93- وحينما جاءكم بالتوراة ، ورأيتم ما فيها من تكاليف شاقة ، فاستثقلتم أعباءها وارتبتم فيها ، أراكم الله آية على صدق هذا الكتاب وفائدة تعاليمه لكم ، فرفع جبل الطور فوق رءوسكم حتى صار كأنه ظُلَّة وظننتم أنه واقع بكم ، وحينئذٍ أعلنتم القبول والطاعة ، فأخذنا عليكم ميثاقاً ألا يأخذكم هوى في الامتثال لما جاء في هذا الكتاب ، فقلتم : آمنا وسمعنا ، ولكن أعمالكم تكشف عن عصيانكم وتمردكم ، وأن الإيمان لم يخالط قلوبكم ، ولا يمكن أن يكون الإيمان قد خالط قلوب قوم شغفوا حباً بعبادة العجل . فلبئس ما دفعكم إليه إيمانكم إن كنتم مؤمنين .
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا } أي : سماع قبول وطاعة واستجابة ، { قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي : صارت هذه حالتهم { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ }{[94]} بسبب كفرهم .
{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : أنتم تدعون الإيمان وتتمدحون بالدين الحق ، وأنتم قتلتم أنبياء الله ، واتخذتم العجل إلها من دون الله ، لما غاب عنكم موسى ، نبي الله ، ولم تقبلوا أوامره ونواهيه إلا بعد التهديد ورفع الطور فوقكم ، فالتزمتم بالقول ، ونقضتم بالفعل ، فما هذا الإيمان الذي ادعيتم ، وما هذا الدين ؟ .
فإن كان هذا إيمانا على زعمكم ، فبئس الإيمان الداعي صاحبه إلى الطغيان ، والكفر برسل الله ، وكثرة العصيان ، وقد عهد أن الإيمان الصحيح ، يأمر صاحبه بكل خير ، وينهاه عن كل شر ، فوضح بهذا كذبهم ، وتبين تناقضهم .
ثم ذكر القرآن الكريم جناية أخرى تكذبهم في دعواهم : أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم - وهي إباؤهم التوراة عناداً واستكباراً فقال تعالى :
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واسمعوا قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } .
ومعنى الآية الكريمة : واذكروا - يا بني إسرائيل - وقت أن أخذنا الميثاق عليكم بأن تعملوا بما في التوراة ، وتتلقوا أحكامها بالتقبل والطاعة ورفعنا فوقكم الطور لنريكم آية من آياتنا العظمى التي تقوى قلوبكم ، وتجعلكم تقبلون على تعاليم التوراة برغبة واستجابة ، وقلنا لكم خذوا ما آتيناكم بجد وحزم ، واسمعوا ما أمرناكم به سماع تدبر وطاعة ، ولكنكم - يا بني إسرائيل - يا من تدعون الإِيمان بما أنزل عليكم - أعرضتم عما أمرتم به من قبول التوراة وقلتم لنبيكم سمعنا قولك وعصينا أمرك ، وخالط حب عبادة العجل قلوبكم كما يخالط الماء أعماق البدن ولم تأبهوا بما جاءكم في التوراة من الهدى والنور وبما صحب عرضها عليكم من الآية البينة وهي رفع الجبل فوقكم حتى ظننتم أنه وافع بكم فكفرتم بذلك كله ولازالت نفوسكم تحن إلى عبادة العجل ولقد سرتم على منهج أسلافكم في العناد والجحود والإِعراض عما ينزله الله من الحق ، وإذا كان هذا شأنكم فكيف تدعون الإِيمان بما أنزل عليكم ؟
ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم على تخرصاتهم فقال تعالى : { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } .
وقوله تعالى : { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور } معناه : أننا حركناه ونقلناه معلقاً فوقكم في الهواء ، لتروا بأعينكم آية كونية من شأنها أنها تحملكم على الإِيمان والطاعة إن كانت لكم عقول تعقل .
ومعنى قوله تعالى : { خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واسمعوا } : قلنا لكم خذوا ما أمرناكم به في التوراة بجد واجتهاد في تأديته ، واسمعوا ما تؤمرون به سماع طاعة وتفهم . فقوله تعالى { واسمعوا } ليس المراد به مجرد السماع للقول فقط ، بل المقصود منه السماع الذي يصحبه التدبر والاستجابة للأمر : فهو مؤكد ومقرر لقوله تعالى : { خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } .
ثم حكى - سبحانه - جوابهم الذي يدل على عنادهم فقال : { قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف طابق قوله جوابهم ؟ قلت طابقه من حيث إنه قال لهم اسمعوا : وليكن سماعكم تقبل وطاعة ، فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة .
وقد اختلف المفسرون هل صدر متهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقاص أو أنهم فعلوا فعلا مقام القول فيكون مجازاً ؟
قال الفخر الرازي : الأكثرون من المفسرين على أنهم قالوا هذا القول حقيقة . وقال أبو مسلم : وجائز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان فعبر عن ذلك بالقول ولم يقولوه ، كقوله تعالى { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } قال : والأول أولى لأن صرف الكلام عن ظاهره بغير دليل لا يجوز .
وقوله تعالى : { وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ } عطف على قولهم سمعنا وعصينا والإِشراب ؛ السقي وجعل الشيء شارباً ، واستعمل على وجه التجوز في خلط لون بأخر كأن أحد اللونين سقى الآخر ، يقال : بياض مشرب بحمرة أي مختلط ، وفلان أشرب قلبه حب كذا بمعنى خالط حبه قلبه
قال الإِمام الرازي : قوله تعالى : { وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل } في وجه هذه الاستعارة وجهان : الأول : معناه تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب ، وقوله في قلوبهم بيان لمكان الإِشراب كقوله :
{ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } الثاني : كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض ، فكذا تلك المحبة كانت مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال .
وفي الجملة الكريمة { وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل } مضاف محذوف وهو لفظ ( حب ) لدلالة المعنى عليه .
والمعنى : إن هؤلاء اليهود الذين مردوا على العصيان قد خالط حب العجل نفوسهم حتى استقر في قلوبهم كما يخالط الماء أعماق الجسد . وحذف لفظ الحب من الجملة الكريمة ، يشعر بشدة تعلق قلوبهم بالعجل حتى لكأنهم أشروبا ذاته .
والتعبير بقوله : { وَأُشْرِبُواْ } يشير إلى أنه بلغ حبهم العجل مبلغ الأمر الذي ال اختيار لهم فيه كأن غيرهم أشربهم إياه .
وقوله تعالى : { بِكُفْرِهِمْ } دليل على أن محبتهم للعجل ناشئة عن كفر سابق ، وجحود متأصل فكفرهم الذي ترتب على عبادتهم للعجل ، قد سبقه كفر آخر ، فهو كفر على كفر .
ثم أمر الله - تعالى - نبيه في ختام الآية الكريمة بتوبيخهم فقال تعالى :
{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي : قل - يا محمد - لهؤلاء اليهود الذين يدعون الإِيمان بما أنزل عليهم - قل لهم - بئس الشيء الذي يأمركم به إيمانكم قتل الأنبياء وعبادة العجل والعصيان إن كنتم مصدقين - كما زعمتم - بالتوراة ، والحق أن التوراة ما أمرتكم بشيء من ذلك فلما أنتم مؤمنين بها ولا بغيرها من كتب الله ، لأنها لا تأمر بالفحشاء .
فالجملة الكريمة خلاصة لإِبطال قولهم { نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } بعد أن أبطله الله - تعالى - فيما سبق بشواهد متعددة ، لأنهم لما زعموا ذلك ، وكانوا مع هذا يفعلون أفعالا قبيحة تناقض الإِيمان بأي كتاب سماوي ، أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يذمهم على هذه الأفعال التي تناقض الإِيمان بما أنزل عليهم لكي يعلم الناس جميعاً أن دعواهم لا أساس لها من الصحة .
وأضاف - سبحانه - الإِيمان إليهم فقال { إِيمَانُكُمْ } ولم يقل الإِيمان ، لأنه ليس إيماناً صحيحاً وإنما هو إيمان مزعوم ، فإضافة الإِيمان إليهم من باب التهكم بهم والاستهزاء بعقولهم .
وقوله تعالى : { إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي إن كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنزل الله عليكم . وإنما كذبهم الله بذلك لأن التوراة تنهى عن ذلك كله ، وتأمر بخلافه ، فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة إن كان يأمرهم بذلك ، فبئس الأمر تأمر به . وإنما ذلك نفي من الله - تعالى - عن التوراة أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم وأن يكون التصديق بها يدل على شيء من مخالفة أمر الله ، وإعلام منه - جل ثناؤه - أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم ، والذي يحملهم عليه البغي والعدوان " .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد أقامت الأدلة المتعددة ، والبراهين القاطعة على كذب اليهود في دعواهم الإِيمان بما أنزل عليهم ، ووبختهم على مزاعمهم الباطلة ، وأقوالهم الفاسدة .
هذا ، ولفضيلة أستاذنا الدكتور محمد عبد الله دراز كلام رصين عند حديثه عن هذه الآيات ، فقد قال - رحمه الله - :
يقول الله تعالى في ذكر حجاج اليهود : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ . . . } .
هذا قطعة من فصل من قصة بني إسرائيل ، والعناصر الأصلية التي تبرزها لنا هذه الكلمات القليلة نلخص فيما يلي :
1 - مقالة ينصح بها الناصح لليهود : إذ يدعوهم إلى الإيمان بالقرآن .
2 - إجابتهم لهذا الناصح بمقالة تنطوي على مقصدين .
3 - الرد على هذا الجواب بركنيه من عدة وجوه .
وأٌسم لو أن محامياً بليغاً وكلت إليه الخصومة بلسان القرآن في هذه القضية ، ثم هدى إلى استنباط هذه المعاني التي تحتاج في نفس الداعي لما وسعه في أدائها أضعاف أضعاف هذه الكلمات ، ولعله بعد ذلك لا يفى بما حولها من إشارات واحتراسات وآداب وأخلاق .
قال الناصح لليهود : آمنوا بالقرآن كما آمنتم بالتوراة ، ألستم قد أمنتم بالتوراة التي جاء بها موسى لأنها أنزلها الله ؟ فالقرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أنزله الله ، فآمنوا به كما آمنتم بها .
فانظر كيف جمع القرآن هذا المعنى الكثير في هذه اللفظ الوجيز { آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ } . وسر ذلك أنه عدل بالكلام عن صريح اسم القرآن إلى كنايته . فجعل دعاءهم إلى الإِيمان به دعاء إلى الشيء بحجته ، وبذلك أخرج الدليل والدعوى في لفظ واحد .
ثم انظر كيف طوى ذكر المنزل عليه فلم يقل : آمنوا بما أنزل الله ( على محمد ) ، مع أن هذا جزء متمم لوصف القرآن المقصود بالدعوة .
أتدري لم ذلك ؟ لأنه لو ذكر لكان في نظر الحكمة البيانية زائداً ، وفي نظر الحكمة الإِرشادية مفسداً .
أما الأول فلأن هذه الخصوصية لا مدخل لها في الإِلزام ، فأدير الأمر على القدر المشترك وعلى الحد الأوسط الذي هو عمود الدليل .
وأما الثاني فلأن إلقاء هذا الاسم على مسامع الأعداء من شأنه أن يخرج أضغانهم ويثير أحقادهم فيؤدي إلى عكس ما قصده الداعي من التأليف والإِصلاح .
كان جواب اليهود أن قالوا : إن الذي دعانا للإِيمان بالتوراة ليس هو كونها أنزلها الله فحسب ، بل إننا آمنا بها لأن الله أنزلها علينا . والقرآن لم ينزله علينا ، فلكم قرآنكم ولنا توراتنا ، ولكل أمة شرعة ومنهاج .
هذا هو المعنى الذي أوجزه القرآن في قوله : { نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } وهذا هو المقصد الأول ، وقد زاد إيجاز هذه العبارة أن حذف منها فاعل الإِنزال وهو لفظ الجلالة ، لأنه تقدم ذكره في نظيرتها .
ومن البين أن اقتصارهم على الإِيمان بما أنزل عليهم يومئ إلى كفرانهم بما أنزل على غيرهم ، وهذا هو المقصد الثاني ، ولكنهم تحاشوا التصريح به لما فيه من شناعة التسجيل على أنفسهم بالكفر ، فأراد القرآن أن يبرزه ، أنظر كيف أبرزه ؟ إنه لم يجعل لازم مذهبهم مذهباً له ، ولم يدخل مضمون قولهم في جملة ما نقله من كلامهم ، بل أخرجه في معرض الشرح والتعليق على مقالتهم فقال :
{ وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ } أليس ذلك هو غاية الأمانة في النقل ؟ . . ثم جاء دور الرد والمناقشة فيما أعلنوه وما أسروه .
فتراه لا يبدأ بمحاورتهم في دعوى إيمانهم بكتابهم ، بل يتركها مؤقتاً كأنها مسلمة ليس عليهم وجوب الإِيمان بغيره من الكتب فيقول : كيف يكون الإِيمان بكتابهم باعثاً على الكفر بما هو حق مثله ؟ لا بل هو الحق كله ، وهل يعارض الحق الحق حتى يكون الإِيمان بأحدهما موجباً للكفر بالآخر ؟
ثم يترقى فيقول : وليس الأمر بين هذا الكتاب الجديد وبين الكتب السالفة عليه كالأمر بين كل حق وحق ، فقد يكون الشيء حقاص وغيره حقاً فلا يتكاذبان ، ولكنهما في شأنهما مختلفين ، فلا يشهد بعضها لبعض ، أما هذا الكتاب فإنه جاء شاهداً ومصدقاً لما بين يديه من الكتب ، فكيف يكذب به من يؤمن بها .
فانظر إلى الإِحكام في صنعه البيان : إنما هي كلمة رفعت وأخرى وضعت في مكانها عند الحاجة إليها ، فكانت هذه الكلمة حسما لكل عذر ، وسداً لكل باب من أبواب الهرب ، بل كانت هذه الكلمة وحدها بمثابة حركة تطويق للخصم تمت خطوة واحدة ، وفي غير ما جلبه ولا طنطنة .
ولما قضى وطر النفس من هذا الجانب المطوي الذي ساقه مساق الاعتراض والاستطراد ، استوى إلى الرد على المقصد الأصلي الذي تبجحوا بإعالنه والافتخار به ، وهو دعواهم الإِيمان بما أنزل عليهم ، فأوسعهم إكذاباً وتفنيداً . وبين أن داء الجحود فيهم داء قديم ، قد أشربوهن في قلوبهم ومضت عليه القرون حتى أصبح مرضاً مزمناً وأن الذي أتوه اليوم من الكفر بما أنزل على محمد ما هو إلا حلقه متصلة بسلسلة كفرهم بما أنزل عيلهم ، وساق على ذلك الشواهد التاريخية المفظة التي لا سبيل لإنكارها في جهلهم بالله ، وانتهاكهم لحرمة أنبيائه ، وتمردهم على أوامره .
{ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } .
تأمل كيف أن هذا الانتقال كانت النفس قد استعدت له في آخر المرحلة السابقة ، إذ يفهم السامع من تكذيبهم لما يصدق كتابهم أنهم صاروا مكذبين لكتابهم نفسه ، وهو الذي يكذب من يصدقك يبقى مصدقاً لك ؟ ؟ .
ثم انظر بعد أن سجل القرآن على بني إسرائيل أفحش الفحش وهو وضعهم البقر الذي هو مثل في البلادة موضع المعبود الأقدس ، وبعد أن وصف قسوة قلوبهم في تأبيهم على أوامر الله مع حملهم عليها بالآيات الرهيبة . بعد كل ذلك تراه لا يزيد على أن يقول في أول الأمر : إن هذا " ظلم " وفي الثانية ( بئسما ) صنعتم ، أذلك كل ما تقابل به هذه الشناعات ؟ نعم إنهما كلمتان وافيتان بمقدار الجريمة لو فهمتا على وجههما ، ولكن أين حدة الألم وحرارة الاندفاع في الانتقام ؟ بل أين الإِقذاع والتشنيع ؟ وأين الإِسراف والفجور الذي تراه في كلام الناس ، إذا أحفظوا بالنيل من مقامهم .
تالله ما أعف هذه الخصومة وما أعز هذا الجانب ، وأغناه عن شكر الشاكرين وكفر الكافرين ، وتالله إن هذا الكلام لا يصدر عن نفس بشر " .
ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة . بل كان هنالك الميثاق تحت الصخرة ، وكان هناك التمرد والمعصية :
( وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور : خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا . قالوا : سمعنا وعصينا ، وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) . .
والسياق هنا يلتفت من الخطاب إلى الحكاية . . يخاطب بني إسرائيل بما كان منهم ، ويلتفت إلى المؤمنين - وإلى الناس جميعا - فيطلعهم على ما كان منهم . . ثم يلقن الرسول [ ص ] أن يجبههم بالترذيل والتبشيع لهذا اللون من الإيمان العجيب الذي يدعونه إن كان يأمرهم بكل هذا الكفر الصريح :
( قل : بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ! ) . .
ونقف هنا لحظة أمام التعبيرين المصورين العجيبين : ( قالوا : سمعنا وعصينا ) . . ( وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) . .
إنهم قالوا : سمعنا . ولم يقولوا عصينا . ففيم إذن حكاية هذا القول عنهم هنا ؟ إنه التصوير الحي للواقع الصامت كأنه واقع ناطق . لقد قالوا بأفواههم : سمعنا . وقالوا بأعمالهم : عصينا . والواقع العملي هو الذي يمنح القول الشفوي دلالته . وهذه الدلالة أقوى من القول المنطوق . . وهذا التصوير الحي للواقع يومىء إلى مبدأ كلي من مباديء الإسلام : إنه لا قيمة لقول بلا عمل . إن العمل هو المعتبر . أو هي الوحدة بين الكلمة المنطوقة والحركة الواقعة ، وهي مناط الحكم والتقدير .
فأما الصورة الغليظة التي ترسمها : ( وأشربوا في قلوبهم العجل )فهي صورة فريدة . لقد أشربوا . أشربوا بفعل فاعل سواهم . أشربوا ماذا ؟ أشربوا العجل ! وأين أشربوه ؟ أشربوه في قلوبهم ! ويظل الخيال يتمثل تلك المحاولة العنيفة الغليظة ، وتلك الصورة الساخرة الهازئة : صورة العجل يدخل في القلوب إدخالا ، ويحشر فيها حشرا ، حتى ليكاد ينسى المعنى الذهني الذي جاءت هذه الصورة المجسمة لتؤديه ، وهو حبهم الشديد لعبادة العجل ، حتى لكأنهم أشربوه إشرابا في القلوب ! هنا تبدو قيمة التعبير القرآني المصور ، بالقياس .
إن التعبير الذهي المفسر . . إنه التصوير . . السمة البارزة في التعبير القرآني الجميل .
يعدد ، تبارك وتعالى ، عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوهم وإعراضهم عنه ، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه ؛ ولهذا قال : { قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } وقد تقدم تفسير ذلك . { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [ بِكُفْرِهِمْ ]{[2179]} } قال : أشربوا [ في قلوبهم ]{[2180]} حبه ، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم . وكذا قال أبو العالية ، والربيع بن أنس .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عصام بن خالد ، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني ، عن خالد بن محمد الثقفي ، عن بلال بن أبي الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " حُبُّك الشيء يُعْمِي ويُصم "
ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح عن بَقِيَّة ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به{[2181]} وقال السدي : أخذ موسى ، عليه السلام ، العجل فذبحه ثم حرقه بالمبرد ، ثم ذراه في البحر ، فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء منه ، ثم قال لهم موسى : اشربوا منه . فشربوا ، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب . فذلك حين يقول الله تعالى : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل{[2182]} عن أبي إسحاق ، عن عمارة بن عبد{[2183]} وأبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب ، قال : عمد موسى إلى العجل ، فوضع عليه المبارد ، فبرده بها ، وهو على شاطئ نهر ، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب{[2184]} .
وقال سعيد بن جبير : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ } قال : لما أحرق العجل بُرِدَ ثم نسف ، فحسوا الماء حتى عادت وجوههم كالزعفران .
وحكى القرطبي عن كتاب القشيري : أنه ما شرب منه أحد ممن عبد العجل إلا جنَّ [ ثم قال القرطبي ]{[2185]} وهذا شيء غير ما هاهنا ؛ لأن المقصود من هذا السياق ، أنه ظهر النقير على شفاههم ووجوههم ، والمذكور هاهنا : أنهم أشربوا في قلوبهم حب العجل ، يعني : في حال عبادتهم له ، ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة :
تغلغل حب عثمة في فؤادي *** فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب*** ولا حزن ولم يبلغ سرور
أكاد إذا ذكرت العهد منها *** أطير لو أن إنسانا يطير
وقوله : { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه ، من كفركم بآيات الله ومخالفتكم الأنبياء ، ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم - وهذا أكبر ذنوبكم ، وأشد الأمور عليكم - إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين ، فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة ، من نقضكم المواثيق ، وكفركم بآيات الله ، وعبادتكم العجل ؟ !
{ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا } أي قلنا لهم : خذوا ما أمرتم به في التوراة بجد واسمعوا سماع طاعة .
{ قالوا سمعنا } قولك { وعصينا } أمرك { وأشربوا في قلوبهم العجل } تداخلهم حبه ورسخ في قلوبهم صورته ، لفرط شغفهم به ، كما يتداخل الصبغ الثوب ، والشراب أعماق البدن . وفي قلوبهم : بيان لمكان الإشراب كقوله تعالى : { إنما يأكلون في بطونهم نارا } { بكفرهم } بسبب كفرهم وذلك لأنهم كانوا مجسمة ، أو حلولية ولم يروا جسما أعجب منه ، فتمكن في قلوبهم ما سول لهم السامري { قل بئسما يأمركم به إيمانكم } أي بالتوراة ، والمخصوص بالذم محذوف نحو هذا الأمر ، أو ما يعمه وغيره من قبائحهم المعدودة في الآيات الثلاث إلزاما عليهم { إن كنتم مؤمنين } تقرير للقدح . في دعواهم الإيمان بالتوراة ، وتقديره إن كنتم مؤمنين بها لم يأمركم بهذه القبائح ولا يرخص لكم فيها إيمانكم بها ، أو إن كنتم مؤمنين بها فبئسما يأمركم به إيمانكم بها ، لأن المؤمن ينبغي أن لا يتعاطى إلا ما يقتضيه إيمانه ، لكن الإيمان بها لا يأمر به ، فإذا لستم بمؤمنين .