ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أكثر الأماكن والأشخاص انتفاعا بنوره ، فقال - تعالى - : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } .
وقوله { فِي بُيُوتٍ } متعلق بقوله : { يُسَبِّحُ } . والمراد بهذه البيوت : المساجد كلها ، وعلى رأسها المسجد الحرام ، والمسجد النبوى ، والمسجد الأقصى .
و " أذن " بمعنى أمر وقضى ، وفاعل " يسبح " قوله " رجال " .
والغدو والغداة : من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، والآصال جمع أصيل ، وهو ما بين العصر وغروب الشمس .
أى : هذا هو نور الله - الذى يهدى إليه من يشاء من عباده ، وعلى رأس أولئك العباد الذين هداهم الله - سبحانه - إلى ما يحبه ويرضاه ، هؤلاء الرجال الذين يعبدونه ويقدسونه فى تلك المساجد التى أمر - سبحانه - بتشييدها وتعظيم قدرها ، وصيانتها من كل سوء أو نجس ، إنهم يسبحونه وينزهونه عن كل نقص ، ويتقربون إليه بالصلوات وبالطاعات . فى تلك المساجد فى أول النهار وفى آخرة ، وفى غير ذلك من الأوقات .
وخص - سبحانه - أوقات الغدو والآصال بالذكر ، لشرفها وكونها أشهر ما تقع فيه العبادات .
القول في تأويل قوله تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ * رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مّن فَضْلِهِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرفَعَ الله نور السموات والأرض ، مَثَل نورِه كمشكاة فيها مصباح ، في بيوت أذن الله أن ترفع . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : المِشكاة : التي فيها الفتيلة التي فيها المصباح . قال : المصابيح في بيوت أذن الله أن ترفع .
قال أبو جعفر : قد يحتمل أن تكون «من » في صلة «توقد » ، فيكون المعنى : تُوقَد من شجرة مباركة ذلك المصباح في بيوت أذن الله أن ترفع . وعنى بالبيوت : المساجد .
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم بالذي قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، ونصر بن عبد الرحمن الأَوْديّ ، قالا : حدثنا حَكّام ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قول الله : فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ قال : المساجد .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ وهي المساجد تُكْرَم ، ونهي عن اللغو فيها .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ يعني : كل مسجد يصلّى فيه ، جامع أو غيره .
حدثني محمد بن عمرو ، قالي : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ قال : مساجد تُبْني .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ قال : في المساجد .
قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، قال : أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون : المساجد : بيوت الله ، وإنه حقّ على الله أن يُكْرِم من زاره فيها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن سالم بن عمر ، في قوله : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ قال : هي المساجد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فِي بُيُوتٍ أَذِن الله أنْ تُرْفَعَ قال : المساجد .
وقال آخرون : عَنَى بذلك البيوتَ كلّها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، ونصر بن عبد الرحمن الأَوْديّ ، قالا : حدثنا حَكّام بن سلم ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عكرمة : فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ قال : هي البيوت كلها .
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك ، لدلالة قوله : يُسَبّحُ لَهُ فِيها بالغُدُوّ والاَصَالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ على أنها بيوت بنيت للصلاة فلذلك قلنا هي المساجد .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : أَذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ فقال بعضهم : معناه : أذن الله أن تُبْنَي . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عصام ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ قال : تُبْنَى .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد مثله .
وقال آخرون : معناه : أذن الله أن تعظّم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ يقول : أن تعظّم لذكره .
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب القول الذي قاله مجاهد ، وهو أن معناه : أذن الله أن ترفع بناء ، كما قال جلّ ثناؤهِ : وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وذلك أن ذلك هو الأغلب من معنى الرفع في البيوت والأبنية .
وقوله : وَيُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ يقول : وأَذِن لعباده أن يذكروا اسمه فيها . وقد قيل : عُنِي به أنه أذن لهم بتلاوة القرآن فيها . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : ثم قال : وَيُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ يقول : يُتْلَى فيها كتابه .
وهذا القول قريب المعنى مما قلناه في ذلك ، لأن تلاوة كتاب الله من معاني ذكر الله . غير أن الذي قلنا به أظهر معنييه ، فلذلك اخترنا القول به .
وقوله : يُسَبّحُ لَهُ فِيها بالغُدُوّ والاَصَالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ اختلفت القرّاء في قراءة قوله : يُسَبّحُ لَهُ ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار : يُسَبّحُ لَهُ بضم الياء وكسر الباء ، بمعنى : يصلّي له فيها رجال ، وبجعل «يسبّح » فعلاً ل«الرجال » وخبرا عنهم ، وترفع به «الرجال » . سوى عاصم وابن عامر ، فإنهما قرءا ذلك : «يُسَبّحُ له » بضمّ الياء وفتح الباء ، على ما لم يسمّ فاعله ، ثم يرفعان «الرجال » بخبر ثان مضمر ، كأنهما أرادا : يسبّح الله في البيوت التي أذن الله أن ترفع ، فسبّح له رجال فرفعا «الرجال » بفعل مضمر .
والقراءة التي هي أولاهما بالصواب : قراءة من كسر الباء ، وجعله خبرا ل«الرجال » وفعلاً لهم . وإنما كان الاختيار رفع الرجال بمضمر من الفعل لو كان الخبر عن البيوت لا يتمّ إلا بقوله : يُسَبّحُ لَهُ فِيها ، فأما والخبر عنها دون ذلك تام ، فلا وجه لتوجيه قوله : يُسَبّحُ لَهُ إلى غيره ، أيْ غير الخبر عن الرجال . وعُنِي بقوله : يُسَبّحُ لَهُ فِيها بالغُدُوّ والاَصَالِ يصلّي له في هذه البيوت بالغُدُوات والعَشيات رجال .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن الحسن الأزديّ ، قال : حدثنا المَعافى بن عمران ، عن سفيان ، عن عَمّار الدّهني ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : كلّ تسبيح في القرآن فهو صلاة .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : ثم قال : يُسَبّحُ لَهُ فِيها بالغُدُوّ والاَصَالِ يقول : يصلى له فيها بالغداة والعشيّ . يعني بالغدوّ : صلاة الغَداة ، ويعني بالاَصال : صلاة العصر . وهما أوّل ما افترض الله من الصلاة ، فأحبّ أن يذكرهما ويذكر بهما عبادته .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن : يُسَبّحُ لَهُ فِيها بالغُدُوّ والاَصَالِ رِجالٌ أذِن الله أن تُبْنى ، فيصلّى فيها بالغدوّ والاَصال .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول في قوله : يُسَبّحُ لَهُ فِيها بالغُدُوّ والاَصَالِ يعني الصلاة المفروضة .
تردد المفسرون في تعلق الجار والمجرور من قوله : { في بيوت } الخ . فقيل قوله : { في بيوت } من تمام التمثيل ، أي فيكون { في بيوت } متعلقاً بشيء مما قبله . فقيل يتعلق بقوله : { يوقد } [ النور : 35 ] أي يوقد المصباح في بيوت . وقيل هو صفة لمشكاة ، أي مشكاة في بيوت وما بينهما اعتراض ؛ وإنما جاء بيوت بصيغة الجمع مع أن { مشكاة } و { مصباح } [ النور : 35 ] مفردان لأن المراد بهما الجنس فتساوى الإفراد والجمع .
ثم قيل : أريد بالبيوت المساجد . ولا يستقيم ذلك إذ لم يكن في مساجد المسلمين يومئذٍ مصابيح وإنما أحدثت المصابيح في المساجد الإسلامية في خلافة عمر بن الخطاب فقال له علي : نوّر الله مضجعك يا بن الخطاب كما نورت مسجدنا . وروي أن تميماً الداري أسرج المسجد النبوي بمصابيح جاء بها من الشام ولكن إنما أسلم تميم سنة تسع ، أي بعد نزول هذه الآية . وقيل البيوت مساجد بيت المقدس وكانت يومئذٍ بِيَعاً للنصارى . ويجوز عندي على هذا الوجه أن يكون المراد بالبيوت صوامع الرهبان وأديرتهم وكانت معروفة في بلاد العرب في طريق الشام يمرون عليها وينزلون عندها في ضيافة رهبانها . وقد ذكر صاحب « القاموس » عدداً من الأديرة . ويرجح هذا قوله : { أن ترفع } فإن الصوامع كانت مرفوعة والأديرة كانت تبنى على رؤوس الجبال . أنشد الفراء :
لو أبصرت رهبان دَير بالجبل *** لانحدر الرهبان يسعى ويصل
والمراد بإذن الله برفعها أنه ألهم متّخذيها أن يجعلوها عالية وكانوا صالحين يقرأون الإنجيل فهو كقوله تعالى : { لهدمت صوامع وبيع } إلى قوله : { يذكر فيها اسم الله كثيراً } [ الحج : 40 ] . وعبر بالإذن دون الأمر لأن الله لم يأمرهم باتخاذ الأديرة في أصل النصرانية ولكنهم أحدثوها للعون على الانقطاع للعبادة باجتهاد منهم ، فلم ينههم الله عن ذلك إذ لا يوجد في أصل الدين ما يقتضي النهي عنها فكانت في قسم المباح ، فلما انضم إلى إباحة اتخاذها نية العون على العبادة صارت مرضية لله تعالى . وهذا كقوله تعالى : { ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله } [ الحديد : 27 ] . وقد كان اجتهاد أحبار الدين في النصرانية وإلهامُهم دلائل تشريع لهم كما تقتضيه نصوص من الإنجيل . والمقصد من ذكر هذا على هذه الوجوه زيادة إيضاح المشبه به كقول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم : " فإذا لها كلاليبُ مثلُ حَسَك السَّعدان هل رأيتم حسك السَّعْدان ؟ " . وفيه مع ذلك تحسين المشبه به ليسري ذلك إلى تحسين المشبه كما في قول كعب بن زهير :
شجت بذي شبَم من ماء محنيَةِ *** صاففٍ بأبطح أضحى وهو مشمول
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه *** من صوب سارية بيضٌ يعاليل
لأن ما ذكر من وصف البيوت وما يجري فيها مما يكسبها حسناً في نفوس المؤمنين .
وتخصيص التسبيح بالرجال لأن الرهبان كانوا رجالاً .
وأريد بالرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله : الرهبان الذين انقطعوا للعبادة وتركوا الشغل بأمور الدنيا ، فيكون معنى : { لا تلهيهم تجارة ولا بيع } : أنهم لا تجارة لهم ولا بيع من شأنهما أن يلهياهم عن ذكر الله ، فهو من باب : على لاحب لا يهتدى بمناره .
والثناء عليهم يومئذٍ لأنهم كانوا على إيمان صحيح إذ لم تبلغهم يومئذٍ دعوة الإسلام ولم تبلغهم إلا بفتوح مشارف الشام بعد غزوة تبوك ، وأما كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فإنه لم يُذع في العامة . وكان الرهبان يتركون الكوى مفتوحة ليظهر ضوء صوامعهم وقد كان العرب يعرفون صوامع الرهبان وأضواءها في الليل . قال امرؤ القيس :
تُضيء الظلام بالعشيّ كأنها *** منارة مُمْسَى راهب متبتل
يضيء سناه أو مصابيح راهب *** أمال السليط بالذبال المفتل
السليط : الزيت . أي صب الزيت على الذبال فهو في تلك الحالة أكثر إضاءة . وكانوا يهتدون بها في أسفارهم ليلاً . قال امرؤ القيس :
سموت إليها والنجوم كأنها *** مصابيح رهبان تُشب لقُفَّال
القفال : جمع قافل وهم الراجعون من أسفارهم .
وقيل : أريد بالرفع الرفع المعنوي وهو التعظيم والتنزيه عن النقائص . فالإذن حينئذٍ بمعنى الأمر .
وبعد فهذا يبعد عن أغراض القرآن وخاصة المدني منه لأن الثناء على هؤلاء الرجال ثناء جم ومعقب بقوله : { ليجزيهم الله أحسن ما عملوا } .
والأظهر عندي : أن قوله : { في بيوت } ظرف مستقر هو حال من { نوره } في قوله { مثل نوره كمشكاة } [ النور : 35 ] الخ مشير إلى أن « نور » في قوله : { مثل نوره } مراد منه القرآن ، فيكون هذا الحال تجريداً للاستعارة التمثيلية بذكر ما يناسب الهيئة المشبهة أعني هيئة تلقي القرآن وقراءته وتدبره بين المسلمين مما أشار إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم " وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده " {[292]} فكان هذا التجريد رجوعاً إلى حقيقة التركيب الدال على الهيئة المشبهة كقول طرفة :
وفي الحي أحوى ينفض المَرْد شادف *** مظاهر سِمطي لؤلؤ وزبرجد
مع ما في الآية من بيان ما أجمل في لفظ : { مثل نوره } وبذلك كانت الآية أبلغ من بيت طرفة لأن الآية جمعت بين تجريد وبيان وبيت طرفة تجريد فقط .
ويجوز أن يكون { في بيوت } غير مرتبط بما قبله وأنه مبدأ استئناف ابتدائي وأن المجرور متعلق بقوله : { يسبح له فيها } . وتقديم المجرور للاهتمام بتلك البيوت وللتشويق إلى متعلق المجرور وهو التسبيح وأصحابه . والتقدير : يسبح لله رجال في بيوت ، ويكون قوله : { فيها } تأكيداً لقوله : { في بيوت } لزيادة الاهتمام بها . وفي ذلك تنويه بالمساجد وإيقاع الصلاة والذكر فيها كما في الحديث : " صلاة أحدكم في المسجد ( أي الجماعة ) تفضل صلاته في بيته بسبع وعشرين درجة " .
والمراد بالغدوّ : وقت الغدوّ وهو الصباح لأنه وقت خروج الناس في قضاء شؤونهم .
والآصال : جمع أصيل وهو آخر النهار ، وتقدم في آخر الأعراف ( 205 ) وفي سورة الرعد ( 15 ) .