قوله : " ما " صلة فيها معنى التأكيد ، أي فبرحمة ، كقوله : " عما قليل " {[3608]} [ المؤمنون : 40 ] " فبما نقضهم ميثاقهم " {[3609]} [ النساء : 155 ] " جند ما هنالك مهزوم " {[3610]} [ ص : 11 ] . وليست بزائدة على الإطلاق ، وإنما أطلق عليها سيبويه معنى الزيادة من حيث زال عملها . . ابن كيسان : " ما " نكرة في موضع جر بالباء " ورحمة " بدل منها . ومعنى الآية : أنه عليه السلام لما رفق بمن تولى يوم أحد ولم يعنفهم بين الرب تعالى أنه إنما فعل ذلك بتوفيق الله تعالى إياه . وقيل : " ما " استفهام . والمعنى : فبأي رحمة من الله لنت لهم ، فهو تعجيب . وفيه بعد ؛ لأنه لو كان كذلك لكان " فبم " بغير ألف . " لنت " من لان يلين لينا وليانا بالفتح . والفظ الغليظ الجافي . فَظِظْتَ تَفِظُّ فظاظَةً وفَظَاظًا فأنت فظ . والأنثى فظة والجمع أفظاظ . وفي صفة النبي عليه السلام ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ، وأنشد المفضل في المذكر :
وليس بِفَظٍّ في الأَدَانِي والأُولى *** يؤُمُّونَ جدواه ولكنّه سهل
وفظٌّ على أعدائه يَحْذَرُونَهُ *** فَسَطْوَتُهُ حَتْفٌ ونائلُه جَزْلُ
أموتُ من الضُّرِّ في منزلي *** وغيري يموت من الكِظَّهْ{[3611]}
ودنيا تَجُودُ على الجاهلين *** وهي على ذي النُّهَى فَظَّهْ
وغلظ القلب عبارة عن تجهم الوجه ، وقلة الانفعال في الرغائب ، وقلة الإشفاق والرحمة ، ومن ذلك قول الشاعر :
يُبْكَى علينا ولا نَبْكِي على أحد ؟ *** لنحن أغلظُ أكباداً من الإبل
ومعنى " لانفضوا " لتفرقوا ، فضضتهم فانفضوا ، أي فرقتهم فتفرقوا ، ومن ذلك قول أبي النجم يصف إبلا :
مستعجلات القيض{[3612]} غير جُرْدِ{[3613]} *** ينفَضّ عنهن الحصى بالصَّمْدِ{[3614]}
وأصل الفض الكسر ، ومنه قولهم : لا يفضض الله فاك . والمعنى : يا محمد لولا رفقك لمنعهم الاحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم .
في قوله تعالى : " فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر " فيه ثمان مسائل :
الأولى : قال العلماء : أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة ، فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر فيما لله عليهم من تبعة أيضا ، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلا للاستشارة في الأمور . قال أهل اللغة : الاستشارة مأخوذة من قول العرب : شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها بجري أو غيره . ويقال للموضع الذي تركض فيه : مشوار . وقد يكون من قولهم : شرت العسل واشترته فهو مشور ومشتار إذا أخذته من موضعه ، قال عدي بن زيد :
في سماعٍ يأذن الشيخُ له *** وحديثٍ مثلِ ماذِيٍّ مُشَارِ{[3615]}
الثانية : قال ابن عطية : والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب . هذا ما لا خلاف فيه . وقد مدح الله المؤمنين بقوله : " وأمرهم شورى بينهم " {[3616]} [ الشورى : 38 ] . قال أعرابي : ما غبنت قط حتى يغبن قومي ، قيل : وكيف ذلك ؟ قال لا أفعل شيئا حتى أشاورهم . وقال ابن خويز منداد : واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون ، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين ، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب ، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح ، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها . وكان يقال : ما ندم من استشار{[3617]} . وكان يقال : من أعجب برأيه ضل .
الثالثة : قوله تعالى : " وشاورهم في الأمر " يدل على جواز الاجتهاد في الأمور والأخذ بالظنون مع إمكان الوحي ، فإن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك . واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أمر الله نبيه عليه السلام أن يشاور فيه أصحابه ، فقالت طائفة : ذلك في مكائد الحروب ، وعند لقاء العدو ، وتطييبا لنفوسهم ، ورفعا لأقدارهم ، وتألفا على دينهم ، وإن كان الله تعالى قد أغناه عن رأيهم بوحيه . روي هذا عن قتادة والربيع وابن إسحاق والشافعي . قال الشافعي : هو كقوله ( والبكر تستأمر ) تطيبا لقلبها ، لا أنه واجب . وقال مقاتل وقتادة والربيع : كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم : فأمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يشاورهم في الأمر : فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم ، وأطيب لنفوسهم . فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم . وقال آخرون : ذلك فيما لم يأته فيه وحي . روي ذلك عن الحسن البصري والضحاك قالا : ما أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم ، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل ، ولتقتدي به أمته من بعده . وفي قراءة ابن عباس : " وشاورهم في بعض الأمر " ولقد أحسن القائل :
شاورْ صديقَكَ في الخَفِي المُشْكِل *** واقبل نصيحة ناصحٍ مُتَفَضِّلِ
فالله قد أوصى بذاك نبيَّه *** في قوله : ( شاورهم )و ( توكل )
الرابعة : جاء في مصنف أبي داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المستشار مؤتمن ) . قال العلماء : وصفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالما دينا ، وقلما يكون ذلك إلا في عاقل . قال الحسن : ما كمل دين امرئ ما لم يكمل عقله . فإذا استشير من هذه صفته واجتهد في الصلاح وبذل جهده فوقعت الإشارة خطأ فلا غرامة عليه ؛ قاله الخطابي وغيره .
الخامسة : وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلا مجربا وادا في المستشير . قال :
وإن بابُ أمرٍ عليك التوى *** فشاور لبيبا ولا تعصه
في أبيات{[3618]} . والشورى بركة . وقال عليه السلام : ( ما ندم من استشار ولا خاب من استخار ) . وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما شقي قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأي ) . وقال بعضهم : شاور من جرب الأمور ، فإنه يعطيك من رأيه ما وقع عليه غاليا وأنت تأخذه مجانا . وقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة - وهي أعظم النوازل - شورى . قال البخاري : وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها . وقال سفيان الثوري : ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة ، ومن يخشى الله تعالى . وقال الحسن : والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم لأفضل ما يحضر{[3619]} بهم . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوه في مشورتهم إلا خير لهم ) .
السادسة : والشورى مبنية على اختلاف الآراء ، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف ، وينظر أقربها قولا إلى الكتاب والسنة إن أمكنه ، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلا عليه ، إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب ، وبهذا أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية .
السابعة : قوله تعالى : " فإذا عزمت فتوكل على الله " قال قتادة : أمر الله تعالى نبيه عليه السلام إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله ، لا على مشاورتهم . والعزم هو الأمر المروى المنقح ، وليس ركوب الرأي دون روية عزما ، إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب ، كما قال{[3620]} :
إذا هَمَّ ألقى بين عينيه عزمه *** ونَكَّبَ عن ذكر العواقب جانبَا
ولم يستشر في رأيه غيرَ نفسه *** ولم يرضَ إلا قائمَ السيف صاحبَا
وقال النقاش : العزم والحزم واحد ، والحاء مبدلة من العين . قال ابن عطية : وهذا خطأ ، فالحزم جودة النظر في الأمر وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه . والعزم قصد الإمضاء ، والله تعالى يقول : " وشاورهم في الأم فإذا عزمت " . فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم . والعرب تقول : قد أحزُمُ لو أعزِمُ{[3621]} . وقرأ جعفر الصادق وجابر بن زيد : " فإذا عزمت " بضم التاء . نسب العزم إلى نفسه سبحانه إذ هو بهدايته وتوفيقه ، كما قال : " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " {[3622]} [ الأنفال : 17 ] . ومعنى الكلام أي عزمت لك ووفقتك وأرشدتك " فتوكل على الله " . والباقون بفتح التاء . قال المهلب : وامتثل هذا النبي صلى الله عليه وسلم من أمر ربه فقال : ( لا ينبغي لنبي يلبس لأمته{[3623]} أن يضعها حتى يحكم الله ) . أي ليس ينبغي له إذا عزم أن ينصرف ؛ لأنه نقض للتوكل الذي شرطه الله عز وجل مع العزيمة . فلبسه لأمته صلى الله عليه وسلم حين أشار عليه بالخروج يوم أحد من أكرمه الله بالشهادة فيه ، وهم صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بدر : يا رسول الله اخرج بنا إلى عدونا ، دال على العزيمة . وكان صلى الله عليه وسلم أشار بالقعود ، وكذلك عبد الله بن أبي أشار بذلك وقال : أقم يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس ، فإن هم أقاموا أقاموا بشر مجلس ، وإن جاؤونا إلى المدينة قاتلناهم في الأفنية وأفواه السكك ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام{[3624]} ، فوالله ما حاربنا قط عدو في هذه المدينة إلا غلبناه ، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا . وأبى هذا الرأي من ذكرنا ، وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب . فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة ، ودخل إثر صلاته بيته ولبس سلاحه ، فندم أولئك القوم وقالوا : أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما خرج عليهم في سلاحه قالوا : يا رسول الله ، أقم إن شئت فإنا لا نريد أن نكرهك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا ينبغي لنبي إذا لبس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل ) .
الثامنة : قوله تعالى : " فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين " التوكل : الاعتماد على الله مع إظهار العجز ، والاسم التكلان . يقال منه : اتكلت عليه في أمري ، وأصله : " أوتكلت " قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، ثم أبدلت منها التاء وأدغمت في تاء الافتعال . ويقال : وكلته بأمري توكيلا ، والاسم الوكالة بكسر الواو وفتحها .
واختلف العلماء في التوكل ، فقالت طائفة من المتصوفة : لا يستحقه إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله من سبع أو غيره ، وحتى يترك السعي في طلب الرزق لضمان الله تعالى . وقال عامة الفقهاء : ما تقدم ذكره عند قوله تعالى : " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " {[3625]} [ آل عمران : 160 ] . وهو الصحيح كما بيناه . وقد خاف موسى وهارون بإخبار الله تعالى عنهما في قوله " لا تخافا " . وقال : " فأوجس في نفسه خيفة موسى " قلنا لا تخف " {[3626]} [ طه : 67 - 68 ] . وأخبر عن إبراهيم بقوله : " فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف " {[3627]} [ هود : 70 ] . فإذا كان الخليل وموسى والكليم قد خافا - وحسبك بهما - فغيرهما أولى . وسيأتي بيان هذا المعنى .