعل مضمر يدل عليه { يسبح } تقديره يسبحه رجال ، فهذا عند سيبويه نظير قول الشاعر : «ليبك يزيد ضارع لخصومة »{[8731]} أي يبكيه ضارع ، و { رجال } على القراءة الثانية مرتفع ب { يسبح } الظاهر ، وروي عن يحيى بن وثاب أنه قرأ «تسبح » بالتاء من فوق ، و { الغدو والآصال } قال الضحاك أراد الصبح والظهر ، وقال ابن عباس أراد ركعتي الضحى والعصر وإن ركعتي الضحى لفي كتاب الله وما يغوص عليها إلا غواص ، وقرأ أبو مجلز «والإيصال » .
تردد المفسرون في تعلق الجار والمجرور من قوله : { في بيوت } الخ . فقيل قوله : { في بيوت } من تمام التمثيل ، أي فيكون { في بيوت } متعلقاً بشيء مما قبله . فقيل يتعلق بقوله : { يوقد } [ النور : 35 ] أي يوقد المصباح في بيوت . وقيل هو صفة لمشكاة ، أي مشكاة في بيوت وما بينهما اعتراض ؛ وإنما جاء بيوت بصيغة الجمع مع أن { مشكاة } و { مصباح } [ النور : 35 ] مفردان لأن المراد بهما الجنس فتساوى الإفراد والجمع .
ثم قيل : أريد بالبيوت المساجد . ولا يستقيم ذلك إذ لم يكن في مساجد المسلمين يومئذٍ مصابيح وإنما أحدثت المصابيح في المساجد الإسلامية في خلافة عمر بن الخطاب فقال له علي : نوّر الله مضجعك يا بن الخطاب كما نورت مسجدنا . وروي أن تميماً الداري أسرج المسجد النبوي بمصابيح جاء بها من الشام ولكن إنما أسلم تميم سنة تسع ، أي بعد نزول هذه الآية . وقيل البيوت مساجد بيت المقدس وكانت يومئذٍ بِيَعاً للنصارى . ويجوز عندي على هذا الوجه أن يكون المراد بالبيوت صوامع الرهبان وأديرتهم وكانت معروفة في بلاد العرب في طريق الشام يمرون عليها وينزلون عندها في ضيافة رهبانها . وقد ذكر صاحب « القاموس » عدداً من الأديرة . ويرجح هذا قوله : { أن ترفع } فإن الصوامع كانت مرفوعة والأديرة كانت تبنى على رؤوس الجبال . أنشد الفراء :
لو أبصرت رهبان دَير بالجبل *** لانحدر الرهبان يسعى ويصل
والمراد بإذن الله برفعها أنه ألهم متّخذيها أن يجعلوها عالية وكانوا صالحين يقرأون الإنجيل فهو كقوله تعالى : { لهدمت صوامع وبيع } إلى قوله : { يذكر فيها اسم الله كثيراً } [ الحج : 40 ] . وعبر بالإذن دون الأمر لأن الله لم يأمرهم باتخاذ الأديرة في أصل النصرانية ولكنهم أحدثوها للعون على الانقطاع للعبادة باجتهاد منهم ، فلم ينههم الله عن ذلك إذ لا يوجد في أصل الدين ما يقتضي النهي عنها فكانت في قسم المباح ، فلما انضم إلى إباحة اتخاذها نية العون على العبادة صارت مرضية لله تعالى . وهذا كقوله تعالى : { ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله } [ الحديد : 27 ] . وقد كان اجتهاد أحبار الدين في النصرانية وإلهامُهم دلائل تشريع لهم كما تقتضيه نصوص من الإنجيل . والمقصد من ذكر هذا على هذه الوجوه زيادة إيضاح المشبه به كقول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم : " فإذا لها كلاليبُ مثلُ حَسَك السَّعدان هل رأيتم حسك السَّعْدان ؟ " . وفيه مع ذلك تحسين المشبه به ليسري ذلك إلى تحسين المشبه كما في قول كعب بن زهير :
شجت بذي شبَم من ماء محنيَةِ *** صاففٍ بأبطح أضحى وهو مشمول
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه *** من صوب سارية بيضٌ يعاليل
لأن ما ذكر من وصف البيوت وما يجري فيها مما يكسبها حسناً في نفوس المؤمنين .
وتخصيص التسبيح بالرجال لأن الرهبان كانوا رجالاً .
وأريد بالرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله : الرهبان الذين انقطعوا للعبادة وتركوا الشغل بأمور الدنيا ، فيكون معنى : { لا تلهيهم تجارة ولا بيع } : أنهم لا تجارة لهم ولا بيع من شأنهما أن يلهياهم عن ذكر الله ، فهو من باب : على لاحب لا يهتدى بمناره .
والثناء عليهم يومئذٍ لأنهم كانوا على إيمان صحيح إذ لم تبلغهم يومئذٍ دعوة الإسلام ولم تبلغهم إلا بفتوح مشارف الشام بعد غزوة تبوك ، وأما كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فإنه لم يُذع في العامة . وكان الرهبان يتركون الكوى مفتوحة ليظهر ضوء صوامعهم وقد كان العرب يعرفون صوامع الرهبان وأضواءها في الليل . قال امرؤ القيس :
تُضيء الظلام بالعشيّ كأنها *** منارة مُمْسَى راهب متبتل
يضيء سناه أو مصابيح راهب *** أمال السليط بالذبال المفتل
السليط : الزيت . أي صب الزيت على الذبال فهو في تلك الحالة أكثر إضاءة . وكانوا يهتدون بها في أسفارهم ليلاً . قال امرؤ القيس :
سموت إليها والنجوم كأنها *** مصابيح رهبان تُشب لقُفَّال
القفال : جمع قافل وهم الراجعون من أسفارهم .
وقيل : أريد بالرفع الرفع المعنوي وهو التعظيم والتنزيه عن النقائص . فالإذن حينئذٍ بمعنى الأمر .
وبعد فهذا يبعد عن أغراض القرآن وخاصة المدني منه لأن الثناء على هؤلاء الرجال ثناء جم ومعقب بقوله : { ليجزيهم الله أحسن ما عملوا } .
والأظهر عندي : أن قوله : { في بيوت } ظرف مستقر هو حال من { نوره } في قوله { مثل نوره كمشكاة } [ النور : 35 ] الخ مشير إلى أن « نور » في قوله : { مثل نوره } مراد منه القرآن ، فيكون هذا الحال تجريداً للاستعارة التمثيلية بذكر ما يناسب الهيئة المشبهة أعني هيئة تلقي القرآن وقراءته وتدبره بين المسلمين مما أشار إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم " وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده " {[292]} فكان هذا التجريد رجوعاً إلى حقيقة التركيب الدال على الهيئة المشبهة كقول طرفة :
وفي الحي أحوى ينفض المَرْد شادف *** مظاهر سِمطي لؤلؤ وزبرجد
مع ما في الآية من بيان ما أجمل في لفظ : { مثل نوره } وبذلك كانت الآية أبلغ من بيت طرفة لأن الآية جمعت بين تجريد وبيان وبيت طرفة تجريد فقط .
ويجوز أن يكون { في بيوت } غير مرتبط بما قبله وأنه مبدأ استئناف ابتدائي وأن المجرور متعلق بقوله : { يسبح له فيها } . وتقديم المجرور للاهتمام بتلك البيوت وللتشويق إلى متعلق المجرور وهو التسبيح وأصحابه . والتقدير : يسبح لله رجال في بيوت ، ويكون قوله : { فيها } تأكيداً لقوله : { في بيوت } لزيادة الاهتمام بها . وفي ذلك تنويه بالمساجد وإيقاع الصلاة والذكر فيها كما في الحديث : " صلاة أحدكم في المسجد ( أي الجماعة ) تفضل صلاته في بيته بسبع وعشرين درجة " .
والمراد بالغدوّ : وقت الغدوّ وهو الصباح لأنه وقت خروج الناس في قضاء شؤونهم .
والآصال : جمع أصيل وهو آخر النهار ، وتقدم في آخر الأعراف ( 205 ) وفي سورة الرعد ( 15 ) .