ثم توكيد للمرة الثالثة بمناسبة غرض آخر جديد ، وهو إبطال حجة أهل الكتاب ، وحجة غيرهم من كانوا يرون المسلمين يتوجهون إلى قبلة اليهود ، فيميلون إلى الاقتناع بما يذيعه اليهود من فضل دينهم على دين محمد ، وأصالة قبلتهم ومن ثم منهجهم . أو من مشركي العرب الذين كانوا يجدون في هذا التوجيه وسيلة لصد العرب الذي يقدسون مسجدهم وتنفيرهم من الإسلام الذي يتجه أهله شطر قبلة بني إسرائيل !
( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ، لئلا يكون للناس عليكم حجة ، إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ، ولأتم نعمتي عليكم ، ولعلكم تهتدون ) . .
وهو أمر للرسول [ ص ] أن يولي وجهه شطر المسجد من حيث خرج ، وإلى المسلمين أن يولوا وجوههم شطره حيثما كانوا . وبيان لعلة هذا التوجيه :
( لئلا يكون للناس عليكم حجة ) . .
وتهوين لما بعد ذلك من أقاويل الظالمين الذين لا يقفون عند الحجة والنطق ، إنما ينساقون مع العناد واللجاج . فهؤلاء لا سبيل إلى إسكاتهم ، فسيظلون إذن في لجاجهم . فلا على المسلمين منهم :
( فلا تخشوهم . . واخشوني ) . .
فلا سلطان لهم عليكم ، ولا يملكون شيئا من أمركم ، ولا ينبغي أن تحفلوهم فتميلوا عما جاءكم من عندي ، فأنا الذي استحق الخشية بما أملك من أمركم في الدنيا والآخرة . . ومع التهوين من شأن الذين ظلموا ، والتحذير من بأس الله ، يجيء التذكير بنعمة الله ، والإطماع في اتمامها على الأمة المسلمة حين تستجيب وتستقيم :
( ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ) . . .
وهو تذكير موح ، وإطماع دافع ، وتلويح بفضل عظيم بعد فضل عظيم . .
ولقد كانت النعمة التي يذكرهم بها حاضرة بين أيديهم ، يدركونها في أنفسهم ، ويدركونها في حياتهم ، ويدركونها في مجتمعهم وموقفهم في الأرض ومكانهم في الوجود . .
كانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية بظلامها ورجسها وجهالتها ، ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى نور الإيمان وطهارته ومعرفته . فهم يجدون في أنفسهم أثر النعمة جديدا واضحا عميقا .
وكانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية قبائل متناحرة ، ذات أهداف صغيرة واهتمامات محدودة . ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى الوحدة تحت راية العقيدة ، وإلى القوة والمنعة ، وإلى الغايات الرفيعة والاهتمامات الكبيرة التي تتعلق بشأن البشرية كلها لا بشأن ثأر في قبيلة ! فهم يجدون أثر النعمة من حولهم كما وجدوه في أنفسهم .
وكانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية في مجتمع هابط دنس مشوش التصورات مضطرب القيم . . ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى مجتمع الإسلام النظيف الرفيع ، الواضح التصور والاعتقاد ، المستقيم القيم والموازين . . فهم يجدون أثر النعمة في حياتهم العامة كما وجدوه في قلوبهم وفي مكانهم من الأمم حولهم .
فإذا قال الله لهم : ( ولأتم نعمتي عليكم ) . . كان في هذا القول تذكير موح ، وإطماع دافع وتلويح بفضل عظيم بعد فضل عظيم . .
ونجد في تكرار الأمر بشأن القبلة الجديدة معنى جديدا في كل مرة . . في المرة الأولى كان الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام استجابة لرغبة الرسول [ ص ] بعد تقلب وجهه في السماء وضراعته الصامتة إلى ربه . . وفي الثانية كان لإثبات أنه الحق من ربه يوافق الرغبة والضراعة . . وفي الثالثة كان لقطع حجة الناس ، والتهوين من شأن من لا يقف عند الحق والحجة . .
ولكننا - مع هذا - نلمح وراء التكرار أنه كانت هناك حالة واقعة في الصف الإسلامي تستدعي هذا التكرار ، وهذا التوكيد ، وهذا البيان ، وهذا التعليل ، مما يشي بضخامة حملة الأضاليل والأباطيل ، وأثرها في بعض القلوب والنفوس . هذا الأثر الذي كان يعالجه القرآن الكريم ؛ ثم تبقى النصوص بعد ذلك على مدى الزمان تعالج مثل هذه الحالة في شتى صورها ؛ في المعركة الدائبة التي لا تهدأ ولا تفتر ولا تلين !
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 150 )
قوله تعالى : { فولوا وجوهكم شطره } هو فرض استقبال القبلة على المصلين ، وفرض المصلي ما دام يرى الكعبة أن يصادفها باستقباله ، فإذا غابت عنه ففرضه الاجتهاد في مصادفتها ، فإن اجتهد ثم كشف الغيب أنه أخطأ فلا شيء عليه عند كثير من العلماء ، ورأى مالك رحمه الله أن يعيد في الوقت إحرازاً لفضيلة القبلة( {[1408]} ) .
وقوله تعالى : { لئلا يكون للناس عليكم حجة } الآية ، قرأ نافع وحده بتسهيل الهمزة ، وقرأ الباقون { لئلا } بالهمز ، والمعنى : عرفتكم وجه الصواب في قبلتكم والحجة في ذلك { لئلا }( {[1409]} ) ، وقوله : { للناس } عموم في اليهود والعرب وغيرهم ، وقيل : المراد بالناس اليهود ثم استثنى كفار العرب .
قال القاضي أبو محمد : وقوله { منهم } يرد هذا التأويل : وقالت فرقة { إلا الذين } استثناء متصل ، وهذا مع عموم لفظة الناس( {[1410]} ) ، والمعنى أنه لا حجة( {[1411]} ) لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا ، يعني اليهود وغيرهم من كل من تكلم في النازلة في قولهم { ما ولاهم } استهزاء ، وفي قولهم : تحير محمد في دينه ، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو من منافق ، وسماها تعالى حجة وحكم بفسادها حين كانت من ظلمة ، وقالت طائفة { إلا الذين } استثناء منقطع وهذا مع كون الناس اليهود فقط ، وقد ذكرنا ضعف هذا القول ، والمعنى : لكن الذين ظلموا( {[1412]} ) يعني كفار قريش في قولهم رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله ، ويدخل في ذلك كل من تكلم في النازلة من غير اليهود ، وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وابن زيد : «ألا » بفتح الهمزة وتخفيف اللام على معنى استفتاح الكلام ، فيكون { الذين } ابتداء( {[1413]} ) ، أو على معنى الإغراء بهم فيكون { الذين } نصباً بفعل مقدر .
وقوله تعالى : { فلا تخشوهم واخشوني } الآية ، تحقير لشأنهم وأمر باطراح أمرهم ومراعاة أمره ، وقوله { ولأتم } عطف على قوله { لئلا }( {[1414]} ) ، وقيل : هو مقطوع في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر بعد ذاك ، والتقدير لأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي ونحوه( {[1415]} ) . و { لعلكم تهتدون } ترجٍّ في حق البشر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.