27- وإن حب الاعتداء في طبيعة بعض الناس ، فاقرأ - أيها النبي - على اليهود - وأنت صادق - خبر هابيل وقابيل ابني آدم ، حين تقرَّب كل منهما إلى الله بشيء ، فتقبل الله قربان أحدهما لإخلاصه ، ولم يتقبل من الآخر لعدم إخلاصه ، فحسد أخاه وتوعده بالقتل حقداً عليه ، فرد عليه أخوه مبيناً له أن الله لا يتقبل العمل إلا من الأتقياء المخلصين في تقربهم .
{ 27 - 31 } { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ }
إلى آخر القصة{[261]} أي : قص على الناس وأخبرهم بالقضية التي جرت على ابني آدم بالحق ، تلاوة يعتبر بها المعتبرون ، صدقا لا كذبا ، وجدا لا لعبا ، والظاهر أن ابني آدم هما ابناه لصلبه ، كما يدل عليه ظاهر الآية والسياق ، وهو قول جمهور المفسرين .
أي : اتل عليهم نبأهما في حال تقريبهما للقربان ، الذي أداهما إلى الحال المذكورة .
{ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا } أي : أخرج كل منهما شيئا من ماله لقصد التقرب إلى الله ، { فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ } بأن علم ذلك بخبر من السماء ، أو بالعادة السابقة في الأمم ، أن علامة تقبل الله لقربان ، أن تنزل نار من السماء فتحرقه .
{ قَالَ } الابن ، الذي لم يتقبل منه للآخر حسدا وبغيا { لَأَقْتُلَنَّكَ } فقال له الآخر -مترفقا له في ذلك- { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } فأي ذنب لي وجناية توجب لك أن تقتلني ؟ إلا أني اتقيت الله تعالى ، الذي تقواه واجبة عليّ وعليك ، وعلى كل أحد ، وأصح الأقوال في تفسير المتقين هنا ، أي : المتقين لله في ذلك العمل ، بأن يكون عملهم خالصا لوجه الله ، متبعين فيه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق : إذ قربا قربانا ، فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال : لأقتلنك . قال : إنما يتقبل الله من المتقين . لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ، إني أخاف الله رب العالمين : إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار ، وذلك جزاء الظالمين . فطوعت له نفسه قتل أخيه ، فقتله ، فأصبح من الخاسرين . فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ، ليريه كيف يواري سوأة أخيه . قال : يا ويلتى ! أعجزت أن أكون مثل هذا >الغراب ، فأواري سوأة أخي ؟ فأصبح من النادمين ) . . .
هذه القصة تقدم نموذجا لطبيعة الشر والعدوان ؛ ونموذجا كذلك من العدوان الصارخ الذي لا مبرر له . كما تقدم نموذجا لطبيعة الخير والسماحة ؛ ونموذجا كذلك من الطيبة والوداعة . وتقفهما وجها لوجه ، كل منهما يتصرف وفق طبيعته . . وترسم الجريمة المنكرة التي يرتكبها الشر ، والعدوان الصارخ الذي يثير الضمير ؛ ويثير الشعور بالحاجة إلى شريعة نافذة بالقصاص العادل ، تكف النموذج الشرير المعتدي عن الاعتداء ، وتخوفه وتردعه بالتخويف عن الإقدام على الجريمة ؛ فإذا ارتكبها - على الرغم من ذلك - وجد الجزاء العادل ، المكافى ء للفعلة المنكرة . كما تصون النموذج الطيب الخير وتحفظ حرمة دمه . فمثل هذه النفوس يجب أن تعيش . وأن تصان ، وأن تأمن ؛ في ظل شريعة عادلة رادعة .
ولا يحدد السياق القرآني لا زمان ولا مكان ولا أسماء القصة . . وعلى الرغم من ورود بعض الآثار والروايات عن : " قابيل وهابيل " وأنهما هما ابنا آدم في هذه القصة ؛ وورود تفصيلات عن القضية بينهما ، والنزاع على أختين لهما . . فإننا نؤثر أن نستبقي القصة - كما وردت - مجملة بدون تحديد . لأن هذه الروايات كلها موضع شك في أنها مأخوذة عن أهل الكتاب - والقصة واردة في العهد القديم محددة فيها الأسماء والزمان والمكان على النحو الذي تذكره هذه الروايات - والحديث الوحيد الصحيح الوارد عن هذا النبأ لم يرد فيه تفصيل . وهو من رواية ابن مسعود قال : قال رسول الله [ ص ] : " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ، لأنه كان أول من سن القتل " . . [ رواه الإمام أحمد في مسنده ] : حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا : حدثنا الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن عبدالله بن مسعود . . وأخرجه الجماعة - سوى أبى داود - من طرق عن الأعمش . . وكل ما نستطيع أن نقوله هو أن الحادث وقع في فترة طفولة الإنسان ، وأنه كان أول حادث قتل عدواني متعمد ، وأن الفاعل لم يكن يعرف طريقة دفن الجثث . .
وبقاء القصة مجملة - كما وردت في سياقها القرآني - يؤدي الغرض من عرضها ؛ ويؤدي الإيحاءات كاملة ؛ ولا تضيف التفصيلات شيئا إلى هذه الأهداف الأساسية . . لذلك نقف نحن عند النص العام لا نخصصه ولا نفصله . .
( واتل عليهم نبأ ابني آدم - بالحق - إذ قربا قربانا ، فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر . قال : لأقتلنك . قال : إنما يتقبل الله من المتقين ) . .
واتل عليهم نبأ هذين النموذجين من نماذج البشرية - بعدما تلوت من قصة بني إسرائيل مع موسى - اتله عليهم بالحق . فهو حق وصدق في روايته ، وهو ينبى ء عن حق في الفطرة البشرية ؛ وهو يحمل الحق في ضرورة الشريعة العادلة الرادعة .
إن ابني آدم هذين في موقف لا يثور فيه خاطر الاعتداء في نفس طيبة . فهما في موقف طاعة بين يدي الله . موقف تقديم قربان ، يتقربان به إلى الله :
( فتقبل من أحدهما ، ولم يتقبل من الآخر ) . .
والفعل مبني للمجهول ؛ ليشير بناؤه هكذا إلى أن أمر القبول أو عدمه موكول إلى قوة غيبية ؛ وإلى كيفية غيبية . . وهذه الصياغة تفيدنا أمرين : الأول ألا نبحث نحن عن كيفية هذا التقبل ولا نخوض فيه كما خاضت كتب التفسير في روايات نرجح إنها مأخوذة عن أساطير " العهد القديم " . . والثاني الإيحاء بأن الذي قبل قربانه لا جريره له توجب الحفيظة عليه وتبييت قتله ، فالأمر لم يكن له يد فيه ؛ وإنما تولته قوة غيبية بكيفية غيبية ؛ تعلو على إدراك كليهما وعلى مشيئته . . فما كان هناك مبرر ليحنق الأخ على أخيه ، وليجيش خاطر القتل في نفسه ! فخاطر القتل هو أبعد ما يرد على النفس المستقيمة في هذا المجال . . مجال العبادة والتقرب ، ومجال القدرة الغيبية الخفية التي لا دخل لإرادة أخيه في مجالها . .
وهكذا يبدو هذا القول - بهذا التأكيد المنبى ء عن الإصرار - نابيا مثيرا للاستنكار لأنه ينبعث من غير موجب ؛ اللهم إلا ذلك الشعور الخبيث المنكر . شعور الحسد الأعمى ؛ الذي لا يعمر نفسا طيبة . .
وهكذا نجدنا منذ اللحظة الأولى ضد الاعتداء : بإيحاء الآية التي لم تكمل من السياق . .
ولكن السياق يمضي يزيد هذا الاعتداء نكارة وبشاعة ؛ بتصوير استجابة النموذج الآخر ؛ ووداعته وطيبة قلبه :
( قال : إنما يتقبل الله من المتقين ) .
هكذا في براءة ترد الأمر إلى وضعه وأصله ؛ وفي إيمان يدرك أسباب القبول ؛ وفي توجيه رفيق للمعتدي أن يتقي الله ؛ وهداية له إلى الطريق الذي يؤدي إلى القبول ؛ وتعريض لطيف به لا يصرح بما يخدشه أو يستثيره . .
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقّ إِذْ قَرّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبّلْ مِنَ الاَخَرِ قَالَ لأقْتُلَنّكَ قَالَ إِنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتّقِينَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واتل على هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليكم ، عليك وعلى أصحابك معك ، وعرّفهم مكروه عاقبة الظلم والمكر ، وسوء مغبة الجور ونقض العهد ، وما جزاء الناكث وثواب الوافي ، خَبَرَ ابني آدم هابيل وقابيل ، وما آل إليه أمر المطيع منهما ربه الوافي بعهده ، وما إليه صار أمر العاصي منهما ربه الجائر الناقض عهده فلتعرف بذلك اليهود وخامة غبّ غدرهم ، ونقضهم ميثاقهم بينك وبينهم ، وهمهم بما هموا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك . فإن لك ولهم في حسن ثوابي وعظم جزائي على الوفاء بالعهد الذي جازيت المقتول الوافيَ بعهده من ابني آدم ، وعاقبت به القاتل الناكث عهده عزاء جميلاً .
واختلف أهل العلم في سبب تقريب ابني آدم القربان ، وسبب قبول الله عزّ وجلّ ما تقبل منه ، ومن اللذان قرّبا ؟ فقال بعضهم : كان ذلك عن أمر الله جلّ وعزّ إياهما بتقريبه . وكان سبب القبول أن المتقبل منه قرب خير ماله وقرّب الاَخر شرّ ماله ، وكان المقرّبان ابني آدم لصلبه أحدهما : هابيل ، والاَخر قابيل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن هشام بن سعيد ، عن إسماعيل بن رافع ، قال : بلغني أن ابني آدم لما أمرا بالقربان ، كان أحدهما صاحب غنم ، وكان أُنِتج له حَمَل في غنمه ، فأحبه حتى كان يؤثره بالليل ، وكان يحمله على ظهره من حبه ، حتى لم يكن له مال أحبّ إليه منه فلما أمر بالقربان ، قرّبه لله فقبله الله منه ، فما زال يرتع في الجنة حتى فدَى به ابن إبراهيم صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عوف ، عن أبي المغيرة ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : إن ابني آدم اللذين قرّبا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الاَخر ، كان أحدهما صاحب حرث ، والاَخر صاحب غنم ، وأنهما أمرا أن يقرّبا قربانا وإن صاحب الغنم قرّب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه ، وإن صاحب الحرث قرّب شرّ حرثه الكَوْزَن والزّوَان غير طيبة بها نفسه وإن الله تقبل قربان صاحب الغنم ولم يتقبل قربان صاحب الحرث . وكان من قصتهما ما قصّ الله في كتابه ، وقال : ايْمُ الله إن كان المقتول لأشدّ الرجلين ، ولكن منعه التحرّج أن يبسط يده إلى أخيه
وقال آخرون : لم يكن ذلك من أمرهما عن أمر الله إياهما به . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين فيتصدّق عليه ، وإنما كان القربان يقربه الرجل . فبَيْنا ابنا آدم قاعدان ، إذ قالا : لو قربنا قربانا وكان الرجل إذا قرّب قربانا فرضيه الله أرسل إليه نارا فأكلته ، وإن لم يكن رضيه الله خبت النار . فقرّبا قربانا ، وكان أحدهما راعيا ، وكان الاَخر حراثا ، وإن صاحب الغنم قرّب خير غنمه وأسمنها وقرّب الاَخر أبغض زرعه ، فجاءت النار ، فنزلت بينهما ، فأكلت الشاة وتركت الزرع . وإن ابن آدم قال لأخيه : أتمشي في الناس وقد علموا أنك قرّبت قربانا فتقبل منك وردّ عليّ ؟ فلا والله ، لا تنظر الناس إليّ وإليك وأنت خير مني فقال : لأقتلنك فقال له أخوه : ما ذنبي ، إنما يتقبل الله من المتقين .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : إذْ قَرَبا قُرْبانا قال : ابنا آدم هابيل وقابيل لصلب آدم ، فقرّب أحدهما شاة وقرّب الاَخر بقلاً ، فقبل من صاحب الشاة ، فقتله صاحبه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ ابْنَيْ آدَم بِالَحّق إذْ قَرّبا قُرْبانا قال : هابيل وقابيل ، فقرب هابيل عَنَاقا من أحسن غنمه ، وقرّب قابيل زرعا من زرعه . قال : فأكلت النار العناق ، ولم تأكل الزرع ، ف قال لأَقْتُلَنّكَ قَالَ إنّما يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ المُتّقِينَ .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا رجل سمع مجاهدا في قوله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ ابْنَيْ آدَم بِالَحّق إذْ قَرّبا قُرْبانا قال : هو هابيل وقابيل لصلب آدم ، قرّبا قربانا ، قرب أحدهما شاة من غنمه وقرّب الاَخر بقلاً ، فتقبل من صاحب الشاة ، فقال لصاحبه : لأقتلنك فقتله ، فعقل الله إحدى رجليه بساقها إلى فخذها إلى يوم القيامة ، وجعل وجهه إلى الشمس حيثما دارت عليه حظيرة من ثلج في الشتاء وعليه في الصيف حظيرة من نار ، ومعه سبعة أملاك كلما ذهب ملك جاء الاَخر .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ( ح ) . وحدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ ابْنَيْ آدَم بِالَحّق إذْ قَرّبا قُرْبانا فَتُقُبّلَ مِنْ أحَدِهِما ولَمْ يُتَقَبّلْ مِنَ الاَخَرِ قال : قرّب هذا كبشا وقرّب هذا صُبْرة من طعام فتقبل من أحدهما . قال : تقبّل من صاحب الشاة ولم يتقبل من الاَخر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ ابْنَيْ آدَم بِالَحّق إذْ قَرّبا قُرْبانا فَتُقُبّلَ مِنْ أحَدهِما وَلمْ يُتَقَبّلْ مِنَ الاَخَرِ كان رجلان من بني آدم ، فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الاَخر .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ ابْنَيْ آدَم بِالَحّققال : كان أحدهما اسمه قابيل والاَخر هابيل أحدهما صاحب غنم ، والاَخر صاحب زرع ، فقرّب هذا من أمثل غنمه حَمَلاً ، وقرّب هذا من أردإ زرعه . قال : فنزلت النار ، فأكلت الحَمَل ، فقال لأخيه : لأقتلنك
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل : أن آدم أمر ابنه قابيل أن ينكح أخته توأمة هابيل ، وأمر هابيل أن ينكح أخته توأمة قابيل . فسلم لذلك هابيل ورضى ، وأبي قابيل ذلك وكرهه ، تكرما عن أخت هابيل ، ورغب بأخته عن هابيل ، وقال : نحن ولادة الجنة وهما من ولادة الأرض ، وأنا أحقّ بأختي ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل : كانت أخت قابيل من أحسن الناس ، فضنّ بها على أخيه وأرادها لنفسه ، فالله أعلم أيّ ذلك كان . فقال له أبوه : يا بنيّ إنها لا تحلّ لك فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه ، فقال له أبوه : يا بنيّ فقرّب قربانا ، ويقرّب أخوك هابيل قربانا ، فأيكما قبل الله قربانه فهو أحقّ بها . وكان قابيل على بَذْر الأرض ، وكان هابيل على رعاية الماشية ، فقرّب قابيل قمحا وقرّب هابيل أبكارا من أبكار غنمه وبعضهم يقول : قرّب بقرة فأرسل الله نارا بيضاء ، فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل ، وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، فيما ذكر عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس . وعن مرّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : كان لا يولد لاَدم مولود إلا ولد معه جارية ، فكان يزوّج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الاَخر ، ويزوّج جارية هذا البطن غلام البطن هذا الاَخر . حتى ولد له ابنان يقال لهما : قابيل ، وهابيل ، وكان قابيل صاحب زرع ، وكان هابيل صاحب ضرع . وكان قابيل أكبرهما ، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل . وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل ، فأبى عليه وقال : هي أخت ولدت معي ، وهي أحسن من أختك ، وأنا أحقّ أن أتزوّجها . فأمره أبوه أن يزوّجها هابيل فأبى . وإنهما قرّبا قربانا إلى الله أيهما أحقّ بالجارية ، وكان آدم يومئذ قد غاب عنهما إلى مكة ينظر إليها ، قال الله لاَدم : يا آدم ، هل تعلم أن لي بيتا في الأرض ؟ قال : اللهمّ لا قال : فإن لي بيتا بمكة فأته فقال آدم للسماء : احفظي ولدي بالأمانة ، فأبت . وقال للأرض فأبت ، وقال للجبال فأبت ، وقال لقابيل ، فقال : نعم تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرّك . فلما انطلق آدم قرّبا قربانا ، وكان قابيل يفخر عليه ، فقال : أنا أحقّ بها منك ، هي أختي ، وأنا أكبر منك ، وأنا وصيّ والديّ . فلما قرّبا ، قرّب هابيل جذعة سمينة ، وقرّب قابيل حُزمة سنبل ، فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها فأكلها . فنزلت النار فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل ، فغضب وقال : لأقتلنك حتى لا تنكح أختي فقال هابيل إنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ المُتّقِينَ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ ابْنَيْ آدَم بِالَحّق ذكر لنا أنهما هابيل وقابيل . فأما هابيل فكان صاحب ماشية ، فعمد إلى خير ماشيته ، فتقرّب بها ، فنزلت عليه نار فأكلته . وكان القربان إذا تقبل منهم نزلت عليه نار فأكلته ، وإذا ردّ عليهم أكلته الطير والسباع . وأما قابيل فكان صاحب زرع ، فعمد إلى أردإ زرعه ، فتقرّب به ، فلم تنزل عليه النار ، فحسد أخاه عند ذلك فقال : لاَءَقْتُلَنّكَ قالَ إنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ المُتّقِينَ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ ابْنَيْ آدَم بِالَحّقّ قال : هما قابيل وهابيل . قال : كان أحدهما صاحب زرع والاَخر صاحب ماشية ، فجاء أحدهما بخير ماله وجاء الاَخر بشرّ ماله ، فجاءت النار ، فأكلت قربان أحدهما وهو هابيل ، وتركت قربان الاَخر ، فحسده فقال : لأقتلنك
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : إذْ قَرّبا قُرْبانا قال : قرّب هذا زرعا وذا عناقا ، فتركت النار الزرع وأكلت العناق .
وقال آخرون : اللذان قرّبا قربانا وقصّ الله عزّ ذكره قصصهما في هذه الاَية ، رجلان من بني إسرائيل لا من ولد آدم لصلبه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن ، قال : كان الرجلان اللذان في القرآن ، اللذان قال الله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ ابْنَيْ آدَم بِالَحّق من بين إسرائيل ، ولم يكونا ابني آدم لصلبه ، وإنما كان القربان في بني إسرائيل ، وكان آدم أوّل من مات .
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، أن اللذين قرّبا القربان كان ابني آدم لصلبه ، لا من ذريته من بني إسرائيل . وذلك أن الله عزّ وجلّ يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة ، والمخاطبون بهذه الاَية كانوا عالمين أن تقريب القربان لله لم يكن إلا في ولد آدم دون الملائكة والشياطين وسائر الخلق غيرهم . فإذا كان معلوما ذلك عندهم ، فمعقول أنه لو لم يكن معنيا بابني آدم اللذين ذكرهما الله في كتابه ابناه لصلبه ، لم يفدْهم بذكره جلّ جلاله إياهما فائدة لم تكن عندهم . وإذا كان غير جائز أن يخاطبهم خطابا لا يفيدهم به معنى ، فمعلوم أنه عنى ابني آدم لصلبه ، لا ابني بنيه الذين بَعُد منه نسبهم مع إجماع أهل الأخبار والسير والعلم بالتأويل على أنهما كانا ابني آدم لصلبه وفي عهد آدم وزمانه ، وكفى بذلك شاهدا . وقد ذكرنا كثيرا ممن نصّ عنه القول بذلك ، وسنذكر كثيرا ممن لم يذكر إن شاء الله .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا حسام بن مصكّ ، عن عمار الدهنيّ ، عن سالم بن أبي الجعف ، قال : لما قتل ابن آدم أخاه ، مكث آدم مائة سنة حزينا لا يضحك ، ثم أتى فقيل له : حيّاك الله وبيّاك فقال : بيّاك : أضحكك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن غياث بن إبراهيم ، عن أبي إسحاق الهمداني ، قال : قال عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه : لما قتل ابن آدم أخاه ، بكى آدم فقال :
تَغَيّرَتِ البلادُ وَمَنْ عَلَيْها ***فَلَوْنُ الأرْضِ مُغْبَرّ قَبيحُ
تَغَيّرَ كلّ ذي لوْنٍ وطَعْمٍ ***وَقَلّ بَشاشَةُ الوَجْهِ المَلِيحَ
أبا هابِيلَ قَدْ قُتِلا جَمِيعا ***وصَارَ الحَيّ كالمَيْتِ الذّبِيحِ
وجاءَ بِشَرّةٍ قدْ كانَ مِنْها ***على خَوْفٍ فجاءَ بها يصيحُ
وأما القول في تقريبهما ما قرّبا ، فإن الصواب فيه من القول أن يقال : إن الله عزّ ذكره أخبر عباده عنهما أنهما قد قرّبا ، ولم يخبر أن تقريبهما ما قرّبا كان عن أمر الله إياهما به ولا عن غير أمره . وجائز أن يكون كان عن أمر الله إياهما بذلك ، وجائز أن يكون عن غير أمره . غير أنه أيّ ذلك كان فلم يقرّبا ذلك إلا طلب قربة إلى الله إن شاء الله .
وأما تأويل قوله : قالَ لاَءَقْتُلَنّكَ فإن معناه : قال الذي لم يتقبل منه قربانه للذي تقبل منه قربانه : لأقتلنك فترك ذكر المتقبل قربانه والمردود عليه قربانه ، استغناء بما قد جرى من ذكرهما عن إعادته ، وكذلك ترك ذكر المقبل قربانه مع قوله : قالَ إنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ المُتّقِينَ .
وبنحو ما قلنا في ذلك رُوِى الخبر عن ابن عباس :
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : قالَ لاَءَقْتُلَنّكَ فقال له أخوه : ما ذنبي إنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ المُتّقِينَ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : إنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ المُتّقِينَ قال : يقول : إنك لو اتقيت الله في قربانك تقبل منك ، جئت بقربان مغشوش بأشرّ ما عندك ، وجئت أنا بقربان طيب بخير ما عندي قال : وكان قال : يتقبل الله منك ولا يتقبل مني .
ويعني بقوله : مِنَ المُتّقِينَ : من الذين اتقوا الله وخافوه بأداء ما كلفهم من فرائضه واجتناب ما نهاهم عنه من معصيته .
وقد قال جماعة من أهل التأويل : المتقون في هذا الموضع الذين اتقوا الشرك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، قوله : إنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ المُتّقِينَ الذين يتقون الشرك .
وقد بينا معنى القربان فيما مضى ، وأنه الفعلان من قول القائل : قرّب ، كما الفرقان : الفعلان من فرّق ، والعدوان من عدا . وكانت قرابين الأمم الماضية قبل أمتنا كالصدقات والزكوات فينا ، غير أن قرابينهم كان يعلم المتقبّل منها وغير المتقبل فيما ذكر بأكل النار ما تقبل منها وترك النار ما لم يتقبل منها . والقربان في أمّتنا : الأعمال الصالحة : من الصلاة ، والصيام ، والصدقة على أهل المسكنة ، وأداء الزكاة المفروضة ، ولا سبيل لها إلى العلم في عاجل بالمتقبل منها والمردود .
وقد ذكر عن عامر بن عبد الله العنبري ، أنه حين حضرته الوفاة بكى ، فقيل له : ما يبكيك ، فقد كنت وكنت ؟ فقال : يبكيني أني أسمع الله يقول : إنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ المُتّقِينَ .
حدثني بذلك محمد بن عمر المقدمي ، قال : ثني سعيد بن عامر ، عن همام ، عمن ذكره ، عن عامر .
وقد قال بعضهم : قربان المتقين : الصلاة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن عمران بن سليم ، عن عديّ بن ثابت ، قال : كان قربان المتقين : الصلاة .
{ واتل عليهم نبأ ابني آدم } قابيل وهابيل ، أوحى الله سبحانه وتعالى إلى آدم أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر ، فسخط منه قابيل لأن توأمته كانت أجمل ، فقال لهما آدم : قربا قربانا فمن أيكما قبل تزوجها ، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته ، فازداد قابيل سخطا وفعل ما فعل . وقيل لم يرد لهما ابني آدم لصلبه وأنهما رجلان من بني إسرائيل ولذلك قال : { كتبنا على بني إسرائيل } . { بالحق } صفة مصدر محذوف أي تلاوة ملتبسة بالحق ، أو حال من الضمير في اتل ، أو من نبأ أي ملتبسا بالصدق موافقا لما في كتب الأولين { إذ قربا قربانا } ظرف لنبأ ، أو حال منه ، أو بدل على حذف مضاف أي واتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت ، والقربان اسم ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى من ذبيحة أو غيرها ، كما أن الحلوان اسم ما يحلى به أي يعطى ، وهو في الأصل مصدر ولذلك لم يثن وقيل تقديره إذ قرب كل واحد منهما قربانا . قيل كان قابيل صاحب زرع وقرب أردأ قمح عنه ، وهابيل صاحب ضرع وقرب جملا سمينا . { فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر } لأنه سخط حكم الله سبحانه وتعالى ولم يخلص النية في قربانه وقصد إلى أخس ما عنده . { قال لأقتلنك } نوعده بالقتل لفرط الحسد له على تقبل قربانه ولذلك . { قال إنما يتقبل الله من المتقين } في جوابه أي إنما أتيت من قبل نفسك بترك التقوى لا من قبلي فلم تقتلني ، وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظا ، لا في إزالة حظه فإن ذلك مما يضره ولا ينفعه ، وأن الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متق .
{ اتل } معناه اسرد وأسمعهم إياه ، وهذه من علوم الكتب الأول التي لا تعلق لمحمد صلى الله عليه وسلم بها إلا من طريق الوحي ، فهو من دلائل نبوته ، والضمير في { عليهم } ظاهر أمره أنه يراد به بنو إسرائيل لوجهين : أحدهما أن المحاورة فيما تقدم إنما هي في شأنهم وإقامة الحجج عليهم بسبب همهم ببسط اليد إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، والثاني أن علم { نبأ ابني آدم } إنما هو عندهم وفي غامض كتبهم ، وعليهم تقوم الحجة في إيراده . والنبأ :الخبر . و «ابنا آدم » هما في قول جمهور المفسرين لصلبه . وهما قابيل وهابيل ، وقال الحسن بن أبي الحسن البصري «ابنا آدم » ليسا لصلبه ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وهم ، وكيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب ، والصحيح قول الجمهور وروي أن تقريبهما للقربان إنما كان تحنثاً وتطوعاً . وكان قابيل صاحب زرع فعمد إلى أرذل ما عنده وأدناه فقربه ، وكان هابيل صاحب غنم ، فعمد إلى أفضل كباشه فقربه ، وكانت العادة حينئذ أن يقرب المقرب قربانه ويقوم يصلي ويسجد ، فإن نزلت نار وأكلت القربان فذلك دليل للقبول وإلا كان تركه دليل عدم القبول ، فلما قرب هذان كما ذكرت فنزلت النار وأخذت كبش هابيل فرفعته وسترته عن العيون وتركت زرع قابيل ، قال سعيد بن جبير وغيره : فكان ذلك الكبش يرتع في الجنة حتى أهبط إلى إبراهيم في فداء ابنه ، قال سائقو هذا القصص : فحسد قابيل هابيل وقال له : أتمشي على الأرض يراك الناس أفضل مني ؟ وكان قابيل أسن ولد «آدم » . وروي أن «آدم » سافر إلى مكة ليرى الكعبة وترك قابيل وصياً على بنيه فجرت هذه القصة في غيابه ، وروت جماعة من المفسرين منهم ابن مسعود : أن سبب هذا التقريب أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى فكان الذكر يزوج أنثى البطن الآخر ، ولا تحل له أخته توأمته ، فولدت مع قابيل أخت جميلة ، ومع هابيل أخت ليست كذلك فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل : أنا أحق بأختي ، فأمره «آدم » فلم يأتمر ، فاتفقوا على التقريب ، وروي أن آدم حضر ذلك فتقبل قربان هابيل ووجب أن يأخذ أخت قابيل{[4508]} ، فحينئذ قال له { لأقتلنك } وقول هابيل : { إنما يتقبل الله من المتقين } كلام قبله محذوف تقديره ولم تقتلني وأنا لم أجنِ شيئاً ولا ذنب لي في قبول الله قرباني ؟ أما إني أتقيه وكنَت علي لأحب الخلق . و { إنما يتقبل الله من المتقين } .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وإجماع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ إنها اتقاء الشرك ، فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة ، وأما المتقي للشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من القبول والحتم بالرحمة ، علم ذلك بأخبار الله تعالى ، لا أن ذلك يجب على الله تعالى عقلاً ، وقال عدي بن ثابت وغيره : قربان متقي هذه الأمة الصلاة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واتل عليهم نبأ ابني آدم}، يقول: اتل يا محمد على أهل مكة نبأ ابني آدم، {بالحق} ليعرفوا نبوتك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واتل على هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليكم، عليك وعلى أصحابك معك، وعرّفهم مكروه عاقبة الظلم والمكر، وسوء مغبة الجور ونقض العهد، وما جزاء الناكث وثواب الوافي، خَبَرَ ابني آدم هابيل وقابيل، وما آل إليه أمر المطيع منهما ربه الوافي بعهده، وما إليه صار أمر العاصي منهما ربه الجائر الناقض عهده فلتعرف بذلك اليهود وخامة غبّ غدرهم، ونقضهم ميثاقهم بينك وبينهم، وهمهم بما هموا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك، فإن لك ولهم في حسن ثوابي وعظم جزائي على الوفاء بالعهد الذي جازيت المقتول الوافيَ بعهده من ابني آدم، وعاقبت به القاتل الناكث عهده عزاء جميلاً.
واختلف أهل العلم في سبب تقريب ابني آدم القربان، وسبب قبول الله عزّ وجلّ ما تقبل منه، ومن اللذان قرّبا؟ فقال بعضهم: كان ذلك عن أمر الله جلّ وعزّ إياهما بتقريبه، وكان سبب القبول؛ أن المتقبل منه قرب خير ماله، وقرّب الاَخر شرّ ماله، وكان المقرّبان ابني آدم لصلبه؛ أحدهما: هابيل، والاَخر قابيل... عن عبد الله بن عمرو، قال: إن ابني آدم اللذين قرّبا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الاَخر، كان أحدهما صاحب حرث، والاَخر صاحب غنم، وأنهما أمرا أن يقرّبا قربانا وإن صاحب الغنم قرّب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه، وإن صاحب الحرث قرّب شرّ حرثه الكَوْزَن والزّوَان غير طيبة بها نفسه وإن الله تقبل قربان صاحب الغنم ولم يتقبل قربان صاحب الحرث. وكان من قصتهما ما قصّ الله في كتابه، وقال: ايْمُ الله إن كان المقتول لأشدّ الرجلين، ولكن منعه التحرّج أن يبسط يده إلى أخيه.
وقال آخرون: لم يكن ذلك من أمرهما عن أمر الله إياهما به.
وقال آخرون: اللذان قرّبا قربانا وقصّ الله عزّ ذكره قصصهما في هذه الآية، رجلان من بني إسرائيل لا من ولد آدم لصلبه.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، أن اللذين قرّبا القربان كانا ابني آدم لصلبه، لا من ذريته من بني إسرائيل وذلك أن الله عزّ وجلّ يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة، والمخاطبون بهذه الآية كانوا عالمين أن تقريب القربان لله لم يكن إلا في ولد آدم دون الملائكة والشياطين وسائر الخلق غيرهم. فإذا كان معلوما ذلك عندهم، فمعقول أنه لو لم يكن معنيا بابني آدم اللذين ذكرهما الله في كتابه ابناه لصلبه، لم يفدْهم بذكره جلّ جلاله إياهما فائدة لم تكن عندهم. وإذا كان غير جائز أن يخاطبهم خطابا لا يفيدهم به معنى، فمعلوم أنه عنى ابني آدم لصلبه، لا ابني بنيه الذين بَعُد منه نسبهم مع إجماع أهل الأخبار والسير والعلم بالتأويل على أنهما كانا ابني آدم لصلبه وفي عهد آدم وزمانه، وكفى بذلك شاهدا وأما القول في تقريبهما ما قرّبا، فإن الصواب فيه من القول أن يقال: إن الله عزّ ذكره أخبر عباده عنهما أنهما قد قرّبا، ولم يخبر أن تقريبهما ما قرّبا كان عن أمر الله إياهما به ولا عن غير أمره. وجائز أن يكون كان عن أمر الله إياهما بذلك، وجائز أن يكون عن غير أمره، غير أنه أيّ ذلك كان فلم يقرّبا ذلك إلا طلب قربة إلى الله إن شاء الله.
"قالَ لأقْتُلَنّكَ": قال الذي لم يتقبل منه قربانه للذي تقبل منه قربانه: لأقتلنك، فترك ذكر المتقبل قربانه والمردود عليه قربانه، استغناء بما قد جرى من ذكرهما عن إعادته، وكذلك ترك ذكر المقبل قربانه مع قوله: "قالَ إنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ المُتّقِينَ".
"مِنَ المُتّقِينَ": من الذين اتقوا الله وخافوه بأداء ما كلفهم من فرائضه واجتناب ما نهاهم عنه من معصيته.
وقد قال جماعة من أهل التأويل: المتقون في هذا الموضع الذين اتقوا الشرك... وقد بينا معنى القربان فيما مضى، وأنه الفعلان من قول القائل: قرّب، وكانت قرابين الأمم الماضية قبل أمتنا كالصدقات والزكوات فينا، غير أن قرابينهم كان يعلم المتقبّل منها وغير المتقبل فيما ذكر بأكل النار ما تقبل منها وترك النار ما لم يتقبل منها. والقربان في أمّتنا: الأعمال الصالحة: من الصلاة، والصيام، والصدقة على أهل المسكنة، وأداء الزكاة المفروضة، ولا سبيل لها إلى العلم في عاجل بالمتقبل منها والمردود.
وقد ذكر عن عامر بن عبد الله العنبري، أنه حين حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك، فقد كنت وكنت؟ فقال: يبكيني أني أسمع الله يقول: "إنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ المُتّقِينَ".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{واتل عليهم نبأ ابني ءادم بالحق} يحتمل وجهين: يحتمل: {بالحق} المعلوم المعروف على ما كانوا ليعلموا أنه بالله علم، وأنه علم سماوي. {إنما يتقبل الله من المتقين} هذا يحتمل وجهين: يحتمل {إنما يتقبل الله من المتقين} قربان من اتقى، لا يتقبل من لم يتق..والتقوى شرط في قبول القرابين وغيرها من القرب.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن الله تعالى أراد أن يبين أن حال اليهود في الظلم ونقض العهد وارتكاب الفواحش من الأمور كحال ابن آدم قابيل في قتله أخاه هابيل، وما عاد عليه من الوبال بتعديه. فأمر نبيه أن يتلو عليهم أخبارهما وفيه تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله) لما ناله من جهلهم بالتكذيب في جحوده وتبكيت اليهود...
والاتقاء يكون لكل شيء يمتنع منه، غير أنه لا يطلق اسم المتقين إلا على المتقين للمعاصي خاصة بضرب من العرف، لأنه أحق ما يجب أن يخاف منه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{واتل عليهم نبأ ابني ءادم بالحق}: تلاوة متلبسة بالحق والصحة. أو اتله نبأ متلبساً بالصدق موافقاً لما في كتب الأوّلين. أو بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد؛ لأن المشركين وأهل الكتاب كلهم كانوا يحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغون عليه. أو اتل عليهم وأنت محق صادق... فإن قلت: كيف كان قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} جواباً لقوله: {لأَقْتُلَنَّكَ}؟ قلت: لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له: إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى، لا من قبلي، فلم تقتلني؟ ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان. وفيه دليل على أنّ الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{اتل} معناه اسرد وأسمعهم إياه، وهذه من علوم الكتب الأول التي لا تعلق لمحمد صلى الله عليه وسلم بها إلا من طريق الوحي، فهو من دلائل نبوته، والضمير في {عليهم} ظاهر أمره أنه يراد به بنو إسرائيل لوجهين: أحدهما أن المحاورة فيما تقدم إنما هي في شأنهم وإقامة الحجج عليهم بسبب همهم ببسط اليد إلى محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني أن علم {نبأ ابني آدم} إنما هو عندهم وفي غامض كتبهم، وعليهم تقوم الحجة في إيراده... وإجماع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ إنها اتقاء الشرك، فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة، وأما المتقي للشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من القبول والحتم بالرحمة، علم ذلك بأخبار الله تعالى، لا أن ذلك يجب على الله تعالى عقلاً.
المسألة الأولى: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه: الأول: أنه تعالى قال فيما تقدم {يأيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم} فذكر تعالى أن الأعداء يريدون إيقاع البلاء والمحنة بهم، لكنه تعالى يحفظهم بفضله ويمنع أعداءهم من إيصال الشر إليهم، ثم إنه تعالى لأجل التسلية وتخفيف هذه الأحوال على القلب ذكر قصصا كثيرة في أن كل من خصه الله تعالى بالنعم العظيمة في الدين والدنيا فإن الناس ينازعونه حسدا وبغيا، فذكر أولا قصة النقباء الاثني عشر وأخذ الله تعالى الميثاق منهم، ثم إن اليهود نقضوا ذلك الميثاق حتى وقعوا في اللعن والقساوة، وذكر بعده شدة إصرار النصارى على كفرهم وقولهم بالتثليث بعد ظهور الدلائل القاطعة على فساد ما هم عليه، وما ذاك إلا لحسدهم لمحمد صلى الله عليه وسلم فيما آتاه الله من الدين الحق، ثم ذكر بعده قصة موسى في محاربة الجبارين وإصرار قومه على التمرد والعصيان، ثم ذكر بعده قصة ابني آدم وأن أحدهما قتل الآخر حسدا منه على أن الله تعالى قبل قربانه، وكل هذه القصص دالة على أن كل ذي نعمة محسود، فلما كانت نعم الله على محمد صلى الله عليه وسلم أعظم النعم، لا جرم لم يبعد اتفاق الأعداء على استخراج أنواع المكر والكيد في حقه، فكان ذكر هذه القصص تسلية من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم لما هم قوم من اليهود أن يمكروا به وأن يوقعوا به آفة ومحنة.
والثاني: أن هذا متعلق بقوله {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير} وهذه القصة وكيفية إيجاب القصاص عليها من أسرار التوراة. والثالث: أن هذه القصة متعلقة بما قبلها، وهي قصة محاربة الجبارين، أي اذكر لليهود حديث ابني آدم ليعلموا أن سبيل أسلافهم في الندامة والحسرة الحاصلة بسبب إقدامهم على المعصية كان مثل سبيل ابني آدم في إقدام أحدهما على قتل الآخر.
والرابع: قيل هذا متصل بقوله حكاية عن اليهود والنصارى {نحن أبناء الله وأحباؤه} أي لا ينفعهم كونهم من أولاد الأنبياء مع كفرهم كما لم ينتفع ولد آدم عند معصيته بكون أبيه نبيا معظما عند الله تعالى. الخامس: لما كفر أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم حسدا أخبرهم الله تعالى بخبر ابن آدم وأن الحسد أوقعه في سوء العاقبة، والمقصود منه التحذير عن الحسد.
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
... قوله تعالى حكاية عن ابني آدم: {إنما يتقبل الله من المتقين} لما قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، مع أن قربانه كان على وفق الأمر، ويدل عليه أن أخاه علل عدم القبول بعدم التقوى، ولو أن الفعل مختل في نفسه لقال له:"إنما يتقبل الله العمل الصحيح الصالح"، لأن هذا هو السبب القريب لعدم القبول، فحيث عدل عنه دل ذلك على أن الفعل كان صحيحا مجزئا، وإنما انتفى القبول لأجل انتفاء التقوى، فدل ذلك على أن العمل المجزئ قد لا يقبل وإن برئت الذمة به وصح في نفسه. (الفروق: 2/51) 505- الظاهر أن وصف التقوى شرط في القبول بعد الإجزاء. والتقوى هاهنا ليس محمولا على المعنى اللغوي، وهو مجرد الاتقاء للمكروه من حيث الجملة، فإن الفسقة في عرف الشرع لا يسمون أتقياء ولا من المتقين، ولو اعتبرنا المعنى اللغوي لقيل لهم ذلك، بل التقوى في عرف الشرع: "المبالغة في اجتناب المحرمات وفعل الواجبات حتى يكون ذلك الغالب على الشخص"، هذا هو الظاهر، وإذا حصل الوصف ينبغي أن يعتقد أيضا أن القبول غير لازم، بل المحل قابل له لحصول الشرط وأن القبول مشروط بالتقوى، ولا يلزم من حصول الشرط حصول المشروط. ويدل على أن المحل يبقى قابلا للقبول من غير لزومه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بالقبول مع أنه سيد المتقين، وكذلك إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، والمدعو به لابد وأن يكون بصدد الوقوع وعدمه، وإذ لو تعين وقوعه لكان ذلك طلبا لتحصيل الحاصل، وهو غير جائز، فتعين أن يكون الثواب يمكن حصوله وعدم حصوله. (نفسه: 2/54)...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
واقصص على هؤلاء البغاة الحسدة، إخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم -خبر ابني آدم، وهما هابيل وقابيل فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف...
وقوله: {بِالْحَقِّ} أي: على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب، ولا وَهْم ولا تبديل، ولا زيادة ولا نقصان...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
.. {واتل عليهم} أي على المدعوّين الذين من جملتهم اليهود تلاوة، و هي من أعظم الأدلة على نبوتك، لأن ذلك لا علم لك ولا لقومك به إلا من جهة الوحي {نبأ ابني آدم} أي خبرهما الجليل العظيم، تلاوة ملتبسة {بالحق} أي الخبر الذي يطابقه الواقع إذا تُعُرَّفَ من كتب الأولين وأخبار الماضين كائناً ذلك النبأ {إذ} أي حين {قربا} أي ابنا آدم؛ ولما لم يتعلق الغرض في هذا المقام ببيان أيّ نوع قربا منه، قال: {قرباناً} أي بأن قرب كل واحد منهما شيئاً من شأنه أن يقرِّبَ إلى المطلوب مقاربتُه غاية القرب. ولما كان المؤثر للحسد إنما هو عدم التقبل، لا بالنسبة إلى متقبل خاص، بناه للمفعول فقال: {فتُقبِّل} أي قبل قبولاً عظيماً ظاهراً لكل أحد {من أحدهما} أبهمه أيضاً لعدم الاحتياج في هذا السياق إلى تعيينه {ولم يتقبل من الآخر} عَلِمَا ذلك بعلامة كانت لهم في ذلك.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
جاءت هذه القصة في سياق الكلام على أهل الكتاب، وشأنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. والقرآن بين قصة بني إسرائيل الذين عصوا ربهم فيما كلفهم من قتال الجبارين، وبين ما شرعه الله من جزاء الذين يخرجون على أئمة العدل، ويهددون الأمن، ويفسدون في الأرض، وما يتلوه من عقاب السرقة. فمناسبة هذه الآية للسياق في جملته، أنها بيان لكون الحسد الذي صرف اليهود عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وحملهم على عداوته، عريق في الآدميين وأثر من آثار من سلفهم، كان لهؤلاء القوم منه النصيب الأوفر، ويتضمن تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وإزالة استغرابهم إعراض هذا الشعب عن الإسلام، على وضوح برهانه، وكثرة آياته. وأما مناسبتها لما قبلها وما بعدها مباشرة فهو بيان حكمة الله في شرع القتال والقود، على ما شدد فيه من تحريم قتل النفس. ذلك أنه لما كان القتال بين الأمم، وقتل الحكومات للأفراد، أو تعذبيهم بقطع الأطراف – كل ذلك قبيحا في نفسه، كان من مقتضى رحمة الله تعالى وحكمته، أنه لا يباح إلا لدرء ما هو أقبح منه وأضر. وكان من كمال الدين أن يبين لنا حكمة ذلك، فجاءت هذه القصة في هذا المقام تبين لنا أن اعتداء بعض البشر على بعض حتى بالقتل هو أصيل فيهم، وقع بين أبناء أبيهم آدم في أول العهد بتعددهم، لأنه أثر من آثار ما جبلوا عليه من كون أعمالهم باختيارهم، حسب إرادتهم التابعة لعلمهم أو ظنهم، وكون علومهم وظنونهم من كسبهم، وكونها لا تبلغ درجة الإحاطة بمصالحهم ومنافعهم، وكذا ما جبلوا عليه من حب الكمال، وما يتبعه من حسد الناقص لمن يفوقه في الفضائل والأعمال، وكون الحاسد يبغي إن قدر، وما لم يزعه الدين أو يمنعه القدر، وهو لا يبغي ولا يقتل إلا وهو يظن أن ذلك خير له وأنفع، وأنوه بقدره وأرفع، ومثل هذا الظن لا يزول من الناس، إلا إذا أحاط كل فرد من أفرادهم علما بكل شؤون المعاش والمعاد، وارتباط المنافع الشخصية بمنافع الاجتماع، وأقاموا الدين القيم كلهم على الوجه الذي أراده الله، وكل ذلك محال لأن طبيعة البشر تأباه. فهم يخلقون متفاوتين في الاستعداد للعلم، وما يرد على أنفسهم من صور المعلومات بأنواعها يختلف، وما يتحد منه يختلف تأثيره الذي يترتب عليه العمل. فالاختلاف في العلم والرأي والشعور والوجدان طبيعي فيهم، ومن لوازمه النافعة اشتغال كل فريق منهم بنوع من أنواع الأعمال، بذلك يظهرون أسرار الله وحكمه في الكائنات، وينتفعون بما سخره لهم من أنواع المخلوقات، ومن لوازمه الضارة التخاصم والتقاتل، لأجل هذا صاروا محتاجين إلى الحكام والشرائع. وكان من عدل الشريعة أن تبني أحكام قتل الأفراد وقتال الشعوب على قواعد درء المفاسد وإقامة المصالح. {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} [البقرة:251] – فهذا الآيات في هذا الموضع مبينة لحكم ما قبلها، وما بعدها من الأخبار والأحكام. وقال ابن جرير وتبعه بعض المفسرين أن هذه الآيات متعلقة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11] الآية. وقال بعضهم إنها متعلقة بقوله تعالى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ} [المائدة: 18] الآية. وما قلناه أكمل، وأعم وأشمل.
قال تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} الأصل لمعنى مادة (ت ل و) التبع. فالتلو (بالكسر) ولد الناقة والشاة إذا فطم وصار يتبعها، وكل ما يتبع غيره في شيء يقال هو تلوه. ويقال: ما زلت أتلوه حتى أتليته. أي غلبته فسبقته وجعلته تلوي. وتلا فلان. اشترى تلوا. أي بغلا صغيرا أو جحشا. والتلاوة (بالضم) والتلية (بالفتح) بقية الشيء لأنه يتلو ما قبله. يقال ذهبت تلية الشباب. والتلاوة بالكسر القراءة، ولم تكد تستعمل إلا في قراءة كلام الله تعالى. وذكر في لسان العرب تلاوة القرآن، وقال إن بعضهم عم به كل كلام. ولعل قراءة القرآن سميت تلاوة لأنه مثاني كلما قرئ منه شيء يتبع بقراءة غيره أو لأن شأنه أن يقرأ ليتبع بالاهتداء والعمل به. وعبر القرآن بالتلاوة عن قراءة كتاب الله وآياته للأنبياء السابقين لهذا المعنى أيضا. وفسروا قوله تعالى {يتلونه حق تلاوته} [البقرة:121] ب"يتبعونه" حق اتباعه.
والنبأ: الخبر الصحيح الذي له شأن من الفائدة والجدارة بالاهتمام... {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} أي إن من لم يتقبل منه توعد أخاه وأقسم ليقتلنه فأجابه أحسن جواب وأنفعه: {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} أي لا يقبل الله الصدقات وغيرها من الأعمال القبول المقرون بالرضا والإثابة إلا من المتصفين بالتقوى، فهذا الجواب يتضمن بيان سبب القبول وعدمه مع الاعتذار، كأنه قال إنني لم أذنب إليك ذنبا تقتلني به، فإن كان الله تعالى لم يتقبل منك، فارجع إلى نفسك فحاسبها على السبب، فإنما يتقبل الله من المتقين، أي الذين يتقون الشرك الأكبر والأصغر وهو الرياء والشح واتباع الأهواء، فاحمل نفسك على تقوى الله والإخلاص له في العمل، ثم تقرب إليه بالطيبات يتقبل منك، فالله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يأخذ هذا الدرس في بيان بعض الأحكام التشريعية الأساسية في الحياة البشرية. وهي الأحكام المتعلقة بحماية النفس في الشريعة الإسلامية والحكم الإسلامي. وحماية المال والملكية الفردية في هذا المجتمع، الذي يقوم نظامه الاجتماعي كله على شريعة الله. وتستغرق هذه الأحكام المتعلقة بهذه الأمور الجوهرية في حياة المجتمع هذا الدرس؛ مع تقدمة لهذه الأحكام بقصة ""ابني آدم ""التي تكشف عن طبيعة الجريمة وبواعثها في النفس البشرية؛ كما تكشف عن بشاعة الجريمة وفجورها؛ وضرورة الوقوف في وجهها والعقاب لفاعلها؛ ومقاومة البواعث التي تحرك النفس للإقدام عليها وتبدو القصة وإيحاءاتها ملتحمة التحاما قويا مع الأحكام التالية لها في السياق القرآني. ويحس القارئ المتأمل للسياق بوظيفة هذه القصة في موضعها؛ وبعمق الإيحاء الإقناعي الذي تسكبه في النفس وترسبه؛ والاستعداد الذي تنشئه في القلب والعقل لتلقي الأحكام المشددة التي يواجه بها الإسلام جرائم الاعتداء على النفس والحياة؛ والاعتداء على النظام العام؛ والاعتداء على المال والملكية الفردية؛ في ظل المجتمع الإسلامي؛ القائم على منهج الله؛ المحكوم بشريعته. والمجتمع المسلم يقيم حياته كلها على منهج الله وشريعته؛ وينظم شؤونه وارتباطاته وعلاقاته على أسس ذلك المنهج وعلى أحكام هذه الشريعة.. ومن ثم يكفل لكل فرد -كما يكفل للجماعة- كل عناصر العدالة والكفاية والاستقرار والطمأنينة، ويكف عنه كل عوامل الاستفزاز والإثارة، وكل عوامل الكبت والقمع، وكل عوامل الظلم والاعتداء، وكل عوامل الحاجة والضرورة:وكذلك يصبح الاعتداء -في مثل هذا المجتمع الفاضل العادل المتوازن المتكافل- على النفس والحياة، أو على النظام العام، أو على الملكية الفردية؛ جريمة بشعة منكرة، مجردة عن البواعث المبررة -أو المخففة- بصفة عامة.. وهذا يفسر التشدد ضد الجريمة والمجرمين بعد تهيئة الظروف المساعدة على الاستقامة عند الأسوياء من الناس؛ وتنحية البواعث على الجريمة من حياة الفرد وحياة الجماعة.. وإلى جانب هذا كله، ومع هذا كله؛ يكفل النظام الإسلامي للمجرم المعتدي كل الضمانات لسلامة التحقيق والحكم؛ ويدرأ عنه الحدود بالشبهات؛ ويفتح له كذلك باب التوبة التي تسقط الجريمة في حساب الدنيا في بعض الحالات، وتسقطها في حساب الآخرة في كل الحالات... وسنرى نماذج من هذا كله في هذا الدرس، وفيما تضمنه من أحكام.. ولكن قبل أن نأخذ في المضي مع السياق وفي الحديث المباشر عن هذه الأحكام التي تضمنها لا بد أن نقول كلمة عامة؛ عن البيئة التي تنفذ فيها هذه الأحكام؛ والشروط التي تجعل لها قوة النفاذ.. إن هذه الأحكام الواردة في هذا الدرس -سواء فيما يتعلق بالاعتداء على النفس أو الاعتداء على النظام العام؛ أو الاعتداء على المال- شأنها شأن سائر الأحكام الواردة في الشريعة، في جرائم الحدود؛ والقصاص؛ والتعازير.. كلها إنما تكون لها قوة التنفيذ في ""المجتمع المسلم"" في ""دار الإسلام "".. ولا بد من بيان ما تعنيه الشريعة بدار الإسلام: ينقسم العالم في نظر الإسلام وفي اعتبار المسلم إلى قسمين اثنين لا ثالث لهما: الأول:"" دار الإسلام "".. وتشمل كل بلد تطبق فيه أحكام الإسلام، وتحكمه شريعة الإسلام، سواء كان أهله كلهم مسلمين، أو كان أهله مسلمين وذميين. أو كان أهله كلهم ذميين ولكن حكامه مسلمون يطبقون فيه أحكام الإسلام، ويحكمونه بشريعة الإسلام. أو كانوا مسلمين، أو مسلمين وذميين ولكن غلب على بلادهم حربيون، غير أن أهل البلد يطبقون أحكام الإسلام ويقضون بينهم حسب شريعة الإسلام.. فالمدار كله في اعتبار بلد ما ""دار إسلام"" هو تطبيقه لأحكام الإسلام وحكمه بشريعة الإسلام.. الثاني:دار الحرب. وتشمل كل بلد لا تطبق فيه أحكام الإسلام، ولا يحكم بشريعة الإسلام.. كائنا أهله ما كانوا.. سواء قالوا: إنهم مسلمون، أو إنهم أهل كتاب، أو أنهم كفار. فالمدار كله في اعتبار بلد ما ""دار حرب"" هو عدم تطبيقه لأحكام الإسلام وعدم حكمه بشريعة الإسلام، وهو يعتبر ""دار حرب"" بالقياس للمسلم وللجماعة المسلمة. والمجتمع المسلم هو المجتمع الذي يقوم في دار الإسلام بتعريفها ذاك. وهذا المجتمع، القائم على منهج الله، المحكوم بشريعته، هو الذي يستحق أن تصان فيه الدماء، وتصان فيه الأموال؛ ويصان فيه النظام العام؛ وأن توقع على المخلين بأمنه، المعتدين على الأرواح والأموال فيه العقوبات التي تنص عليها الشريعة الإسلامية، في هذا الدرس وفي سواه.. ذلك أنه مجتمع رفيع فاضل؛ ومجتمع متحرر عادل؛ ومجتمع مكفولة فيه ضمانات العمل وضمانات الكفاية لكل قادر ولكل عاجز؛ ومجتمع تتوافر فيه الحوافز على الخير وتقل فيه الحوافز على الشر من جميع الوجوه. فمن حقه إذن على كل من يعيش فيه أن يرعى هذه النعمة التي يسبغها عليه النظام؛ وأن يرعى حقوق الآخرين كلها من أرواح وأموال وأعراض وأخلاق؛ وأن يحافظ على سلامة ""دار الإسلام"" التي يعيش فيها آمنا سالما غانما مكفول الحقوق جميعا، معترفا له بكل خصائصه الإنسانية، وبكل حقوقه الاجتماعية -بل مكلفا بحماية هذه الخصائص والحقوق- فمن خرج بعد ذلك كله على نظام هذه الدار -دار الإسلام- فهو معتد أثيم شرير يستحق أن يؤخذ على يده بأشد العقوبات؛ مع توفير كل الضمانات له في أن لا يؤخذ بالظن، وأن تدرأ عنه الحدود بالشبهات. فأما ""دار الحرب "".. بتعريفها ذاك.. فليس من حقها ولا من حق أهلها أن يتمتعوا بما توفره عقوبات الشريعة الإسلامية من ضمانات، لأنها ابتداء لا تطبق شريعة الإسلام، ولا تعترف بحاكمية الإسلام.. وهي -بالنسبة للمسلمين [الذين يعيشون في دار الإسلام ويطبقون على حياتهم شريعة الإسلام]- ليست حمى. فأرواحها وأموالها مباحة؛ لا حرمة لها عند الإسلام -إلا بعهد من المسلمين؛ حين تقوم بينها وبين دار الإسلام المعاهدات- كذلك توفر الشريعة هذه الضمانات كلها للأفراد الحربيين [القادمين من دار الحرب] إذا دخلوا دار الإسلام بعهد أمان؛ مدة هذا العهد؛ وفي حدود"" دار الإسلام ""التي تدخل في سلطان الحاكم المسلم [والحاكم المسلم هو الذي يطبق شريعة الإسلام]. وعلى ضوء هذا البيان نستطيع أن نمضي مع السياق:"
(واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق: إذ قربا قربانا، فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال: لأقتلنك. قال: إنما يتقبل الله من المتقين. لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين: إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين. فطوعت له نفسه قتل أخيه، فقتله، فأصبح من الخاسرين. فبعث الله غرابا يبحث في الأرض، ليريه كيف يواري سوأة أخيه. قال: يا ويلتى! أعجزت أن أكون مثل هذا >الغراب، فأواري سوأة أخي؟ فأصبح من النادمين)... هذه القصة تقدم نموذجا لطبيعة الشر والعدوان؛ ونموذجا كذلك من العدوان الصارخ الذي لا مبرر له. كما تقدم نموذجا لطبيعة الخير والسماحة؛ ونموذجا كذلك من الطيبة والوداعة. وتقفهما وجها لوجه، كل منهما يتصرف وفق طبيعته.. وترسم الجريمة المنكرة التي يرتكبها الشر، والعدوان الصارخ الذي يثير الضمير؛ ويثير الشعور بالحاجة إلى شريعة نافذة بالقصاص العادل، تكف النموذج الشرير المعتدي عن الاعتداء، وتخوفه وتردعه بالتخويف عن الإقدام على الجريمة؛ فإذا ارتكبها -على الرغم من ذلك- وجد الجزاء العادل، المكافئ للفعلة المنكرة. كما تصون النموذج الطيب الخير وتحفظ حرمة دمه. فمثل هذه النفوس يجب أن تعيش. وأن تصان، وأن تأمن؛ في ظل شريعة عادلة رادعة. ولا يحدد السياق القرآني لا زمان ولا مكان ولا أسماء القصة.. وعلى الرغم من ورود بعض الآثار والروايات عن: "قابيل وهابيل" وأنهما هما ابنا آدم في هذه القصة؛ وورود تفصيلات عن القضية بينهما، والنزاع على أختين لهما.. فإننا نؤثر أن نستبقي القصة -كما وردت- مجملة بدون تحديد. لأن هذه الروايات كلها موضع شك في أنها مأخوذة عن أهل الكتاب -والقصة واردة في العهد القديم محددة فيها الأسماء والزمان والمكان على النحو الذي تذكره هذه الروايات- والحديث الوحيد الصحيح الوارد عن هذا النبأ لم يرد فيه تفصيل. وهو من رواية ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل".. [رواه الإمام أحمد في مسنده]: حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا: حدثنا الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن عبدالله بن مسعود.. وأخرجه الجماعة -سوى أبى داود- من طرق عن الأعمش.. وكل ما نستطيع أن نقوله هو أن الحادث وقع في فترة طفولة الإنسان، وأنه كان أول حادث قتل عدواني متعمد، وأن الفاعل لم يكن يعرف طريقة دفن الجثث.. وبقاء القصة مجملة -كما وردت في سياقها القرآني- يؤدي الغرض من عرضها؛ ويؤدي الإيحاءات كاملة؛ ولا تضيف التفصيلات شيئا إلى هذه الأهداف الأساسية.. لذلك نقف نحن عند النص العام لا نخصصه ولا نفصله.. (واتل عليهم نبأ ابني آدم -بالحق- إذ قربا قربانا، فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر. قال: لأقتلنك. قال: إنما يتقبل الله من المتقين).. واتل عليهم نبأ هذين النموذجين من نماذج البشرية -بعدما تلوت من قصة بني إسرائيل مع موسى- اتله عليهم بالحق. فهو حق وصدق في روايته، وهو ينبى ء عن حق في الفطرة البشرية؛ وهو يحمل الحق في ضرورة الشريعة العادلة الرادعة. إن ابني آدم هذين في موقف لا يثور فيه خاطر الاعتداء في نفس طيبة. فهما في موقف طاعة بين يدي الله. موقف تقديم قربان، يتقربان به إلى الله: إذ قربا قربانًا.. (فتقبل من أحدهما، ولم يتقبل من الآخر).. والفعل مبني للمجهول؛ ليشير بناؤه هكذا إلى أن أمر القبول أو عدمه موكول إلى قوة غيبية؛ وإلى كيفية غيبية.. وهذه الصياغة تفيدنا أمرين: الأول ألا نبحث نحن عن كيفية هذا التقبل ولا نخوض فيه كما خاضت كتب التفسير في روايات نرجح أنها مأخوذة عن أساطير" العهد القديم".. والثاني الإيحاء بأن الذي قبل قربانه لا جريرة له توجب الحفيظة عليه وتبييت قتله، فالأمر لم يكن له يد فيه؛ وإنما تولته قوة غيبية بكيفية غيبية؛ تعلو على إدراك كليهما وعلى مشيئته.. فما كان هناك مبرر ليحنق الأخ على أخيه، وليجيش خاطر القتل في نفسه! فخاطر القتل هو أبعد ما يرد على النفس المستقيمة في هذا المجال.. مجال العبادة والتقرب، ومجال القدرة الغيبية الخفية التي لا دخل لإرادة أخيه في مجالها.. (قال: لأقتلنك).. وهكذا يبدو هذا القول -بهذا التأكيد المنبئ عن الإصرار- نابيا مثيرا للاستنكار لأنه ينبعث من غير موجب؛ اللهم إلا ذلك الشعور الخبيث المنكر. شعور الحسد الأعمى؛ الذي لا يعمر نفسا طيبة.. وهكذا نجدنا منذ اللحظة الأولى ضد الاعتداء: بإيحاء الآية التي لم تكمل من السياق.. ولكن السياق يمضي يزيد هذا الاعتداء نكارة وبشاعة؛ بتصوير استجابة النموذج الآخر؛ ووداعته وطيبة قلبه: (قال: إنما يتقبل الله من المتقين). هكذا في براءة ترد الأمر إلى وضعه وأصله؛ وفي إيمان يدرك أسباب القبول؛ وفي توجيه رفيق للمعتدي أن يتقي الله؛ وهداية له إلى الطريق الذي يؤدي إلى القبول؛ وتعريض لطيف به لا يصرح بما يخدشه أو يستثيره..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمناسبةُ بينها وبين القصّة الّتي قبلها مناسبة تماثل ومناسبة تضادّ. فأما التماثل فإنّ في كلتيهما عدم الرضا بما حكم الله تعالى: فإنّ بني إسرائيل عصوا أمر رسولهم إيّاهم بالدخول إلى الأرض المقدّسة، وأحدَ ابني آدم عصى حكم الله تعالى بعدم قبول قربانه لأنّه لم يكن من المتّقين. وفي كلتيهما جرأة على الله بعد المعصيّة؛ فبنو إسرائيل قالوا: {اذهب أنت وربّك} [المائدة: 24]، وابن آدم قال: لأقتلنّ الّذي تقبّل الله منه. وأمّا التّضادّ فإنّ في إحداهما إقداماً مذموماً من ابن آدم، وإحجاماً مذموماً من بني إسرائيل، وإنّ في إحداهما اتّفاق أخوين هما موسى وأخوه على امتثال أمر الله تعالى، وفي الأخرى اختلافَ أخوين بالصّلاح والفساد.