13- لقد كان لكم آية بيِّنة وعبرة ظاهرة في طائفتين من المحاربين التقتا يوم بدر ، إحداهما مؤمنة تحارب لإعلاء كلمة الله ونشر الحق ، والأخرى كافرة تحارب في سبيل الأهواء والشهوات ، فكان من تأييد الله للمؤمنين أن جعل الكافرين يرونهم ضعف عددهم الحقيقي ، وبذلك وقع الرعب في قلوب الكفار فانهزموا ، والله يمنح نصره لمن يشاء . وإن في ذلك لعبرة لأصحاب البصائر الرشيدة التي لا تنحرف في إدراكها عن الحق .
ثم ساق القرآن مثلا مشاهداً يدل على نصر الله - تعالى - لأوليائه وخذلانه لأعدائه ، فقال : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين } .
والمراد بالآية هنا العلامة والبرهان والشاهد على صدق الشىء المخبر عنه .
والفئة - كما يقول القرطبي - الجماعة من الناس ، وسميت الجماعة من الناس فئة لأنها يفاء إليها ، أي يرجع إليها في وقت الشدة ، ولا خلاف في أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر . ثم قال : ويحتمل أن يكون المخاطب بهذه الآية جميع المؤمنين ، ويحتمل أن يخاطب بها جميع الكفار ، ويحتمل أن يخاطب بها يهود المدينة ، وبكل احتمال منها قد قال قوم . وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت النفوس وتشجيعها ، حتى يقدموا على مثليهم وأمثالهم كما قد وقع .
والمعنى : قد كان لكم أيها الناس علامة عظيمة ، ودلالة واضحة على أن الكافرين سيغلبون والمؤمنين سينصرون بما جرى في غزوة بدر ، فقد رأيتم كيف أن الله - تعالى - قد نصر المؤمنين مع قلة عددهم ، وهزم الكافرين مع كثرة عددهم وعددعم . ولقد كان المؤمنون يرون أعداءهم أكثر منهم عددا وعدة ومع ذلك لم يهابوهم ولم يجبنوا عن لقائهم ، بل أقدموا على قتالهم بإيمان وشجاعة فرزقهم الله النصر على أعدائهم .
ووصف - سبحانه - الفئة المؤمنة بأنها تقاتل في سبيل الله ، على سبيل المدح لها ، والإعلاء من شأنها ، وبيان الغاية السامية التي من أجلها قاتلت ، ومن أجلها تم لها النصر فهي لم تقاتل لأجل عرض من أعراض الدنيا وإنما قاتلت لإعلاء كلمة الله ونصرة الحق .
ووصف الفئة الأخرى بأنها كافرة ؛ لأنها لم تؤمن بالحق ، ولم تتبع الطريق المستقيم ، بل كفرت بكل ما يصلحها في دينها ودنياها .
ولم يصفها بالقتال كما وصف الفئة المؤمنة . إسقاطا لقتال تلك الفئة الكافرة عن درجة الاعتبار ، وإيذانا بأن الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم عند لقائهم للمؤمنين ، جعلهم بأنهم ليسوا أهلا لأن يوصفوا بالقتال .
هذا وللعلماء أقوال في المراد من قوله - تعالى - { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين } وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه الأقوال فقال : { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ } أي : يرى المشركون المسلمين مثلى عدد المشركين أي قريبا من ألفين ، أو مثلى عدد المسلمين أي ستمائة ونيفا وعشرين . أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم . وكان ذلك مددا لهم من الله كما أمدهم بالملائكة . والدليل عليه قراءة نافع " ترونهم " بالتاء ، أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلى فئتكم الكافرة ، أو مثلى أنفسهم . فإن قلت فهذا مناقض لقوله في سورة الأنفال { وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ } قلت : قللوا أولا في أعينهم حتى اجترؤا عليهم : فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا ، فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين . . . وتقليلهم تارة وتكثيرهم تارة أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية . وقيل : يرى المسلمون المشركين مثلى المسلمين على ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثيني في قوله { فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } بعدما كلفوا أن يقاوم الواحد العشرة في قوله - تعالى - { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } والذى نراه أن الرأى الذى عبر عنه صاحب الكشاف بقوله : وقيل : يرى المسلمون المشركين مثل المسلمين . . . إلخ هذا الرأى هو أقرب الأقوال إلى الصواب ؛ لأن المسلمين في غزوة بدر كانوا أقل عددا وعدة من المشركين ، ولأن التعبير بقوله - تعالى - { رَأْيَ العين } يفيد أن رؤية هذه الكثرة من المشركين كانت رؤية بصرية بالمشاهدة ، وليست بالتقدير أو التخيل ، وهذا يتحقق في رؤية المؤمنين للمشركين :
فإن قيل : إن المشركين في بدر كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين تقريبا - كما حكى لنا التاريخ - ولم يكونوا مثليهم أي ضعفهم ؟
فالجواب على ذلك أن هذا التقدير للمشركين من جانب المؤمنين كان تقديراً تقريبيا وليس تقديرا عدديا ، فثلاثة الأمثال قد ترى رأى العين مثلين أو نقول : إن المراد بكلمة مثلين مجرد التكرار وليس المراد بها التثنية على الحقيقة ، كما في قوله - تعالى - { فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } فالمراد تكرار النظر مرة ومرات وليس المراد التحديد بكرتين .
وقد رجح ابن جرير الطبرى هذا الرأى ، فقد قال بعد سرده لجملة من أقوال العلماء : وأولى هذه القراءات بالصواب : قراءة من قرأ { يَرَوْنَهُمْ } بمعنى : وأخرى كافرة يراهم المسلمون مثليهم ، يعني : مثلى عدد المسلمين ، لتقليل الله إياهم في أعينهم في حال . فكان حزرهم إياهم كذلك . . ثم قال : وأما قوله : { رَأْيَ العين } فإنه مصدر رأيته يقال رأيته رأياً ورؤية ، ويقال هو منى رأى العين ، ورأى العين - بالنصب والرفع - يراد حيث يقع عليه بصرى .
. فمعنى ذلك : يرونهم حيث تلحقهم أبصارهم وتراهم عيونهم مثليهم " .
وقوله - تعالى - { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } . . إلخ من تمام القول المأمور به جىء به لتقرير وتحقيق ما قبله . و { كَانَ } هنا ناقصة ، و { آيَةٌ } اسمها ، وترك التأنيث في - كان - لوجود الفاصل بينها وبين اسمها ، ولأن المرفوع بها وهو اسمها مجازى التأنيث أو باعتبار أن الآية برهان ودليل . وقوله { لَكُمْ } خبر كان . وقوله { فِئَةٌ } خبر لمبتدأ محذوف أى . إحداهما فئة تقاتل في سبيل الله . وقوله { وأخرى } نعت لمقدر أى وفئة أخرى كافرة . والجملة مستأنفة لتقرير " ما في الفئتين من الآية " ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } .
أى : والله - تعالى - يؤيد بنصره من يشاء نصره وفوزه ، فهو القادر على أن يجعل الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة ، لاراد لمشيئته ولا معقب لحكمه وإن الذين يغترون بقوتهم وحدها ، ويغترون بما بين أيديهم من أموال وعتاد ورجال ، ولا يعملون حسابا للقدر ، الذي يجريه الله على حسب مشيئته وإرادته هؤلاء الذين غرهم بالله الغرور ، تداهمهم الهزيمة من حيث لا يحتسبون ، وقد يفجؤهم الخسران والخذلان من الطريق الذى توهموا فيه الكسب والانتصار .
لذا أمر الله - تعالى- عباده بالاعتبار والاتعاظ فقال : { إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } واسم الإشارة ذلك يعود إلى المذكور الذى رأوه وشاهدوه وهو أن الفئة القليلة المؤمنة غلبت الفئة الكثيرة الكافرة .
والعبرة - الاعتبار والاتعاظ وأصله من العبو وهو النفور من أحد الجانبين إلى الآخر ، وسمى الاتعاظ عبرة ، لأن المعتبر المتعظ يعبر عن الجهل إلى العلم ، ومن الهلاك إلى النجاة .
أى : إن في ذلك الذي شاهده الناس وعاينوه من انتصار الفئة القليلة التي تقاتل في سبيل الله ، على الفئة الكثيرة التي تقاتل في سبيل الطاغوت ، لعبرة عظيمة ، ودلالة واضحة ، لأصحاب المدارك السليمة والعقول الواعية التي تفهم الأمور على حقيقتها ، وتؤمن بأن الله - تعالى - قادر على كل شيء ، أما أصحاب القلوب المطموسة والنفوس المغرورة بقوتها . فهي عن الاعتبار والاتعاظ بمعزل .
قال الفخر الرازي ما ملخصه : " واعلم أن العلماء ذكروا في تفسير كون تلك الواقعة آية بينة وعبرة واضحة - وجوها : منها أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف عن المقاومة أمور منها قلة العدد ، وأنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا ، ومنه قلة السلاح ، ومنها أنها كانت ابتداء غارة في الحرب لأنها أول غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني من الكثرة والتأهب وغير ذلك ومع هذا فقد انتصر المؤمنون ، ولما كان ذلك خارجا عن العادة كان معجزا " .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد أنذرت الكافرين بسوء العاقبة إذا ما استمروا على كفرهم ، وساقت لهم ما يؤيد ذلك من واقع ما شاهدوه ، وبشرت المؤمنين بنصر الله لهم ، وحثنهم على الاتعاظ والاعتبار ، لأن من شأن المعتبرين أن يكونوا مراقبين لله - تعالى - ومنفذين لأوامره ، ومبتعدين عن نواهيه ، ومن كان كذلك كان الله معه بنصره وتأييده .
( قد كان لكم آية في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين . والله يؤيد بنصره من يشاء . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) . .
وقوله تعالى : ( يرونهم مثليهم رأي العين ) يحتمل تفسيرين : فإما أن يكون ضمير( يرون ) راجعا إلى الكفار ، وضمير( هم ) راجعا إلى المسلمين ، ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين( مثليهم ) . . وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة وهم قلة ، فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم .
وإما أن يكون العكس ، ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين ( مثليهم ) هم - في حين أن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم - ومع هذا ثبتوا وانتصروا .
والمهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره . . وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد . كما أن فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم . . وكان الموقف - كما ذكرنا في التمهيد للسورة - يقتضي هذا وذاك . . وكان القرآن يعمل هنا وهناك . .
وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة . وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة . . إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله ، قائم في كل لحظة . ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة - ولو قل عددها - قائم كذلك في كل لحظة . وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ ، وسنة ماضية لم تتوقف .
وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة ؛ وتثق في ذلك الوعد ؛ وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة ؛ وتصبر حتى يأذن الله ؛ ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله ، المدبر بحكمته ، المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة .
( إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) . .
ولا بد من بصر ينظر وبصير تتدبر ، لتبرز العبرة ، وتعيها القلوب . وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار !
{ قد كان لكم آية } الخطاب لقريش أو لليهود ، وقيل للمؤمنين . { في فئتين التقتا } يوم بدر . { فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم } يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين ، وكان قريبا من ألف ، أو مثلي عدد المسلمين وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، وذلك كان بعد ما قللهم في أعينهم حتى اجترؤوا عليهم وتوجهوا إليهم ، قلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا مددا من الله تعالى للمؤمنين ، أو يرى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين وكانوا ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم ويتيقنوا بالنصر الذي وعدهم الله به في قوله : { فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } . ويؤيده قراءة نافع ويعقوب بالتاء وقرئ بهما على البناء للمفعول أي يريهم الله ، أو يريكم ذلك بقدرته ، وفئة بالجر على البدل من فئتين والنصب على الاختصاص ، أو الحال من فاعل التفتا . { رأي العين } رؤية ظاهرة معاينة { والله يؤيد بنصره من يشاء } نصره كما أيد أهل بدر . { إن في ذلك } أي التقليل والتكثير ، أو غلبة القليل عديم العدة في الكثير شاكي السلاح ، وكون الواقعة آية أيضا يحتملها ويحتمل وقوع الأمر على ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم . { لعبرة لأولى الأبصار } أي لعظة لذوي البصائر . وقيل لمن أبصرهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قد كان لكم آية في فئتين}: وذلك أن بني قينقاع من اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد قتال بدر يوعدونه القتال كما قتل كفار مكة يوم بدر، فأنزل الله عز وجل: {قد كان لكم آية} معشر اليهود، يعني عبرة، {في فئتين التقتا}: فئة المشركين وفئة المؤمنين يوم بدر، التقتا؛ {فئة تقاتل في سبيل الله}: وهو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر، {وأخرى كافرة}: أبو جهل والمشركون، {يرونهم مثليهم}: رأت اليهود أن الكفار مثل المؤمنين في الكثرة، {رأي العين}. {والله يؤيد بنصره من يشاء}، فينصر الله عز وجل القليل على الكثير. {إن في ذلك}: في نصر المؤمنين وهم قليل، وهزيمة الكفار وهم كثير، {لعبرة لأولي الأبصار}: الناظرين في أمر الله عز وجل وطاعته، حين أظهر الله عز وجل القليل على الكثير...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قل يا محمد للذين كفروا من اليهود الذين بين ظهراني بلدك:"قد كان لكم آية" يعني: علامة ودلالة على صدق ما أقول إنكم ستغلبون، وعبرة وتفكر.
{في فِئَتَيْنِ}: في فرقتين وحزبين. والفئة: الجماعة من الناس. التقتا للحرب، وإحدى الفئتين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ممن شهد وقعة بدر، والأخرى مشركو قريش. "فئة تقاتل في سبيل الله": جماعة تقاتل في طاعة الله وعلى دينه، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. "وأخرى كافرة": وهم مشركو قريش.
{يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأيَ العَيْنِ}: اختلفت القراء في قراءة ذلك؛ فقرأته قراء أهل المدينة: «ترونهم» بالتاء، بمعنى: قد كان لكم أيها اليهود آية في فئتين التقتا؛ فئة تقاتل في سبيل الله، والأخرى كافرة، ترون المشركين مثلي المسلمين رأي العين. يريد بذلك عظتهم. يقول: إن لكم عبرة أيها اليهود فيما رأيتم من قلة عدد المسلمين، وكثرة عدد المشركين، وظفر هؤلاء مع قلة عددهم بهؤلاء مع كثرة عددهم. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة والبصرة وبعض المكيين: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ} بالياء، بمعنى: يرى المسلمون الذين يقاتلون في سبيل الله الجماعةَ الكافرة مثلي المسلمين في القدر. فتأويل الآية على قراءتهم: قد كان لكم يا معشر اليهود عبرة ومتفكّر في فئتين التقتا؛ فئة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة، يرى هؤلاء المسلمون مع قلة عددهم هؤلاء المشركين في كثرة عددهم.
فإن قال قائل: وما وجه تأويل قراءة من قرأ ذلك بالياء، وأي الفئتين رأت صاحبتها مثليها؟ الفئة المسلمة هي التي رأت المشركة مثليها، أم المشركة هي التي رأت المسلمة كذلك، أم غيرهما رأت إحداهما كذلك؟ قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك؛ فقال بعضهم: الفئة التي رأت الأخرى مثلي أنفسها الفئة المسلمة، رأت عدد الفئة المشركة مثلي عدد الفئة المسلمة، قلّلها الله عز وجل في أعينها حتى رأتها مثلي عدد أنفسها، ثم قللها في حال أخرى، فرأتها مثل عدد أنفسها... فمعنى الآية على هذا التأويل: قد كان لكم يا معشر اليهود آية في فئتين التقتا: إحداهما مسلمة، والأخرى كافرة، كثير عدد الكافرة، قليل عدد المسلمة، ترى الفئة القليل عددها، الكثير عددها أمثالاً لها أنها تكثرها من العدد بمثل واحد، فهم يرونهم مثليهم، فيكون أحد المثلين عند ذلك، العدد الذي هو مثل عدد الفئة التي رأتهم، والمثل الاَخر: الضعف الزائد على عددهم، فهذا أحد معنيي التقليل الذي أخبر الله عز وجل المؤمنين أنه قللهم في أعينهم¹. والمعنى الاَخر منه: التقليل الثاني على ما قاله ابن مسعود، وهو أن أراهم عدد المشركين مثل عددهم لا يزيدون عليهم، فذلك التقليل الثاني الذي قال الله جل ثناؤه: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أعْيُنِكُمْ قَلِيلاً}.
وقال آخرون من أهل هذه المقالة: إن الذين رأوا المشركين مثلي أنفسهم هم المسلمون، غير أن المسلمين رأوهم على ما كانوا به من عددهم، لم يقللوا في أعينهم، ولكن الله أيدهم بنصره. قالوا: ولذلك قال الله عز وجل لليهود: قد كان لكم فيهم عبرة يخوفهم بذلك أن يحل بهم منهم، مثل الذي حل بأهل بدر على أيديهم... وهذه الرواية خلاف ما تظاهرت به الأخبار عن عدة المشركين يوم بدر، وذلك أن الناس إنما اختلفوا في عددهم على وجهين، فقال بعضهم: كان عددهم ألفا، وقال بعضهم: ما بين التسعمائة إلى الألف... حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فَئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيهِمْ رأيَ العَيْنِ} ذلكم يوم بدر ألف المشركون، أو قاربوا، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً.
وقال آخرون: كان عدد المشركين زائدا على التسعمائة، فرأى المسلمون عددهم على غير ما كانوا به من العدد، وقالوا: أرى الله المسلمين عدد المشركين قليلاً آية للمسلمين. قالوا: وإنما عنى الله عز وجل بقوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ} المخاطبين بقوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ} قالوا: وهم اليهود غير أنه رجع من المخاطبة إلى الخبر عن الغائب، لأنه أمر من الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك لهم، فحسن أن يخاطب مرة، ويخبر عنهم على وجه الخبر مرة أخرى، كما قال: {حتى إذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ}.
وقالوا: فإن قال لنا قائل: فكيف قيل: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأيَ العَيْنِ} وقد علمتم أن المشركين كانوا يومئذٍ ثلاثة أمثال المسلمين؟ قلنا لهم: كما يقول القائل وعنده عبد: أحتاج إلى مثله، أنا محتاج إليه وإلى مثله، ثم يقول: أحتاج إلى مثليه، فيكون ذلك خبرا عن حاجته إلى مثله وإلى مثلي ذلك المثل، وكما يقول الرجل: معي ألف وأحتاج إلى مثليه، فهو محتاج إلى ثلاثة¹ فلما نوى أن يكون الألف داخلاً في معنى المثل، صار المثل أشرف والاثنان ثلاثة، قال: ومثله في الكلام: أراكم مثلكم، كما يقال: إن لكم ضعفكم، وأراكم مثليكم، يعني أراكم ضعفيكم، قالوا: فهذا على معنى ثلاثة أمثالهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن الله أرى الفئة الكافرة عدد الفئة المسلمة مثلي عددهم. وهذا أيضا خلاف ما دل عليه ظاهر التنزيل، لأن الله جل ثناؤه قال في كتابه: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِي أعْيُنِهِمْ} فأخبر أن كلاً من الطائفتين قُلل عددهم في مرأى الأخرى.
وقرأ آخرون ذلك: «تُرَوْنَهم» بضم التاء، بمعنى: يريكموهم الله مثليهم.
وأولى هذه القراءات بالصواب قراءة من قرأ: {يَرَوْنَهُمْ} بالياء، بمعنى: وأخرى كافرة، يراهم المسلمون مثليهم، يعني: مثلي عدد المسلمين، لتقليل الله إياهم في أعينهم في حال، فكان حزرهم إياهم كذلك، ثم قللهم في أعينهم عن التقليل الأول، فحزروهم مثل عدد المسلمين، ثم تقليلاً ثالثا، فحزروهم أقل من عدد المسلمين.
حدثني أبو سعيد البغدادي، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. قال: فأسرنا رجلاً منهم، فقلنا كم كنتم؟ قال: ألفا... ما أبان عن اختلاف حزر المسلمين يومئذٍ عدد المشركين في الأوقات المختلفة، فأخبر الله عز وجل عما كان من اختلاف أحوال عددهم عند المسلمين اليهود على ما كان به عندهم، مع علم اليهود بمبلغ عدد الفئتين، إعلاما منه لهم أنه مؤيد المؤمنين بنصره، لئلا يغتروا بعددهم وبأسهم، وليحذروا منه أن يحل بهم من العقوبة على أيدي المؤمنين، مثل الذي أحل بأهل الشرك به من قريش على أيديهم ببدرهم.
{رأيَ العَيْنِ}: مصدر رأيته، يقال: رأيته رَأْيا ورؤية، يقال: هو مني رأي العين، يراد حيث يقع عليه بصري، وهو من الرائي مثله، والقوم رأوا إذا جلسوا حيث يرى بعضهم بعضا. فمعنى ذلك: يرونهم حيث تلحقهم أبصارهم، وتراهم عيونهم مثليهم.
{وَاللّهُ يؤيد بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنّ فِي ذَلِكَ لَعْبَرَةً لأُولِي الأبْصَارِ}: يقوّي بنصره من يشاء، من قول القائل: قد أيدت فلانا بكذا: إذا قويته وأعنته، ومنه قول الله عز وجل: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ} يعني ذا القوة.
وتأويل الكلام: قد كان لكم آية يا معشر اليهود في فئتين التقتا: إحداهما تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة، يراهم المسلمون مثليهم رأي أعينهم، فأيدنا المسلمة وهم قليل عددهم، على الكافرة -وهم كثير عددهم- حتى ظفروا بهم معتبر ومتفكر، والله يقوي بنصره من يشاء. "إن في ذلك": يعني إن فيما فعلنا بهؤلاء الذين وصفنا أمرهم من تأييدنا الفئة المسلمة مع قلة عددهم، على الفئة الكافرة مع كثرة عددها، {لَعِبْرَةً}: لمتفكرا ومتعظا لمن عقل وادّكر فأبصر الحق.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ليست الآية في الغلبة خاصة، لكن الآية، فيها -والله أعلم- وجوه أخرى:
أحدها: أن غلبة المسلمين مع ضعف أبدانهم وقلة عددهم وخروجهم لا على وجه الحرب، وقتال المشركين مع قوة أبدانهم وكثرة عددهم، فاستعدادهم للحرب وخروجهم على الحرب والقتال، آية وعلم العدو أن ليس لهم فئة، ولا لهم رجاء المدد، وأن لا غياث لهم من البشر، وذلك آية الجرأة وعلامة الشجاعة.
والثاني: أن ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ كفا من تراب، فرماه على وجوههم، وقال: (شاهدت الوجوه) [مسلم 1777] فامتلأت أعينهم من ذلك، وعموا حتى انهزموا، فصار آية...
والثالث: ما قيل: إن أبا جهل قام، فدعا، فقال: (إينا أحق وأوصل رحما فانصره، واجعل الغلبة والهزيمة على الآخر)، فكانت الغلبة والهزيمة عليهم، فكان آية. والرابع: ما أعان الملائكة المسلمين، وبعثهم الله جل وعلا مدد النصرة للمؤمنين على الكافرين يوم بدر، فذلك آية.
ووجه آخر: ما ذكرنا، وهو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا خرجوا شبه الأغرة بغير سلاح غير مستعدين للقتال... وأولئك خرجوا مستعدين لذلك، وكان ما ذكر... وقوله تعالى: {يرونهم مثليهم رأى العين} وفي بعض القراءات بالتاء: ترونهم؛ يرى المؤمنون أولئك مثلي أنفسهم لا أكثر، هم كانوا ثلاثة أمثال على ما روي في القصة، وهذا لما جعل الحق عليهم قيام الواحد من المسلمين بالاثنين منهم من ضعفهم، لجهدهم في العبادات وبلوغهم الغاية في احتمال الشدائد والمشقات. أخبر جل وعلا بمعرفتهم أمر الحرب وشدة رغبتهم في تعلمهم ما يحتاجون في الحرب والقتال، ولهذا قالوا: إن الله جل وعلا علم المؤمنين جميع ما يحتاجون في الحرب من الآداب وغيرها في الكتاب كقوله: {إذ لقيتم فئة فاثبتوا} [الأنفال: 45] أمرهم بالتثبت، ثم قال: {فلا تولوا الأدبار} [الأنفال: 15]، وقال: {ولا تنازعوا فتفشلوا} [الأنفال: 46]؛ فجعل التنازع الواقع بينهم على خلاف بعضهم بعضا سبب الهزيمة، ففيه أمر بالاجتماع وجعل التدبير واحدا؛ إذ الطاعة لأمامهم... {إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}: وإنما كان عبرة لما ذكرنا من خروج المؤمنين بقلة عددهم وضعف أبدانهم بلا استعداد للحرب والقتال، إنما هو خروج شبه الأغرة، وخروج أوليك بالعدة مع قوة أبدانهم وكثرة عددهم وطمع المدد له، ولم يكن للمسلمين ذلك، ففي مثل غلبة المؤمنين الكافرين والظفر بهم والنصر لهم عليهم على الوصف الذي وصفناهم عبرة، وإنه لأولي الأبصار والعبر...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
والآية في الفئتين هي تقليل الكثير في أعين المسلمين، وتكثير القليل في أعين المشركين، وما تقدم من الوعد بالغلبة، فتحقق، قتلاً، وأسراً، وسبياً.
{وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ}: من أهل طاعته. وفي التأييد وجهان: أحدهما: أنه المعونة والثاني: القوة. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأبْصَارِ} فيه وجهان: أحدهما: أن في نصرة الله لرسوله يوم بدر مع قلة أصحابه عبرة لذوي البصائر والعقول. والثاني: أن فيما أبصره المشركون من كثرة المسلمين مع قلتهم عبرة لذوي الأعين والبصائر...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا أراد اللهُ إمضاءَ أمرٍ، قلَّل الكثير في أعين قوم، وكثَّر القليل في أعين قوم. وإذا لبَّس على بصيرة قوم، لم ينفعهم نفاذ أبصارهم. وإذا فتح أسرار آخرين فلا يضرهم انسداد بصائرهم...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{والله يؤيد بنصره}: بالغلبة والحجة من يشاء.
{إن في ذلك لعبرة}: وهي الآية التي يعبر بها من منزلة الجهل إلى العلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ}: الخطاب لمشركي قريش. {فِي فِئَتَيْنِ التقتا}: يوم بدر. {يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ}: يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين، أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين، أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم، وكان ذلك مدداً لهم من الله كما أمدّهم بالملائكة. والدليل عليه قراءة نافع: «ترونهم»، بالتاء أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي فئتكم الكافرة، أو مثلي أنفسهم. فإن قلت: فهذا مناقض لقوله في سورة الأنفال {وَيُقَلّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44]. قلت: قللوا أوّلا في أعينهم حتى اجترأوا عليهم فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا، فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين. ونظيره من المحمول على اختلاف الأحوال قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} [الرحمن: 39] وقوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤولون} [الصافات: 24] وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية. وقيل: يرى المسلمون المشركين مثلي المسلمين على ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثنين في قوله تعالى: {فإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} [الأنفال: 66] بعد ما كلفوا أن يقاوم الواحد العشرة في قوله تعالى: {إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} [الأنفال: 65] ولذلك وصف ضعفهم بالقلة لأنه قليل بالإضافة إلى عشرة الأضعاف وكان الكافرون ثلاثة أمثالهم. وقراءة نافع لا تساعد عليه. {رَأْىَ العين}: رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها، معاينة كسائر المعاينات. {والله يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ}: كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدوّ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{قد كان لكم آية في فئتين} الآية تحتمل أن يخاطب بها المؤمنون وأن يخاطب بها جميع الكفار وأن يخاطب بها يهود المدينة. وبكل احتمال منها قد قال قوم؛ فمن رأى أن الخطاب بها للمؤمنين؛ فمعنى الآية تثبيت النفوس وتشجيعها، لأنه لما قال للكفار ما أمر به أمكن أن يستبعد ذلك المنافقون وبعض ضعفة المؤمنين، كما قال قائل يوم الخندق: يعدنا محمد أموال كسرى وقيصر، ونحن لا نأمن على أنفسنا في المذهب، وكما قال عدي بن حاتم حين أخبره النبي عليه السلام بالأمنة التي تأتي، فقلت في نفسي: وأين دعار طيء الذين سعروا البلاد؟ الحديث بكماله، فنزلت الآية مقوية لنفوس المؤمنين ومبينة صحة ما أخبر به بالمثال الواقع، فمن قرأ «ترونهم» بالتاء من فوق فهي مخاطبة لجميع المؤمنين إذ قد رأى ذلك جمهور منهم، والهاء والميم في «ترونهم» تجمع المشركين، وفي «مثلهم» لجميع المؤمنين،... ومن قرأ بالياء من تحت؛ فالمعنى يرى الجمع من المؤمنين جمع الكفار مثلي جمع المؤمنين. ومن رأى أن الخطاب لجميع الكفار، ومن رأى أنه لليهود فالآية عنده داخلة فيما أمر محمد عليه السلام أن يقوله لهم احتجاجاً عليهم، وتبييناً لصورة الوعيد المتقدم في أنهم سيغلبون. فمن قرأ بالياء من تحت؛ فالمعنى يرى الجمع من المؤمنين جمع الكفار مثلي جمع المؤمنين. ومن قرأ بالتاء فالمعنى لو حضرتم أو إن كنتم حضرتم وساغت العبارة لوضوح الأمر في نفسه ووقوع اليقين به لكل إنسان في ذلك العصر. ومن قرأ بضم التاء أو الياء فكأن المعنى، أن اعتقاد التضعيف في جميع الكفار إنما كان تخميناً وظناً لا يقيناً، فلذلك ترك في العبارة ضرب من الشك وذلك أن أرى بضم الهمزة تقولها فيما بقي عندك فيه نظر و-أرى- بفتح الهمزة تقولها فيما قد صح نظرك فيه، ونحا هذا المنحى أبو الفتح وهو صحيح، قال أبو علي: والرؤية في هذه الآية عين، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد، و {مثليهم} نصب على الحال من الهاء والميم في {ترونهم} وأجمع الناس على الفاعل ب {ترونهم} المؤمنون والضمير المتصل هو للكفار، إلا ما حكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: بل كثر الله عدد المؤمنين في عيون الكفار حتى كانوا عندهم ضعفيهم، وضعف الطبري هذا القول، وكذلك هو مردود من جهات، بل قلل الله كل طائفة في عين الأخرى، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فقلل الكفار في عيون المؤمنين ليقع التجاسر ويحتقر العدو، وهذا مع اعتقاد النبي وقوله، واعتقاد أولي الفهم من أصحابه أنهم من التسعمائة إلى الألف، لكن أذهب الله... عنهم البهاء وانتشار العساكر وفخامة الترتيب... ثم نصرهم عليهم مع علمهم بأنهم مثلاهم في العدد، لأنه كان أعلم المسلمين أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار. {لكم آية}: يريد علامة وأمارة ومعتبراً. والفئة: الجماعة من الناس، سميت بذلك لأنها يفاء إليها، أي يرجع في وقت الشدة، وقال الزجاج: الفئة: الفرقة، مأخوذة من فأوت رأسه بالسيف.
المسألة الثانية: وجه النظم أنا ذكرنا أن الآية المتقدمة، وهي قوله تعالى: {ستغلبون وتحشرون} نزلت في اليهود، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى الإسلام أظهروا التمرد وقالوا ألسنا أمثال قريش في الضعف وقلة المعرفة بالقتال بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما يغلب كل من ينازعنا فالله تعالى قال لهم إنكم وإن كنتم أقوياء وأرباب العدة والعدة فإنكم ستغلبون ثم ذكر الله تعالى ما يجري الدلالة على صحة ذلك الحكم، فقال: {قد كان لكم ءاية في فئتين التقتا فئة} يعني واقعة بدر كانت كالدلالة على ذلك لأن الكثرة والعدة كانت من جانب الكفار... والقلة وعدم السلاح من جانب المسلمين ثم إن الله تعالى قهر الكفار وجعل المسلمين مظفرين منصورين وذلك يدل على أن تلك الغلبة كانت بتأييد الله ونصره، ومن كان كذلك فإنه يكون غالبا لجميع الخصوم، سواء كانوا أقوياء أو لم يكونوا كذلك فهذا ما يجري مجرى الدلالة على أنه عليه السلام يهزم هؤلاء اليهود ويقهرهم وإن كانوا أرباب السلاح والقوة، فصارت هذه الآية كالدلالة على صحة قوله {قل للذين كفروا ستغلبون} الآية، فهذا هو الكلام في وجه النظم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الكفرة من أهل الكتاب وغيرهم من العرب بمعرض أن يقولوا حين قيل لهم ذلك: كيف نغلَب وما هم فينا إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود؟ قيل لهم: إن كانت قصة آل فرعون لم تنفعكم لجهل أو طول عهد فإنه {قد كان لكم آية} أي عظيمة بدلالة تذكير كان {في فئتين} تثنية فئة للطائفة التي يفيء إليها أي يرجع من يستعظم شيئاً، استناداً إليها حماية بها لقوتها ومنعتها {التقتا} أي في بدر {فئة} أي منهما مؤمنة، لما يرشد إليه قوله: {تقاتل في سبيل الله} أي الملك الأعلى لتكون كلمة الله هي العليا، ومن كان كذلك لم يكن قطعاً إلا مؤمناً {وأخرى} أي منهما {كافرة} أي تقاتل في سبيل الشيطان... ولما نبه سبحانه وتعالى على الاعتبار بذكر الآية نبه على موضعها بقوله: {يرونهم} وضمن يرى البصيرية القاصرة على مفعول واحد فعل الظن، وانتزع منه حالاً ودل عليها بنصب مفعول ثان فصار التقدير: ظانيهم {مثليهم}... فعلى قراءة نافع بالتاء الفوقانية يكون المعنى: ترون أيها المخاطبون الكفار المقاتلين للمؤمنين، وعلى قراءة غيره بالغيب المعنى، يرى المسلمون الكفار مثلي المسلمين {رأي العين} أي بالحزر والتخمين، لا بحقيقة العدد، هذا أقل ما يجوزونه فيهم، وقد كانوا ثلاثة أمثالهم ومع ذلك فجزاهم الله على مصادمتهم ونصرهم عليهم، أو يرى الكفار المسلمين مثلي الكفار مع كونهم على الثلث من عدتهم، كما هو المشهور في الآثار تأييداً من الله سبحانه وتعالى لأوليائه ليرعب الأعداء فينهزموا، أو يرى الكفار المسلمين ضعفي عدد المسلمين قال الحرالي: لتقع الإراءة على صدقهم في موجود الإسلام الظاهر والإيمان الباطن، فكان كل واحد منهم بما هو مسلم ذاتاً، وبما هو مؤمن ذاتاً، فالمؤمن المسلم ضعفان أبداً {فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين} [الأنفال:66] وذلك بما أن الكافر ظاهر لا باطن له فكان ذات عين، لا ذات قلب له،...، فكان المؤمن ضعفه، فوقعت الإراءة للفئة المؤمنة على ما هي عليه شهادة من الله سبحانه وتعالى بثبات إسلامهم وإيمانهم، وكان ذلك أدنى الإراءة لمزيد موجود الفئة المقاتلة في سبيل الله بمقدار الضعف الذي هو أقل الزيادة الصحيحة، وأما بالحقيقة فإن التام الدين بما هو مسلم مؤمن صاحب يقين إنما هو بالحقيقة عشر تام نظير موجود الوجود الكامل، فهو عشر ذوات بما هو صاحب يقين ودين (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} [الأنفال:65] انتهى. وهذا التقليل والتكثير واقع بحسب أول القتال وآخره، وقبل اللقاء وبعده، لما أراد الله سبحانه وتعالى من الحكم كما في آية الأنفال، والمعنى: إنا فاعلون بكم أيها الكفار على أيديهم ما فعلناه بأولئك، وقد كانوا قائلين أعظم من مقالاتكم، فلم تغن عنهم كثرتهم شيئاً، ولا شدة شكيمتهم ونخوتهم فإن الله سبحانه وتعالى ولي المؤمنين لطيبهم {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} [المائدة:100]...
ولما كان التقدير: فنصر الله سبحانه وتعالى الفئة القليلة، عطف عليه قوله: {والله} أي الذي له الأمر كله {يؤيد} والأيد تضعيف القوة الباطنة {بنصره} قال الحرالي: والنصر لا يكون إلا لمحق، وإنما يكون لغير المحق الظفر والانتقام انتهى. {من يشاء} أي فلا عجب فيه في التحقيق، فلذلك اتصل به قوله: {إن في ذلك} أي الأمر الباهر، وفي أداة البعد كما قال الحرالي إشارة بعد إلى محل علو الآية {لعبرة} قال: هي المجاوزة من عدوة دنيا إلى عدوة قصوى، ومن علم أدنى إلى علم أعلى، ففي لفظها بشرى بما ينالون من ورائها مما هو أعظم منها إلى غاية العبرة العظمى من الغلبة الخاتمة التي عندها تضع الحرب أوزارها، حيث يكون من أهل الكمال بعدد أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر، فهو غاية العبرة لمن له بصر نافذ ونظر جامع بين البداية والخاتمة {كما بدأنا أول خلق نعيده} [الأنبياء: 104] -انتهى. {لأولي الأبصار} أي يصيرون بها من حال إلى أشرف منها في قدرة الله وعظمته وفعله بالاختيار. قال الحرالي: أول موقع العين على الصورة نظر، ومعرفة خبرتها الحسية بصر، ونفوذه إلى حقيقتها رؤية، فالبصر متوسط بين النظر والرؤية كما قال سبحانه وتعالى: {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} [الأعراف: 198] فالعبرة هي المرتبة الأولى لأولي الأبصار الذين يبصرون الأواخر بالأوائل، فأعظم غلبة بطشه في الابتداء غلبة بدر، وأعظمها في الانتهاء الغلبة الخاتمة التي لا حرب وراءها، التي تكون بالشام في آخر الزمان- انتهى...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام: لا يبعد أن تكون الآية تشير إلى وقعة بدر كما قال المفسر (الجلال) ويحتمل أن تكون إشارة إلى وقائع أخرى قبل الإسلام ويرجح هذا إذا كان الخطاب لليهود فإن في كتبهم مثل هذه العبرة كقصة طالوت وجالوت التي تقدمت في سورة البقرة أقول: (أو قصة جدعون على ما عندهم من التحريف)، ويرجح الأول إذا كان الخطاب في بدر ثلاثة أضعاف المسلمة، ويصح أن يكونوا مع ذلك رأوهم مثليهم فقط، لأن الله قللهم في أعينهم كما ورد في سورة الأنفال.
أقول: وهذا التصحيح مبني على القول بأن الرائين هم الفئة التي تقاتل في سبيل الله وهي المؤمنة وان المرئيين هم الفئة الكافرة. وعليه الجمهور. وقيل إن الرائين والمرئيين هم المقاتلون في سبيل الله فالمعنى أنهم يرون أنفسهم مثلي ما هم عليه عددا وقيل إن الرائين هم الكافرون والمرئيين هم المؤمنون، أي أن الكافرين يرون المؤمنين على قتلهم مثليهم في العدد لما وقع في قلوبهم من الرعب والخوف. وقد حاول من قال بهذا تطبيقه على قوله تعالى في خطاب أهل بدر {وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور} [الأنفال: 44] فقال إن المؤمنين قللوا في أعين المشركين أولا فتجرؤوا عليهم فلما التقوا كثرهم الله في أعينهم ولا يخفى ما فيه من التكلف.
وأما على قراءة نافع، فالمعنى: ترونهم أيها المخاطبون مثليهم. وهي لا تنافي قراءة الجمهور وإنما تفيد معنى آخر وهو أن المخاطبين كانوا يرون الكافرين مثلي المؤمنين. فإذا كان الخطاب لمشركي مكة فهو ظاهر لأنه كان منهم من رأى ذلك وعلم به الآخرون، وإذا كان لليهود فاليهود كانوا مشرفين أيضا بكل عناية على ما جرى ببدر وغير بدر من القتال بين المسلمين والمشركين على أن الكلام ليس نصا في وقعة بدر، واليهود قد شهدوا مثل ذلك في الماضي. وقد علم أن القرآن يسند إلى الحاضرين من الأمة عمل الغابرين لإفادة معنى الوحدة والتكافل وظهور أثر الأوائل في الأواخر ورأوا مثله في زمن الخطاب في حربهم للمسلمين. وقوله تعالى: {رأي العين} مصدر مؤكد ليرونهم وهو ظاهر إذا كانت الرؤية بصرية وأما إذا كانت علمية اعتقادية، كما ذهب إليه بعضهم. فالمعنى على التشبيه أي تعلمون أنهم مثليهم علما مثل العلم برؤية العين {والله يؤيد بنصره من يشاء} من الفئتين.
وجملة القول: إن الآية ترشد إلى الاعتبار بمثل الواقعة المشار إليها التي غلبت فيها فئة قليلة فئة كثيرة بإذن الله. ولذلك قال: {إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} أي لأصحاب الأبصار الصحيحة التي استعملت فيما خلقت لأجله من التأمل في الأمور بقصد الاستفادة منها لا لمن وصفوا بقوله: {لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} [الأعراف: 179] وقال بعض المفسرين إن الأبصار هنا بمعنى البصائر والعقول من باب المجاز. وقال بعضهم يعني بأولي الأبصار من أبصروا بأعينهم قتال الفئتين.
وما ذكرته أظهر، ولا أحفظ عن الأستاذ الإمام في هذا شيئا. وإنما تكلم عن العبرة فقال ما مثاله مبسوطا مزيدا فيه: وجه العبرة ان هناك قوة فوق جميع القوى قد تؤيد الفئة القليلة فتغلب الكثيرة بإذن الله. وقد ورد في القرآن ما يمكن أن نفهم به سنته تعالى في مثل هذا التأييد لأن القرآن يفسر بعضه بعضا ويجب أخذه بجملته. بل هذه الآية نفسها تهدي إلى السر في هذا النصر. فإنه قال: {فئة تقاتل في سبيل الله} ومتى كان القتال في سبيل الله أي سبيل حماية الحق والدفاع عن الدين وأهله فإن النفس تتوجه إليه بكل ما فيها من قوة وشعور ووجدان وما يمكنها من تدبير واستعداد مع الثقة بان وراء قوتها معونة الله وتأييده، ومما يوضح ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون، وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين، ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط} [الأنفال: 45 47] أقول وهذا مما نزل في واقعة بدر التي قيل إن الآية التي نفسرها نزلت فيها، وإن كان عاما في حكمه مطلقا في عبارته.
أمر الله تعالى المؤمنين بالثبات وبكثرة ذكره الذي يشد عزائمهم وينهض هممهم وبالطاعة له تعالى ولرسوله. وكان هو القائد في تلك الواقعة وطاعة القائد ركن من أركان الظفر ونهاهم عن التنازع وأنذرهم عاقبته وهي الفشل وذهاب القوة وحذرهم أن يكونوا كأولئك المشركين من أهل مكة إذ خرجوا لقتال المسلمين لعلة البطر والطغيان ومرآة الناس بقوتهم وعزهم وهم يصدون عن سبيل الله. فبهذه الأوامر والنواهي تعرف سنة الله في نصر الفئة القليلة على الكثيرة. وقال تعالى في هذه السورة أيضا: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} [الأنفال: 60].
أورد الأستاذ الإمام الآية الأولى من الآيات التي ذكرناها آنفا وهذه الآية فقط ثم قال: ولا شك أن المؤمنين قد امتثلوا أمر الله تعالى في كل ما أوصاهم به بقدر طاقتهم فاجتمع لهم الاستعداد والاعتقاد، فكان المؤمن يقاتل ثابتا واثقا والكافر متزلزلا مائقا ونصروا الله فنصرهم وفاء بوعده في قوله: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [محمد: 7] وقوله: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} [الروم: 47] فالمؤمن من يشهد له بإيمانه القرآن وإيتاؤه ما وعد الله المؤمنين لا من يدعي الإيمان بلسانه، وأخلاقه وأعماله وحرمانه مما وعد الله المؤمنين تكذب دعواه. وغزوات الرسول وأصحابه شارحة لما ورد من الآيات في ذلك وناهيك بغزوة أحد، فإنهم لما خالفوا ما أمروا به نزل بهم ما نزل. وهذا أكبر عبرة لمن بعدهم لو كانوا يعتبرون بالقرآن، ولكنهم اعرضوا عنه ونبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما اختاروا لأنفسهم. ولو عادوا إليه واتحدوا فيه واعتصموا بحبله لفازوا بالعز الدائم والسعادة الكبرى والسيادة العليا في الدنيا والآخرة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
المهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره.. وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد. كما أن فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم.. وكان الموقف -كما ذكرنا في التمهيد للسورة- يقتضي هذا وذاك.. وكان القرآن يعمل هنا وهناك..
وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة. وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة.. إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله، قائم في كل لحظة. ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة -ولو قل عددها- قائم كذلك في كل لحظة. وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ، وسنة ماضية لم تتوقف.
وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة؛ وتثق في ذلك الوعد؛ وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة؛ وتصبر حتى يأذن الله؛ ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله، المدبر بحكمته، المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة.
(إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار)..
ولا بد من بصر ينظر وبصير تتدبر، لتبرز العبرة، وتعيها القلوب. وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار.!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الخطاب في قوله: {قد كان لكم آية} خطاب للذين كفروا، كما هو الظاهر؛ لأنّ المقام للمحاجّة، فأعقب الإنذار والوعيد بإقامة الحجّة. فيكون من جملة المقول، ويجوز أن يكون الخطاب للمسلمين، فيكون استئنافاً ناشئاً عن قوله ستُغلبون؛ إذ لعلّ كثرة المخاطبين من المشركين، أو اليهود، أو كليهما، يثير تعجّب السامعين من غلبهم فذكرهم الله بما كان يوم بدر.
والفئتان هما المسلمون والمشركون يوم بدر.
والالتقاء: اللقاء، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة، واللقاء مصادفة الشخصِ شخصاً في مَكان واحد، ويطلق اللقاء على البروز للقتال كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار}...
والخطاب في {ترونهم} كالخطاب في قوله: {قد كان لكم}.
والرؤية هنا بصرية بقوله {رأي العين} والظاهر أن الكفار رأوا المسلمين يوم بدر عند اللقاء والتلاحم مثلي عددهم، فوقع الرعب في قلوبهم فانهزموا. فهذه الرؤية جعلت آية لمن رأوها وتحققوا بعد الهزيمة أنهم كانوا واهمين فيما رأوه ليكون ذلك أشد حسرة لهم، وتكون هذه الرؤية غير الرؤية المذكورة في الأنفال بقوله: {ويقللكم في أعينهم} فإن تلك يناسب أن تكون وقعت قبل التلاحم، حتى يستخف المشركون بالمسلمين، فلا يأخذوا أهميتهم للقائهم، فلما لاقوهم رأوهم مثلي عددهم فدخلهم الرعب والهزيمة، وتحققوا قلة المسلمين بعد انكشاف الملحمة فقد كانت إرادة القلة وإرادة الكثرة سببي نصر المسلمين بعجيب صنع الله تعالى. وجوز أن يكون المسلمون رأوا المشركين مثلي عدد المؤمنين، وكان المشركون ثلاثة أمثالهم، فقللهم الله في أعين المسلمين لئلا يفشلوا لأنهم قد علموا من قبل أن المسلم يغلب كافرَين فلو علموا أنهم ثلاثة أضعافهم لخافوا الهزيمة، وتكون هذه الإراءة هي الإراءة المذكورة في سورة الأنفال {وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا} ويكون ضمير الغيبة في قوله {مثليهم} راجعا للمسلمين على طريقة الالتفات، وأصله ترونهم مثليكم على أنه من المقول.
وجملة {والله يؤيد بنصره من يشاء} تذييل لأن تلك الرؤية كيفما فسرت تأييد للمسلمين.
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ...} وحين يقول الحق: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ}. فمن المخاطب بهذه الآية؟ لاشك أن المخاطب بهذه الآية كل من كانت حياته بعد هذه الواقعة، سواء كان مؤمنا أو كافرا، فالمؤمن تؤكد له أن نصر الله يأتي ولو من غير أسباب، والكافر تأتي له الآية بالعبرة في أن الله يخذله ولو بالأسباب، إن الله جعل من تلك الموقعة آية. والآية هي الشيء العجيب أَيْ إن واقعه ونتائجه لا تأتي وَفق المقدمات البشرية. نعم هذا خطاب عام لكل من ينتسب إلى أيِّ فئة من الفئتين المتقاتلين، سواء كانت فئة الإيمان أو فئة الكفر. ففئة الإيمان لكي تفهم أنه ليست الأسباب المادية هي كل شيء في المعركة بين الحق والباطل، لأن لله جنودا لا يرونها. وكذلك يخطئ هذا الخطاب فئة الكافرين فلا يقولون: إن لنا أسبابنا من عدد وعُدَّة قوية، فقد وقعت المعركة بين الحق والباطل من قبل؛ وقد انتصر الحق. وكلمة {فِئَةٌ} إذا سمعتها تصورت جماعة من الناس، ولكن لها خصوصية؛ فقد توجد جماعة ولكن لكل واحد حركة في الحياة. ولكن حين نسمع كلمة {فِئَةٌ} فهي تدل على جماعة، وهي بصدد عمل واحد. ففي غير الحرب كل واحد له حركة قد تختلف عن حركة الآخر. ولكن كلمة {فِئَةٌ} تدل على جماعة من الناس لها حركة واحدة في عمل واحد لغاية واحدة...
ولاشك أن الحرب تصور هذه العملية أدق تصوير، بل إن الحرب هي التي تُوَحّد كل فئةٍ في سبيل الحركةِ الواحدة والعمل الواحد للغاية الواحدة؛ لأن كل واحد من أي فئة لا يستطيع أن يحمي نفسه وحده، فكل واحد يفئ ويرجع إلى الجماعة، ولا يستطيع أن ينفصل عن جماعته. ولكن الفرد في حركة الحياة العادية يستطيع أن ينفصل عن جماعته. إذن فكلمة {فِئَةٌ} تدل على جماعة من الناس في عملية واحدة، وتأتي الكلمة دائما في الحرب لتصور كل معسكر يواجه آخر. وحين يقول الحق: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} أي أن هناك صراعا بين فئتين، ويوضح الحق ماهية كل فئة فيقول: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ}. وحين ندقق النظر في النص القرآني، نجد أن الحق لم يورد لنا وصف الفئة التي تقاتل في سبيل الله ولم يذكر أنها فئة مؤمنة، وأوضح أن الفئة الأخرى كافرة، وهذا يعني أنّ الفئة التي تقاتل في سبيل الله لابد أن تكون فئة مؤمنة، ولم يورد الحق أن الفئة الكافرة تقاتل في سبيل الشيطان اكتفاء بأن كفرها لابد أن يقودها إلى أن تقاتل في سبيل الشيطان. لقد حذف الحق من وصف الفئة الأولى ما يدل عليه في وصف الفئة الثانية. وعرفنا وصف الفئة التي تقاتل في سبيل الله من مقابلها في الآية وهي الفئة الأخرى. فمقابل الكافرة مؤمنة، وعرفنا -أيضاً- أن الفئة الكافرة إنما تقاتل في سبيل الشيطان لمجرد معرفتنا أن الفئة الأولى المؤمنة تقاتل في سبيل الله. ويسمون ذلك في اللغة" احتباك". وهو أن تحذف من الأول نظير ما أثبت في الثاني، وتحذف من الثاني نظير ما أثبت في الأول، وذلك حتى لا تكرر القول، وحتى توضح الالتحام بين القتال في سبيل الله والإيمان، والقتال في سبيل الشيطان والكفر...
إذن فالآية على هذا المعنى توضح لنا الآتي: لقد كان لكم آية، أي أمر عجيب جدا لا يسير ولا يتفق مع منطق الأسباب الواقعية في فئتين، فعندما التقت الفئة المؤمنة في قتال مع الفئة الكافرة، استطاعت الجماعة المؤمنة المحددة بالغاية التي تقاتل من أجلها -وهي القتال في سبيل الله- أن تنتصر على الفئة الكافرة التي تقاتل في سبيل الشيطان. وبعد ذلك يقول الحق: {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} فنحن أمام فئتين، فمن الذي يَرى؟ ومن الذي يُرى؟ ومن الرائي ومن المرئي؟ إن كان الرائي هم المؤمنين فالمرئي هم الكافرين. وإن كان الرائي هم الكافرون فالمرئي هم المؤمنون ولنر الأمر على المعنيين: فإن كان الكافرون هم الذين يرون المؤمنين، فإنهم يرونهم مثليهم؛ أي ضعف عددهم، وكان عدد الكافرين يقرب من ألف. إذن فالكافرون يرون المؤمنين ضعف أنفسهم، أي ألفين. وقد يكون المعنى مؤديا إلى أن المؤمنين يرون الكافرين ضعف عددهم الفعلي. وقل يؤدى المعنى الى أن الكافرين يرون المؤمنين ضعف عددهم وكان عدد المؤمنين يقرب من ثلاثمائة وأربعة عشر، وضعف هذا العدد هو ستمائة وثمانية وعشرون مقاتلا. فأن أخذنا معنى "مِّثْلَيْهِمْ "على عدد المؤمنين، فالكافرون يرونهم حوالي ستمائة وثمانية وعشرين مقاتلا، وإن أخذنا معنى" مِّثْلَيْهِمْ" على عدد الكافرين فالكافرون يرون المؤمنين حوالي ألفين. وما الهدف من ذلك؟ إن الحق سبحانه يتكلم عن المواجهة بين الكفر والإيمان حيث ينصر الله الإيمان على الكفر. وبعض من الذين يتصيدون للقرآن يقولون: كيف يقول القرآن: {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} وهو يقول في موقع آخر: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال: 43-44]. وهذه الآية تثبت كثرة، سواء كثرة المؤمنين أو كثرة الكافرين، والآية التي نحن بصدد تناولها بالخواطر الإيمانية تثبت قلة، والمشككون في القرآن يقولون: كيف يتناول القرآن موقعة واحدة على أمرين مختلفين؟ ونقول لهؤلاء المشككين: أنتم قليلو الفطنة؛ لأن هناك فرقاً بين الشجاعة في الإقبال على المعركة وبين الروح العملية والمعنوية التي تسيطر على المقاتل أثناء المعركة، والحق سبحانه قد تكلم عن الحالين: قلل الحق هؤلاء في أعين هؤلاء، وقلل هؤلاء في أعين هؤلاء، لأن المؤمنين حين يرون الكافرين قليلا فإنهم يتزودون بالجرأة وطاقة الإيمان ليحققوا النصر. والكافرون عندما يرون المؤمنين قلة فإنهم يستهينون بهم ويتراخون عند مواجهتهم. ولكن عندما تلتحم المعركة فما الذي يحدث؟ لقد دخلوا جميعا المعركة على أمل القلة في الأعداد المواجهة، فما الذي يحدث في أعصابهم؟ إن المؤمن يدخل المعركة بالإستعداد المكثف لمواجهة الكفار. وأعصاب الكافر تخور لأن العدد أصبح على غير ما توقع، إذن فيقول الحق: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال: 44]. يصور الحالة قبل المعركة؛ لأن الله لا يريد أن يتهيب طرف فلا تنشأ المعركة. لكن ما إن تبدأ المعركة حتى يقلب الحق الأمور على عكسها، إنه ينقل الشيء من الضد إلى الضد ونقل الشيء من الضد الى الضد إيذان بأن قادرا أعلى يقود المشاعر والأحاسيس، والقدرة العالية تستطيع أن تصنع في المشاعر ما تريد. لقد قلل الحق الأعداد أولا حتى لا يتهيبوا المعركة، وفي وقت المعركة جعلهم الله كثيراً في أعين بعضهم البعض، فترى كل فئةٍ الطرف الآخر كثيرا، فتتفجر طاقات الشجاعة المؤمنة من نفوس المؤمنين فيقبلون على القتال بحماسة، وتخور نفوس الكافرين عندما يواجهون أعدادا أكثر مما يتوقعون. والحق سبحانه وتعالى يقول: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 13] إن هذه الآية هي خبر تبشيري لكل مؤمن بالنصر، وهي في الوقت نفسه خبر إنذاري لكل كافر بأن الهزيمة سوف تلحق به إن واجه الجماعة المؤمنة. فإياكم أن تقيموا الأمور بمقاييس الأسباب، فالأسباب المطلوبة منكم هي المقدور عليها للبشر وعليكم أن تتركوا تتمة كل ذلك للقدر، فلا تخور الفئة المؤمنة أمام عدد كثير، ولا تغتروا معشر الكفار بأعدادكم الكثيرة؛ فالسابقة أمامكم تؤكد أن عدداً قليلا من المؤمنين قد غلب عددا كثيرا من الكافرين. ومن معاني الآية -أيضا- أن الكافرين يرون المؤمنين مثلى عدد الكافرين، أي ضعف عددهم. ومن معانيها -ثالثا- أن الكافرين يرون المؤمنين ضعف عدد المؤمنين الفعلي. ومن معاني الآية -رابعا- أن يرى المسلمون الكافرين مثليهم، أي مثل المؤمنين مرتين، أي ستمائة نفر وقليلا، وحينئذ يكون عدد الكافرين في عيون المؤمنين أقل من العدد الفعلي لهؤلاء الكافرين. إذن فما حكاية "مِّثْلَيْهِمْ" هذه؟ لقد وعد الله المؤمنين بنصره حين قال: {يأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65]. والنسبة هنا أن المؤمن الواحد يخرج إلى عشرة من الكافرين فيهزمهم، ذلك وعد الله، وحين أراد الله التخفيف قال الحق: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66]. لقد خفف الله النسبة، فواحد من المؤمنين يغلب اثنين من الكافرين. فالمؤمنون موعودون من الله بالغلبة حتى وهم ضعاف. والحق يقول في الآية المبشرة للمؤمنين، المنذرة للكافرين، والتي نحن بصددها الآن: {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ}. ونحن نسمع كلمة "عبرة" كثيرا، والمادة المأخوذة منها تدل على الدخول من مكان إلى مكان، فقال عن ذلك "عُبور"، ونحن في حياتنا العادية نخصص في الشوارع أماكن لعبور المشاة، أي المسافة التي يمكن للمشاة أن ينفذوا منها من ضفة الشارع إلى الضفة الأخرى من الشارع نفسه. وعبور البحر هو النفاذ من شاطئ إلى شاطئ آخر...
إذن فمادة "العبور" تدل على النفاذ من مكان إلى مكان، و "العَبرة" أي الدمعة لأنها تسقط من محلها من العين على الخد. و "العِبارة" أي الجملة التي نتكلم بها، فهي تنتقل من الفم إلى الأذن، وهي عبور أيضا. و "العبير" أي الرائحة الجميلة التي تنتقل من الوردة البعيدة عن الإنسان قليلا لتنفذ إلى أنفه. إذن فمادة "العبور" تدل على "النفاذ". وحين يقول الحق: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً}. أي تنقلكم من أمر قد يخيفكم أيها المؤمنون لأنكم قليل، وهم كثير، إنها تنقلكم إلى نصر الله أيها المؤمنون، وتنقلكم أيها الكافرون إلى الهزيمة برغم كثرة عُدتكم وعَددكم. فالعبرة هي حدث ينقلك من شيء إلى شيء مغاير، كالظالم الذي نرى فيه يوما، ونقول إن ذلك عبرة لنا، أي إنها نقلتنا من رؤيته في الطغيان إلى رؤيته في المهانة...
وهكذا تكون العبرة هي العظة اللافتة والناقلة من حكم إلى حكم قد يستغربه الذهن، فتذييل هذه الآية الكريمة بهذا المعنى هو إيضاح وبيان كامل، فالحق يقول في بداية هذه الآية: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} وتنتهي الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ}. إذن فالعبرة شيء ينقلنا من أمر إلى أمر قد تستغربه الأسباب وذلك إن كنت متروكا لسياسة نفسك، لكن المؤمن ليس متروكا لسياسة نفسه؛ لأن الله لو أراد أن يعذب الكفار بدون مواجهة المؤمنين وحربهم لعذبهم بدون ذلك، ولكن الله يريد أن يكون عذاب الكافرين بأيدي المؤمنين: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 14]...
ولو كان الله يريد أن يعذب الكافرين بغير أيدي المؤمنين لأحدث ظاهرة في الكون تعذبهم، كزلزال يحدث ويدمرهم، ولكن الله يريد أن يعذب الكافرين بأيدي المؤمنين. {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ}، و "الأيد" هو القوة، إذن فهو يريد منك فقط النواة العملية، ثم بعد ذلك يكملها الله بالنصر، "وأيَّده" أي قواه، ويؤيد الله بنصره من يشاء، وتكون العبرة لأولي الأبصار. وقد يقول قائل: أتكون العبرة لأولي الأبصار؛ أم لأولي البصائر؟ وهنا نقول: إن العبرة هنا لأولى الأبصار لأن الأمر الذي تتحدث عنه الآية هو أمر مشهدي، أمر محسوس، فمن له عينان عليه أن يبصر بهما، فإذا كان التفكير والتدبر ليس أمرا موهوبا لكل مخلوق من البشر، فإن البصر موجود للغالبية من الناس، وكل منهم يستطيع أن يفتح عينيه ليرى هذا الأمر المشهدي...
وإذا ما نظرنا إلى المعركة بذاتها وجدنا الدليل الكامل على صدق العبارة؛ فالمؤمنون قلة وعددهم معروف محدود، وعتادهم قليل، ولم يخرجوا بقصد حرب، إنما خرجوا لقصد الاستيلاء على العير المحملة بالأرزاق من طعام وكسوة تعويضا عما اغتصبه المشركون من أموالهم في مكة، ولو أنّهم استولوا على العير فقط لما كان النصر عظيما بالدرجة التي كان عليها؛ لأن العِير عادة لا تسير بعتاد ضخم إنما تحفظ بالحراسة فقط. ولكن الله يريد لهم النصر على ذات الشوكة، أي الطائفة القوية المسلحة، لقد وعدهم الله بالنصر على إحدى الطائفتين: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 7]...
لقد كان وعد الله أن ينصر المؤمنين على إحدى الطائفتين، والأمل البشرى كان يود الانتصار على الطائفة غير ذات الشوكة أي الطائفة غير المسلحة وهي العير، ولكن مثل هذا النصر لا يكون له دَوِيُّ النصر على الطائفة المسلحة، فقد كان من السهل أن يقال: إن محمداً ومن معه تعرضوا لجماعة من التجار لا أسلحة معهم ولا جيش، ولكن الله يريد أن يجعل من هذه المعركة فرقانا وأن يحق الحق. إنكم أيها المؤمنون لم تخرجوا إلاَّ لِقصد العير أي لم يكن استعدادكم كافيا للقتال، أما الكفار فقد جاءوا بالنفير، أي بكل قوتهم فقد ألقت مكة في هذه المعركة بأفلاذ أكبادها. وعندما يأتي النصر من الله للمؤمن في مثل هذه الموقعة فهو نصر حقيقي، ويكون آية غاية في العجب من آيات الله. وتصير عبرة للغير. لذلك نجد العجائب في هذه المعركة -معركة بدر -. الغرائب أنك تجد الأخوين يكون لكل منهما موقف ومجابهة. وتجد الأب والابن لكل منهما موقف ومجابهة برغم عمق الصلة بينهما، فمثلا ابن أبي بكر رضي الله عنه، وكان هذا الابن لم يسلم بعد، وكان في جانب الكفار، وأبوه الصديق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن أسلم ابن أبي بكر يحكي الابن لأبيه بشيء من الامتنان والبر: لقد تراءيت لي يوم بدر فزويت وجهي عنك. فيرد أبو بكر الرد الإيماني الصدِّيقي: والله لو تراءيت لي أنت لقتلتك. وكلا الموقفين منطقي، لماذا؟ لأن ابن أبي بكر حين يلتقي بأبي بكر، ويرى وجه أبيه، فإنه يقارن بين أبي بكر وبين ماذا؟ إنه يقارن بين أبيه وبين باطل، ويعرف تمام العلم أنه باطل، فيرجح عند ابن أبي بكر أبوه، ولذلك يحافظ على أبيه فلا يلمسه. لكنَّ أبا بكر الصديق حينما يقارن فهو يقارن بين الإيمان بالله وابنه، ومن المؤكد أن الإيمان يزيد عند الصديق أبي بكر، فلو رآه يوم بدر لقتله. ولله حكمة فيمن قُتل على أيدي المؤمنين من مجرمي الحرب من قريش، ولله حكمة فيمن أبقى من الكفار بغير قتل؛ لأن هؤلاء مدخرون لقضية إيمانية كبرى سوف يبلون فيها البلاء الحسن. فلو مات خالد بن الوليد في موقعة من المواقع التي كان فيها في جانب الكفر لحزنا نحن المسلمين؛ لأن الله قد ادخره لمعارك إيمانية يكون فيها سيف الله المسلول، ولو مات عكرمة لفقدت أمة الإسلام مقاتلا عبقريا. لقد حزن المسلمون في موقعة بدر لأنهم لم يقتلوا هؤلاء الفرسان؛ لأنهم لم يعلموا حكمة الله في ادخار هؤلاء المقاتلين؛ لينضموا فيما بعد إلى صفوف الإيمان. والله لم يمكِّن مقاتلي المسلمين يوم بدر من المحاربين الذين كانوا على دين قومهم آنئذٍ إلاّ لأن الله قد ادخرهم لمواقع إيمانية قادمة يقفون فيها، ويحاربون في صفوف المؤمنين وهذا نصر جديد. ونرى أبا عزيز وهو شقيق الصحابي مصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبشر بدين الله، ويعلِّم أهل المدينة، وكان مصعب فتى فريش المدلل صاحب ترف، وأمه صاحبة ثراء، وبعد ذلك رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبس جلد شاة بعد أن كان يلبس الحرير، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظروا إلى الإيمان ماذا فعل بصاحبكم". والتقى مصعب في المعركة مع أخيه أبي عزيز، وأبو عزيز على الكفر، ومصعب رضي الله عنه مسلم يقف مع النبي صلى الله عليه وسلم، وحين يرى مصعب رضي الله عنه أخاه أبا عزيز وهو أسير لصحابي اسمه أبو اليسر، فيقول مصعب: يا أبا اليسر اشدد على أسيرك؛ فإن أمه غنية وذات متاع، وستفديه بمال كثير...
فيقول له أخوه أبو عزيز: أهذه وصاتك بأخيك؟ فيقول مصعب مشيراً إلى أبي اليسر: هذا أخي دونك. كانت هذه هي الروح الإيمانية التي تجعل الفئة القليلة تنتصر على أهل الكفر، طاقة إيمانية ضخمة تتغلب على عاطفة الأخوة، وعاطفة الأبوة، وعاطفة البنوة. وقد جعل الله من موقعة بدر آية حتى لا يخور مؤمن وإن قل عدد المؤمنين، أو قلت عُدّتهم، وحتى لا يغتر كافر، وإن كثر عددُ قومه وعتادهم. وقد جعلها الله آية للصدق الإيماني، ولذلك يقال: احرص على الموت توهب لك الحياة. وقد كانت القضية الإيمانية هي التي تملأ نفس المؤمن، إنَّها قضية عميقة متغلغلة في النفوس. ولماذا يتربص الكفار بالمؤمنين؟ إنهم إن تربصوا بهم، فسيدخل المؤمنون الجنة إن قُتِلوا أو ينتصرون على الكفار، وفي ذلك يقول الحق على لسان المؤمنين: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52]. فالظفر هنا بأحد أمرين: إما النصر على الكافرين، وإما الاستشهاد في سبيل الله، ونيل منزلة الشهداء في الجنة وكلاهما جميل. والمؤمنون يتربصون بالكافرين، إما أن يصيب الله الكفار بعذاب من عنده، وإما أن يصيبهم بأيدي المؤمنين. إنها معادلة إيمانية واضحة جلية...