هذه السورة مكية ، ماعدا الآيات الثلاث الأخيرة منها فإنها مدنية . وعدد آياتها ثمان وعشرون ومائة ابتدأت السورة الكريمة بتأكيد وعيد الله تعالى للمشركين ، وبيان قدرته سبحانه وتعالى على تنفيذه ، بدليل خلقه السماوات والأرض ، ثم بيان نعمه على الناس كافة بخلقه الإبل ، وإنباته الزرع ، وما خلق في البحر من أسماك تؤكل ، وجواهر للزينة . ثم أشار إلى ما تستوجبه هذه النعم من شكره سبحانه ووجوب عبادته وحده واستقبال المشركين للدعوة إلى الوحدانية ، وافترائهم على القرآن الكريم ، وادعاء أنه من أساطير الأولين ، ثم أشار سبحانه إلى عذاب المشركين يوم القيامة ، ونعيم المؤمنين ، ثم ذكر سبحانه إنكار المشركين للبعث ولجاجتهم في الإنكار ، ويستنكر سبحانه جحودهم ببيان قدرته ، ويؤكد وعده للمتقين ووعيده لهم ، ثم يقرب البعث ببيان قدرته عليهم ، وخضوع الوجود كله له سبحانه ، وبيان أنه سبحانه هو الذي يكشف ويبين خرافات المشركين في اعتقادهم القدرة فيمن لا يملك نفعا ولا ضرا ، وسوء رأيهم في المرأة طفلة وامرأة . وأشار سبحانه إلى الرسل السابقين ، وساق سبحانه العبر في خلقه وتكوينه للأشياء وما فيها من نعم للإنسان . وتفاوت الأرزاق من أن يكون للغني فضل على الفقير ، ونعمه على الإنسان في خلقه ذكرا أو أنثى والإنسال بالزواج منهما . وأخذ يضرب سبحانه الأمثال لبيان قدرته ، ثم وجه الأنظار إلى عظم المخلوقات الدالة على عظمة الخالق وفائض نعمه ، ومقابلة المشركين لهذه النعم الجليلة . وبعد أن بين مطالب الإسلام في العدل وصلة الرحم بالوفاء بالعهد وإعجاز القرآن ، وكفر المشركين به وافترائهم عليه ، أشار سبحانه إلى حال المشركين يوم القيامة . وبين كيف كانوا يحلون ويحرمون من غير حجة ، وأشار إلى اليهود الذين يقاربون المشركين ، وبين أنه يجب ألا يعاقبوا إلا بالمثل وأن على المؤمنين أن يصبروا وأن يلتزموا التقوى والإحسان .
1- تأكدوا - أيها المشركون - أن ما توعَّدكم الله به يوم القيامة واقع قريب الوقوع لا شك فيه ، فلا تستهزئوا باستعجال وقوعه ، تنزه الله عن أن يكون له شريك يُعبد من دونه ، وعما تشركون به من آلهة لا تقدر على شيء .
{ أَتَىَ أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أتى أمر الله فقرُب منكم أيها الناس ودنا ، فلا تستعجلوا وقوعه .
ثم اختلف أهل التأويل في الأمر الذي أعلم الله عباده مجيئه وقُربه منهم ما هو ، وأيّ شيء هو ؟ فقال بعضهم : هو فرائضه وأحكامه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : { أتَى أمْرُ اللّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ } قال : الأحكام والحدود والفرائض .
وقال آخرون : بل ذلك وعيد من الله لأهل الشرك به ، أخبرهم أن الساعة قد قَرُبت وأن عذابهم قد حضر أجله فدنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما نزلت هذه الآية ، يعني : أتَى أمْرُ اللّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض : إن هذا يزعم أن أمر الله أتى ، فأمسِكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن فلما رأوا أنه لا ينزل شيء ، قالوا : ما نراه نزل شيء فنزلت : اقْتَرَبَ للنّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ في غَفْلَة مُعْرِضُون فقالوا : إن هذا يزعم مثلها أيضا . فلما رأوا أنه لا ينزل شيء ، قالوا : ما نراه نزل شيء فنزلت : وَلَئِنْ أخّرْنا عَنْهُمُ العَذَابَ إلى أُمّة مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنّ ما يَحْبَسُهُ ألا يَوْمَ يأتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفا عَنْهُمْ وَحاقَ بِهمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ .
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي بكر بن حفص ، قال : لما نزلت : { أتَى أمْرُ اللّهِ } رفعوا رءوسهم ، فنزلت : { فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو بكر بن شعيب ، قال : سمعت صادق أبا يقرأ : «يا عِبادَي أتَى أمْرُ اللّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ » .
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : هو تهديد من أهل الكفر به وبرسوله ، وإعلام منه لهم قرب العذاب منهم والهلاك وذلك أنه عقّب ذلك بقوله سبحانه وتعالى : عَمّا يُشْرِكُونَ فدلّ بذلك على تقريعه المشركين ووعيده لهم . وبعد ، فإنه لم يبلغنا أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجل فرائض قبل أن تُفرض عليهم فيقال لهم من أجل ذلك : قد جاءتكم فرائض الله فلا تستعجلوها . وأما مستعجلو العذاب من المشركين ، فقد كانوا كثيرا .
وقوله سبحانه وتعالى : { عَمّا يُشْرِكُونَ } يقول تعالى ذكره : تنزيها لله وعلوّا له عن الشرك الذي كانت قريش ومن كان من العرب على مثل ما هم عليه يَدين به .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله تعالى : { عَمّا يُشْرِكُونَ } فقرأ ذلك أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين : { عَمّا يُشْرِكُونَ } بالياء على الخبر عن أهل الكفر بالله وتوجيه للخطاب بالاستعجال إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك قرءوا الثانية بالياء . وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفة بالتاء على توجيه الخطاب بقوله : فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبقوله تعالى : «عَمّا تُشْرِكُونَ » إلى المشركين . والقراءة بالتاء في الحرفين جميعا على وجه الخطاب للمشركين أولى بالصواب لما بيّنت من التأويل أن ذلك إنما هو وعيد من الله للمشركين ؛ ابتدأ أول الآية بتهديدهم وختم آخرها بنكير فعلهم واستعظام كفرهم على وجه الخطاب لهم .
{أتى أمر الله فلا تستعجلوه} كانوا يستعجلون ما أو عدهم الرسول صلى الله عليه وسلم من قيام الساعة ، أو إهلاك الله تعالى إياهم كما فعل يوم بدر استهزاء وتكذيبا ، ويقولون إن صح ما تقوله فالأصنام تشفع لنا وتخلصنا منه فنزلت ، والمعنى أن الأمر الموعود به بمنزلة الآتي المتحقق من حيث إنه واجب الوقوع ، فلا تستعجلوا وقوعه فإنه لا خير لكم فيه ولا خلاص لكم منه . { سبحانه تعالى عما يشركون } تبرأ وجل عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم . وقرأ حمزة و الكسائي بالتاء على وفق قوله : { فلا تستعجلوه } والباقون بالياء على تلوين الخطاب ، أو على أن الخطاب للمؤمنين أو لهم ولغيرهم ، لما روي أنه لما نزلت أتى أمر الله فوثب النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم فنزلت { فلا تستعجلوه } .
هذه السورة كانت تسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده ، وهي مكية غير قوله تعالى : { وإن عوقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } الآية ، نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة رضي الله عنه وقتلى أحد ، وغير قوله تعالى : { واصبر و ما صبرك إلا بالله } ، وغير قوله : { ثم إن ربك للذين هاجروا } الآية ، وأما قوله تعالى : { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا } فمكي في شأن هجرة الحبشة{[1]} .
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال جبريل في سرد الوحي : { أتى أمر الله } وثب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً ، فلما قال { فلا تستعجلوه } سكن{[7238]} . وقوله { أمر الله } قال فيه جمهور المفسرين : إنه يريد القيامة وفيها وعيد للكفار ، وقيل : المراد نصر محمد عليه السلام ، وقيل : المراد تعذيب كفار مكة بقتل محمد صلى الله عليه وسلم لهم وظهوره عليهم ، ذكر نحو هذا النقاش عن ابن عباس ، وقيل : المراد فرائض الله وأحكامه في عباده وشرعه لهم ، هذا هو قول الضحاك ، ويضعفه قوله { فلا تستعجلوه } إنا لا نعرف استعجالاً إلا ثلاثة اثنان منها للكفار وهي في القيامة وفي العذاب ، والثالث للمؤمنين في النصر وظهور الإسلام ، وقوله { أتى } على هذا القول إخبار عن إتيان ما يأتي ، وصح ذلك من جهة التأكيد ، وإذا كان الخبر حقاً فيؤكد المستقبل بأن يخرج في صيغة الماضي ، أي كأنه لوضوحه والثقة به قد وقع ، ويحسن ذلك في خبر الله تعالى لصدق وقوعه ، وقال قوم : { أتى } بمعنى قرب ، وهذا نحو ما قلت ، وإنما يجوز الكلام بهذا عندي لمن يعلم قرينه التأكيد ويفهم المجاز ، وأما إن كان المخاطب لا يفهم القرينة فلا يجوز وضع الماضي موضع المستقبل ، لأن ذلك يفسد الخبر ويوجب الكذب ، وإنما جار في الشرط لوضوح القرينة ب { أن } ، ومن قال : إن الأمر القيامة ، قال : إن قوله { فلا تستعجلوه } رد على المكذبين بالبعث القائلين متى هذا الوعد ، ومن قال : إن الأمر تعذيب الكفار بنصر محمد صلى الله عليه وسلم وقتله لهم ، قال إن قوله { فلا تستعجلوه } رد على القائلين { عجل لنا قطنا }{[7239]} [ ص : 16 ] ونحوه من العذاب ، أو على مستبطئي النصر من المؤمنين في قراءة من قرأ بالتاء ، وقرأ الجمهور «فلا تستعجلوه » بالتاء على مخاطبة المؤمنين أو على مخاطبة الكافرين بمعنى قل لهم : «فلا تستعجلوه » ، وقرأ سعيد بن جبير بالياء على غيبة المشركين ، وقرأ حمزة والكسائي بالتاء من فوق وجميع الباقين قرأ «يشركون » بالياء ، ورجح الطبري القراءة بالتاء من فوق في الحرفين ، قال أبو حاتم : قرأ «يشركون » بالياء ، من تحت في هذه والتي بعدها الأعرج وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن نصاح والحسن وأبو رجاء ، وقرأ عيسى الأولى بالتاء من فوق ، والثانية بالياء من تحت ، وقرأهما جميعاً بالتاء من فوق أبو العالية وطلحة والأعمش وأبو عبد الرحمن ويحيى بن وثاب والجحدري ، وقد روى الأصمعي عن نافع التاء في الأولى . وقوله { سبحانه } معناه تنزيهاً له ، وحكى الطبري عن ابن جريج ، قال : لما نزلت { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } قال رجال من الكفار ، إن هذا يزعم أن أمر الله قد أتى فأمسكوا عما أنتم بسبيله حتى ننظر ، فلما لم يروا شيئاً عادوا فنزلت :{ اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون }{[7240]} [ الأنبياء : 1 ] فقالوا مثل ذلك : فنزلت { ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم }{[7241]} [ هود : 8 ] ، وقال أبو بكر بن حفص : لما نزلت { أتى أمر الله } رفعوا رؤوسهم ، فنزلت { فلا تستعجلوه } ، وحكى الطبري عن أبي صادق أنه قرأ : «يا عبادي أتى أمر الله فلا تستعجلوه » . و { سبحانه } نصب على المصدر أي تنزيهاً له .
سميت هذه السورة عند السلف سورة النحل ، وهو اسمها المشهور في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة .
ووجه تسميتها بذلك أن لفظ النحل لم يذكر في سورة أخرى .
وعن قتادة أنها تسمى سورة النعم أي بكسر النون وفتح العين . قال ابن عطية : لما عدد الله فيها من النعم على عباده .
وهي مكية في قول الجمهور وهو عن أبن عباس وابن الزبير . وقيل ؛ إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة أحد ، وهي قوله تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } إلى آخر السورة . قيل : نزلت في نسخ عزم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يمثل بسبعين من المشركين أن أظفره الله بهم مكافأة على تمثيلهم بحمزة .
وعن قتادة وجابر بن زيد أن أولها مكي إلى قوله تعالى { والذين هاجروا في الله من بعد ظلموا } فهو مدني إلى آخر السورة .
وسيأتي في تفسير قوله تعالى { ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء } ما يرجح أن بعض السورة مكي وبعضها مدني ، وبعضها نزل بعد الهجرة إلى الحبشة كما يدل عليه قوله تعالى { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } ، وبعضها متأخر النزول عن سورة الأنعام لقوله في هذه { وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل } ، يعني بما قص من قبل قوله تعالى { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } الآيات .
وذكر القرطبي أنه روي عن عثمان بن مظعون : أما نزلت هذه الآية قرأتها على أبي طالب فتعجب وقال : يا آل غالب اتبعوا ابن أخي تفلحوا فوالله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق .
وروى أحمد عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون لما نزلت هذه الآية كان جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم قال : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلى الله عليه وسلم .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يضعها في موضعها هذا من هذه السورة .
وهذه السورة نزلت بعد سورة الأنبياء وقبل سورة ألم السجدة . وقد عدت الثانية والسبعين في ترتيب نزول السور .
وآيها مائة وثمان وعشرون بلا خلاف . ووقع للخفاجي عن الداني أنها نيف وتسعون . ولعله خطأ أو تحريف أو نقص .
معظم ما اشتملت عليه السورة إكثار متنوع الأدلة على تفرد الله تعالى بالإلهية ، والأدلة على فساد دين الشرك وإظهار شناعته .
وأدلة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .
وإنزال القرآن عليه صلى الله عليه وسلم .
وإن شريعة الإسلام قائمة على أصول ملة إبراهيم عليه السلام .
وإثبات البعث والجزاء ؛ فابتدئت بالإنذار بأنه قد اقترب حلول ما أنذر به المشركون من عذاب الله الذي يستهزئون به ، وتلا ذلك قرع المشركين وزجرهم على تصلبهم في شركهم وتكذيبهم .
وانتقل إلى الاستدلال على إبطال عقيدة الشرك ؛ فابتدئ بالتذكير بخلق السماوات والأرض ، وما في السماء من شمس وقمر ونجوم ، وما في الأرض من ناس وحيوان ونبات وبحار وجبال ، وأعراض الليل والنهار .
وما في أطوار الإنسان وأحواله من العبر .
وخصت النحل وثمراتها بالذكر لوفرة منافعها والاعتبار بإلهامها إلى تدبير بيوتها وإفراز شهدها .
والتنويه بالقرآن وتنزيهه عن اقتراب الشيطان ، وإبطال افترائهم على القرآن .
والاستدلال على إمكان البعث وأنه تكوين كتكوين الموجودات .
والتحذير مما حل بالأمم التي أشركت بالله وكذبت رسله عليهم السلام عذاب الدنيا وما ينتظرهم من عذاب الآخرة . وقابل ذلك بضده من نعيم المتقين المصدقين والصابرين على أذى المشركين والذين هاجروا في الله وظلموا .
والتحذير من الارتداد عن الإسلام ، والترخيص لمن أكره على الكفر في التقية من المكرهين .
والأمر بأصول من الشريعة ؛ من تأصيل العدل ، والإحسان ، والمواساة ، والوفاء بالعهد ، وإبطال الفحشاء والمنكر والبغي ، ونقض العهود ، وما على ذلك من جزاء بالخير في الدنيا والآخرة .
وأدمج في ذلك ما فيها من العبر والدلائل ، والامتنان على الناس بما في ذلك من المنافع الطيبات المنتمة ، والمحاسن ، وحسن المناظر ، ومعرفة الأوقات ، وعلامات السير في البر والبحر ، ومن ضرب الأمثال .
والتحذير من الوقوع في حبائل الشيطان .
والإنذار بعواقب كفران النعمة .
ثم عرض لهم بالدعوة إلى التوبة { ثم إن ربك للذين علموا السوء بجهالة } الخ . . . .
لمّا كان معظم أغراض هذه السورة زجر المشركين عن الإشراك وتوابعه وإنذارهم بسوء عاقبة ذلك ، وكان قد تكرّر وعيدهم من قبل في آيات كثيرة بيوم يكون الفارقَ بين الحق والباطل فتزول فيه شوكتهم وتذهب شدّتهم . وكانوا قد استبطأوا ذلك اليوم حتى اطمأنوا أنه غير واقع فصاروا يهزأون بالنبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين فيستعجلون حلول ذلك اليوم .
صدّرت السورة بالوعيد المصوغ في صورة الخبر بأن قد حلّ ذلك المتوعد به . فجيء بالماضي المراد به المستقبل المحققُ الوقوع بقرينة تفريع { فلا تستعجلوه } ، لأن النهي عن استعجال حلول ذلك اليوم يقتضي أنه لما يحل بعد .
والأمر : مصدر بمعنى المفعول ، كالوعد بمعنى الموعود ، أي ما أمر الله به . والمرادُ من الأمر به تقديره وإرادة حصوله في الأجل المسمّى الذي تقتضيه الحكمة .
وفي التعبير عنه بأمر الله إبهام يفيد تهويله وعظمته لإضافته لمن لا يعظم عليه شيء . وقد عبّر عنه تارات بوعد الله ومرّات بأجل الله ونحو ذلك .
والخطاب للمشركين ابتداء لأن استعجال العذاب من خصالهم ، قال تعالى : { ويستعجلونك بالعذاب } [ سورة الحج : 47 ] ويجوز أن يكون شاملاً للمؤمنين لأن عذاب الله وإن كان الكافرون يستعجلون به تهكّماً لظنّهم أنه غير آتتٍ ، فإن المؤمنين يضمرون في نفوسهم استبطاءه ويحبّون تعجيله للكافرين .
فجملة { فلا تستعجلوه } تفريع على { أتى أمر الله } وهي من المقصود بالإنذار .
والاستعجال : طلب تعجيل حصول شيء ، فمفعوله هو الذي يقع التعجيل به . ويتعدّى الفعل إلى أكثر من واحد بالباء فقالوا : استعجل بكذا . وقد مضى في سورة الأنعام ( 57 ) قوله تعالى : { ما عندي ما تستعجلون به } فضمير { تستعجلوه } إما عائد إلى الله تعالى ، أي فلا تستعجلوا الله . وحذف المتعلق ب { تستعجلوه } لدلالة قوله : { أتى أمر الله } عليه . والتقدير فلا تستعجلوا الله بأمره ، على نحو قوله تعالى : { سأريكم آياتي فلا تستعجلون } [ سورة الأنبياء : 37 ] .
وقيل الضمير عائد إلى أمر { الله } ، وعليه تكون تعدية فعل الاستعجال إليه على نزع الخافض .
والمراد من النهي هنا دقيق لم يذكروه في موارد صيغ النهي . ويجدر أن يكون للتسوية كما ترد صيغة الأمر للتسوية ، أي لا جدوى في استعجاله لأنه لا يعجّل قبل وقته المؤجّل له .
مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لأنها المقصود من الوعيد ، إذ الوعيد والزّجر إنما كانا لأجل إبطال الإشراك ، فكانت جملة { أتى أمر الله } كالمقدمة ، وجملة { سبحانه وتعالى عما يشركون } كالمقصد .
و ( ما ) في قوله : { عما يشركون } مصدرية ، أي عن إشراكهم غيره معه .
وقرأ الجمهور { يشركون } بالتحتية على طريقة الالتفات ، فعدل عن الخطاب ليختص التبرؤ من شأنهم أن ينزلوا عن شرف الخطاب إلى الغيبة .
وقرأه حمزة والكسائي بالمثناة الفوقية تبعاً لقوله : { فلا تستعجلوه } .