27- وإن حب الاعتداء في طبيعة بعض الناس ، فاقرأ - أيها النبي - على اليهود - وأنت صادق - خبر هابيل وقابيل ابني آدم ، حين تقرَّب كل منهما إلى الله بشيء ، فتقبل الله قربان أحدهما لإخلاصه ، ولم يتقبل من الآخر لعدم إخلاصه ، فحسد أخاه وتوعده بالقتل حقداً عليه ، فرد عليه أخوه مبيناً له أن الله لا يتقبل العمل إلا من الأتقياء المخلصين في تقربهم .
وبعد أن ساق - سبحانه - جوانب متعددة من أحوال أهل الكتاب وما جبلوا عليه من أخلاق سيئة ، أتبع ذلك بقصة ابنى آدم ، فقال - تعالى - :
{ واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابني ءَادَمَ بالحق إِذْ . . . }
قال أبو حيان " مناسبة هذه الآيات لما قبلها ، هو أن الله لما ذكر تمرد بني إسرائيل وعصيانهم أمره في النهوض لقتال الجبارين ، أتبع ذلك بذكر قصة ابني آدم وعصيان قابيل أمر الله ، وأنهم اقتفوا في العصيان أول عاص لله وأنهم انتهوا في خور الطبيعة . وهلع النفوس والجبن والفزع إلى غاية بحيث قالوا لنبيهم الذي ظهرت على يديه خوارق عظيمة - { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } وانتهى قابيل إلى طرف نقيض منه من الجسارة والعتو بأن أقدم على أكبر المعاصي بعد الشرك وهو قتل النفس التي حرم الله قتلها ، بحيث كان أول من سن القتل ، وكان عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة . فاشتبهت القصتان من حيث الجبن عن القتل والإِقدام عليه . ومن حيث المعصية بهما وأيضاً فتقدم قوله في أوائل الآيات :
{ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } وتبين أن عدم اتباع بني إسرائيل للنبي صلى الله عليه وسلم إنما سببه الحسد ، وقصة بني آدم انطوت على الحسد : وأن بسببه وقعت أول جريمة قتل على ظهر الأرض .
وقوله : ( واتل ) من التلاوة . وأصل التلاوة القراءة المتتابعة الواضحة في مخارج حروفها .
وفي النطق بها . والمراد بابني آدم : ولداه وهما قابيل وهابيل .
قال القرطبي : واختلف في ابني آدم . فقال الحسن البصري : ليسا من صلبه كانا رجلين من بني إسرائيل - ضرب الله بهما المثل في إبانة حسد اليهود - وكان بينهما خصومة ، فتقربا بقربانين ، ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل قال ابن عطية : وهذا وهم ، وكيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل يقتدى بالغراب ؟ والصحيح أنهما ابناه لصلبه . هذا قول الجمهور من المفسرين وهما قابيل وهابيل .
والضمير في قوله : ( عليهم ) يعود على بني إسرائيل الذين سبق الحديث عنهم . أو على جميع الذين أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم لهدايتهم ويدخل فيه بنو إسرائيل دخولا أولياً ، لإعلامهم بما هو في كتبهم حيث وردت هذه القصة في التوراة .
وقوله ( بالحق ) متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر ( اتل ) أي : اتل عليهم تلاوة ملتبسة بالحق والصدق . والقربان : اسم لما يتقرب به إلى الله - تعالى - من صدقة أو غيرها . ويطلق في أكثر الأحوال على الذبائح التي يتقرب إلى الله - بذبحها .
قال أبو حيان : وقد طول المفسرون في سبب تقريب هذا القربان - من قابيل وهابيل - وملخصه : أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى ، وكان آدم يزوج ذكر هذا البطن أنثى ذلك البطن الآخر . ولا يحل للذكر نكاح توأمته : فولد مع قابيل أخت جميلة ، وولد مع هابيل أخت دون ذلك .
فأبى قابيل إلا أن يتزوج توأمته لا توأمه هابيل ، وأن يخالف سنة النكاح ونازع قابيل وهابيل في ذلك ، فاتفقا على أن يقدما قربانا - فأيهما قبل قربانه تزوجها ، والقربان الذي قرباه هو زرع لقابيل - وكان صاحب زرع - وكبش هابيل - وكان صاحب غنم - فتقبل من أحدهما وهو هابيل ولم يتقبل من الآخر وهو قابيل . وكانت علامة التقبل أن تأكل نار نازلة من السماء القربان المتقبل وتترك غير المتقبل .
والمعنى : واتل - يا محمد - على هؤلاء الحسدة من اليهود ، وعلى الناس جميعا قصة قابيل وهابيل ، وقت أن قربا قرباناً لله - تعالى - فتقبل الله - عز وجل - قربان أحدهما - وهو هابيل - لصدقة وإخلاصه ، ولم يتقبل من الآخر - وهو قابيل - بسوء نيته وعدم تقواه .
ثم حكى - سبحانه - ما دار بين الأخوين من حوار فقال : { قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ } أي قال قابيل متوعدا أخاه هابيل : لأقتلنك بسبب قبول قربانك ، دون قرباني ، فأنت ترى أن هذا الأخ الظالم قد توعد أخاه بالقتل - وهو من أكبر الكبائر . دون أن يقيم للأخوة التي بينهما وزنا ودون أن يهتم بحرمة الدماء وبحق غيره في الحياة والذي حمله على ذلك الحسد له على مزية القبول .
وقد أكد تصميمه على قتله لأخيه بالقسم المطوي في الكلام والذي ، تدل عليه اللام . ونون التوكيد الثقيلة أي والله لأقتلنك بسبب قبول قربانك .
وهنا يحكي القرآن الكريم ما رد به الأخ البار التقي هابيل على أخيه الظالم الحساد قابيل ، فيقول : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } .
أي : قال هابيل لقابيل ناصحا ومرشداً : إنما يتقبل الله الأعمال والصدقات من عباده المتقين الذين يخشونه في السر والعلن ؛ وليس من سواهم من الظالمين الحاسدين لغيرهم على ما آتاهم الله من نعم ، فعليك أن تكون من المتقين لكي يقبل منك الله .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف كان قوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } جوابا لقوله : { لأَقْتُلَنَّكَ } ؟ قلت : لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له : إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى ، لا من قبلي ، فلم تقتلني ؟ ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول ؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان . وفيه دليل على أن الله - تعالى - لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق .
( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق : إذ قربا قربانا ، فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال : لأقتلنك . قال : إنما يتقبل الله من المتقين . لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ، إني أخاف الله رب العالمين : إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار ، وذلك جزاء الظالمين . فطوعت له نفسه قتل أخيه ، فقتله ، فأصبح من الخاسرين . فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ، ليريه كيف يواري سوأة أخيه . قال : يا ويلتى ! أعجزت أن أكون مثل هذا >الغراب ، فأواري سوأة أخي ؟ فأصبح من النادمين ) . . .
هذه القصة تقدم نموذجا لطبيعة الشر والعدوان ؛ ونموذجا كذلك من العدوان الصارخ الذي لا مبرر له . كما تقدم نموذجا لطبيعة الخير والسماحة ؛ ونموذجا كذلك من الطيبة والوداعة . وتقفهما وجها لوجه ، كل منهما يتصرف وفق طبيعته . . وترسم الجريمة المنكرة التي يرتكبها الشر ، والعدوان الصارخ الذي يثير الضمير ؛ ويثير الشعور بالحاجة إلى شريعة نافذة بالقصاص العادل ، تكف النموذج الشرير المعتدي عن الاعتداء ، وتخوفه وتردعه بالتخويف عن الإقدام على الجريمة ؛ فإذا ارتكبها - على الرغم من ذلك - وجد الجزاء العادل ، المكافى ء للفعلة المنكرة . كما تصون النموذج الطيب الخير وتحفظ حرمة دمه . فمثل هذه النفوس يجب أن تعيش . وأن تصان ، وأن تأمن ؛ في ظل شريعة عادلة رادعة .
ولا يحدد السياق القرآني لا زمان ولا مكان ولا أسماء القصة . . وعلى الرغم من ورود بعض الآثار والروايات عن : " قابيل وهابيل " وأنهما هما ابنا آدم في هذه القصة ؛ وورود تفصيلات عن القضية بينهما ، والنزاع على أختين لهما . . فإننا نؤثر أن نستبقي القصة - كما وردت - مجملة بدون تحديد . لأن هذه الروايات كلها موضع شك في أنها مأخوذة عن أهل الكتاب - والقصة واردة في العهد القديم محددة فيها الأسماء والزمان والمكان على النحو الذي تذكره هذه الروايات - والحديث الوحيد الصحيح الوارد عن هذا النبأ لم يرد فيه تفصيل . وهو من رواية ابن مسعود قال : قال رسول الله [ ص ] : " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ، لأنه كان أول من سن القتل " . . [ رواه الإمام أحمد في مسنده ] : حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا : حدثنا الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن عبدالله بن مسعود . . وأخرجه الجماعة - سوى أبى داود - من طرق عن الأعمش . . وكل ما نستطيع أن نقوله هو أن الحادث وقع في فترة طفولة الإنسان ، وأنه كان أول حادث قتل عدواني متعمد ، وأن الفاعل لم يكن يعرف طريقة دفن الجثث . .
وبقاء القصة مجملة - كما وردت في سياقها القرآني - يؤدي الغرض من عرضها ؛ ويؤدي الإيحاءات كاملة ؛ ولا تضيف التفصيلات شيئا إلى هذه الأهداف الأساسية . . لذلك نقف نحن عند النص العام لا نخصصه ولا نفصله . .
( واتل عليهم نبأ ابني آدم - بالحق - إذ قربا قربانا ، فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر . قال : لأقتلنك . قال : إنما يتقبل الله من المتقين ) . .
واتل عليهم نبأ هذين النموذجين من نماذج البشرية - بعدما تلوت من قصة بني إسرائيل مع موسى - اتله عليهم بالحق . فهو حق وصدق في روايته ، وهو ينبى ء عن حق في الفطرة البشرية ؛ وهو يحمل الحق في ضرورة الشريعة العادلة الرادعة .
إن ابني آدم هذين في موقف لا يثور فيه خاطر الاعتداء في نفس طيبة . فهما في موقف طاعة بين يدي الله . موقف تقديم قربان ، يتقربان به إلى الله :
( فتقبل من أحدهما ، ولم يتقبل من الآخر ) . .
والفعل مبني للمجهول ؛ ليشير بناؤه هكذا إلى أن أمر القبول أو عدمه موكول إلى قوة غيبية ؛ وإلى كيفية غيبية . . وهذه الصياغة تفيدنا أمرين : الأول ألا نبحث نحن عن كيفية هذا التقبل ولا نخوض فيه كما خاضت كتب التفسير في روايات نرجح إنها مأخوذة عن أساطير " العهد القديم " . . والثاني الإيحاء بأن الذي قبل قربانه لا جريره له توجب الحفيظة عليه وتبييت قتله ، فالأمر لم يكن له يد فيه ؛ وإنما تولته قوة غيبية بكيفية غيبية ؛ تعلو على إدراك كليهما وعلى مشيئته . . فما كان هناك مبرر ليحنق الأخ على أخيه ، وليجيش خاطر القتل في نفسه ! فخاطر القتل هو أبعد ما يرد على النفس المستقيمة في هذا المجال . . مجال العبادة والتقرب ، ومجال القدرة الغيبية الخفية التي لا دخل لإرادة أخيه في مجالها . .
وهكذا يبدو هذا القول - بهذا التأكيد المنبى ء عن الإصرار - نابيا مثيرا للاستنكار لأنه ينبعث من غير موجب ؛ اللهم إلا ذلك الشعور الخبيث المنكر . شعور الحسد الأعمى ؛ الذي لا يعمر نفسا طيبة . .
وهكذا نجدنا منذ اللحظة الأولى ضد الاعتداء : بإيحاء الآية التي لم تكمل من السياق . .
ولكن السياق يمضي يزيد هذا الاعتداء نكارة وبشاعة ؛ بتصوير استجابة النموذج الآخر ؛ ووداعته وطيبة قلبه :
( قال : إنما يتقبل الله من المتقين ) .
هكذا في براءة ترد الأمر إلى وضعه وأصله ؛ وفي إيمان يدرك أسباب القبول ؛ وفي توجيه رفيق للمعتدي أن يتقي الله ؛ وهداية له إلى الطريق الذي يؤدي إلى القبول ؛ وتعريض لطيف به لا يصرح بما يخدشه أو يستثيره . .
يقول تعالى مبينا وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني{[9587]} آدم لصلبه - في قول الجمهور - وهما هابيل وقابيل كيف عدا أحدهما على الآخر ، فقتله بغيا عليه وحسدا له ، فيما وهبه الله من النعمة وتَقَبّل القربان الذي أخلص فيه لله عز وجل ، ففاز المقتول بوضع الآثام والدخول إلى الجنة ، وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة ، فقال تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ } أي : واقصص على هؤلاء البغاة الحسدة ، إخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم - خبر ابني{[9588]} آدم ، وهما هابيل وقابيل فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف .
وقوله : { بِالْحَقِّ } أي : على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب ، ولا وَهْم ولا تبديل ، ولا زيادة ولا نقصان ، كما قال تعالى : { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقّ } [ آل عمران : 62 ] وقال تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ } [ الكهف : 13 ] وقال تعالى : { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ]{[9589]} } [ مريم : 34 ]
وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف ، أن الله تعالى قد شرع لآدم ، عليه السلام ، أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال ، ولكن قالوا : كان يُولَد له في كل بطن ذكر وأنثى ، فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر ، وكانت أخت هابيل دَميمةً ، وأخت قابيل وضيئةً ، فأراد أن يستأثر بها على أخيه ، فأبى آدم ذلك إلا أن يقربا قربانًا ، فمن تقبل منه فهي له ، فقربا فَتُقُبِّل من هابيل ولم يتَقَبَّل من قابيل ، فكان من أمرهما ما قص الله في كتابه .
قال السُّدي - فيما ذكر - عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية ، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر ، حتى ولد له ابنان يقال لهما : قابيل وهابيل{[9590]} وكان قابيل صاحب زرع ، وكان هابيل صاحب ضَرع ، وكان قابيل أكبرهما ، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل ، وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل ، فأبى عليه وقال : هي أختي ، ولدت معي ، وهي أحسن من أختك ، وأنا أحق أن أتزوج بها . فأمره أبوه أن يزوجها هابيل ، فأبى ، وأنهما قربا قربانا إلى الله عز وجل أيهما أحق بالجارية ، وكان آدم ، عليه السلام ، قد غاب عنهما ، أتى{[9591]} مكة ينظر إليها ، قال الله عز وجل : هل تعلم أن لي بيتا في الأرض ؟ قال : اللهم لا قال : إن لي بيتا في مكة{[9592]} فأته . فقال آدم للسماء : احفظي ولدي بالأمانة ، فأبت . وقال للأرض ، فأبت . وقال للجبال ، فأبت . فقال{[9593]} لقابيل ، فقال : نعم ، تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك فلما انطلق آدم قَربا قربانا ، وكان قابيل يفخر عليه ، فقال : أنا أحق بها منك ، هي أختي ، وأنا أكبر منك ، وأنا وصي والدي . فلما قَربا ، قرب هابيل جَذعَة سمنة ، وقرب قابيل حَزْمَة سنبل ، فوجد فيها سنبلة عظيمة ، ففركها فأكلها . فنزلت النار فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل ، فغضب وقال : لأقتلنك حتى لا تنكح أختي . فقال هابيل : إنما يتقبل الله من المتقين . رواه ابن جرير . {[9594]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، أخبرني ابن خُثَيْم قال : أقبلت مع سعيد بن جبير فحدثني عن ابن عباس قال : نهي أن تنكح المرأة أخاها تَوْأمها ، وأمر أن ينكحها غيره من إخوتها ، وكان يولد له في كل بطن رجل{[9595]} وامرأة ، فبينما هم كذلك ولد له امرأة وضيئة ، وولد له أخرى قبيحة دميمة ، فقال أخو الدميمة : أنكحني أختك وأنكحك أختي . قال : لا أنا أحق بأختي فقربا قربانا ، فتقبل من صاحب الكبش ، ولم يتقبل من صاحب الزرع ، فقتله . إسناد جيد .
وحدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قوله { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا } فقربا قربانهما ، فجاء صاحب الغنم بكبش أعْين أقرن أبيض ، وصاحب الحرث بصَبرة من طعام ، فقبل{[9596]} الله الكبش فخزنه في الجنة أربعين خريفا ، وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم صلى الله عليه وسلم{[9597]} إسناد جيد .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بَشَّار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا عَوْف ، عن أبي المغيرة ، عن عبد الله بن عمرو{[9598]} قال : إن ابني آدم اللذين قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ، كان أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم ، وإنهما{[9599]} أمرا أن يقربا قربانا ، وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنَها وأحسنها ، طيبة بها نفسه ، وإن صاحب الحرث قرب أشَرَّ حرثه الكودن والزُّوان غير طيبة بها نفسه ، وإن الله ، عز وجل ، تقبل قربان صاحب الغنم ، ولم يتقبل قربان صاحب الحرث ، وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه ، قال : وايم الله ، إن كان المقتول لأشد الرجلين ، ولكن منعه التحرج أن يبسط [ يده ]{[9600]} إلى أخيه .
وقال إسماعيل بن رافع المدني القاص : بلغني أن ابني آدم لما أمرا بالقربان ، كان أحدهما صاحب غَنَم ، وكان أنْتج له حَمَل في غنمه ، فأحبه حتى كان يؤثره بالليل ، وكان يحمله على ظهره من حبه ، حتى لم يكن له مال أحب إليه منه . فلما أمر بالقربان قربه لله ، عز وجل ، فقبله{[9601]} الله منه ، فما زال يرتع في الجنة حتى فَدى به ابن إبراهيم ، عليه السلام . رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الأنصاري ، حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ، حدثنا محمد بن علي بن الحسين قال : قال آدم ، عليه السلام ، لهابيل وقابيل : إن ربي عهد إلي أنه كائن من ذريتي من يُقَرِّب القربان ، فقربا قربانا حتى تَقَر عيني إذا تُقُبّل قربانكما ، فقربا . وكان هابيل صاحب غنم فقرب أكُولة غنمه ، خَيْر ماله ، وكان قابيل صاحب زرع ، فقرب مشاقة{[9602]} من زرعه ، فانطلق آدم معهما ، ومعهما قربانهما ، فصعدا الجبل فوضعا قربانهما ، ثم جلسوا ثلاثتهم : آدم وهما ، ينظران إلى القربان ، فبعث الله نارًا حتى إذا كانت فوقهما دنا منها عنق ، فاحتمل قربان هابيل وترك قربان قابيل ، فانصرفوا . وعلم آدم أن قابيل مسخوط عليه ، فقال : ويلك يا قابيل رد عليك قربانك . فقال قابيل : أحببتَه فصليتَ على قربانه ودعوت له فتُقُبل قربانه ، ورد عليَّ قرباني . وقال قابيل لهابيل : لأقتلنك فأستريح منك ، دعا لك أبوك فصلى على قربانك ، فتقبل منك . وكان{[9603]} يتواعده بالقتل ، إلى أن احتبس هابيل ذات عشية في غنمه ، فقال آدم : يا قابيل ، أين أخوك ؟ [ قال ]{[9604]} قال : وبَعثتني له راعيا ؟ لا أدري . فقال [ له ]{[9605]} آدم : ويلك يا قابيل . انطلق فاطلب أخاك . فقال قابيل في نفسه : الليلة أقتله . وأخذ معه حديدة فاستقبله وهو منقلب ، فقال : يا هابيل ، تقبل قربانك ورد علي قرباني ، لأقتلنك . فقال هابيل : قربتُ أطيب مالي ، وقربتَ أنت أخبث مالك ، وإن الله لا يقبل{[9606]} إلا الطيب ، إنما يتقبل الله من المتقين ، فلما قالها غضب قابيل فرفع الحديدة وضربه{[9607]} بها ، فقال : ويلك يا قابيل أين أنت من الله ؟ كيف يجزيك بعملك ؟ فقتله فطرحه في جَوْبة{[9608]} من الأرض ، وحثى عليه شيئًا من التراب . {[9609]}
وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : إن آدم أمر ابنه قينًا{[9610]} أن ينكح أخته تَوأمة هابيل ، وأمر هابيل أن ينكح أخته توأمة قين ، فسلم لذلك هابيل ورضي ، وأبى ذلك قين وكره ، تكرما عن أخت هابيل ، ورغب بأخته عن هابيل ، وقال : نحن ولادة الجنة ، وهما من ولادة{[9611]} الأرض ، وأنا أحق بأختي - ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول : كانت أخت قين من أحسن الناس ، فَضَنّ بها عن أخيه وأرادها لنفسه ، فالله{[9612]} أعلم أي ذلك كان - فقال له أبوه : يا بني ، إنها لا تحل لك ، فأبى قابيل{[9613]} أن يقبل ذلك من قول أبيه . فقال له أبوه : يا بني ، قرب{[9614]} قربانا ، ويقرب أخوك هابيل قربانا ، فأيكما تُقُبِّل{[9615]} قربانه فهو أحق بها ، وكان قين على بَذْر الأرض ، وكان هابيل على رعاية الماشية ، فقرب قين قمحا ، وقرب هابيل أبكارا من أبكار غنمه - وبعضهم يقول : قرب بقرة - فأرسل الله نارا بيضاء ، فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قين ، وبذلك كان يُقْبَل{[9616]} القربان إذا{[9617]} قبله . رواه ابن جرير .
وقال العَوْفِيُّ ، عن ابن عباس قال : كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يُتَصَدّق عليه ، وإنما كان القربان يقربه الرجل . فبينا{[9618]} ابنا آدم قاعدان إذ قالا لو قربنا قربانا وكان الرجل إذا قرب قربانا فرضيه{[9619]} الله ، أرسل إليه نارا فتأكله{[9620]} وإن لم يكن رضيه الله خَبَت النار ، فقربا قربانا ، وكان أحدهما راعيا ، وكان الآخر حَرّاثا ، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها ، وقرب الآخر بعض زرعه ، فجاءت النار فنزلت بينهما ، فأكلت الشاة وتركت الزرع ، وإن ابن آدم قال لأخيه : أتمشي في الناس وقد علموا أنك قَرّبت قربانا فَتُقُبِّل منك وَرُدّ عليَّ ؟ فلا والله لا ينظر الناس إليك وإليَّ وأنت خير مني . فقال : لأقتلنك . فقال له أخوه : ما ذنبي ؟ إنما يتقبل الله من المتقين . رواه ابن جرير .
فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لا عن سبب ولا عن تدارئ في امرأة ، كما تقدم عن جماعة مَنْ تقدم ذكرهم ، وهو ظاهر القرآن : { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } فالسياق يقتضي إنه إنما غضب عليه وحسده لقبول قربانه دونه .
ثم المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل ، وأن الذي قرب الطعام هو قابيل ، وأنه تُقُبل من هابيل شاته ، حتى قال ابن عباس وغيره : إنه الكبش الذي فدي به الذبيح ، وهو مناسب ، والله أعلم ، ولم يتقبل من قابيل . كذلك نص عليه غير واحد من السلف والخلف ، وهو المشهور عن مجاهد أيضًا ، ولكن روى ابن جرير ، عنه أنه قال : الذي قرب الزرع قابيل ، وهو المتقبل منه ، وهذا خلاف المشهور ، ولعله لم يحفظ عنه جيدا والله أعلم .
ومعنى{[9621]} قوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } أي : ممن اتقى الله في فعله ذلك .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن العلاء بن زبريق ، حدثنا إسماعيل بن عَيَّاش ، حدثني صَفْوان بن{[9622]} عمرو ، عن تَمِيم ، يعني ابن مالك المقري ، قال : سمعت أبا الدرداء يقول : لأن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إليّ من الدنيا وما فيها ، إن الله يقول : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }
وحدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن عمران ، حدثنا إسحاق بن سليمان - يعني الرازي - عن المغيرة بن مسلم ، عن ميمون بن أبي حمزة قال : كنت جالسًا عند أبي وائل ، فدخل علينا رجل - يقال له : أبو عفيف ، من أصحاب معاذ - فقال له شقيق بن سلمة : يا أبا عفيف ، ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل ؟ قال : بلى ، سمعته يقول : يحبس الناس في بقيع واحد ، فينادي مناد : أين المتقون ؟ فيقومون في كَنَف من الرحمن ، لا يحتجب الله منهم{[9623]} ولا يستتر . قلت : من المتقون ؟ قال : قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان ، وأخلصوا العبادة ، فيمرون إلى الجنة .
{ واتل عليهم نبأ ابني آدم } قابيل وهابيل ، أوحى الله سبحانه وتعالى إلى آدم أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر ، فسخط منه قابيل لأن توأمته كانت أجمل ، فقال لهما آدم : قربا قربانا فمن أيكما قبل تزوجها ، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته ، فازداد قابيل سخطا وفعل ما فعل . وقيل لم يرد لهما ابني آدم لصلبه وأنهما رجلان من بني إسرائيل ولذلك قال : { كتبنا على بني إسرائيل } . { بالحق } صفة مصدر محذوف أي تلاوة ملتبسة بالحق ، أو حال من الضمير في اتل ، أو من نبأ أي ملتبسا بالصدق موافقا لما في كتب الأولين { إذ قربا قربانا } ظرف لنبأ ، أو حال منه ، أو بدل على حذف مضاف أي واتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت ، والقربان اسم ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى من ذبيحة أو غيرها ، كما أن الحلوان اسم ما يحلى به أي يعطى ، وهو في الأصل مصدر ولذلك لم يثن وقيل تقديره إذ قرب كل واحد منهما قربانا . قيل كان قابيل صاحب زرع وقرب أردأ قمح عنه ، وهابيل صاحب ضرع وقرب جملا سمينا . { فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر } لأنه سخط حكم الله سبحانه وتعالى ولم يخلص النية في قربانه وقصد إلى أخس ما عنده . { قال لأقتلنك } نوعده بالقتل لفرط الحسد له على تقبل قربانه ولذلك . { قال إنما يتقبل الله من المتقين } في جوابه أي إنما أتيت من قبل نفسك بترك التقوى لا من قبلي فلم تقتلني ، وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظا ، لا في إزالة حظه فإن ذلك مما يضره ولا ينفعه ، وأن الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متق .
عَطَفَ نبأ على نبإ ليكون مقدّمة للتحذير من قَتْل النفس والحِرابة والسرقة ، ويتبع بتحريم الخمر وأحكام الوصية وغيرها ، وليحسن التخلّص ممّا استطرد من الأنباء والقصَص التي هي مواقع عبرة وتُنْظم كلّها في جرائر الغرور . والمناسبةُ بينها وبين القصّة الّتي قبلها مناسبة تماثل ومناسبة تضادّ . فأما التماثل فإنّ في كلتيهما عدم الرضا بما حكم الله تعالى : فإنّ بني إسرائيل عصوا أمر رسولهم إيّاهم بالدخول إلى الأرض المقدّسة ، وأحدَ ابني آدم عصى حكم الله تعالى بعدم قبول قربانه لأنّه لم يكن من المتّقين . وفي كلتيهما جرأة على الله بعد المعصيّة ؛ فبنو إسرائيل قالوا : { اذهب أنت وربّك } [ المائدة : 24 ] ، وابن آدم قال : لأقتلنّ الّذي تقبّل الله منه . وأمّا التّضادّ فإنّ في إحداهما إقداماً مذموماً من ابن آدم ، وإحجاماً مذموماً من بني إسرائيل ، وإنّ في إحداهما اتّفاق أخوين هما موسى وأخوه على امتثال أمر الله تعالى ، وفي الأخرى اختلافَ أخوين بالصّلاح والفساد .
ومعنى { ابني آدم } هنا ولداه . وأمّا ابن آدم مفرداً فقد يراد به واحد من البشر نحو : « يَا بْن آدم إنّك ما دعوتني ورجوتَني غَفَرْتُ لك » ، أو مجموعاً نحو { يا بني آدم خذوا زينتكم } [ الأعراف : 31 ] .
والباء في قوله : { بالحقّ } للملابسة متعلِّقاً ب { اتْلُ } . والمراد من الحقّ هنا الصدق من حقّ الشّيء إذا ثبت ، والصدق هو الثّابت ، والكذب لا ثبوت له في الواقع ، كما قال : { نحن نقصّ عليك نبأهم بالحقّ } [ الكهف : 13 ] . ويصحّ أن يكون الحقّ ضدّ الباطل وهو الجدّ غير الهزل ، أي اتْلُ هذا النبأ متلبّساً بالحقّ ، أي بالغرض الصّحيح لا لمجرد التفكّه واللّهو . ويحتمل أن يكون قوله { بالحق } مشيراً إلى ما خفّ بالقصة من زيادات زادها أهل القصص من بني إسرائيل في أسباب قتل أحد الأخوين أخاه .
{ وإذ } ظرف زمان ل { نبأ } ، أي خبرهما الحاصل وقت تقريبهما قُرباناً ، فينتصب ( إذ ) على المفعول فيه .
وفِعْلُ { قرّبا } هنا مشتقّ من القُرْبان الذي صار بمنزلة الاسم الجامد ، وأصله مصدر كالشُّكران والغفران والكُفران ، يسمّى به ما يتقرّب به المرء إلى ربّه من صدقة أو نُسك أو صلاة ، فاشتقّ من القرآن قرّب ، كما اشتقّ من النُّسك نَسَكَ ، ومن الأضحيّة ضَحَّى ، ومن العقيقة عَقّ . وليس { قرّبا } هنا بمعنى أدْنَيَا إذ لا معنى لذلك هنا .
وفي التّوراة هما ( قايين ) والعرب يسمّونه قَابِيل وأخوه ( هَابِيل ) . وكان قابيل فلاّحاً في الأرض ، وكان هابيل راعياً للغنم ، فقرّب قابيل من ثمار حرْثه قُرباناً وقرّب هابيل من أبكار غنمه قرباناً . ولا ندري هل كان القربان عندهم يعطى للفقراء ونحوهم أو كان يترك للنّاس عامّة . فتقبّل الله قربان هَابيل ولم يتقبّل قربان قابيل . والظاهر أنّ قبول قربان أحدهما دون الآخر حصل بوحي من الله لآدم .
وإنّما لم يتقبّل الله قربان قابيل لأنّه لم يكن رجلاً صالحاً بل كانت له خطايا . وقيل : كان كافراً ، وهذا ينافي كونهُ يُقرّب قرباناً .
وأفرد القربان في الآية لإرادة الجنس ، وإنّما قرّب كلّ واحد منهما قرباناً وليس هو قرباناً مشتركاً . ولم يسمّ الله تعالى المتقبَّل منه والّذي لم يتقبّل منه إذ لا جدوى لذلك في موقع العبرة . وإنّما حَمَله على قتل أخيه حسَده على مزيّة القبول . والحسد أوّل جريمة ظهرت في الأرض .
وقوله في الجواب { إنّما يتقبّل الله من المتّقين } موعظة وتعريض وتنصّل ممّا يوجب قتله . يقول : القبول فعل الله لا فعل غيره ، وهو يتقبّل من المتّقي لا من غيره . يعرّض به أنّه ليس بتَقِي ، ولذلك لم يتقبّل الله منه . وآية ذلك أنّه يضمر قتل النفس . ولذا فلا ذَنب ، لمن تقبّل الله قربانه ، يستوجبُ القتلَ . وقد أفاد قول ابن آدم حصرَ القبول في أعمال المتّقين . فإذا كان المراد من المتّقين معناه المعروف شرعاً المحكي بلفظه الدالّ عليه مراد ابن آدم كان مفاد الحصر أنّ عمل غير المتّقي لا يقبل ؛ فيحتمل أنّ هذا كان شريعتهم ، ثمّ نسخ في الإسلام بقبول الحسنَات من المؤمن وإن لم يكن متّقياً في سائر أحواله ؛ ويحتمل أنْ يراد بالمتّقين المخلصون في العمل ، فيكون عدم القبول أمارة على عدم الإخلاص ، وفيه إخْراج لفظ التّقوى عن المتعارف ؛ ويحتمل أن يريد بالتقبّل تقبّلاً خاصّاً ، وهو التّقبل التّامّ الدالّ عليه احتراق القربان ، فيكون على حدّ قوله تعالى : { هُدى للمتّقين } [ البقرة : 2 ] ، أي هدى كاملاً لهم ، وقوله : { والآخرة عند ربّك للمتّقين } [ الزخرف : 35 ] ، أي الآخرة الكاملة ؛ ويحتمل أن يريد تقبّل القرابين خاصّة ؛ ويحتمل أن يراد المتّقّين بالقربان ، أي المريدين به تقوى الله ، وأنّ أخاه أراد بقربانه بأنّه المباهاة . ومعنى هذا الحصر أنّ الله لا يتقبّل من غير المتّقين وكان ذلك شرعَ زمانهم .