150- والتزم أمر الله في القبلة واحرص عليه أنت وأمتك ، فاجعل وجهك في ناحية المسجد الحرام من كل مكان خرجت إليه في أسفارك ، واستقبلوه حيثما كنتم من أقطار الأرض مسافرين أو مقيمين ، لينقطع ما يحاجّكم به المخالفون ويجادلونكم به ، وإذا لم تمتثلوا لأمر هذا التحويل فسيقول اليهود : كيف يصلي محمد إلى بيت المقدس والنبي المنعوت في كتبنا من أوصافه التحول إلى الكعبة ؟ وسيقول المشركون العرب كيف يدعى ملة إبراهيم ويخالف قبلته ؟ على أن الظالمين الزائغين عن الحق من الجانبين لن ينقطع جدالهم وضلالهم ، بل سيقولون : ما تحوَّل إلى الكعبة إلا مَيْلا إلى دين قومه وحباً لبلده ، فلا تبالوا بهم فإن مطاعنهم لا تضركم ، وَاخْشَوْنِ فلا تخالفوا أمري ، وقد أردنا بهذا الأمر أن نتم النعمة عليكم وأن تكون هذه القبلة التي وجهناكم إليها أدعى إلى ثباتكم على الهداية والتوفيق .
ثم كرر- سبحانه- الأمر للمؤمنين بأن يتجهوا في صلاتهم إلى المسجد الحرام فقال : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } .
أي : ومن أي مكان خرجت - يا محمد - فول وجهك تلقاء المسجد الحرام ، وأينما كنتم أيها المؤمنون من أرض الله ، فولوا وجوهكم في صلاتكم تجاهه ونحوه .
وتلك هي المرة الثالثة التي تكرر فيها الأمر للمؤمنين بالتوجه إلى المسجد الحرام في صلاتهم ، وهذا التكرير لتأكيد أمر القبلة وتشديده لأن تحول القبلة كان أول نسخ في الإِسلام - كما قال كثير من العلماء - فاقتضى الأمر تأكيده في نفوس المؤمنين حتى يستقر في مشاعرهم ، ويذهب ما يثار حولها من شبهات أدراجح الرياح ، ولأن الله - تعالى - أنط بكل واحد من هذه الأوامر الثلاثة بالتحول ما لم ينط بالآخر من أحكام فاختلفت فوائدها ، فكأنه - سبحانه - يقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين .
الزموا هذه القبلة لأنهاه هي القبلة التي ترضونها وترغبون فيها وطالما تمنيتموها ، والزموها - أيضاً - لأنها هي القبلة التي لن تنسخ بعد ذلك .
والزموها - كذلك - لأن لزومكم إياها يقطع حجة اليهود الجاحدين ، وغيرهم من المعاندين والخاسرين .
وقد اقترن هذا الأمر الثالث بالتوجه إلى المسجد الحرام في هذا الآية الكريمة بحكم ثلاث .
أولها : قوله تعالى : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني } والمراد من الناس اليهود ومن لف لفهم من المناوئين للدعوة الإِسلامية .
والمعنى عليك - أيها النبي - ومن معك من المؤمنين أن تتجهوا في صلاتكم إلى الكعبة المشرفة ، لكي تقطعوا دابر فتنة اليهود وحجتهم فقد قالوا لكم وقت اتجاهكم إلى بيت المقدس .
إذا كان لكم أيها المسلمون دين يخالف ديننا فلماذا تتجهون إلى قبلتنا ، إلى غير ذلك من أقوالهم الفاسدة فاتجاهكم إلى المسجد الحرام من شأنه أن يزيل هذه الحجة التي قد تبدو مقبولة في نظر ضعاف العقول .
وقوله تعالى : { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } استثناء من الناس ، والمعنى :
لئلا يكون لأحد من اليهود حجة عليكم ، إلا المعاندين منهم القائلين : ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا حباً لدين قومه ، واشتياقاً لمكة ، وهؤلاء لا تخافون مطاعنهم بل اجعلوا خوفكم منى وحدي ولا تقيموا لما يشاغبون به في أمر القبلة وغيره وزنا ، فإني كفيل أن أرد عنكم كيدكم وأحبط سعيهم ، فأنتم ، أيها المؤمنون - ما توجهتهم إلى بيت المقدس ثم إلى المسجد الحرام إلا بإذن ربكم وأمره ، ففي الحالتين أنتم مطيعون لخالقكم - عز وجل - .
وقد أحسن صاحب الكشاف في شرحه للجملة الكريمة ، وصرح بأنه يجوز أن يراد بالناس وبالذين ظلموا مشركوا العرب فقال :
{ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } استثناء من الناس ، ومعناه : لئلا يكون حجة لأحد من اليهود إلا المعاندين منهم ، القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحباً لبلده ، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء قبله ، فإن قلت : أي حجة كانت تكون للمنصفين منهم لو لم يحول حتى احترز من تلك الحجة ، ولم يبال بحجة المعاندين ؟
قلت : كانوا يقولون ما له لا يحول إلى قبلة أبيه إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة ؟ فإن قلت : كيف أطلق اسم الحجة على قول المعاندين ؟
قلت : لأنهم يسوقونه سياق الحجة ، ويجوز أن يكون المعنى : لئلا يكون للعرب عليكم حجة واعتراض في ترككم التوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم وإسماعيل أبي العرب إلا الذين ظلموا منهم وهم أهل مكة ، حين يقولون بداله فرجع إلى قبله آبائه ، ويوشك أن يرجع إلى دينهم " .
وثانيها : قوله تعالى : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } أي : ولو وجوهكم شطر المسجد الحرام { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } ولتكون قبلتكم مستقلة عن قبلة اليهود وغيرهم ، فالجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } .
وثالثها : قوله - تعالى - { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون } أي : ولكي ترشدوا للصواب في كل أموركم فما ضلت عنه الأمم من الحق هديناكم إليه ، وخصصناكم به ولهذا كانت أمتكم خير أمة أخرجت للناس .
والجملة الكريمة معطوفة على الجملة السابقة وهي قوله تعالى : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } أي : ولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } ولتكون قبلتكم مستقلة عن قبلة اليهود وغيرهم ، فالجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } .
وثالثها : قوله - تعالى - : { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : ولي ترشدوا للصواب في كل أموركم فما ضلت عنه الأمم من الحق هديناكم إليه ، وخصصناكم به ولهذا كانت أمتكم خير أمة أخرجت للناس .
والجملة الكريمة معطوفة على الجملة السابقة وهي قوله تعالى : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } .
وبذلك تكون الآيات الكريمة التي نزلت في شأن تحويل القبلة إلى المسجد الحرام قد ثبتت المؤمنين ، ودحضت كل شبهة أوردها اليهود وغيرهم في هذه المسألة .
خامساً : هذا ، وفي ختام هذا المبحث نحب أن نجيب على السؤال الخامس ، وهو : لماذا فصل القرآن الكريم الحديث عن تحويل القبلة فنقول :
لقد شرع الله - تعالى - تحويل القبلة إلى الكعبة بعد أن صلى المسلمون إلى بيت المقدس فترة من الزمان ، وكرر الأمر بتولية الوجوه إلى المسجد الحرام عند الصلاة ، وأقام الأدلة الساطعة على أن ذلك التحويل هو الحق ، وأتى بألوان من العوعيد لمن لم يتبع أوامره ، وساق وجوهاً من التأكيدات تدل على عناية بالغة بشأنها .
والمقتضى لهذه العناية وذلك التفصيل - مع أن التوجه إليها فرع من فروع الدين - هو أن التحويل من بيت المقدس إلى المسجد الحرام . كان أول نسخ في الإِسلام - كما قال بذلك كثير من العلماء - والنسخ من مظان الفتنة والشبهة وتسويل الشيطان ، فاقتضى الأمر بسط الحديث في مسألة القبلة ليزدادوا إيماناً على إيمانهم .
ولأن هذا التحويل - أيضاً - جاء على خلاف رغبة اليهود ، فإنهم كانوا يحرصون على استمرار المسلمين في التوجه إلى بيت المقدس ، لأنه قبلتهم ، فلما حصل التحويل إلى المسجد الحرام ، اتخذوا منه مادة للطعن في صحة النبوة ليفتنوا ضعفاء العقيدة ، وسلكوا لبلبلة أفكار المسلمين كل وسيلة .
فزعموا أن نسخ الحكم بعد شرعه مناف للحكمة ، ومباين للعقول ، فلا يقع في الشرائع الإِلهية ، وساقوا من الشبهات والمفتريات ما بينا بعضه عند تفسيرنا للآيات الكريمة .
ويبدو أن شغبهم هذا ، كان له آثاره عند ذوي النفوس المريضة وضعاف الإِيمان فلهذا كله أخذت مسألة القبلة شأناً غير شأن بقية الأحكام الفرعية ، فكان مقتضى الحال أن يكون الحديث عنها مستفيضاً ، ومدعماً بالأدلة والبراهين ، وهذا ما راعاه القرآن الكريم عند حديثه عن مسألة القبلة ، فلقد قرر وكرر ، ووعد وتوعد ، ووضح وبين ، ليدفع كل شبهة ، وليجتث كل حجة ، ويزيد المؤمنين إيماناً على إيمانهم ، وينهض بضعفاء الإِيمان إلى منزلة الراسخين في العلم ، ويهوى باليهود ومن حذا حذوهم في مكان سحيق ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
ثم توكيد للمرة الثالثة بمناسبة غرض آخر جديد ، وهو إبطال حجة أهل الكتاب ، وحجة غيرهم من كانوا يرون المسلمين يتوجهون إلى قبلة اليهود ، فيميلون إلى الاقتناع بما يذيعه اليهود من فضل دينهم على دين محمد ، وأصالة قبلتهم ومن ثم منهجهم . أو من مشركي العرب الذين كانوا يجدون في هذا التوجيه وسيلة لصد العرب الذي يقدسون مسجدهم وتنفيرهم من الإسلام الذي يتجه أهله شطر قبلة بني إسرائيل !
( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ، لئلا يكون للناس عليكم حجة ، إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ، ولأتم نعمتي عليكم ، ولعلكم تهتدون ) . .
وهو أمر للرسول [ ص ] أن يولي وجهه شطر المسجد من حيث خرج ، وإلى المسلمين أن يولوا وجوههم شطره حيثما كانوا . وبيان لعلة هذا التوجيه :
( لئلا يكون للناس عليكم حجة ) . .
وتهوين لما بعد ذلك من أقاويل الظالمين الذين لا يقفون عند الحجة والنطق ، إنما ينساقون مع العناد واللجاج . فهؤلاء لا سبيل إلى إسكاتهم ، فسيظلون إذن في لجاجهم . فلا على المسلمين منهم :
( فلا تخشوهم . . واخشوني ) . .
فلا سلطان لهم عليكم ، ولا يملكون شيئا من أمركم ، ولا ينبغي أن تحفلوهم فتميلوا عما جاءكم من عندي ، فأنا الذي استحق الخشية بما أملك من أمركم في الدنيا والآخرة . . ومع التهوين من شأن الذين ظلموا ، والتحذير من بأس الله ، يجيء التذكير بنعمة الله ، والإطماع في اتمامها على الأمة المسلمة حين تستجيب وتستقيم :
( ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ) . . .
وهو تذكير موح ، وإطماع دافع ، وتلويح بفضل عظيم بعد فضل عظيم . .
ولقد كانت النعمة التي يذكرهم بها حاضرة بين أيديهم ، يدركونها في أنفسهم ، ويدركونها في حياتهم ، ويدركونها في مجتمعهم وموقفهم في الأرض ومكانهم في الوجود . .
كانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية بظلامها ورجسها وجهالتها ، ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى نور الإيمان وطهارته ومعرفته . فهم يجدون في أنفسهم أثر النعمة جديدا واضحا عميقا .
وكانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية قبائل متناحرة ، ذات أهداف صغيرة واهتمامات محدودة . ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى الوحدة تحت راية العقيدة ، وإلى القوة والمنعة ، وإلى الغايات الرفيعة والاهتمامات الكبيرة التي تتعلق بشأن البشرية كلها لا بشأن ثأر في قبيلة ! فهم يجدون أثر النعمة من حولهم كما وجدوه في أنفسهم .
وكانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية في مجتمع هابط دنس مشوش التصورات مضطرب القيم . . ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى مجتمع الإسلام النظيف الرفيع ، الواضح التصور والاعتقاد ، المستقيم القيم والموازين . . فهم يجدون أثر النعمة في حياتهم العامة كما وجدوه في قلوبهم وفي مكانهم من الأمم حولهم .
فإذا قال الله لهم : ( ولأتم نعمتي عليكم ) . . كان في هذا القول تذكير موح ، وإطماع دافع وتلويح بفضل عظيم بعد فضل عظيم . .
ونجد في تكرار الأمر بشأن القبلة الجديدة معنى جديدا في كل مرة . . في المرة الأولى كان الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام استجابة لرغبة الرسول [ ص ] بعد تقلب وجهه في السماء وضراعته الصامتة إلى ربه . . وفي الثانية كان لإثبات أنه الحق من ربه يوافق الرغبة والضراعة . . وفي الثالثة كان لقطع حجة الناس ، والتهوين من شأن من لا يقف عند الحق والحجة . .
ولكننا - مع هذا - نلمح وراء التكرار أنه كانت هناك حالة واقعة في الصف الإسلامي تستدعي هذا التكرار ، وهذا التوكيد ، وهذا البيان ، وهذا التعليل ، مما يشي بضخامة حملة الأضاليل والأباطيل ، وأثرها في بعض القلوب والنفوس . هذا الأثر الذي كان يعالجه القرآن الكريم ؛ ثم تبقى النصوص بعد ذلك على مدى الزمان تعالج مثل هذه الحالة في شتى صورها ؛ في المعركة الدائبة التي لا تهدأ ولا تفتر ولا تلين !
وقال في الأمر الثاني : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } فذكر أنه الحق من الله وارتقى عن المقام الأول ، حيث كان موافقًا لرضا الرسول صلى الله عليه وسلم فبين أنه الحق أيضًا من الله يحبه ويرتضيه ، وذكر في الأمر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يتحججون باستقبال الرسول إلى قبلتهم ، وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم ، عليه السلام ، إلى الكعبة ، وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف ، وقد كانوا يعظمون الكعبة وأعجبهم استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم إليها ، وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار ، وقد بسطها فخر الدين وغيره ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .
وقوله : { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أي : أهل الكتاب ؛ فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة ، فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين أو لئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس . وهذا أظهر .
قال أبو العالية : { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } يعني به أهل الكتاب حين قالوا : صُرف محمد إلى الكعبة .
وقالوا : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه{[2957]} ودين قومه . وكان حجتهم على النبي صلى الله عليه وسلم انصرافه إلى البيت الحرام أن قالوا : سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا .
قال ابن أبي حاتم : وروى عن مجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي ، نحو هذا .
وقال هؤلاء في قوله : { إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } يعني : مشركي قريش .
ووجه بعضهم حُجّة الظلمة - وهي داحضة - أن قالوا : إن هذا الرجل يزعمُ أنه على دين إبراهيم : فإن كان توجّهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم ، فلم رجع عنه ؟ والجواب : أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس أولا لما له تعالى في ذلك من الحكمة ، فأطاع ربه تعالى في ذلك ، ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم - وهي الكعبة - فامتثل أمر الله في ذلك أيضًا ، فهو ، صلوات الله وسلامه عليه ، مطيع لله في جميع أحواله ، لا يخرج عن أمر الله طرفة عين ، وأمتهُ تَبَع له .
وقوله : { فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } أي : لا تخشوا شُبَهَ الظلمة المتعنتين ، وأفْرِدُوا الخشية لي ، فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه .
وقوله : { وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } عطف على { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أي : ولأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة ، لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : إلى ما ضَلّت عنه الأمم هديناكم إليه ، وخَصصْناكم به ، ولهذا كانت هذه الأمة أشرفَ الأمم وأفضلها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ }
يعني بقوله تعالى ذكره : وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَام : من أيّ مكان وبقعة شخصت فخرجت يا محمد ، فولّ وجهك تلقاء المسجد الحرام وهو شطره . ويعني بقوله : وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ وأينما كنتم أيها المؤمنون من أرض الله فولوا وجوهكم في صلاتكم تجاهه وقبله وقصده .
القول في تأويل قوله تعالى : لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي .
فقال جماعة من أهل التأويل : عنى الله تعالى بالناس في قوله : لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ أهل الكتاب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : لِئَلاّ يَكُونَ للنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ يعني بذلك أهل الكتاب ، قالوا حين صرف نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة البيت الحرام : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : لِئَلاّ يَكُونَ للنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ يعني بذلك أهل الكتاب ، قالوا حين صرف نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه .
فإن قال قائل : فأية حجة كانت لأهل الكتاب بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؟ قيل : قد ذكرنا فيما مضى ما رُوي في ذلك ، قيل إنهم كانوا يقولون : ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم نحن ، وقولهم : يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا فهي الحجة التي كانوا يحتجون بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على وجه الخصومة منهم لهم ، والتمويه منهم بها على الجهال وأهل العناد من المشركين . وقد بينا فيما مضى أن معنى حجاج القوم إياه الذي ذكره الله تعالى ذكره في كتابه إنما هي الخصومات والجدال ، فقطع الله جل ثناؤه ذلك من حجتهم وحسمه بتحويل قبلة نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من قبلة اليهود إلى قبلة خليله إبراهيم عليه السلام ، وذلك هو معنى قول الله جل ثناؤه : لِئَلاّ يَكُونَ للنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ يعني بالناس : الذين كانوا يحتجون عليهم بما وصفت .
وأما قوله : إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فإنهم مشركو العرب من قريش فيما تأوّله أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قوم محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي ، قال : هم المشركون ، من أهل مكة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ يعني مشركي قريش .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، وابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قال : هم مشركو العرب .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ والذين ظلموا مشركو قريش .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال : قال عطاء : هم مشركو قريش . قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول مثل قول عطاء .
فإن قال قائل : وأية حجة كانت لمشركي قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في توجههم في صلاتهم إلى الكعبة ؟ وهل يجوز أن يكون للمشركين على المؤمنين حجة فيما أمرهم الله تعالى ذكره به أو نهاهم عنه ؟ قيل : إن معنى ذلك بخلاف ما توهمت وذهبت إليه ، وإنما الحجة في هذا الموضع الخصومة والجدال . ومعنى الكلام : لئلا يكون لأحد من الناس عليكم خصومة ودعوى باطلة ، غير مشركي قريش ، فإن لهم عليكم دعوى باطلة وخصومة بغير حقّ بقيلهم لكم : رجع محمد إلى قبلتنا ، وسيرجع إلى ديننا . فذلك من قولهم وأمانيهم الباطلة هي الحجة التي كانت لقريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن أجل ذلك استثنى الله تعالى ذكره الذين ظلموا من قريش من سائر الناس غيرهم ، إذ نفى أن يكون لأحد منهم في قبلتهم التي وجههم إليها حجة . وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قوم محمد صلى الله عليه وسلم قال مجاهد : يقول : حجتهم ، قولهم : قد رَاجَعْتَ قبلَتنا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله إلا أنه قال قولهم : قد رجعت إلى قبلتنا .
حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة وابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قالا : هم مشركو العرب ، قالوا حين صرفت القبلة إلى الكعبة : قد رجع إلى قبلتكم فيوشك أن يرجع إلى دينكم . قال الله عز وجل : فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي .
حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد عن سعيد عن قتادة قوله : إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ والذين ظلموا مشركو قريش ، يقول : إنهم سيحتجون عليكم بذلك ، فكانت حجتهم على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بانصرافه إلى البيت الحرام أنهم قالوا سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا ، فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك كله .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي فيما يذكر عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : لما صُرف نبيّ الله صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة بعد صلاته إلى بيت المقدس قال المشركون من أهل مكة : تحير على محمد دينه ، فتوجه بقبلته إليكم ، وعلم أنكم كنتم أهدى منه سبيلاً ، ويوشك أن يدخل في دينكم . فأنزل الله جل ثناؤه فيهم : لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي .
حدثنا القاسم ، قال : حدثني الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : قوله : لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ؟ قال : قالت قريش لما رجع إلى الكعبة وأمر بها : ما كان يستغني عنا قد استقبل قبلتنا . فهي حجتهم ، وهم الذين ظلموا .
قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول مثل قول عطاء ، فقال مجاهد : حجتهم : قولهم رجعت إلى قبلتنا .
فقد أبان تأويل من ذكرنا تأويله من أهل التأويل قوله : إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ عن صحة ما قلنا في تأويله وأنه استثناء على معنى الاستثناء المعروف الذي يثبت فيهم لما بعد حرف الاستثناء ما كان منفيا عما قبلهم ، كما أنّ قول القائل : «ما سار من الناس أحد إلا أخوك » إثبات للأخ من السير ما هو منفيّ عن كل أحد من الناس ، فكذلك قوله : لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ نفى عن أن يكون لأحد خصومة وجدل قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعوى باطلة عليه وعلى أصحابه بسبب توجههم في صلاتهم قبل الكعبة ، إلا الذين ظلموا أنفسهم من قريش ، فإن لهم قبلهم خصومةً ودعوى باطلة بأن يقولوا : إنما توجهتم إلينا وإلى قبلتنا لأنا كنا أهدى منكم سبيلاً ، وأنكم كنتم بتوجهكم نحو بيت المقدس على ضلال وباطل .
وإذ كان ذلك معنى الآية بإجماع الحجة من أهل التأويل ، فبيّنٌ خطأ قول من زعم أن معنى قوله : إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ : ولا الذين ظلموا منهم ، وأن «إلا » بمعنى الواو لأن ذلك لو كان معناه لكان النفي الأول عن جميع الناس أن يكون لهم حجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تحوّلهم نحو الكعبة بوجوههم مبينا عن المعنى المراد ، ولم يكن في ذكر قوله بعد ذلك : إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ إلا التلبيس الذي يتعالى عن أن يضاف إليه ، أو يوصف به . هذا مع خروج معنى الكلام إذا وجهت «إلا » إلى معنى الواو ، ومعنى العطف من كلام العرب ، وذلك أنه غير موجودة ( إلا ) في شيء من كلامها بمعنى الواو إلا مع استثناء سابق قد تقدمها ، كقول القائل : سار القوم إلا عمرا إلا أخاك ، بمعنى : إلا عمرا وأخاك ، فتكون «إلا » حينئذ مؤدّية عما تؤدّي عنه الواو لتعلق «إلا » الثانية ب«إلاّ » الأولى ، ويجمع فيها أيضا بين «إلا » والواو ، فيقال : سار القوم إلا عمرا وإلا أخاك ، فتحذف إحداهما فتنوب الأخرى عنها ، فيقال : سار القوم إلا عمرا وأخاك ، أو إلا عمرا إلا أخاك ، لما وصفنا قبل . وإذ كان ذلك كذلك فغير جائز لمدّع من الناس أن يدعي أن «إلا » في هذا الموضع بمعنى الواو التي تأتي بمعنى العطف .
وواضح فساد قول من زعم أن معنى ذلك : إلا الذين ظلموا منهم فإنهم لا حجة لهم فلا تخشوهم ، كقول القائل في كلامه : الناس كلهم لك حامدون إلا الظالم المعتدي عليك ، فإن ذلك لا يعتدّ بعداوته ولا بتركه الحمد لموضع العداوة . وكذلك الظالم لا حجة له ، وقد سمي ظالما لإجماع جميع أهل التأويل على تخطئة ما ادّعى من التأويل في ذلك . وكفى شاهدا على خطأ مقالته إجماعهم على تخطئتها . وظاهر بطلان قول من زعم أن الذين ظلموا هَهنا ناس من العرب كانوا يهودا ونصارى ، فكانوا يحتجون على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأما سائر العرب فلم تكن لهم حجة ، وكانت حجة من يحتجّ منكسرة لأنك تقول لمن تريد أن تكسر عليه حجته : إن لك عليّ حجة ، ولكنها منكسرة ، وإنك لتحتجّ بلا حجة ، وحجتك ضعيفة . ووجّه معنى : إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ إلى معنى : إلا الذين ظلموا منهم من أهل الكتاب ، فإن لهم عليكم حجة واهية أو حجة ضعيفة .
ووَهْيُ قول من قال : «إلا » في هذا الموضع بمعنى «لكن » ، وضَعْفُ قول من زعم أنه ابتداء بمعنى : إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم ، لأن تأويل أهل التأويل جاء في ذلك بأن ذلك من الله عز وجل خبر عن الذين ظلموا منهم أنهم يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما قد ذكرنا ، ولم يقصد في ذلك إلى الخبر عن صفة حجتهم بالضعف ولا بالقوّة وإن كانت ضعيفة لأنها باطلة وإنما قصد فيه الإثبات للذين ظلموا ما قد نفى عن الذين قبل حرف الاستثناء من الصفة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قال : قال الربيع : إن يهوديا خاصم أبا العالية فقال : إن موسى عليه السلام كان يصلي إلى صخرة بيت المقدس ، فقال أبو العالية : كان يصلي عند الصخرة إلى البيت الحرام . قال : قال : فبيني وبينك مسجد صالح ، فإنه نحته من الجبل . قال أبو العالية : قد صليت فيه وقبلته إلى البيت الحرام . قال الربيع : وأخبرني أبو العالية أنه مرّ على مسجد ذي القرنين وقبلته إلى الكعبة .
وأما قوله : فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي يعني فلا تخشوا هؤلاء الذين وصفت لكم أمرهم من الظّلَمة في حجتهم وجدالهم وقولهم ما يقولون من أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد رجع إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا ، أو أن يقدروا لكم على ضرّ في دينكم أو صدّكم عما هداكم الله تعالى ذكره له من الحق ولكن اخشوني ، فخافوا عقابي في خلافكم أمري إن خالفتموه . وذلك من الله جل ثناؤه تقدّمٌ إلى عباده المؤمنين بالحضّ على لزوم قبلتهم والصلاة إليها ، وبالنهي عن التوجه إلى غيرها . يقول جل ثناؤه : واخشوني أيها المؤمنون في ترك طاعتي فيما أمرتكم به من الصلاة شطر المسجد الحرام . وقد حكي عن السدي في ذلك ما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي : فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي يقول : لا تخشوا أن أردكم في دينهم .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلأتِمّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ .
يعني بقوله جل ثناؤه : وَلأتِمّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ : ومن حيث خرجت من البلاد والأرض إلى أيّ بقعة شخصت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث كنت يا محمد والمؤمنون ، فولوا وجوهكم في صلاتكم شطره ، واتخذوه قبلة لكم ، كيلا يكون لأحد من الناس سوى مشركي قريش حجة ، ولأتمّ بذلك من هدايتي لكم إلى قبلة خليلي إبراهيم عليه السلام الذي جعلته إماما للناس نعمتي فأكمل لكم به فضلي عليكم ، وأتمم به شرائع ملتكم الحنيفية المسلمة التي وصيت بها نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء غيرهم . وذلك هو نعمته التي أخبر جل ثناؤه أنه متمّها على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من أصحابه .
وقوله : وَلَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ يعني : وكي ترشدوا للصواب من القبلة . ولَعَلّكُمْ عطف على قوله : وَلأتِمّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلأتمّ نعمتي عليكم عطف على قوله لئلا يكون .
قوله بعده : { ومن حيث خرجت } عطف على الجملة التي قبله ، وأعيد لفظ الجملة السالِفة ليبنَى عليه التعليل بقوله : { لئلا يكون للناس عليكم حجةٌ } .
وقوله : { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } عطف على قوله : { ومن حيث خرجت } الآية . والمقصد التعميم في هذا الحكم في السفر للمسلمين لئلا يتوهم تخصيصه بالنبي صلى الله عليه وسلم وحصل من تكرير مُعظم الكلمات تأكيد للحكم ليترتب عليه قوله { لئلا يكون للناس عليكم حجة } .
وقد تكرر الأمر باستقبال النبي الكعبة ثلاث مرات ، وتكرر الأمر باستقبال المسلمين الكعبةَ مرتين . وتكرر أنَّه الحقُّ ثلاث مرات ، وتكرر تعميم الجهات ثلاث مرات ، والقصد من ذلك كله التنويه بشأن استقبال الكعبة والتحذير من تطرق التساهل في ذلك تقريراً للحق في نفوس المسلمين ، وزيادةً في الرد على المنكرين التأكيد ، من زيادة { ومن حيثُ خرجتَ } ، ومن جُمَل معترضة ، لزيادة التنويه بحكم الاستقبال : وهي جملة { وإنّ الذين أوتوا الكتاب ليعلمون الآيات } ، وجملة : { وإنه للحق من ربك } وجملة : { لئلا يكون للناس عليكم حجة } الآيات ، وفيه إظهار أحَقية الكعبة بذلك لأن الذي يكون على الحق لا يزيده إنكار المنكرين إلاّ تصميماً ، والتصميم يستدعي إعادة الكلام الدال على ما صمم عليه لأن الإعادة تدل على التحقُّق في معنى الكلام .
وقد ذكر في خلال ذلك من بيان فوائد هذا التحويل وما حَفَّ به ، ما يدفع قليل السآمة العارضةِ لسماع التكرار ، فذُكر قوله : { وإنه للحق من ربك وما الله بغافل } الخ ، وذُكر قوله : { لئلا يكون للناس } الخ .
والضمير في { وإنه للحَق من ربك } راجع إلى مضمون الجملة وهو حكم التحويل فهو راجع إلى ما يؤخذ من المقام ، فالضمير هنا كالضمير في قوله : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه } [ البقرة : 146 ] .
وقرأ الجمهور { عما تعملُون } بمثناة فوقية على الخطاب ، وقرآه أبو عَمْرو بياء الغيبة .
وقوله : { لئلا يكون للناس عليكم حجة } علة لقوله : { فولوا } الدالِ على طلب الفعل وامتثاله ، أي شرعت لكم ذلك لندحض حجة الأمم عليكم ، وشأن تعليل صيغ الطلب أن يكون التعليل للطلب باعتبار الإتيان بالفعل المطلوب .
فإن مدلول صيغة الطلب هو إيجاد الفعل أو الترك لا الإعلامُ بكون الطالب طالباً وإلاّ لما وجب الامتثال للآمر فيكتفى بحصول سماع الطلب لكن ذلك ليس مقصوداً .
والتعريف في ( الناس ) للاستغراق يشمل مشركي مكة فإن من شبهتهم أن يقولوا لا نتبع هذا الدين إذ ليس ملة إبراهيم لأنه استقبَل قبلة اليهود والنصارى ، وأهلَ الكتاب ، والحجة أن يقولوا إنَّ محمداً اقتدى بنا واستقبل قبلتنا فكيف يدعونا إلى اتباعه . ولجميع الناس ممن عداكم حجة عليكم ، أي ليكون هذا الدين مخالفاً في الاستقبال لكل دين سبقه فلا يدعي أهل دين من الأديان أن الإسلام مقتبس منه .
ولا شك أن ظهور الاستقبال يكون في أمر مشاهد لكل أحد لأن إدراك المخالفة في الأحكام والمقاصد الشرعية والكمالات النفسانية التي فَضُل بها الإسلام غيرَه لا يدركه كل أحد بل لا يعلمه إلاّ الذين أوتوا العلم ، وعلى هذا يكون قوله : { لئلا يكون للناس عليكم حجة } ناظراً إلى قوله : { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق } [ البقرة : 144 ] ، وقوله : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه } [ البقرة : 146 ] .
وقد قيل في معنى حجة الناس معانِ أُخَرُ أَرَاها بعيدة .
والحجة في كلام العرب ما يقصد به إثبات المخالف ، بحيث لا يجد منه تفصياً ، ولذلك يقال للذي غلَب مخالفه بحجته قد حَجَّه ، وأما الاحتجاج فهو إتيان المحتج بما يظنه حجة ولو مغالطة يقال احتج ويقال حَاجَّ إذا أتى بما يظنه حجة قال تعالى : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } [ البقرة : 258 ] ، فالحجة لا تطلق حقيقة إلاّ على البرهان والدليل الناهض المبكت للمخالف ، وأما إطلاقها على الشبهة فمجاز لأنها تُورَد في صورة الحجة ومنه قوله تعالى : { حجتهم داحضة عند ربهم } [ الشورى : 16 ] ، وهذا هو فقه اللغة كما أشار إليه « الكشاف » ، وأما ما خالفه من كلام بعض أهل اللغة فهو من تخليط الإطلاق الحقيقي والمجازي ، وإنما أرادوا التفصي من ورود الاستثناء وأشكل عليهم الاستثناء لأن المستثنى محكوم عليه بنقيض حكم المستثنى منه عند قاطبة أهل اللسان والعلماء ، إلاّ خلافاً لا يلتفت إليه في علم الأصول ، فصار هذا الاستثناء مقتضياً أن { الذين ظلموا } لهم عليكم حجة ، فأجاب صاحب « الكشاف » بأنه إنما أطلق عليه حجة لمشابهته للحجة في سياقهم إياه مَساق البرهان أي فاستثناء { الذين ظلموا } يقتضي أنهم يأتون بحجة أي بما يشبه الحجة ، فحرف { إلاَّ } يقتضي تقدير لفظ حجة مستعملاً في معناه المجازي ، وإطلاق اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي ليس ببدع لاسيما مع الإتيان بلفظ يخالف الأول على أنه قد يجعل الاستثناء منقطعاً بمعنى لكن الذين ظلموا يشغبون عليكم فلا تخشوهم .
وجملة { ولأتم نعمتي } تعليل ثان لقوله : { فولوا وجوهكم شطره } معطوف على قوله : { لئلا يكون للناس عليكم حجة } بذلك الاعتبار الذي بيناه آنفاً وهو أنه تعليل الامتثال فالمعنى أمرتكم بذلك لأتم نعمتي عليكم باستيفاء أسباب ذلك الإتمام ومنها أن تكون قبلتكم إلى أفضل بيت بني لله تعالى ، ومعلوم أن تمام النعمة بامتثال ما أمرنا به وجماع ذلك الاستقامة وبها دخول الجنة .
وقد روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم " إتمام النعمة دخول الجنة " ، أي غاية إتمام النعمة علينا دخول الجنة ولم يكن ذلك في تفسير هذه الآية ولكنه من جملة معناها{[166]} فالمراد بالإتمام هنا إعطاء الشيء وافراً من أول الأمر لا إتمامه بعد أن كان ناقصاً ، فهو قريب من قوله تعالى : { فأتمهن } [ البقرة : 124 ] أي امتثلهن امتثالاً تاماً وليس المراد أنه فعل بعضها ثم فعل بعضاً آخر ، فمعنى الآية ولتكون نعمتي نعمة وافرة في كل حال .
وقوله : { ولعلكم تهتدون } عطف على { ولأتم } أي أمرتكم بذلك رجاء امتثالكم فيحصل الاهتداء منكم إلى الحق . وحرف لعل في قوله : { ولعلكم تهتدون } مجاز في لازم معنى الرجاء وهو قرب ذلك وتوقعه . ومعنى جعل ذلك القرب علة أن استقبالهم الكعبة مؤذن بأنهم يكونون معتدين في سائر أمورهم لأن المبادىء تدل على الغايات فهو كقوله : { وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً } [ البقرة : 143 ] كما قدمناه وقال حبيب :
إِنَّ الهلالَ إذا رأيت نماءه *** أيقنتَ أن سيصيرُ بدراً كاملاً