100- وسار الركب داخل مصر حتى بلغ دار يوسف ، فدخلوها وصدَّر يوسف أبويه ، فأجلسهما على سرير ، وغمر يعقوب وأهله شعور بجليل ما هيأ اللَّه لهم على يدي يوسف ، إذ جمع به شمل الأسرة بعد الشتات ونقلها إلى مكان عظيم من العزة والتكريم ، فحيَّوه تحية مألوفة تعارف الناس عليها في القديم للرؤساء والحاكمين ، وأظهروا الخضوع لحكمه ، فأثار ذلك في نفس يوسف ذكرى حلمه وهو صغير ، فقال لأبيه : هذا تفسير ما قصصت عليك من قبل من رؤيا ، حين رأيت في المنام أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدين لي ، قد حققه ربي ، وقد أكرمني وأحسن إلىَّ ، فأظهر براءتي ، وخلصني من السجن ، وأتى بكم من البادية لنلتقي من بعد أن أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي ، وأغراهم بي ، وما كان لهذا كله أن يتم بغير صنع اللَّه ، فهو رفيق التدبير والتسخير لتنفيذ ما يريد ، وهو المحيط علما بكل شيء ، البالغ حكمه في كل تصرف وقضاء .
والمراد بالعرش في قوله { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش } السرير الذي يجلس عليه .
أى : وأجلس يوسف أبويه معه على السرير الذي يجلس عليه ، تكريماً لهما ، وإعلاء من شأنهما .
{ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } أى : وخر يعقوب وأسرته ساجدين من أجل يوسف ، وكان ذلك جائزا في شريعتهم على أنه لون من التحية ، وليس المقصود به السجود الشرعى لأنه لا يكون إلا الله - تعالى - .
{ وَقَالَ } يوسف متحدثاً بنعمة الله { ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً . . . }
أى : وقال يوسف لأبيه : هذا السجود الذي سجدتموه لى الآن ، هو تفسير رؤياى التي رأيتها في صغرى ، فقد جعل ربى هذه الرؤيا حقاً ، وأرانى تأويلها وتفسيرها بعد أن مضى عليها الزمن الطويل .
قالوا : وكان بين الرؤيا وبين ظهور تأويلها أربعون سنة .
والمراد بهذه الرؤيا ما أشار إليه القرآن في مطلع هذه السورة في قوله { ياأبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } ثم قال يوسف لأبيه أيضاً : { وَقَدْ أَحْسَنَ بي } ربى - عز وجل - { إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن } بعد أن مكثت بين جدرانه بضع سنين .
وعدى فعل الإِحسان بالباء مع أن الأصل فيه أن يتعدى بإلى ، لتضمنه معنى اللطف ولم يذكر نعمة إخراجه من الجب ، حتى لا يجرح شعور إخوته الذين سبق أن قال لهم : { لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ } وقوله { وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ البدو } معطوف على ما قبله تعدادا لنعم الله - تعالى - .
أى : وقد أحسن بى ربى حيث أخرجنى من السجن ، وأحسن بى أيضاً حيث يسر لكم أموركم ، وجمعنى بكم في مصر ، بعد أن كنتم مقيمين في البادية في أرض كنعان بفلسطين .
وقوله { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي } أى جمعنى بكم من بعد أن أفسد الشيطان بينى وبين إخوتى ، حيث حملهم على أن يلقوا بى في الجب .
وأصل { نَّزغَ } من النزغ بمعنى النخس والدفع . يقال : نزغ الراكب دابته إذا نخسها ودفعها لتسرع في سيرها .
وأسند النزغ إلى الشيطان ، لأنه هو الموسوس به ، والدافع إليه ، ولأن في ذلك ستراً على إخوته وتأدباً معهم .
وقوله { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم } تذييل قصد به الثناء على الله - تعالى - بما هو أهله .
أى : إن ربى وخالقى ، لطيف التدبير لما يشاء تدبيره من أمور عباده ، رفيق بهم في جميع شئونهم من حيث لا يعلمون .
إنه - سبحانه - هو العليم بأحوال خلقه علماً تاماً ، الحكيم في جميع أقواله وأفعاله
و { العرش } : سرير الملك ، وكل ما عرش فهو عريش وعرش ، وخصصت اللغة العرش لسرير الملك ، و { خروا } معناه : تصوبوا إلى الأرض ، واختلف في هذا السجود ، فقيل : كان كالمعهود عندنا من وضع الوجه بالأرض ، وقيل : بل دون ذلك كالركوع البالغ ونحوه مما كان سيرة تحياتهم للملوك في ذلك الزمان ، وأجمع المفسرون أن ذلك السجود - على أي هيئة كان - فإنما كان تحية لا عبادة . قال قتادة : هذه كانت تحية الملوك عندهم . وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة . وقال الحسن : الضمير في { له } لله عز وجل .
قال القاضي أبو محمد : ورد على هذا القول{[6838]} .
وحكى الطبري : أن يعقوب لما بلغ مصر في جملته كلم يوسف فرعون في تلقيه فخرج إليه وخرج الملوك معه فلما دنا يوسف من يعقوب وكان يعقوب يمشي متوكئاً على يهوذا - قال : فنظر يعقوب إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا ، هذا فرعون مصر ، قال : لا هو ابنك ، قال : فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف يبدأ بالسلام ، فمنعه يعقوب من ذلك وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل ، فقال : السلام عليك يا مذهب الأحزان .
قال القاضي أبو محمد : ونحو هذا من القصص ، وفي هذا الوقت قال يوسف ليعقوب : إن فرعون قد أحسن إلينا فادخل عليه شاكراً ، فدخل عليه ، فقال فرعون : يا شيخ ما مصيرك إلى ما أرى ؟ قال : تتابع البلاء عليّ . قال : فما زالت قدمه حتى نزل الوحي : يا يعقوب ، أتشكوني إلى من لا يضرك ولا ينفعك ؟ قال : يا رب ذنب فاغفره . وقال أبو عمرو الشيباني : تقدم يوسف يعقوب في المشي في بعض تلك المواطن فهبط جبريل فقال له : أتتقدم أباك ؟ إن عقوبتك لذلك ألا يخرج من نسلك نبي .
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 100 )
المعنى : قال يوسف ليعقوب : هذا السجود الذي كان منكم ، هو ما آلت إليه رؤياي قديماً في الأحد عشر كوكباً وفي الشمس والقمر .
وقوله : { قد جعلها ربي حقاً } ابتداء تعديد نعم الله تعالى عليه ، وقوله : { وقد أحسن بي } ، أي أوقع وناط إحسانه بي . فهذا منحى في وصول الإحسان بالباء ، وقد يقال : أحسن إليَّ ، وأحسن فيّ ، ومنه قول عبد الله بن أبي ابن سلول : يا محمد أحسن في مواليّ ؛ وهذه المناحي مختلفة المعنى ، وأليقها بيوسف قوله : { بي } لأنه إحسان درج فيه دون أن يقصد هو الغاية التي صار إليها{[6839]} .
وذكر يوسف عليه السلام إخراجه من السجن ، وترك إخراجه من الجب لوجهين .
أحدهما : أن في ذكر إخراجه من الجب تجديد فعل إخوته وخزيهم بذلك وتقليع نفوسهم وتحريك تلك الغوائل وتخبيث النفوس{[6840]} .
والوجه الآخر : أنه خرج من الجب إلى الرق ، ومن السجن إلى الملك فالنعمة هنا أوضح{[6841]} .
وقوله : { وجاء بكم من البدو } يعم جمع الشمل والتنقل من الشقاوة إلى النعمة بسكنى الحاضرة ، وكان منزل يعقوب عليه السلام بأطراف الشام في بادية فلسطين وكان رب إبل وغنم وبادية{[6842]} .
و { نزغ } معناه : فعل فعلاً أفسد به ، ومنه قول النبي عليه السلام : «لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح لا ينزغ الشيطان في يده »{[6843]} .
وإنما ذكر يوسف هذا القدر من أمر إخوته ليبين حسن موقع النعم ، لأن النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء فهي أحسن موقعاً .
وقوله : { لما يشاء } أي من الأمور أن يفعله ، واختلف الناس في كم كان بين رؤيا يوسف وبين ظهورها : فقالت فرقة أربعون سنة - هذا قول سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد ، وقال عبد الله بن شداد : ذلك آخر ما تبطىء الرؤيا - وقالت فرقة - منهم الحسن وجسر بن فرقد وفضيل بن عياض - ثمانون سنة . وقال ابن إسحاق : ثمانية عشر ، وقيل : اثنان وعشرون قاله النقاش - وقيل : ثلاثون ، وقيل : خمس وثلاثون - قاله قتادة - وقال السدي وابن جبير : ستة وثلاثون سنة . وقيل : إن يوسف عليه السلام عمر مائة وعشرين سنة . وقيل : إن يعقوب بقي عند يوسف نيفاً على عشرين سنة ثم توفي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : ولا وجه في ترك تعريف يوسف أباه بحاله منذ خرج من السجن إلى العز إلا الوحي من الله تعالى لما أراد أن يمتحن به يعقوب وبنيه ، وأراد من صورة جمعهم - لا إله إلا هو - وقال النقاش : كان ذلك الوحي في الجب ، وهو قوله تعالى : { وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } [ يوسف : 15 ] وهذا محتمل .
ومما روي في أخبار يعقوب عليه السلام : قال الحسن : إنه لما ورده البشير لم يجد عنده شيئاً يثيبه به فقال له : والله ما أصبت عندنا شيئاً ، وما خبرنا منذ سبه ليال ، ولكن هون الله عليك سكرات الموت .
ومن أخباره : أنه لما اشتد بلاؤه وقال : يا رب أعميت بصري وغيبت عني يوسف ، أفما ترحمني ؟ فأوحى الله إليه : سوف أرحمك وأرد عليك ولدك وبصرك ، وما عاقبتك بذلك إلا أنك طبخت في منزلك حملاً فشمه جار لك ولم تساهمه بشيء ، فكان يعقوب بعد يدعوه إلى غدائه وعشائه . وحكى الطبري : أنه لما اجتمع شمله كلفه بنوه أن يدعو الله لهم حتى يأتي الوحي بأن الله قد غفر لهم . قال : فكان يعقوب يصلي ويوسف وراءه وهم وراء يوسف ، ويدعو لهم فلبث كذلك عشرين سنة ثم جاءه الوحي : إني قد غفرت لهم وأعطيتهم مواثيق النبوة بعدك . ومن أخباره : أنه لما حضرته الوفاة أوصى إلى يوسف أن يدفنه بالشام ، فلما مات نفخ فيه المر وحمله إلى الشام ، ثم مات يوسف فدفن بمصر ، فلما خرج موسى - بعد ذلك - من أرض مصر احتمل عظام يوسف حتى دفنها بالشام مع آبائه .