في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ مَا كُنتُ بِدۡعٗا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدۡرِي مَا يُفۡعَلُ بِي وَلَا بِكُمۡۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ وَمَآ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٞ} (9)

ويمضي معهم في مناقشة القضية - قضية الوحي - من زاوية أخرى واقعية مشهودة . فماذا ينكرون من أمر الوحي والرسالة ؛ ولم يعجلون بتهمة السحر أو تهمة الافتراء ? وليس في الأمر غريب ولا عجيب :

( قل : ما كنت بدعا من الرسل . وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . إن أتبع إلا ما يوحى إلي . وما أنا إلا نذير مبين ) . .

إنه[ صلى الله عليه وسلم ] ليس أول رسول . فقد سبقته الرسل . وأمره كأمرهم . وما كان بدعا من الرسل . بشر يعلم الله أنه أهل للرسالة فيوحي إليه ، فيصدع بما يؤمر . هذا هو جوهر الرسالة وطبيعتها . . والرسول حين يتصل قلبه لا يسأل ربه دليلا ، ولا يطلب لنفسه اختصاصا إنما يمضي في سبيله ، يبلغ رسالة ربه ، حسبما أوحي بها إليه : ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) . . فهو لا يمضي في رسالته لأنه يعلم الغيب ؛ أو لأنه يطلع على ما يكون من شأنه وشأن قومه وشأن الرسالة التي يبشر بها . إنما هو يمضي وفق الإشارة وحسب التوجيه . واثقا بربه ، مستسلما لإرادته ، مطيعا لتوجيهه ، يضع خطاه حيث قادها الله . والغيب أمامه مجهول ، سره عند ربه . وهو لا يتطلع إلى السر من وراء الستر لأن قلبه مطمئن ، ولأن أدبه مع ربه ينهاه عن التطلع لغير ما فتح له . فهو واقف أبدا عند حدوده وحدود وظيفته : ( وما أنا إلا نذير مبين ) . .

وإنه لأدب الواصلين ، وإنها لطمأنينة العارفين ، يتأسون فيها برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيمضون في دعوتهم لله . لا لأنهم يعرفون مآلها ، أو يعلمون مستقبلها . أو يملكون فيها قليلا أو كثيرا . ولكن لأن هذا واجبهم وكفى . وما يطلبون من ربهم برهانا فبرهانهم في قلوبهم . وما يطلبون لأنفسهم خصوصية فخصوصيتهم أنه اختارهم . وما يتجاوزون الخط الدقيق الذي خطه لهم ، ورسم لهم فيه مواقع أقدامهم على طول الطريق .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قُلۡ مَا كُنتُ بِدۡعٗا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدۡرِي مَا يُفۡعَلُ بِي وَلَا بِكُمۡۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ وَمَآ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٞ} (9)

أعيد الأمر بأن يقول ما هو حجة عليهم لما علمت آنفاً في تفسير قوله : { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله } [ الأحقاف : 4 ] الآيات . وهذا جواب عما تضمنه قولهم : { افتراه } [ الأحقاف : 8 ] من إحالتهم صدقه فيما جاء به من الرسالة عن الله إحالة دعتهم إلى نسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الافتراء على الله . وإنما لم يعطف على جملة { قل إن افتريته } [ الأحقاف : 8 ] لأن المقصود الارتقاء في الرد عليهم من ردّ إلى أقوى منه فكان هذا كالتعدد والتكرير ، وسيأتي بعده قوله : { قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به } [ الأحقاف : 10 ] . ونظير ذلك ما في سورة المؤمنين ( 81 84 ) { بل قالوا مثل ما قال الأولون إلى قل لمن الأرضُ ومَن فيها إن كنتم تعلمون وقولِه قل من رب السماوات السبع } [ المؤمنون : 86 ] وقوله : { قل من بيده ملكوت كل شيء } [ المؤمنون : 88 ] الخ .

والبِدع بكسر الباء وسكون الدال ، معناه البَديع مثل : الخِفّ يعني الخفيف قال امرؤ القيس :

يزل الغلام الخف عن صواته

ومنه : الخِلّ بمعنى الخليل . فالبِدْع : صفة مشبهة بمعنى البَادع ، ومن أسمائه تعالى : « البديع » خالق الأشياء ومخترعها . فالمعنى : ما كنت محدثاً شيئاً لم يكن بين الرسل .

و { مِن } ابتدائية ، أي ما كنت آتياً منهم بديعاً غير مماثل لهم فكما سمعتم بالرسل الأولين أخبروا عن رسالة الله إياهم فكذلك أنا فلماذا يعجبون من دعوتي . وهذه الآية صالحة للرد على نصارى زماننا الذين طعنوا في نبوته بمطاعن لا منشأ لها إلا تضليلٌ وتمويه على عامتهم لأن الطاعنين ليسوا من الغباوة بالذين يخفى عليهم بهتانهم كقولهم إنه تزوج النساء ، أو أنه قاتل الذين كفروا ، أو أنه أحبّ زينب بنت جحش .

وقوله : { وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم } تتميم لقوله : { قل ما كنت بدعاً من الرسل } وهو بمنزلة الاعتراض فإن المشركين كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن مغيبات استهزاء فيقول أحدهم إذا ضلَّت ناقته : أين ناقتي ؟ ويقول أحدهم : مَن أبي ، أو نحو ذلك فأمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم بأنه لا يدري ما يفعل به ولا بهم ، أي في الدنيا ، وهذا معنى قوله تعالى : { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنتُ أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء } [ الأعراف : 188 ] .

ولذلك كان قوله : { إن أتبع إلا ما يوحى } استئنافاً بيانياً وإتماماً لما في قوله : { وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم } بأن قصارى ما يدريه هو اتباع ما يُعلمه الله به فهو تخصيص لعمومه ، ومثل علمه بأنه رسول من الله وأن المشركين في النار وأن وراء الموت بعثا . ومثل أنه سيهاجر إلى أرض ذات نخل بين حرتين ، ومثل قوله تعالى : { إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً } [ الفتح : 1 ] ، ونحو ذلك مما يرجع إلى ما أطلعه الله عليه ، فدع ما أطال به بعض المفسرين هنا من المراد بقوله : { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } ومن كونها منسوخة أو محكمة ومن حُكم نسخ الخبر .

ووجه عطف { ولا بكم } على { بي } بإقحام ( لا ) النافية مع أنهما متعلقان بفعل صلة { ما } الموصولة وليس في الصلة نفي ، فلماذا لم يقل : ما يفعل بي وبكم لأن الموصول وصلته لما وقعا مفعولاً للمنفي في قوله : { وما أدري } تناول النفي ما هو في حيّز ذلك الفعل المنفي فصار النفي شاملاً للجميع فحسّن إدخال حرف النفي على المعطوف ، كما حسُن دخول الباء التي شأنها أن تزاد فيجرَّ بها الاسم المنفي المعطوف على اسم ( إن ) وهو مُثبت في قوله تعالى : { أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يَعْىَ بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى } [ الأحقاف : 33 ] لوقوع { أنّ } العاملة فيه في خبر النفي وهو { أو لم يروا } وكذلك زيادة ( مِن ) في قوله تعالى : { ما يَودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن يُنزّل عليكم من خير } [ البقرة : 105 ] فإن { خيرٍ } وقع معمولاً لفعل { يُنزَّل } وهو فعل مثبت ولكنه لما انتفت ودادتهم التنزيلَ صار التنزيل كالمنفي لديهم .

وعطف { وما أنا إلا نذير مبين } على جملة { ما كنت بدعا من الرسل } لأنه الغرض المسوق له الكلام بخلاف قوله : { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } . والمعنى : وما أنا نذير مبين لا مُفْتَرٍ ، فالقصر قصر إضافي ، وهو قصر قلب لردّ قولهم { افتراه } .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قُلۡ مَا كُنتُ بِدۡعٗا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدۡرِي مَا يُفۡعَلُ بِي وَلَا بِكُمۡۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ وَمَآ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٞ} (9)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لمشركي قومك من قريش "ما كُنْتُ بِدْعا مِنَ الرّسُل "يعني: ما كنت أوّل رسل الله التي أرسلها إلى خلقه، قد كان من قبلي له رسل كثيرة أُرسلت إلى أمم قبلكم يقال منه: هو بدع في هذا الأمر، وبديع فيه، إذا كان فيه أوّل...

وقوله: "وَما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" اختلف أهل التأويل في تأويله؛ فقال بعضهم: عني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل له: قل للمؤمنين بك ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة، وإلام نصير هنالك، قالوا ثم بين الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به حالهم في الآخرة، فقيل له "إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ" وقال: "لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ"... وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله جلّ ثناؤه نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقوله للمشركين من قومه ويعلم أنه لا يدري إلام يصير أمره وأمرهم في الدنيا، أيصير أمره معهم أن يقتلوه أو يخرجوه من بينهم، أو يؤمنوا به فيتبعوه، وأمرهم إلى الهلاك، كما أهلكت الأمم المكذّبة رسلها من قبلهم أو إلى التصديق له فيما جاءهم به من عند الله... حدثنا أبو بكر الهذليّ، عن الحسن، في قوله: "وَما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" فقال: أما في الآخرة فمعاذ الله، قد علم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل، ولكن قال: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، أخرج كما أخرجت الأنبياء قبلي أو أُقتل كما قُتلت الأنبياء من قبلي، ولا أدري ما يُفْعل بي ولا بكم، أمتي المكذّبة، أم أمتي المصدّقة، أم أمتي المرمية بالحجارة من السماء قذفا، أم مخسوف بها خسفا، ثم أوحي إليه: "وَإذْ قُلْنا لَكَ إنّ رَبّكَ أحاطَ بالنّاسِ" يقول: أحطت لك بالعرب أن لا يقتلوك، فعرف أنه لا يُقتل، ثم أنزل الله عزّ وجلّ: "هُوَ الّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بالهُدَى وَدِينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ على الدّين كُلّهِ، وَكَفَى باللّهٍ شَهِيدا" يقول: أشهد لك على نفسه أنه سيُظهر دينك على الأديان، ثم قال له في أمته: "وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" فأخبره الله ما يصنع به، وما يصنع بأمته.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما أدري ما يفترض عليّ وعليكم، أو ينزل من حكم، وليس يعني ما أدري ما يفعل بي ولا بكم غدا في المعاد من ثواب الله من أطاعه، وعقابه من كذّبه.

وقال آخرون: إنما أمر أن يقول هذا في أمر كان ينتظره من قِبَل الله عزّ وجلّ في غير الثواب والعقاب.

وأولى الأقوال في ذلك بالصحة وأشبهها بما دلّ عليه التنزيل، القول الذي قاله الحسن البصري، الذي رواه عنه أبو بكر الهُذَليّ.

وإنما قلنا ذلك أولاها بالصواب لأن الخطاب من مبتدأ هذه السورة إلى هذه الآية، والخبر خرج من الله عزّ وجلّ خطابا للمشركين وخبرا عنهم، وتوبيخا لهم، واحتجاجا من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم عليهم. فإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن هذه الآية أيضا سبيلها سبيل ما قبلها وما بعدها في أنها احتجاج عليهم، وتوبيخ لهم، أو خبر عنهم. وإذا كان ذلك كذلك، فمحال أن يقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: قل للمشركين ما أدري ما يُفعل بي ولا بكم في الآخرة، وآيات كتاب الله عزّ وجلّ في تنزيله ووحيه إليه متتابعة بأن المشركين في النار مخلدون، والمؤمنون به في الجنان منعمون، وبذلك يرهبهم مرّة، ويرغبهم أخرى، ولو قال لهم ذلك، لقالوا له: فعلام نتبعك إذن وأنت لا تدري إلى أيّ حال تصير غدا في القيامة، إلى خفض ودعة، أم إلى شدّة وعذاب وإنما اتباعنا إياك إن اتبعناك، وتصديقنا بما تدعونا إليه، رغبة في نِعمة، وكرامة نصيبها، أو رهبة من عقوبة، وعذاب نهرب منه، ولكن ذلك كما قال الحسن، ثم بين الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ما هو فاعل به، وبمن كذّب بما جاء به من قومه وغيرهم.

وقوله: "إنْ أتّبِعُ إلاّ ما يُوحَى إليّ" يقول تعالى ذكره: قل لهم ما أتبع فيما آمركم به، وفيما أفعله من فعل إلا وحي الله الذي يوحيه إليّ،

"وَما أنا إلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ" يقول: وما أنا لكم إلا نذير، أنذركم عقاب الله على كفركم به مبين: يقول: قد أبان لكم إنذاره، وأظهر لكم دعاءه إلى ما فيه نصيحتكم، يقول: فكذلك أنا.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... وقوله تعالى: {وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم} هذا يخرّج على وجوه: أحدهما: أي ما كنت أدري قبل ذلك ما يفعل بي ولا بكم، أُختصّ للرسالة، وأُختار لها، وأُبعَث إليكم، وتُلزمَون أنتم اتّباعي والإجابة إلى ما أدعوكم، إليهن والله أعلم... الثالث: {وما أدري ما يُفعل بي لا بكم} مخافة التغيير عليه وتبديل الحال، ولم يزل الرسل عليهم السلام يخافون تغيير الأحوال عليهم وذهاب ما اختصّوا هم به كقول إبراهيم عليه السلام: {واجنُبني وبنيّ أن نعبد الأصنام} [إبراهيم: 35]...

فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: {وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم} أتُغيَّر عليّ وعليكم الأحوال التي نحن عليها اليوم، أم نُترك على ذلك؟ وحقيقة هذا الكلام على الاستقصاء قد مرّت، والله أعلم...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

"وما أنا إلا نذير مبين" أي لست إلا مخوفا من عقاب الله ومحذرا من معاصيه ومرغبا في طاعاته...

وقوله "مبين" معناه مظهر لكم الحق فيه...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرسل} فآتيكم بكل ما تقترحونه، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من المغيبات؛ فإنّ الرسل لم يكونوا يأتون إلا بما آتاهم من آياته، ولا يخبرون إلا بما أوحى إليهم. ولقد أجاب موسى صلوات الله وسلام عليه عن قول فرعون: (فما بال القرون الأولى)؟ بقوله: {علمها عند ربي} [طه: 52] {وَمَآ أَدْرِى} لأنه لا علم لي بالغيب ما يفعل الله بي وبكم فيما يستقبل من الزمان من أفعاله، ويقدّر لي ولكم من قضاياه...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم في كون القرآن معجزا، بأن قالوا إنه يختلقه من عند نفسه ثم ينسبه إلى أنه كلام الله على سبيل الفرية، حكى عنهم نوعا آخر من الشبهات، وهو أنهم كانوا يقترحون منه معجزات عجيبة قاهرة، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات، فأجاب الله تعالى عنه بأن قال: {قل ما كنت بدعا من الرسل}...

وفيه وجوه؛

(الأول) {ما كنت بدعا من الرسل} أي ما كنت أولهم، فلا ينبغي أن تنكروا إخباري بأني رسول الله إليكم، ولا تنكروا دعائي لكم إلى التوحيد، ونهيي عن عبادة الأصنام، فإن كل الرسل إنما بعثوا بهذا الطريق.

(الوجه الثاني) أنهم طلبوا منه معجزات عظيمة وأخبارا عن الغيوب فقال: {قل ما كنت بدعا من الرسل} والمعنى أن الإتيان بهذه المعجزات القاهرة والإخبار عن هذه الغيوب ليس في وسع البشر، وأنا من جنس الرسل وأحد منهم لم يقدر على ما تريدونه فكيف أقدر عليه؟

(الوجه الثالث) أنهم كانوا يعيبونه أنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وبأن أتباعه فقراء فقال: {قل ما كنت بدعا من الرسل} وكلهم كانوا على هذه الصفة وبهذه المثابة فهذه الأشياء لا تقدح في نبوتي كما لا تقدح في نبوتهم...

{وما أنا إلا نذير مبين} كانوا يطالبونه بالمعجزات العجيبة وبالإخبار عن الغيوب فقال قل: {وما أنا إلا نذير مبين} والقادر على تلك الأعمال الخارجة عن قدرة البشر والعالم بتلك الغيوب ليس إلا الله سبحانه...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{قل} أي لهؤلاء الذين نسبوك إلى الافتراء: {ما كنت} أي كوناً ما {بدعاً} أي منشئاً مبتدعاً محدثاً مخترعاً بحيث أكون أجنبياً منقطعاً {من الرسل} لم يتقدم لي منهم مثال في أصل ما جئت به...

.وهو التوحيد ومحاسن الأخلاق بل قد تقدمني رسل كثيرون أتوا بمثل ما أتيت به ودعوا إليه كما دعوت وصدقهم الله- بمثل ما صدقني به... {وما أدري} أي في هذا الحال بنوع حيلة وعمل واجتهاد {ما} أي الذي- {يفعل} أي من أيّ فاعل كان- سواء كان هو الله تعالى بلا واسطة أو بواسطة غيره- {بي} وأكد النفي ليكون ظاهراً في الاجتماع وكذلك في الانفراد أيضاً فقال-: {ولا} أي ولا أدري الذي يفعل- {بكم}...

وفي الآية بعمومها دليل على أن لله أن يفعل ما يشاء، فله أن يعذب الطائع وينعم العاصي، ولو فعل ذلك لكان عدلاً وحقاً وإن كنا نعتقد أنه لا يفعله...

{إن} أي ما {أتبع} أي -بغاية جهدي وجدي {إلا ما} أي الذي {يوحى} أي يجدد إلقاؤه ممن لا يوحي بحق إلا هو {إليّ} على سبيل التدريج سراً، لا يطلع عليه حق اطلاعه غيري...

{وما أنا} أي بإخباري لكم عما يوحى إليّ {إلا نذير} أي لكم ولكل من بلغه القرآن {مبين} أي ظاهر أني كذلك في نفسه مظهر له- أي كوني نذيراً -ولجميع الجزئيات التي أنذر منها بالأدلة القطعية.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} فإن قبلتم رسالتي وأجبتم دعوتي فهو حظكم ونصيبكم في الدنيا والآخرة، وإن رددتم ذلك علي فحسابكم على الله وقد أنذرتكم، ومن أنذر فقد أعذر...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(قل: ما كنت بدعا من الرسل. وما أدري ما يفعل بي ولا بكم. إن أتبع إلا ما يوحى إلي. وما أنا إلا نذير مبين).. إنه [صلى الله عليه وسلم] ليس أول رسول. فقد سبقته الرسل. وأمره كأمرهم. وما كان بدعا من الرسل. بشر يعلم الله أنه أهل للرسالة فيوحي إليه، فيصدع بما يؤمر. هذا هو جوهر الرسالة وطبيعتها.. (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم. إن أتبع إلا ما يوحى إلي).. فهو لا يمضي في رسالته لأنه يعلم الغيب؛ أو لأنه يطلع على ما يكون من شأنه وشأن قومه وشأن الرسالة التي يبشر بها. إنما هو يمضي وفق الإشارة وحسب التوجيه. واثقا بربه، مستسلما لإرادته، مطيعا لتوجيهه...

فهو واقف أبدا عند حدوده وحدود وظيفته: (وما أنا إلا نذير مبين).. وإنه لأدب الواصلين، وإنها لطمأنينة العارفين...

وما يطلبون من ربهم برهانا فبرهانهم في قلوبهم. وما يطلبون لأنفسهم خصوصية فخصوصيتهم أنه اختارهم...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ} فإن رسالتي هي في الخط الذي تحركت به رسالات الأنبياء السابقين...

. {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ} فلست في ما أملكه من طاقة المعرفة أعلم الغيب، لأن للغيب أدواته وأسبابه ووسائله التي لا أملكها بصفتي الذاتية كإنسان، ولا بصفتي الرسالية كنبيّ في ما تفرضه طبيعة الرسالة من دورٍ للرسول...

. {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} فالوحي هو الذي يحدّد لي خط الحركة، وهو الذي يحدد لي الخطوات من البداية إلى النهاية، {وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أبلّغكم آيات الله وأثير في عقولكم معانيها، لتكون نذيراً لكم بين يدي عذاب شديد، وذاك هو كل شيءٍ في الدور، وفي الحركة، وفي الهدف. وقد نلاحظ في هذا الجوّ القرآني الذي يضع قدرات النبي الذاتية في حدود بشريته، أن ذلك لا يعني انتفاء علم الأنبياء بالغيب من خلال الوحي الذي يحمل إليهم بعض غيب الله، كما جاء في حديث القرآن عن عيسى (عليه السلام) ممّا كان يتحدث به مع بني إسرائيل: {وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} (آل عمران: 49)، وكما جاء في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26-27)، وهذا ما تؤكده الآية القائلة: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (الأنعام: 50). فالوحي هو مصدر معرفة النبي في قضايا العقيدة والشريعة والحياة والدار الآخرة، ضمن ما يريد الله له أن يعلمه لحاجة الرسالة إليه في ساحتها العامة والخاصة.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

يقول النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنا لست أوّل نبيّ دعا إلى التوحيد، فقد جاء قبلي أنبياء كثيرون كلهم كانوا بشراً، وكانوا يلبسون الثياب ويأكلون الطعام، ولم يَدَّع أحد منهم أنّه يعلم الغيب المطلق، بل كانوا يقولون: إنّنا نعلم من أُمور الغيب ما يعلمنا الله إيّاه فقط. ولم يستسلم أحد منهم أمام المعاجز التي كان يقترحها الناس، والتي كانت تقوم على أساس الرغبة والميول. كل ذلك ليعلم الجميع أنّ النّبي أيضاً عبد من عباد الله، وعلمه وقدرته محدودة بما يريده الله سبحانه ويمنحه، فإنّ العلم المطلق والقدرة المطلقة لله جلَّ وعلاء وحسب. هذه الحقائق كان يجب على الناس أن يعلموها ويدركوها، لينتهوا من إشكالاتهم الجوفاء. كل ذلك ورد بعد البحث الذي مرّ في الآيات السابقة، حيث كانوا يرمون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسحر مرّة، وبالافتراء أُخرى، ليُعلم أنّ منبع هذه الاتهامات ومصدرها هو تلك الأوهام التي أُجيب عنها في هذه الآية. ومن هنا يتّضح أن مفاد هذه الآية لا يتنافى مع الآيات الأُخرى التي توحي بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم الغيب، كالذي ورد في سورة الفتح حول فتح مكّة ودخول المسجد الحرام الآية 27 من سورة الفتح أو ما ورد في شأن المسيح (عليه السلام) حيث يقول: (أنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم)، وأمثال ذلك، لأنّ الآية مورد البحث تنفي علم الغيب المطلق، لا مطلق علم الغيب، وبتعبير آخر، فإنّ الآية تنفي علم الغيب الاستقلالي، أمّا تلك الآيات فتتحدث عن علم الغيب الذي يُنال ببركة التعليم الإلهي. والشاهد على هذا الكلام الآيتان (26) (27) من سورة الجن: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول). وقد ذكر بعض المفسّرين سبب نزول للآية مورد البحث، فقالوا: إنّ عبء المشاكل وضغطها لما زاد على أصحاب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكّة، رأى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام أنّه يهاجر إلى أرض ذات نخيل وأشجار وماء كثير، فذكر ذلك لأصحابه، ففرحوا لذلك وظنّوا أنّهم سيرون فرجاً وسعة بعد أذى المشركين، فصبروا مدّة فلم يروا أثراً لذلك، فقالوا: يا رسول الله، لم نرَ ما أخبرتنا به، فمتى سنهاجر إلى تلك الأرض التي رأيتها في منامك؟ فسكت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت هذه الآية: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم). إلاّ أنّ سبب النّزول هذا يبدو بعيداً، لأنّ المخاطبين في هذه الآيات أعداء النّبي لا أصحابه، لكن يمكن أن يكون هذا من باب التطبيق، أي أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) تمسّك بهذه الآية وأجاب بها أصحابه حينما طرحوا هذا السؤال.