تحدثت في افتتاحيتها عن الفتح المبين ، الذي يسره الله لرسوله ، وعن آثاره العظيمة في انتشار الإسلام ، وإعزاز المسلمين ، وعن تثبيت اله قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا ، وعن عذاب المنافقين والمشركين ، بتشككهم في نصر الله لرسوله ، وعن إرسال محمد صلى الله عليه وسلم شاهدا ومبشرا ، ليتحقق الإيمان بالله . وانتقلت بعد ذلك إلى حديث بيعة أهل الصدق والوفاء لرسوله ، وبينت كذب اعتذار المتخلفين عن الخروج مع الرسول ، وأنهم تخلفوا لظنهم أن الله لا ينصره ، وعرضت لطلبهم الخروج معه للغنائم .
ثم بينت أنهم سيدعون إلى قتال قوم ذوي بأس وقوة ، وأنه لا إثم في التخلف عن القتال لعذر صحيح ، كما أوضحت عظم الخير الذي وعد الله به من رضي عنهم في بيعة الرضوان ، وتكلمت عن فرار الكافرين وهزيمتهم إذا ما قاتلوا المؤمنين ، وشرحت حكمة الله في كف الكافرين عن المؤمنين ، والمؤمنين عن الكافرين يوم فتح مكة ، وأنهت الحديث ببيان الله صدق رسوله رؤياه دخول المسجد الحرام ، وأن محمدا والذين آمنوا معه غلاظ على الكفار ، متراحمون فيما بينهم ، وبيان ما يعرف به المؤمنون ، وصفتهم في التوراة ، وصفتهم في الإنجيل ، ووعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة الواسعة والأجر العظيم .
1 - إنا فتحنا لك - يا محمد - فتحا عظيما مبينا بانتصار الحق على الباطل ، ليغفر لك الله ما تقدَّم مما يُعَدُّ لمثل مقامك ذنبا ، وما تأخر منه ، ويكمل نعمته عليك بانتشار دعوتك ، ويُثَبِّتَكَ على طريق الله المستقيم ، وينصرك الله على أعداء رسالتك نصراً قويا غاليا .
1- سورة الفتح من السور المدنية ، وعدد آياتها تسع وعشرون آية ، وكان نزولها في أعقاب صلح الحديبية .
قال ابن كثير –رحمه الله- : نزلت سورة " الفتح " لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة ، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ، ليقضي عمرته فيه ، وحالوا بينه وبين ذلك ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة . . . ( {[1]} ) .
2- والمتدبر للقرآن الكريم ، يرى كثيرا من آياته وسوره ، في أعقاب بعض الغزوات ، ليتعلم المسلمون من تلك الآيات والسور ما ينفعهم وما يصلح من شأنهم .
فمثلا في أعقاب غزوة " بدر " نزلت سورة الأنفال التي سماها ابن عباس سورة بدر .
وفي أعقاب غزوة " أحد " نزلت عشرات الآيات في سورة آل عمران .
وفي أعقاب غزوة " بني النضير " نزلت آيات من سورة الحشر .
وفي أعقاب غزوة " الأحزاب " نزلت آيات من سورة الأحزاب .
وفي أعقاب صلح الحديبية نزلت هذه السورة الكريمة ، التي تحكي الكثير من الأحداث التي تتعلق بهذا الصلح .
3- وقبل أن نبدأ في تفسير هذه السورة الكريمة ، نرى من الخير أن نعطي للقارئ فكرة واضحة عن صلح الحديبية ، التي نزلت في أعقابه هذه السورة . . فنقول –وبالله التوفيق- :
رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه أنه قد دخل المسجد الحرام هو وأصحابه ، وقد صرحت السورة الكريمة بذلك في قوله –تعالى- : [ لقد صدق الله رسول الرؤيا بالحق ، لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون . . . ] فقص صلى الله عليه وسلم هذه الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا بها . وكان المشركون قد منعوهم من دخول مكة ، ومن الطواف بالمسجد الحرام .
4- وخرج صلى الله عليه وسلم ومعه حوالي أربعمائة وألف من أصحابه ، ليس معهم من السلاح سوى السيوف في أغمادها ، وساقوا معهم الهدى الذي يتقربون بذبحه إلى الله –تعالى- ليكون دليلا على أنهم لا يريدون حرب قريش ، وإنما يريدون الطواف بالبيت الحرام .
وسار صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فلما وصل إلى " عُسْفَان " وهو مكان بين مكة والمدينة –جاءه بشر بن سفيان العكبي وكان مكلفا من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم لمعرفة أخبار قريش فقال : يا رسول الله ، هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العُوذُ المطَافِيلُ –أي : ومعهم الإبل التي لم تلد ، والإبل التي ولدت ، قد لبسوا جلود النمور –أي : قد استعدوا لقتالك وقد نزلوا بِذِي طَوىً –وهو مكان بالقرب من مكة- ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا . .
فقال صلى الله عليه وسلم : " يا ويح قريش ! ! لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم ، دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش ؟ فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به ، حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة " أي أو أن أقتل في سبيل الله .
ثم قال صلى الله عليه وسلم : " مَن رجلُ يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها " ؟ .
فقال رجل من قبيلة أسلم : أنا يا رسول الله ، فسلك بهم طريقا وعرا ، انتهى يهم إلى " الحديبية " وهي قرية على بعد مرحلة من مكة ، أو هي بئر سمى المكان بها .
5- وفي هذا المكان بركت القصواء –وهي الناقة التي كان يركبها النبي صلى الله عليه وسلم فقال الناس : خلأت الناقة أي : حرنت وأبت المشي - ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ما خلأت وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة . لا تدعوني قريش إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها " .
ثم أمر صلى الله عليه وسلم الناس بالنزول في هذا المكان . .
6- وعلمت قريش بنزول الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الحديبية ، فبدأوا يرسلون رسلهم لمعرفة الأسباب التي حملت المسلمين إلى المجيء إليهم .
وكان من بين الرسل بُدَيل بن ورقاء الخزاعي . . فلما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن سبب مجيئه إلى مكة ، أخبره أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت الحرام ، ومعظما لحرمته . .
وعاد بديل إلى مكة ، وأخير المشركين بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنهم لم يقتنعوا ، وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا . والله لا يدخلها علينا عنوة أبدا . . .
7- ثم أرسلت قريش رسلا آخرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان من بينهم ، عروة بن مسعود الثقفي . . فكان مما قاله للرسول صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، أجمعت أوشاب الناس –أي : أخلاطهم- ثم جئت بهم إلى أهلك . . إن قريشا قد تعاهدت أنك لن تدخل عليهم مكة عنوة . .
وكان عروة خلال حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يمد يده إلى لحيته صلى الله عليه وسلم فكان المغيرة ابن شعبة يقرع يد عروة ويقول له : اكفف يداك عن وجه رسول الله قبل أن لا تصل إليك .
وشاهد عروة ما شاهد من احترام المسلمين لرسولهم صلى الله عليه وسلم فعاد إلى المشركين وقال لهم : يا معشر قريش ، إني قد جئت كسرى في ملكه ، والنجاشي في ملكه ، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا ، فروا رأيكم . .
8- ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش عثمان بن عفان –رضي الله عنه- لكي يخبرهم بأن المسلمين ما جاءوا لحرب ، وإنما جاءوا للطواف بالبيت .
وذهب إليهم عثمان وأخبرهم بذلك ، ولكنهم صمموا على منع المسلمين من دخول مكة ، قالوا لعثمان : إن شئت أنت أن تطوف بالبيت فطف .
فقال لهم : ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال مكث عثمان عند قريش ، حتى أشبع بين المسلمين أنه قد قتله المشركون .
فقال صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن عثمان قد قتل : " لا نبرح حتى نناجز القوم " ودعا المسلمين إلى مبايعته على الموت ، فبايعه المسلمون على ذلك تحت شجرة الرضوان . . .
ثم جاء عثمان بعد ذلك دون أن يصيبه أذى . . .
9- وأخيرا أوفدت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا منهم اسمه سهيل بن عمرو ، ليعقد صلحا مع المسلمين ، وقالوا له : أنت محمدا فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فوالله لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا . .
وعندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سهيلا مقبلا نحوه ، قال لأصحابه : لقد سهل الله لكم من أمركم ، إن قريشا أرادت الصلح حين بعث هذا الرجل .
وتم الصلح بين الفريقين على ما يأتي :
أولا : أن يرجع المسلمون دون زيارة البيت هذا العام ، فإذا كان العام التالي : أخلت قريش لهم مكة ثلاثة أيام ، ليطوفوا بالبيت ، وليس معهم إلا السيوف في غمدها . .
ثانيا : أن تضع الحرب أوزارها بين الطرفين عشر سنوات .
ثالثا : من أتى الرسول صلى الله عليه وسلم من قريش مسلما بغير إذن وليه رده إليهم ، ومن أتى قريش من المسلمين لم يردوه .
رابعا : من أحب أن يدخل في عقد مع الرسول صلى الله عليه وسلم فله ما أراد . ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فله ذلك .
ولقد عز على بعض المسلمين قبول الرسول صلى الله عليه وسلم فله ما أراد . ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فله ذلك .
ولقد عز على بعض المسلمين قبول الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الشروط ، التي ظاهرها الظلم للمسلمين ، حتى قال عمر –رضي الله عنه- للرسول صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري " .
ثم أشار صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين أن يتحللوا من عمرتهم ، بأن ينحروا هديهم ، وأن يحلقوا رءوسهم أو يقصروا . ولكنهم لم يسارعوا بالامتثال ، فدخل صلى الله عليه وسلم على زوجه أم سلمة –رضي الله عنها- ، وقد ظهر الغضب على وجهه .
فقالت له : يا رسول الله ، اعذرهم ، وابدأ بما تأمرهم به دون أن تكلم منهم أحدا .
فقام صلى الله عليه وسلم فنحر هديه ، ودعا حالقه فحلق له ، فلما رأى المسلمون ذلك من نبيهم ، قاموا فنحروا هديهم ، وجعل بعضهم يحلق بعضا .
ثم أقام المسلمون بعد ذلك عدة أيام بالحديبية ، ثم قفلوا راجعين إلى المدينة ، وعندما سمع صلى الله عليه وسلم بعضهم يقول : لقد رجعنا ولم نصنع شيئا . .
قال صلى الله عليه وسلم " بل فتحتم أعظم الفتح " .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله هذا . فقد كان صلح الحديبية فتحا عظيما ، كما تبين ذلك عند تفسيرنا للسورة الكريمة .
وبهذا العرض المجمل لأحداث صلح الحديبية ، نكون قد أعطينا القارئ فكرة مركزة عن هذا الصلح ، وعن الجو العام الذي نزلت في أعقابه سورة الفتح ، ومن أراد المزيد لمعرفة أحداث صلح الحديبية فليرجع إلى كتب السيرة( {[2]} ) .
افتتحت سورة " الفتح " بهذه البشارات السامية ، والمدائح العالية للنبى - صلى الله عليه وسلم - افتتحت بقوله - تعالى - : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } .
والفتح فى الأصل : إزالة الأغلاق عن الشئ . . وفتح البلد : المقصود به الظفر به ، ووقوعه تحت سيطرة الفاتح .
والذى عليه المحققون من العلماء أن المراد بالفتح هنا : صلح الحديبية وما ترتب عليه من خيرات كثيرة ، ومنافع جمة للمسلمين .
ويشهد لذلك أحاديث متعددة منها : ما أخرجه البخارى وأبو داود والنسائى عن ابن مسعود قال : أقبلنا من الحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان قد خرج إليها - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين هلال ذى القعدة ، فأقام بها بضعة عشر يوما ، ثم قفل راجعا إلى المدينة ، فينما نحن نسير إلى المدينة إذ أتاه الوحى - وكان إذا أتاه اشتد عليه - فسرى عنه وبه من السرور ما شاء الله ، فأخبرنا أنه أنزل عليه : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } .
وروى الإِمام أحمد وأبو داود عن مجمع بن جارية الأوسى قال : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا منها وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا عند كراع الغميم - موضع بين مكة والمدينة - وقد جمع الناس وقرأ عليهم : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } الآيات .
فقال رجل : يا رسول الله ، أو فتح هو ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : أو والذى نفسى بيده إنه لفتح .
ويرى بعضهم : أن المراد بالفتح هنا : فتح مكة ، والتعبير عنه بالماضى فى قوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } لتحقق الوقوع ، فهو من قبيل قوله - تعالى - : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . . . } ويبدو لنا أن المراد بالفتح هنا صلح الحديبية لوجود اللآثار الصحيحة التى تشهد لذلك ، ولأن هذا الصلح قد ترتب عليه من المنافع للدعوة الإِسلامية ما يجعله من أعظم الفتوح ، إن لم يكن أعظمها .
لقد ترتب عليه أن انتشر الأمان بين المسلمين والمشركين ، فاستطاع المسلمون أن ينشروا دعوة الحق فى مكة وفى غيرها ، كما استطاعوا أن ينتقلوا من مكان إلى آخر للتبشير بدينهم ، فترتب على ذلك أن دخل فى الإِسلام عدد كبير من الناس .
قال الزهرى : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين ، فسمعوا كلامهم ، وتمكن الإِسلام من قلوبهم ، وأسلم خلق كثير ، وكثر بهم سواد الإِسلام .
قال ابن هشام : والدليل على صحة قول الزهرى ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الحديبية فى الف وأربعمائة من أصحابه ثم خرج إلى مكة فى عام الفتح - بعد ذلك بسنتين - فى عشرة آلاف من أصحابه .
وقد أكد - سبحانه - هذا الفتح بثلاثة أنواع من المؤكدات ، وهى " إن " والمصدر " فتحا " والوصف " مبينا " وذلك للمسارعة إلى تبشير المؤمنين بتحقق هذا الفتح ، ولإِدخال السرور على قلوبهم ، بعد تلك الشروط التى اشتمل عليها الصلح ، والتى ظنها بعضهم أن فيها إجحافا بالمسلمين .
وأسند - سبحانه - الفعل إلى نون العظمة { فَتَحْنَا } لتفخيم شأن المخبر - عز وجل - وعلو شأن المخبَر عنه وهو الفتح .
وقدم - سبحانه - الجار والمجرور { لَكَ } على المفعول المطلق { فَتْحاً } للاهتمام وللإِشعار بأن ذلك الفتح كان من أجله - صلى الله عليه وسلم - وفى ذلك ما فيه من تعظيم أمره - صلى الله عليه وسلم - ومن وجوب طاعته ، والامتثال لأمره .
قال الإمام أحمد{[1]} حدثنا وَكِيع ، حدثنا شُعْبَة ، عن معاوية بن قرة قال : سمعت عبد الله بن مغفل يقول : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسيره سورة الفتح على راحلته فرجَّع فيها - قال معاوية : لولا أني أكره أن يجتمع الناس علينا لحكيت لكم قراءته ، أخرجاه من حديث شعبة به{[2]} .
نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ليقضي عمرته فيه ، وحالوا بينه وبين ذلك ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة ، منهم عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله . فلما نحر هديه حيث أحصر ، ورجع ، أنزل الله ، عز وجل ، هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم ، وجعل ذلك الصلح فتحًا باعتبار ما فيه من المصلحة ، وما آل الأمر إليه ، كما روى عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، وغيره أنه قال : إنكم تعدون الفتح فتح مكة ، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية .
وقال الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية {[3]} .
وقال{[4]} البخاري : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحًا ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة ، والحديبية بئر . فنزحناها فلم نترك فيها قطرة ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاها فجلس على شفيرها ، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ، ثم تمضمض ودعا ، ثم صبه فيها ، فتركناها غير بعيد ، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا {[5]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نوح ، حدثنا مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه {[6]} ، عن عمر بن الخطاب قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، قال : فسألته عن شيء - ثلاث مرات – فلم يرد علي ، قال : فقلت لنفسي : ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ، نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم يرد عليك ؟ قال : فركبت راحلتي فتقدمت مخافة أن يكون نزل في شيء ، قال : فإذا أنا بمناد ينادي : يا عمر ، أين عمر ؟ قال : فرجعت وأنا أظن أنه نزل في شيء ، قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " نزلت{[7]} علي الليلة {[8]} سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } .
ورواه البخاري ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن مالك ، رحمه الله{[9]} ، وقال علي بن المديني : هذا إسناد مديني [ جيد ]{[10]} لم نجده إلا عندهم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } مرجعه من الحديبية ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض " ، ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : هنيئا مريئا يا نبي الله ، لقد بين الله ، عز وجل ، ماذا يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت عليه : { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ } حتى بلغ : { فَوْزًا عَظِيمًا } [ الفتح : 5 ] ، أخرجاه في الصحيحين من رواية قتادة به{[11]} .
وقال{[12]} الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا مُجَمِّعُ بن يعقوب ، قال : سمعت أبي يحدث عن عمه عبد الرحمن بن أبي يزيد الأنصاري عن عمه مجمع بن جارية الأنصاري - وكان أحد{[13]} القراء الذين قرءوا القرآن - قال : شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر ، فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس ؟ قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجنا مع الناس نوجف ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه ، فقرأ عليهم : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } ، قال : فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي رسول الله ، وفتح هو ؟ قال : " إي والذي نفس محمد بيده ، إنه لفتح " . فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما ، وكان الجيش ألفا وخمسمائة فارس ، فأعطى الفارس سهمين ، وأعطى الراجل سهما .
رواه أبو داود في الجهاد عن محمد بن عيسى ، عن مجمع بن يعقوب ، به{[14]} .
وقال{[15]} ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، حدثنا أبو بحر ، حدثنا شعبة ، حدثنا جامع بن شداد ، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة ، قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول{[16]} : لما أقبلنا من الحديبية أعرسنا فنمنا ، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت ، فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم ، قال : فقلنا : " امضوا " {[17]} . فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال : " افعلوا ما كنتم تفعلون وكذلك [ يفعل ] {[18]} من نام أو نسي " . قال : وفقدنا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبنها ، فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة ، فأتيته بها فركبها {[19]} ، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي ، قال : وكان إذا أتاه [ الوحي ]{[20]} اشتد عليه ، فلما سري عنه أخبرنا أنه أنزل عليه : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } .
وقد رواه أحمد وأبو داود ، والنسائي من غير وجه ، عن جامع بن شداد به {[21]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة ، قال : سمعت المغيرة بن شعبة{[22]} يقول : كان النبي {[23]} صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه ، فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : " أفلا أكون عبدًا شكورًا " .
أخرجاه{[24]} وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث زياد به{[25]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وهب ، حدثني أبو صخر ، عن ابن قسيط ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه{[26]} .
فقالت له عائشة : يا رسول الله ، أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : " يا عائشة ، أفلا أكون عبدا شكورا ؟ " .
أخرجه مسلم في الصحيح من رواية عبد الله بن وهب ، به{[27]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عبد الله بن عون الخراز - وكان ثقة بمكة - حدثنا محمد بن بشر{[28]} حدثنا مسعر ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه - أو قال ساقاه - فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : " أفلا أكون عبدًا شكورًا ؟ " غريب من هذا الوجه {[29]} .
فقوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } أي : بينا ظاهرا ، والمراد به صلح الحديبية فإنه حصل بسببه خير جزيل ، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض{[26760]} ، وتكلم المؤمن مع الكافر ، وانتشر العلم النافع والإيمان .
بسم الله الرحمن الرحيم { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } وعد بفتح مكة ، والتعبير عنه بالماضي لتحققه أو بما اتفق له في تلك السنة كفتح خيبر وفدك ، أو إخبار عن صلح الحديبية وإنما سماه فتحا لأنه كان بعد ظهوره على المشركين حتى سألوا الصلح وتسبب لفتح مكة ، وفرغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم لسائر العرب فغزاهم وفتح مواضع وأدخل في الإسلام خلقا عظيما ، وظهر له في الحديبية آية عظيمة وهي أنه نزح ماؤها بالكلية فتمضمض ثم مجه فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه ، أو فتح الروم فإنهم غلبوا الفرس في تلك السنة . وقد عرفت كونه فتحا للرسول صلى الله عليه وسلم في سورة " الروم " . وقيل الفتح بمعنى القضاء أي قضينا لك أن تدخل مكة من قابل .