سورة النحل سورة مكية ، وعدد آياتها " 128 " آية ، وهي سورة هادئة الإيقاع ، عادية الجرس ، ولكنها مليئة حافلة ، موضوعاتها الرئيسة كثيرة منوعة ، والإطار التي تعرض فيه واسع شامل .
وهي كسائر السور المكية تعالج موضوعات العقيدة الكبرى : الألوهية ، والوحي والبعث ، ولكنها تلم بموضوعات جانبية أخرى تتعلق بتلك الموضوعات الرئيسة ، تلم بحقيقة الوحدانية الكبرى التي تصل بين دين إبراهيم عليه السلام ، ودين محمد صلى الله عليه وسلم ، وتلم بحقيقة الإرادة الإلهية والإرادة البشرية فيما يختص بالإيمان والكفر والهدى والضلال ، وتلم بوظيفة الرسل ، وسنة الله في المكذبين لهم ، وتلم بموضوع التحليل والتحريم ، وأوهام الوثنية حول هذا الموضوع ، وتلم بالهجرة في سبيل الله ، وفتنة المسلمين في دينهم ، والكفر بعد الإيمان وجزاء هذا كله عند الله ثم تضيف إلى موضوعات العقيدة موضوعات المعاملة : العدل والإحسان ، والإنفاق والوفاء بالعهد ، وغيرها من موضوعات السلوك القائم على العقيدة ، وهكذا هي مليئة حافلة من ناحية الموضوعات التي تعالجها .
فأما الإطار الذي تعرض فيه هذه الموضوعات ، والمجال الذي تجرى فيه الأحادث فهو فسيح شامل . . هو السماوات والأرض ، والماء الهاطل ، والشجر النامي . . والليل والنهار ، والشمس والقمر والنجوم . والبحار والجبال والمعالم والسبل والأنهار ، وهو الدنيا بأحداثها ومصائرها ، والأخرى بأقدارها ومشاهدها ، وهو الغيب بألوانه وأعماقه في الأنفس والآفاق .
في هذا المجال الفسيح يبدو سياق السورة وكأنه حملة ضخمة للتوجيه والتأثير واستجاشة العقل والضمير ، حملة هادئة الإيقاع ، ولكنها متعددة الأوتار ، ليست في جلجلة سورة الأنعام وسورة الرعد ، ولكنها في هدوئها تخاطب كل حاسة وكل جارحة في الكيان البشري ، وتتجه إلى العقل الواعي كما تتجه إلى الوجدان الحساس إنها تخاطب العين ؛ لترى ، والأذن ؛ لتسمع ، واللمس ؛ ليستشعر ، والوجدان ؛ ليتأثر والعقل ؛ ليتدبر ، وتحشد الكون كله : سماءه وأرضه ، وشمسه وقمره ، وليله ونهاره ، وجباله وبحاره ، وفجاجه وأنهاره ، وظلاله وأكنافه ، ونبته وثماره ، وحيوانه وطيوره ، كما تحشد دنياه وآخرته ، وأسراره وغيوبه . . كلها أدوات توقع بها على أوتار الحواس والجوارح والعقول والقلوب ، مختلف الإيقاعات التي لا يغلق أمامها إلا القلب الميت ، والعقل المنكوس ، والحس المطموس .
هذه الإيقاعات تتناول التوجيه إلى آيات الله في الكون وآلائه على الناس ، كما تتناول مشاهد القيامة ، وصور الاحتضار ومصارع الغابرين ، تصاحبها اللمسات الوجدانية التي تتسرب إلى أسرار الأنفس ، وإلى أحوال البشر وهم أجنة في البطون ، وهم في الشباب والهرم والشيخوخة ، وهم في حالات الضعف والقوة ، وهم في أحوال النعمة والنقمة ، كذلك تتخذ السورة الأمثال ، والمشاهد ، والحوار ، والقصص الخفيفة ، أدوات للعرض والإيضاح .
فأما الظلال العميقة التي تلون جو السورة كله ، فهي : الآيات الكونية تتجلى فيها عظمة الخلق ، وعظمة النعمة ، وعظمة العلم والتدبير . . كلها متداخلة ، فهذا الخلق الهائل العظيم المدبر عن علم وتقدير ملحوظ فيه أن يكون نعمة على البشر لا تلبي ضروراتهم وحدها ، ولكن تلبي أشواقهم كذلك ، فتسد الضرورة ، وتتخذ للزينة ، وترتاح بها أبدانهم وتستريح لها نفوسهم ، لعلهم يشكرون ، ومن ثم تتراءى في السورة ظلال النعمة ، وظلال الشكر ، والتوجيهات إليها ؛ والتعقيب بها في مقاطع السورة وتضرب عليها الأمثال ، ونعرض لها النماذج وأظهرها نموذج إبراهيم .
{ شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم } . ( النحل : 121 ) .
كل أولئك في تناسق ملحوظ بين الصور والأفكار ، والعبارات والإيقاعات ، والقضايا والموضوعات نرجو أن نشاهده في أثناء استعراضنا لأجزاء السورة .
تبدأ سورة النحل بآية مشهورة تقال كثيرا عندما يحين الأجل ويقف الإنسان عاجزا أمام حوادث القدر ، يقول سبحانه : { أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون } . ( النحل : 1 ) .
ومن أسباب نزول هذه الآية : أن أهل مكة كانوا يستعجلون الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة . وكلما امتد بهم الأجل ولم ينزل العذاب ؛ زادوا استعجالا ، وزادوا استهزاء واستهتارا ، وحسبوا أن محمدا يخوفهم بما لا وجود له ولا حقيقة ؛ ليؤمنوا له ويستسلموا ، ولم يدركوا حكمة الله في إمهالهم ورحمته في إنظارهم ولم يحاولوا تدبر آياته في الكون ، وآياته في القرآن .
تسترسل الآيات في سورة النحل تستعرض نعم الله سبحانه على الإنسان ؛ فتذكر خلق السماوات والأرض والإنسان ، والأنعام والنبات ، والليل والنهار ، والجبال والبحار ، والشمس والقمر والنجوم ، وهي ظواهر طبيعية ملموسة ولكننا إذا قرأنا الآيات من 3 إلى18 في سورة النحل نجد أننا أمام لوحة كونية معروضة تنتقل بالإنسان من مشهد إلى آخر وكل مشهد يدل على وحدانية الخالق ، ووحدانية المنعم . وتعرض الآيات هذه النعم فوجا فوجا ومجموعة مجموعة بادئة بخلق السماوات والأرض فيقول سبحانه : { خلق السماوات والأرض بالحق } . ( النحل : 3 ) .
فالحق قوام خلقهما والحق قوام تدبيرهما ، والحق عنصر أصيل في تصريفهما وتصريف من فيهما وما فيهما ؛ فما من شيء من ذلك كله عبث ولا جزاف ، إنما كل شيء قائم على الحق وملتبس به وسائر في النهاية إليه .
ثم تستعرض الآيات نعمة خلق الأنعام ، والأنعام المتعارف عليها في الجزيرة العربية كانت هي : الإبل ، والبقر ، والضأن ، والمعز . وقد أباح الله أكلها أما الخيل ، والبغال ، والحمير ؛ فللركوب والزينة ولا تؤكل ، ثم يجيء التعقيب على هذه النعمة يقول سبحانه : { ويخلق ما لا تعلمون } . ( النحل : 8 ) .
ليظل المجال مفتوحا في التصور البشري لتقبل أنماط جديدة من أدوات الحمل والنقل والركوب والزينة . إن الإسلام عقيدة مفتوحة مرنة قابلة لاستقبال طاقات الحياة كلها ومقدرات الحياة كلها ، ومن ثم يهيئ القرآن الأذهان لاستقبال كل ما تتمخض عنه القدرة ويتمخض عنه العلم ، ويتمخض عنه المستقبل ، استقباله بالوجدان الديني المتفتح المستعد لتلقي كل جديد في عجائب الخلق والعلم والحياة .
ولقد وجدت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة ، لم يكن يعلمها أهل ذلك الزمان وستجد وسائل أخرى لا يعلمها أهل هذا الزمان ، والقرآن يهيئ القلوب والأذهان بلا جمود ولا تحجر حين يقول : { ويخلق مالا تعلمون } .
والفوج الثاني من آيات الخلق والنعمة ، هو :
إنزال الماء وإنبات النبات والمرعى والزروع التي يأكل منها الإنسان مع الزيتون والنخيل والأعناب وغيرها من أشجار الثمار .
والفوج الثالث من أفواج الآيات :
تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم ، وكلها ذات أثر حاسم في حياة الإنسان ومن شاء فليتصور نهارا بلا ليل أو ليلا بلا نهار ، ثم يتصور مع هذا حياة الإنسان والحيوان والنبات في هذه الأرض كيف تكون ، كل أولئك طرف من حكمة التدبير ، وتناسق النواميس في الكون كله . يدركه أصحاب العقول التي تتدبر وتعقل : { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } . ( النحل : 12 ) .
والفوج الرابع من أفواج النعمة فيما خلق الله للإنسان : { وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون } . ( النحل : 13 ) .
امتن الله على عباده بما خلق لهم في الأرض من ألوان المنافع ، وبما أودعه فيها للبشر من مختلف المعادن التي تقوم بها حياتهم في بعض الجهات وفي بعض الأزمان ولفت أنظارهم إلى هذه الذخائر المخبوءة في الأرض ، المودوعة للناس حتى يبلغوا رشدهم يوما بعد يوم ، ويستخرجوا كنوزهم في حينها ووقت الحاجة إليها ، وكما قيل : إن كنزا منها قد نفذ أعقبه كنز آخر غنى ، من رزق الله المدخر للعباد قال تعالى : { إن في ذلك لآية لقوم يذكرون } .
ثم امتن سبحانه على عباده بالبحر المالح وما يشتمل عليه من صنوف النعم ؛ فمنها : اللحم الطري من السمك وغيره للطعام ، وإلى جواره الحلية من اللؤلؤ ومن المرجان وغيرها من الأصداف والقواقع .
ومنها : مرور السفن تمخر عباب البحر ، وتيسر المصالح وتبادل المنافع بين الناس قال تعالى : { وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } . ( النحل : 14 ) .
وعندما ينتهي استعراض النعم يبين القرآن : أن من يخلق ليس كمن لا يخلق وأن نعم الله على الإنسان لا تعد ولا تحصى .
{ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } . ( النحل : 18 ) .
تتعرض الآيات من 22 إلى50 في سورة النحل ، لتقرير وحدة الألوهية فيقول سبحانه : { وإلهكم إله واحد } .
وكل ما سبق في السورة من آيات الخلق وآيات النعمة وآيات العلم يؤدي إلى هذه الحقيقة الكبيرة البارزة وهي : أن هذا الكون البديع المنظم لا يحفظ نظامه إلا إله واحد والذين لا يسلمون بهذه الحقيقة ؛ قلوبهم منكرة ؛ فالجحود صفة كامنة فيها ، والعلة أصيلة في نفوسهم المريضة ، وطباعهم المعاندة المتكبرة عن الإقرار الإذعان والتسليم .
وتختم هذه الآيات بمشهد مؤثر ؛ مشهد الظلال في الأرض كلها ساجدة لله ومعها ما في السماوات وما في الأرض من دابة ، والملائكة قد برئت نفوسهم من الاستكبار وامتلأت بالخوف من الله والطاعة لأمره بلا جدال . هذا المشهد الخاشع الطائع يقابل صورة المستكبرين المتكبرة قلوبهم في مفتتح هذه المجموعة من الآيات .
وبين المطلع والختام يستعرض السياق مقولات أولئك المستكبرين المنكرين للوحي والقرآن ؛ إذ يزعمون : أنه أساطير الأولين ، ومقولاتهم عن أسباب شركهم بالله وتحريمهم ما لم يحرمه الله ؛ إذ يدعون : أن الله أراد منهم الشر وارتضاه . ومقولاتهم عن البعث والقيامة ؛ إذ يقسمون جهدهم : لا يبعث الله من يموت ، ويتولى الرد على مقولاتهم جميعا ، ويعرض في ذلك مشاهد احتضارهم ومشاهد بعثهم وفيها يتبرءون من تلك المقولات الباطلة كما يعرض بعض مصارع الغابرين من المكذبين أمثالهم ويخوفهم أخذ الله في ساعة من ليل أو نهار وهم لا يشعرون وهم في تقلبهم في البلاد ، أو وهم على تخوف وتوقع وانتظار للعذاب .
إلى جوار هذا يعرض صورا عن مقولات المتقين المؤمنين وما ينتظرهم عند الاحتضار ويوم البعث من طيب الجزاء . . . وينتهي هذا الدرس بذلك المشهد الخاشع الطائع للظلال والدواب والملائكة في الأرض والسماء والسياق القرآني يعبر عن خضوع الأشياء لنواميس الله بالسجود وهو أقصى مظاهر الخضوع ويوجه إلى حركة الظلال المتفيئة أي : الراجعة بعد امتداد وهي حركة لطيفة خفيفة ذات دبيب في المشاعر والأعماق ، ويرسم المخلوقات داخرة أي : خاضعة خاشعة ويضم إليها ما في السماوات وما في الأرض من دابة ويضيف إلى الحشد الكوني . . الملائكة في مقام خشوع وخضوع وعبادة وسجود ، قال تعالى : { ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون*يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون } . ( النحل : 50 ، 49 ) .
تستمر الآيات من 51 إلى76 في سورة النحل في إثبات قضية الألوهية الواحدة التي لا تتعدد ، تبدأ فتقرر وحدة الإله ووحدة المالك ، ووحدة المنعم في الآيات الثلاث الأولى متواليات وتختم بمثلين تضربهما للسيد المالك الرازق ، والعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء ولا يملك شيئا . . هل يستوون ؟ ! فكيف يسوي الله المالك الرازق بمن لا يقدر ولا يملك ولا يرزق ؛ فيقال : هذا إله وهذا إله ؟ ! .
وفي خلال هذا الدرس تعرض الآيات نموذجا بشريا للناس حين يصيبهم الضر فيجأرون إلى الله وحده ، وإذا كشف عنهم الضر راحوا يشركون به غيره .
وتعرض الآيات صورا من أوهام الوثنية وخرافاتها في تخصيص بعض ما رزقه الله لآلهتهم المدعاة ، في حين أنهم لا يردون شيئا مما يملكونه على عبيدهم ولا يقاسمونهم إياه وفي نسبة البنات إلى الله على حين يكرهون ولادة البنات لهم ، { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم } . ( النحل : 58 ) .
وفي الوقت الذي يجعلون لله ما يكرهون تروح ألسنتهم تتشدق : بأن لهم الحسنى ، وأنهم سينالون على ما فعلوا خيرا وهذه الأوهام التي ورثوها من المشركين قبلهم ، هي التي أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم ، يبين لهم الحقيقة فيها ، وليخرجهم من ظلمات الشرك إلى نور اليقين ثم تأخذ الآيات في عرض نماذج من صنع الألوهية الحقة في تأملها عظة وعبرة ؛ فالله وحده هو القادر عليها الموجد لها ، وهي هي دلائل الألوهية لا سواها ؛ فالله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها والله يسقي الناس غير الماء لبنا سائغا يخرج من بطون الأنعام من بين فرث ودم ، والله يطلع للناس ثمرات النخيل والأعناب يتخذون منها سكرا ورزقا حسنا ، والله أوحى إلى النحل لتتخذ من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم تخرج عسلا فيه شفاء للناس .
وقد سميت هذه السورة بسورة النحل للإشارة إلى الأمر العجيب الدقيق في شأن النحل فهي تعمل بإلهام من الفطرة التي أودعها إياها الخالق ، وهذا الإلهام لون من الوحي تعمل النحل بمقتضاه وهي تعمل بدقة عجيبة يعجز عن مثلها العقل المفكر سواء في بناء خلاياها ، أو في تقسيم العمل بينها ، أو في طريقة إفرازها للعسل المصفى .
وهي تتخذ بيوتها حسب فطرتها في الجبال والشجر ، وما يعرشون أي : ما يرفعون من الكروم وغيرها ، وقد ذلل الله لها سبل الحياة ، بما أودع في فطرتها وفي طبيعة الكون حولها من توافق ، قال تعالى : { وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون*ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } . ( النحل : 69 ، 68 ) .
وقد سئل الإمام الشافعي : بم عرفت الله ؟ قال : بالنحلة ؛ نصفها يعسل ونصفها يلسع . وفي الحديث : ( المؤمن كالنحلة )أي : أنه خفيف الظل مترفع في هدفه ، لا يأكل إلا طيبا ، ولا يترك إلا أثرا حسنا ، وإذا وقع على شيء لم يكسره . وتستمر الآيات في عرض أدلة القدرة الإلهية فتذكر : أن الله يخلق الناس ويتوفاهم ويؤجل بعضهم حتى يشيخ فينسى ما تعلمه ويرتد ساذجا لا يعلم شيئا ، والله فضل بعضهم على بعض في الرزق ، والله جعل لهم من أنفسهم أزواجا ، وجعل لهم من أزواجهم بنين وحفدة ، وهم بعد هذا كله يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا في السماوات والأرض ، ويجعلون لله الأشباه والأمثال ! .
هذه اللمسات كلها في أنفسهم وفيما حولهم ، يوجههم إليها ؛ لعلهم يستشعرون القدرة ، وهي تعمل في ذواتهم ، وفي طعامهم ، وفي شرابهم ، وفي كل شيء حولهم .
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الواحد
تتحدث الآيات من 77 إلى 89 في سورة النحل عن مظاهر القدرة الإلهية فتوضح عظمة الخالق وفيض نعمته وإحاطة علمه وتركز الآيات في هذا الشوط على قضية البعث . والساعة إحدى أسرار الغيب ، الذي يختص الله بعلمه فلا يطلع عليه أحدا .
وموضوعات هذا الدرس تشمل ألوانا من أسرار غيب الله في السماوات والأرض ، وفي الأنفس والآفاق : غيب الساعة التي لا يعلمها إلا الله وهو عليها قادر وهي عليه هينة ، { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب } . ( النحل : 77 ) .
وغيب الأرحام والله وحده هو الذي يخرج الأجنّة من هذا الغيب لا تعلم شيئا ، ثم ينعم على الناس بالسمع والأبصار والأفئدة ؛ لعلهم يشكرون نعمته .
وغيب أسرار الخلق ويعرض منها تسخير الطير في جو السماء ما يمسكهن إلا الله .
يلي هذا الدرس استعراض لبعض نعم الله المادية على الناس وهي بجانب تلك الأسرار وفي جوها ، نعم السكن والهدوء والاستظلال في البيوت المبنية والبيوت المتخذة من جلود الأنعام للظعن والإقامة ، والأثاث والمتاع من الأصواف والأوبار والأشعار .
وتذكر الآيات من نعم الله : الظلال ، والأكنان وهي ما يستر الإنسان ويغطيه والسرابيل وهي ما يلبسه الإنسان من قميص يقيه الحر والبرد أو درع تقيه بأس الحرب : { كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون } . ( النحل : 81 ) .
ثم تفصل الآيات أمر البعث في مشاهد يعرض فيها المشركون وشركاؤهم والرسل شهداء عليهم والرسول صلى الله عليه وسلم شهيد على قومه . وبذلك تتم هذه الجولة في جو البعث والقيامة .
تتعرض الآيات من 90 إلى 111 في سورة النحل لشرح بعض أهداف القرآن ويبدأ هذا الدرس بآية شهيرة يرددها الخطباء على المنابر في نهاية خطبة الجمعة وهي قوله تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون } . ( النحل : 90 ) .
وفي هذا الدرس أمر بالوفاء بالعهد ونهي عن نقض الأيمان بعد توكيدها وكلها من مبادئ السلوك الأساسية التي جاء بها القرآن الكريم .
وفي هذا الدرس بيان : الجزاء المقرر لنقض العهد ، واتخاذ الأيمان ؛ للخداع والتضليل ، وهو العذاب العظيم ، والبشرى للذين صبروا ومضاعفة الثواب لهم .
ثم تذكر الآيات : بعض آداب تلاوة القرآن . وهي : الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم لطرد شبحه من مجلس القرآن الكريم ، كما تذكر بعض تقولات المشركين عن القرآن فمنهم من يرمي الرسول صلى الله عليه وسلم بافترائه على الله ومنهم من يقول : إن غلاما أعجميا هو الذي يعلمه هذا القرآن .
وفي نهاية الدرس يبين : جزاء من يكفر بعد إيمانه ، ومن يكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان . ويبين : جزاء من فتنوا عن دينهم ثم هاجروا وجاهدوا وصبروا . وكل أولئك تبيان وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين .
وفي الآيات إباحة لمن أكرم على الكفر أن ينطق لسانه به مادام القلب عامر بالإيمان ؛ روى ابن جرير بإسناده أن العذاب لما اشتد على عمار بن ياسر ؛ نطق ببعض ما أرادوا ، ثم شكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( كيف تجد قلبك ؟ )قال : مطمئنا بالإيمان ؛ قال النبي : ( إن عادوا فعد ) فكانت رخصة في مثل هذه الحال .
وقد أبى بعض المسلمين أن يظهروا الكفر بلسانهم مؤثرين الموت على لفظة باللسان كذلك صنعت سمية أم عمار بن ياسر ، وهي تطعن بالحرية في موضع العفة حتى تموت ، وكذلك صنع أبوه ياسر .
وقد كان بلال رضوان الله عليه يعذب أشد العذاب حتى لتوضع الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويطلب منه أن ينطق بكلمة فيأبى وهو يقول : أحد أحد .
ولست أبالي حين أقتل مسلما *** على أي جنب كان في الله مصرعي
يتحدث الربع الأخير في سورة النحل عن مثل ضربه الله ؛ لتصوير حال مكة وقومها المشركين الذين جحدوا نعمة الله عليهم ؛ لينظروا المصير الذي يتهددهم من خلال المثل الذي يضربه لهم ، حين يقول سبحانه : { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون } . ( النحل : 112 ) .
وهي حال أشبه شيء بحال مكة ؛ جعل الله فيها البيت ، وجعلها بلدا حراما من دخله فهو آمن مطمئن لا تمتد إليه يد ولو كان قاتلا ، ولا يجرؤ أحد على إيذائه وهو في جوار بيت الله الكريم ، وكان الناس يتخطفون من حول البيت وأهل مكة في حراسته وحمايته آمنون مطمئنون ، كذلك كان رزقهم يأتيهم هينا هنيئا من كل مكان من الحجيج ومع القوافل الآمنة مع أنهم في واد قفر جدب غير ذي زرع ، فكانت تجبى إليهم ثمرات كل شيء فيتذوقون طعم الأمن وطعم الرغد منذ دعوة إبراهيم الخليل ، فإذا كذّب أهل مكة بدعوة محمد وجحدوا رسالته ؛ استحقوا العقاب ، والعذاب ، ولباس الجوع والخوف ؛ جزاء كفرهم وعنادهم .
ثم ينتقل السياق بهم إلى الطيبات التي حرمتها قبائل مكة على أنفسها اتباعا لأوهام الوثنية ، وقد أحلها الله لهم ، وحدد المحرمات وبينها وليست هذه منها وذلك لون من الكفر بنعمة الله وعدم القيام بشكرها يتهددهم بالعذاب الأليم من أجله ، وهو افتراء على الله لم ينزل به شريعة .
وبمناسبة ما حرّم على المسلمين من الخبائث ، يشير إلى ما حرّم على اليهود من الطيبات بسبب ظلمهم . وقد جعل هذا التحريم عقوبة لهم على عصيانهم . ولم يكن محرما على آبائهم في عهد إبراهيم الذي كان أمة قانتا لله حنيفا ، ولم يكن من المشركين ، شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم . فكانت حلالا له الطيبات ولبنيه من بعده حتى حرّم الله بعضها على اليهود في صورة عقوبة لهم خاصة ، ومن تاب من بعد جهالته فإن الله غفور رحيم .
ثم جاء دين محمد صلى الله عليه وسلم امتدادا وإتباعا لدين إبراهيم ؛ فعادت الطيبات كلها حلالا وكذلك السبت الذي منع فيه اليهود من الصيد ، فإنما السبت على أهله الذين اختلفوا فيه ، ففريق كف عن الصيد وفريق نقض عهده ؛ فمسخه الله وانتكس عن مستوى الإنسانية .
وتختم السورة عند هذه المناسبة بالأمر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وأن يجادلهم بالتي هي أحسن ، وأن يلتزم قاعدة العدل في رد الاعتداء بمثله دون تجاوز . . والصبر والعفو خير ، والعاقبة بعد ذلك للمتقين المحسنين ؛ لأن الله معهم ينصرهم ويرعاهم ويهديهم طريق الخير والفلاح .
وفي أسباب نزول القرآن : أن الآيات الأخيرة من سورة النحل نزلت في حمزة بن عبد المطلب حين استشهد في غزوة أحد . وفي هذه الغزوة مثّل المشركون بالمسلمين فبقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم وما تركوا أحدا غير ممثول به غير حنظلة بن الراهب ، كان الراهب أبو عامر مع أبي سفيان فتركوا حنظلة لذلك ، ثم وقف رسول الله على جثة حمزة وقد مثّل به فرآه مبقور البطن ؛ فقال : ( أما والذي أحلف به ، إن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك ! ) فنزل قوله تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } . ( النحل : 126 ) .
ولما نزلت هذه الآية ؛ كفّر النبي عن يمينه وكف عما أراده ، ومن هذا ذهبوا إلى أن خواتيم سورة النحل مدنية ، ولا خلاف في تحريم المثلة وقد وردت الأخبار بالنهي عنها حتى بالكلب العقور .
{ أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون1ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون2 } .
أتى أمر الله : قرب ودنا ، وهذا وعيد للمشركين .
أمر الله : العذاب والهلاك لهؤلاء المشركين .
1{ أتى أمر الله فلا تستعجلوه . . . } .
أي : قرب عذاب المشركين وهلاكهم ، أما إتيانه بالفعل وتحققه فمنوط بحكم الله النافذ ، وقضائه الغالب على كل شيء ، فهو يأتي في الحين الذي قدره وقضاه .
ومعنى قوله : { فلا تستعجلوه } ، لا تطلبوا حصوله قبل حضور الوقت المقدر في علمه تعالى ؛ فلله سنن ونواميس في إنزال العذاب ، وهو سبحانه لا يعجل لعجلة العباد ، وكل شيء عنده بمقدار .
{ سبحانه وتعالى عما يشركون } .
ادعوا : أن عبادتهم الأصنام لتشفع لهم عند الله ؛ حتى يتخلصوا من هذا العذاب المتوقع ؛ فأجاب القرآن عن هذه الشبهة ، بتنزيه الله عن شركة الشركاء والأنداد .
{ عما يشركون } . يجوز أن تكون ما مصدرية ، والتقدير : سبحانه وتعالى عن شركهم ، ويجوز أن تكون بمعنى : الذي ، أي : سبحانه وتعالى عن هذه الأصنام ، التي جعلوها شركاء لله ؛ لأنها جمادات خسيسة فأي مناسبة بينها وبين خالق الكائنات ، ومدبر الأرض والسماوات ؟ ! .