( قد كان لكم آية في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين . والله يؤيد بنصره من يشاء . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) . .
وقوله تعالى : ( يرونهم مثليهم رأي العين ) يحتمل تفسيرين : فإما أن يكون ضمير( يرون ) راجعا إلى الكفار ، وضمير( هم ) راجعا إلى المسلمين ، ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين( مثليهم ) . . وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة وهم قلة ، فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم .
وإما أن يكون العكس ، ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين ( مثليهم ) هم - في حين أن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم - ومع هذا ثبتوا وانتصروا .
والمهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره . . وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد . كما أن فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم . . وكان الموقف - كما ذكرنا في التمهيد للسورة - يقتضي هذا وذاك . . وكان القرآن يعمل هنا وهناك . .
وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة . وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة . . إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله ، قائم في كل لحظة . ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة - ولو قل عددها - قائم كذلك في كل لحظة . وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ ، وسنة ماضية لم تتوقف .
وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة ؛ وتثق في ذلك الوعد ؛ وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة ؛ وتصبر حتى يأذن الله ؛ ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله ، المدبر بحكمته ، المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة .
( إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) . .
ولا بد من بصر ينظر وبصير تتدبر ، لتبرز العبرة ، وتعيها القلوب . وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار !
{ قد كان لكم آية } الخطاب لقريش أو لليهود ، وقيل للمؤمنين . { في فئتين التقتا } يوم بدر . { فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم } يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين ، وكان قريبا من ألف ، أو مثلي عدد المسلمين وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، وذلك كان بعد ما قللهم في أعينهم حتى اجترؤوا عليهم وتوجهوا إليهم ، قلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا مددا من الله تعالى للمؤمنين ، أو يرى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين وكانوا ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم ويتيقنوا بالنصر الذي وعدهم الله به في قوله : { فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } . ويؤيده قراءة نافع ويعقوب بالتاء وقرئ بهما على البناء للمفعول أي يريهم الله ، أو يريكم ذلك بقدرته ، وفئة بالجر على البدل من فئتين والنصب على الاختصاص ، أو الحال من فاعل التفتا . { رأي العين } رؤية ظاهرة معاينة { والله يؤيد بنصره من يشاء } نصره كما أيد أهل بدر . { إن في ذلك } أي التقليل والتكثير ، أو غلبة القليل عديم العدة في الكثير شاكي السلاح ، وكون الواقعة آية أيضا يحتملها ويحتمل وقوع الأمر على ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم . { لعبرة لأولى الأبصار } أي لعظة لذوي البصائر . وقيل لمن أبصرهم .
الخطاب في قوله : { قد كان لكم آية } خطاب للذين كفروا ، كما هو الظاهر ؛ لأنّ المقام للمحاجّة ، فأعقب الإنذار والوعيد بإقامة الحجّة . فيكون من جملة المقول ، ويجوز أن يكون الخطاب للمسلمين ، فيكون استئنافاً ناشئاً عن قوله ستُغلبون ؛ إذ لعلّ كثرة المخاطبين من المشركين ، أو اليهود ، أو كليهما ، يثير تعجّب السامعين من غلبهم فذكرهم الله بما كان يوم بدر .
والفئتان هما المسلمون والمشركون يوم بدر .
والالتقاء : اللقاء ، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة ، واللقاء مصادفة الشخصصِ شخصاً في مَكان واحد ، ويطلق اللقاء على البروز للقتال كما في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } وسيأتي . والالتقاء يطلق كذلك كقول أنيف بن زبان :
فلما التقينا بين لسيف بيننا *** لسائلة عنا حفي سؤالها .
وقوله { فئة تقاتل } تفصيل للفئتين ، وهو مرفوع على أنه صدر جملة للاستئناف في التفصيل والتقسيم ، الوارد بعد الإجمال والجمع .
والفئة : الجماعة من الناس ، وقد نقدم الكلام عليها في قوله تعالى { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } في سورة البقرة .
والخطاب في { ترونهم } كالخطاب في قوله : { قد كان لكم } .
والرؤية هنا بصرية بقوله { رأي العين } والظاهر أن الكفار رأو المسلمين يوم بدر عند اللقاء والتلاحم مثلي عددهم ، فوقع الرعب في قلوبهم فانهزموا . فهذه الرؤية جعلت آية لمن رأوها وتحققوا بعد الهزيمة أنهم كانوا واهمين فيما رأوه ليكون ذلك أشد حسرة لهم ، وتكون هذه الرؤية غير الرؤية المذكورة في الأنفال بقوله : { ويقللكم في أعينهم } فإن تلك يناسب أن تكون وقعت قبل التلاحم ، حتى يستخف المشركون بالمسلمين ، فلا يأخذوا أهميتهم للقائهم ، فلما لاقوهم رأوهم مثلي عددهم فدخلهم الرعب والهزيمة ، وتحققوا قلة المسلمين بعد انكشاف الملحمة فقد كانت إرادة القلة وإرادة الكثرة سببي نصر المسلمين بعجيب صنع الله تعالى . وجوز أن يكون المسلمون رأوا المشركين مثلي عدد المؤمنين ، وكان المشركون ثلاثة أمثالهم ، فقللهم الله في أعين المسلمين لئلا يفشلوا لأنهم قد علموا من قبل أن المسلم يغلب كافرَين فلو علموا أنهم ثلاثة أضعافهم لخافو الهزيمة ، وتكون هذه الإراءة هي الإراءة المذكورة في سورة الأنفال { وإذ يريكموهم إذ القتيتم في أعينكم قليلا } ويكون ضمير الغيبة في قوله { مثليهم } راجعا للمسلمين على طريقة الالتفات ، وأصله ترونهم مثليكم على أنه من المقول .
وقرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب : ترونهم – بناء الخطاب – وقرأه الباقون بياء الغيبة : على أنه حال من { أخرى كافرة } ، أو من { فئة تقاتل في سبيل الله } أي مثلي عدد المرئين . إن كان الراءون هم المشركون ، أو مثلي عدد الرائين ، إن كان الراءون هم المسلمين . لأن كليهما جرى ضميره على الغيبة وكلتا الرؤيتين قد وقعت يوم بدر وكل فئة علمت رؤيتها وتُحديت بهاته الآية ، وعلى هذه القراءة يكون العدول عن التغيير بفئتكم إلى قوله { فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة } لقصد صلوحية ضمير الغيبة لكلتا الفئتين ، فيفيد اللفظ آيتين على التوزيع بطريقة التوجيه .
و { رأي العين } مصدر مبين لنوع الرؤية : إذ كان فعل رأى يحتمل البصر والقلب وإضافته إلى العين دليل على أنه يستعمل مصدرا لرأى القلبية . كيف والرأي اسم للعقل ، وتشار فيها رأى البصرية ، بخلاف الرؤية فخاصة بالبصرية .
وجملة { والله يؤيد بنصره من يشاء } تذييل لأن تلك الرؤية كيفما فسرت تأييد للمسلمين . قال تعالى { إذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.