روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَيۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانٗا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡأٓخَرِ قَالَ لَأَقۡتُلَنَّكَۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (27)

{ واتل عَلَيْهِمْ } عطف على مقدر تعلق به قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ موسى } [ المائدة : 20 ] الخ ، وتعلقه به قيل : من حيث إنه تمهيد لما سيأتي إن شاء الله تعالى من جنايات بني إسرائيل بعدما كتب عليهم ما كتب وجاءتهم الرسل بما جاءتهم به من البينات . وقيل : من حيث إن في الأول الجبن عن القتل ، وفي هذا الإقدام عليه مع كون كل منهما معصية ، وضمير { عَلَيْهِمْ } يعود على بني إسرائيل كما هو الظاهر إذ هم المحدث عنهم أولاً ، وأمر صلى الله عليه وسلم بتلاوة ذلك عليهم إعلاماً لهم بما هو في غامض كتبهم الأول الذي لا تعلق للرسول عليه الصلاة والسلام بها إلا من جهة الوحي لتقوم الحجة بذلك عليهم ، وقيل : الضمير عائد على هذه الأمة أي : أتل يا محمد على قومك { نَبَأَ ابنى * ءادَمَ } هابيل عليه الرحمة وقابيل عليه ما يستحقه ، وكانا بإجماع غالب المفسرين ابني آدم عليه السلام لصلبه . وقال الحسن : كانا رجلين من بني إسرائيل ويد الله تعالى مع الجماعة وكان من قصتهما ما أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين أنه كان لا يولد لآدم عليه السلام مولود إلا ولد معه جارية فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر ، جعل افتراق البطون بمنزلة افتراق النسب للضرورة إذ ذاك حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل وقابيل ، وكان قابيل صاحب زرع ، وهابيل صاحب ضرع ، وكان قابيل أكبرهما ، وكانت له أخت واسمها إقليما أحسن من أخت هابيل ، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل فأبى عليه ، وقال : هي أختي ولدت معي وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى ، فقال لهما : قربا قرباناً فمن أيكما قبل تزوجها ، وإنما أمر بذلك لعلمه أنه لا يقبل من قابيل لا أنه لو قبل جاز ، ثم غاب عليه السلام عنهما آتيا مكة ينظر إليها فقال آدم للسماء : احفظي ولدي بالأمانة فأبت ، وقال للأرض : فأبت ، وقال للجبال : فأبت ، فقال لقابيل : فقال نعم تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك فلما انطلق آدم عليه السلام قربا قرباناً ؛ فقرب هابيل جذعة ، وقيل : كبشاً ، وقرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها وأكلها فنزلت النار فأكلت قربان هابيل ، وكان ذلك علامة القبول ، وكان أكل القربان غير جائز في الشرع القديم وتركت قربان قابيل فغضب ، وقال : لأقتلنك فأجابه بما قص الله تعالى { بالحق } متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر { اتل } أي أتل تلاوة متلبسة بالحق والصحة ، أو حال من فاعل { اتل } أو من مفعوله أي متلبساً أنت أو نبأهما بالحق والصدق موافقاً لما في زبر الأولين .

وقوله تعالى : { إِذْ قَرَّبَا قربانا } ظرف لنبأ ، وعمل فيه لأنه مصدر في الأصل ، والظرف يكفي فيه رائحة الفعل ، وجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف وقع حالاً منه ، ورد بأنه حينئذ يكون قيداً في عامله وهو { اتل } المستقبل ، و { إِذْ } لما مضى فلا يتلاقيان ، ولذا لم يتعلق به مع ظهوره ، وقد يجاب بالفرق بين الوجهين فتأمل . وقيل : إنه بدل من { نَبَأَ } على حذف المضاف ليصح كونه متلواً أي اتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت ، ورده في «البحر » بأن { إِذْ } لا يضاف إليها إلا الزمان نحو يومئذ وحينئذ و { نَبَأَ } ليس بزمان ، وأجيب بالمنع ، ولا فرق بين { نَبَأَ } ذلك الوقت ونبأ { إِذْ } وكل منهما صحيح معنى وإعراباً ، ودعوى جواز الأول سماعاً دون الثاني دون إثباتها خرط القتاد ، والقربان اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو غيرهما كالحلوان اسم لما يحلى أي يعطى ، وتوحيده لما أنه في الأصل مصدر ، وقيل : تقديره إذ قرب كل منهما قرباناً { فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا } وهو هابيل { وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاخر } لأنه سخط حكم الله تعالى ، وهو عدم جواز نكاح التوأمة { قَالَ } استئناف سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل : فماذا قال من لم يتقبل قربانه ؟ فقيل : قال لأخيه لفرط الحسد على قبول قربانه ورفعة شأنه عند ربه عز وجل كما يدل عليه الكلام الآتي ، وقيل : على ما سيقع من أخذ أخته الحسناء { لاَقْتُلَنَّكَ } أي والله تعالى لأقتلنك بالنون المشدة ، وقرىء بالمخففة .

{ قَالَ } استئناف كالذي قبله أي قال الذي تقبل قربانه لما رأى حسد أخيه { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله } أي القربان والطاعة { مِنَ المتقين } في ذلك بإخلاص النية فيه لله تعالى لا من غيرهم ، وليس المراد من التقوى التقوى من الشرك التي هي أول المراتب كما قيل ، ومراده من هذا الجواب إنك إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها عن لباس التقوى لا من قبلي ، فلم تقتلني ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله تعالى التي هي السبب في القبول ؟ا وهو جواب حكيم مختصر جامع لمعان .

وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظاً لا في إزالة حظه ونعمته ، فإن اجتهاده فيما ذكر يضره ولا ينفعه ، وقيل : مراده الكناية عن أن لا يمتنع عن حكم الله تعالى بوعيده لأنه متق والمتقي يؤثر الامتثال على الحياة ، أو الكناية عن أنه لا يقتله دفعاً لقتله لأنه متق فيكون ذلك كالتوطئة لما بعده ، ولا يخفى بعده ؛ وما أنعى هذه الآية على العاملين أعمالهم ، وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة ، فقيل له : ما يبكيك ، فقد كنت وكنت ؟ قال : إني أسمع الله تعالى يقول : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابني ءادَمَ } القلب اللذين هما هابيل العقل ؛ وقابيل الوهم { إِذْ قَرَّبَا قربانا } وذلك كما قال بعض العارفين : إن توأمة العقل البوذا العاقلة العملية المدبرة لأمر المعاش والمعاد بالآراء الصالحة المقتضية للأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة المستنبطة لأنواع الصناعات والسياسات ، وتوأمة الوهم إقليميا القوة المتخيلة المتصرفة في المحسوسات والمعاني الجزئية لتحصيل الآراء الشيطانية ، فأمر آدم القلب بتزوج الوهم توأمة العقل لتدبره بالرياضات الإذعانية والسياسات الروحانية وتصاحبه بالقياسات العقلية البرهانية فتسخره للعقل ، وتزويج لعقل توأمة الوهم ليجعلها صالحة ويمنعها عن شهوات التخيلات الفاسدة وأحاديث النفس الكاذبة ويستعمل فيما ينفع فيستريح أبوها وينتفع ، فحسد قابيل الوهم هابيل العقل لكون توأمته أجمل عنده وأحب إليه لمناسبتها إياه فأمرا عند ذلك بالقربان ، فقربا قرباناً { فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا } وهو هابيل العقل بأن نزلت نار من السماء فأكلته ، والمراد بها العقل الفعال النازل من سماء عالم الأرواح ، وأكله إفاضته النتيجة على الصورة القياسية التي هي قربان العقل وعمله الذي يتقرب به إلى الله تعالى { وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر } وهو قابيل الوهم إذ يمتنع قبول الصورة الوهمية لأنها لا تطابق ما في نفس الأمر { قَالَ لاَقْتُلَنَّكَ } لمزيد حسده بزيادة قرب العقل من الله تعالى وبعده عن رتبة الوهم في مدركاته وتصرفاته ، وقتله إياه إشارة إلى منعه عن فعله وقطع مدد الروح ونور الهداية الإلهية الذي به الحياة عنه بإيراد التشكيكات الوهمية والمعارضات في تحصيل المطالب النظرية

{ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } [ المائدة : 27 ] الذين يتخذون الله تعالى وقاية ، أو يحذرون الهيئات المظلمة البدنية والأهواء المردية والتسويلات المهلكة