ولما كانت قصتهم هذه - في أمرهم بالدخول إلى الأرض المقدسة لما فيها من نقض العهود{[25486]} والتبرؤ من الله والحكم عليهم بالفسق والتعذيب - ناقضة لما ادعاه اليهود من البنوة ، كان ذلك كافياً في إبطال مدعى النصارى لذلك ، لأنهم أبناء اليهود ، وإذا{[25487]} بطل كون أبيك ابنا لأحد بطل أن تكون{[25488]} أنت ابنه ، لما كان ذلك كذلك{[25489]} ناسب أن تعقب بقصة ابني آدم لما يذكر ، فقال تعالى عاطفاً على قوله : { وإذ قال موسى }[ المائدة : 20 ] { واتل عليهم } أي على المدعوّين الذين من جملتهم اليهود تلاوة ، و{[25490]} هي من أعظم الأدلة على نبوتك ، لأن ذلك لا علم لك{[25491]} ولا لقومك به{[25492]} إلا من جهة الوحي { نبأ{[25493]} ابني آدم } أي خبرهما الجليل العظيم ، تلاوة ملتبسة { بالحق } أي الخبر الذي يطابقه الواقع إذا تُعُرَّفَ من كتب الأولين وأخبار الماضين كائناً ذلك النبأ { إذ } أي حين { قربا } أي ابنا آدم ؛ ولما لم يتعلق الغرض في هذا المقام ببيان أيّ نوع قربا منه ، قال : { قرباناً } أي بأن قرب{[25494]} كل واحد منهما شيئاً{[25495]} من شأنه أن يقرِّبَ إلى المطلوب مقاربتُه{[25496]} غاية القرب .
ولما كان المؤثر للحسد إنما هو عدم التقبل ، لا{[25497]} بالنسبة إلى متقبل خاص ، بناه للمفعول فقال : { فتُقبِّل } أي قبل{[25498]} قبولاً عظيماً ظاهراً لكل أحد { {[25499]}من أحدهما{[25500]} } أبهمه{[25501]} أيضاً لعدم الاحتياج في هذا السياق إلى تعيينه{[25502]} { ولم يتقبل من الآخر } عَلِمَا ذلك{[25503]} بعلامة كانت لهم في ذلك ، إما أكل النار للمقبول كما{[25504]} قالوه أو{[25505]} غير ذلك ؛ ومناسبتها لما قبلها من حيث إنها أيضاً ناقضة لدعواهم البنوة ، لأن قابيل ممن ولد في الجنة على{[25506]} ما قيل ، ومع ذلك فقد عذب لما نقض العهد ، فانتفى أن يكون ابناً وكان هو وغيره شرعاً واحداً دائراً{[25507]} أمرهم في العذاب والثواب على الوفاء والنقض ، من وفى كان حبيباً ولياً ، ومن نقض كان بغيضاً عدواً ، وإذا انتفت البنوة عن ولد لآدم صفي الله مع كونه لصلبه لا{[25508]} واسطة بينهما ومع كونه وُلِدَ في الجنة دار الكرامة ، فانتفاؤها{[25509]} عمن هو أسفل منه من باب الأولى ، وكذا المحبة ؛ ومن المناسبات أيضاً أن كفر بني إسرائيل بمحمد صلى الله عليه وسلم إنما هو للحسد ، فنبهوا بقصة ابني آدم على أن الحسد يجر{[25510]} إلى ما لا يرضي الله{[25511]} وإلى ما لا يرضاه عاقل ويكب{[25512]} في النار ؛ ومنها أن في قصة بني إسرائيل إحجامهم عن قتال أعداء الله البعداء منهم المأمورين بقتالهم الموعودين عليه بخيري الدارين ، وأن الله معهم فيه ، وفي قصة ابني آدم إقبال{[25513]} قابيل على قتل أخيه حبيب الله المنهي عن قتله المتوعد بأن الله يتبرأ منه إن قتله ، ففي ذلك تأديب لهذه{[25514]} الأمة عند كل إقدام وإحجام ، وتذكير بالنعمة في حفظهم من مثل ذلك ، و{[25515]} أن فيها أن موسى وهارون عليهما السلام أخوان في غاية الطواعية في أنفسهما ، ورحمة كل منهما للآخر والطاعة لله ، وقصة ابني آدم بخلاف ذلك ، وفي ذلك تحذير مما جر إليه وهو الحسد ، وأن في قصة بني إسرائيل أنهم لما{[25516]} قدموا الغنائم للنار فلم تأكلها ، عَلِمَ نبيهم صلى الله عليه وسلم أنها لم تقبل لغلول غَلّوه ، فاستخرجه ووضعه فيها فأكلتها ، ففي ذلك الاستدلال بعدم أكل النار على عدم القبول - كما في قصة{[25517]} ابني آدم ، وأن بني إسرائيل عذبوا بالمنع من بيت المقدس بالتيه .
وقابيل نفي من الأرض التي كان فيها مقتل{[25518]} أخيه ، وأن بني إسرائيل تاهوا أربعين سنة{[25519]} على عدد{[25520]} الأيام التي غاب فيها نقباؤهم{[25521]} في جسّ أخبار الجبابرة ، وأن قابيل حمل هابيل بعد أن قتله أربعين يوماً - ذكره البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : وقصده{[25522]} السباع فحمله على ظهره أربعين يوماً ، وكل هذه محسنات والعمدة هو الوجه الأول ، وأحسن منه أن يكون الأمر لموسى عليه السلام عطفاً على النهي في لاتاس{[25523]} ، والمعنى أن الأرض المقدسة مكتوبة لهم كما قَدمته أنت أول القصة في قولك :
{ التي كتب الله{[25524]} لكم }[ المائدة : 21 ] فأنا مورثها لا محالة لأبنائهم وأنت متوفٍ قبل دخولها ، وقد أجريت سنتي في ابني آدم بأنهم إذا{[25525]} توطنوا واستراحوا{[25526]} تحاسدوا ، وإذا تحاسدوا تدابروا فقتل بعضهم بعضاً ، فاتل عليهم هذه القصة لتكون زاجرة لهم من أن يفعلوا ذلك إذا فرغوا من الجبابرة وأبادوهم وصفت لهم البلاد فتوطنوها ، وأخرجت{[25527]} لهم بركاتها فأبطرتهم النعم ، ونسوا غوائل النقم ؛ ويكون ذلك وعظاً لهذه الأمة ومانعاً من فعل مثل ذلك بعد إكمال دينهم ووفاة نبيهم وإظهارهم على الدين كله ، كما تقدم به الوعد لهم فقهروا العباد وفتحوا البلاد وانتثلوا كنوزها وتحكموا في أموالها ، فنسوا ما كانوا فيه من القلة والحاجة{[25528]} والذلة فأبطرتهم النعم ، وارتكبوا أفعال الأمم ، وأعرضوا عن غوائل النقم - كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " دب إليكم داء الأمم قبلكم : الحسد والبغضاء ، الا والبغضاء{[25529]} هي الحالقة ، لا أقول{[25530]} : تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدين " أخرجه الترمذي والإمام أحمد وأبو داود الطيالسي في مسنديهما والبزار{[25531]} - قال المندري : بإسناد جيد - والبيهقي وقال : " لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا " رواه الطبراني ورواته ثقات ، وذكر الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي في القسم الثاني من سيرته في فتح جلولاء{[25532]} من بلاد فارس أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما أرسل الغنيمة إلى عمر رضي الله عنه أقسم عمر رضي الله عنه : لا يخبأها{[25533]} سقف بيت حتى{[25534]} تقسم ! فوضعت{[25535]} في صحن المسجد ، فبات{[25536]} عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم رضي الله عنهما يحرسانه ، فلما جاء الناس كشف عنه فنظر عمر رضي الله عنه{[25537]} إلى ياقوتة وزبرجدة وجوهرة فبكى ، فقال عبد الرحمن رضي الله عنه{[25538]} : ما يبكيك يا أمير المؤمنين ؟ فوالله إن هذا إلا موطن شكر ! فقال عمر : والله ما ذاك يبكيني ، وتالله ما أعطى الله هذا قوماً إلا تحاسدوا وتباغضوا ، ولا تحاسدوا إلا ألقى بأسهم بينهم .
شرحُ قصة ابني{[25539]} آدم من التوراة ، قال المترجم في أولها بعد قصة أكل آدم عليه السلام من الشجرة ما نصه : فدعا آدم اسم امرأته حواء من أجل أنها كانت أم كل حيّ ، وصنع الرب لآدم وامرأته سرابيل من الجلود وألبسهما ، فأرسله الله من جنة عدن ليحرث{[25540]} الأرض التي منها أخذ ، فأخرجه الله ربنا ، فجامع آدم{[25541]} امرأته حواء فحبلت{[25542]} وولدت قايين{[25543]} وقالت : لقد استفدت لله رجلاً ، وعادت فولدت أخاه هابيل ، {[25544]} فكان هابيل{[25545]} راعي غنم ، وكان قايين{[25546]} يحرث الأرض ، فلما كان بعد أيام جاء قايين{[25547]} من ثمر أرضه بقربان لله ، وجاء هابيل أيضاً من أبكار غنمه بقربان ، فسر الله بهابيل وقربانه ولم يسر بقايين{[25548]} وقربانه ، فساء ذلك قايين{[25549]} جداً{[25550]} وهمَّ أن يسوءه وعبس وجهه ، فقال الرب لقايين{[25551]} : ما ساءك ؟ ولِمَ كسف{[25552]} وجهك ؟ إن أحسنت تقبلت منك ، وإن لم تحسن فإن الخطيئة رابضة على الباب وأنت تقبل إليها وهي تتسلط عليك ، فقال قايين{[25553]} لهابيل أخيه : تتمشى بنا في البقعة ، فبينما هما يتمشيان في الحرث وثب قايين{[25554]} على أخيه هابيل فقتله ، فقال الله لقايين{[25555]} : أين هابيل أخوك ؟ فقال : لا أدري ، أرقيب أنا على أخي ؟ قال الله :{[25556]} ماذا{[25557]} فعلت ! فإن دم أخيك{[25558]} ينادي لي من الأرض ، من الآن ملعون أنت من{[25559]} الأرض التي فتحت{[25560]} فاها فقبلت دم أخيك من يدك ، فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حراثها ، وتكون فزعاً تائهاً في الأرض ، فقال قايين{[25561]} للرب : عظمت خطيئتي من أن تغفرها ، وقد أخرجتني اليوم عن وجه الأرض ، وأتوارى من قدامك وأكون فزعاً تائها في الأرض ، وكل من وجدني يقتلني ، فقال{[25562]} الله ربنا : كلا ! ولكن كذلك{[25563]} كل قاتل ، وأما قايين{[25564]} {[25565]} فإنه يجزى{[25566]} بدل الواحد سبعة ، فخرج قايين{[25567]} من قدام الله فجلس في الأرض نود{[25568]} شرقي عدن - انتهى . قال البغوي عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : إن آدم كان يغشى حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت فيها بقابيل وتوأمته{[25569]} - فذكر قصته في النكاح وقتله لأخيه وشرب الأرض لدمه{[25570]} وقول قابيل لله - حين قال له : إنه قتله - : إن كنت قتلته فأين دمه{[25571]} ؟ فحرم الله على الأرض يومئذ أن تشرب دماً بعده أبداً - انتهى .
ولما أخبر الله{[25572]} تعالى بأن أحدهما فعل معه من عدم القبول ما غاظه ، كان كأنه قيل : فما فعل حين غضب ؟ فقيل : { قال } أي لأخيه الذي قبل قربانه حسداً له{[25573]} { لأقتلنك }{[25574]} فكأنه قيل : بما{[25575]} أجابه ؟ فقيل : نبهه أولاً على ما يصل به إلى رتبته ليزول حسده بأن { قال إنما يتقبل الله } أي يقبل قبولاً عظيماً المحيط لكل شيء قدرة وعلماً الملك الذي له الكمال كله ، فليس هو محتاجاً{[25576]} إلى شيء ، وكل شيء محتاج{[25577]} إليه { من المتقين * } أي العريقين{[25578]} في وصف التقوى ، فلا معصية لهم يصرون عليها بشرك ولا غيره ، فعدمُ{[25579]} تقبل قربانك من نفسك لا مني ، فلم تقتلني ؟ فقتلك{[25580]} لي مبعد لك{[25581]} عما حسدتني عليه .