ويستطرد السياق في تقرير هذا المعنى وتوكيده وهو يبين شعائر الحج بنحر البدن :
والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير ، فاذكروا اسم الله عليها صواف . فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها واطعموا القانع والمعتر . كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون . . لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ، ولكن يناله التقوى منكم ، كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم ، وبشر المحسنين . .
ويخص البدن بالذكر لأنها أعظم الهدي ، فيقرر أن الله أراد بها الخير لهم ، فجعل فيها خيرا وهي حية تركب وتحلب ، وهي ذبيحة تهدى وتطعم فجزاء ما جعلها الله خيرا لهم أن يذكروا اسم الله عليها ويتوجهوا بها إليه وهي تهيأ للنحر بصف أقدامها : ( فاذكروا اسم الله عليها صواف ) . والإبل تنحر قائمة على ثلاث معقولة الرجل الرابعة - ( فإذا وجبت جنوبها )واطمأنت على الأرض بموتها أكل منها أصحابها استحبابا ، وأطعموا منها الفقير القانع الذي لا يسأل والفقير المعتر الذي يتعرض للسؤال . فلهذا سخرها الله للناس ليشكروه على ما قدر لهم فيها من الخير حية وذبيحة : ( كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ) . .
{ والبدن } جمع بدنه كخشب وخشبة ، وأصله الضم وقد قرئ به وإنما سميت بها الإبل لعظم بدنها مأخوذة من بدن بدانة ، ولا يلزم من مشاركة البقرة لها في أجزائها عن سبعة بقوله عليه الصلاة السلام " البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة " تناول اسم البدنة لها شرعا . بل الحديث يمنع ذلك وانتصابه بفعل يفسره . { جعلناها لكم } ومن رفعه جعله مبتدأ . { من شعائر الله } من أعلام دينه التي شرعها الله تعالى . { لكم فيها خير } منافع دينية وذنيوية . { فاذكروا اسم الله عليها } بأن تقولوا عند ذبحها الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك . { صواف } قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن ، وقرئ " صوافن " من صفن الفرس إذا قام على ثلاث . وعلى طرف حافر الرابعة لأن البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث ، وقرئ " صوافنا " بإبدال التنوين منحرف الإطلاق عند الوقف و " صوافي " أي خوالص لوجه الله ، و " صوافي " بسكون الياء على لغة من يسكن الياء مطلقا كقولهم : أعط القوس باريها . { فإذا وجبت جنوبها } سقطت على الأرض وهو كناية عن الموت . { فكلوا منها وأطعموا القانع } الراضي بما عنده وبما يعطى من غير مسألة ويؤيده قراءة " القنع " أو السائل من قنعت إليه قنوعا إذا خضعت له في السؤال . { والمعتر } والمعترض بالسؤال ، وقرىء " والمعتري " يقال عره وعراه واعتره واعتراه . { كذلك } مثل ما وصفنا من نحرها قياما . { سخرناها لكم } مع عظامها وقوتها حتى تأخذوها منقادة فتعقلوها وتحبسوها صافة قوائمها ثم تطعنون في لباتها . { لعلكم تشكرون } إنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص .
البدن جمع بدنة وهي ما أشعر من ناقة أو بقرة ، قاله عطاء وغيره وسميت بذلك لأنها تبدن أي تسمن ، وقيل بل هذا الاسم خاص بالإبل ، وقالت فرقة { البدن } جمع بَدَن بفتح الدال والباء ثم اختلفت ، فقال بعضها { البدن } مفرد اسم جنس يراد به العظيم السمين من الإبل والبقر ، ويقال للسمين من الرجال بدن{[8377]} ، وقال بعضها { البدن } جمع بدنة كمثرة وثمر ، وقرأ الجمهور «والبدْن » ساكنة الدال ، وقرأ أبو جعفر وشيبة والحسن وابن أبي إسحاق «البدُن » بضم الدال ، فيحتمل أن يكون جمع بدنة كثمر ، وعدد الله تعالى في هذه الآية نعمته على الناس في هذه { البدن } ، وقد تقدم القول في «الشعائر » ، و «الخير » قيل فيه ما قيل في المنافع التي تقدم ذكرها والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة ، وقوله ، { عليها } يريد عند نحرها ، وقرأ جمهور الناس «صوافَّ » بفتح الفاء وشدها جمع صافَّة أي مصطفة في قيامها ، وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري وشقيق وسليمان التيمي والأعرج «صوافي » جمع صافية أي خالصة لوجه الله تعالى لا شركة فيها لشيء كما كانت الجاهلية تشرك ، وقرأ الحسن أيضاً «صوافٍ » بكسر الفاء وتنوينها مخففة وهي بمعنى التي قبلها لكن حذفت الياء تخفيفاً على غير قياس وفي هذا نظر ، وقرأ ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبو جعفر محمد بن علي «صوافن » بالنون جمع صافنة وهي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب ، والصافن من الخيل الرافع لفراهيته إحدى يديه وقيل إحدى رجليه ومنه قوله تعالى : { الصافنات الجياد }{[8378]} [ ص : 31 ] .
تركنا الخيل عاكفة عليه . . . مقلدة أعنتها صفونا{[8379]}
و { وجبت } ، معناه سقطت بعد نحرها ، ومنه وجبت الشمس ، ومنه قول أوس بن جحر : ألم تكسف الشمس والبدر والكواكب للجبل الواجب{[8380]} ، وقوله { كلوا } ندب ، وكل العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هديه وفيه أجر وامتثال إذ كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم ، وقال مجاهد وإبراهيم والطبري : هي إباحة ، و { القانع } ، السائل يقال قنَع الرجل يقنع قنوعاً إذا سأل ، بفتح النون في الماضي ، وقنِع بكسر النون يقنع قناعة فهو قنع إذا تعفف واستغنى ، قاله الخليل ومن الأول قول الشماخ :
لَمَالُ المرء يصلحه فيغني . . . مفاقره أعف من القنوع{[8381]}
فمحرور القول من أهل العلم قالوا { القانع } السائل { والمعتر } المتعرض من غير سؤال ، قال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن بن أبي الحسن ، وعكست فرقة هذا القول ، حكى الطبري عن ابن عباس أنه قال { القانع } المستغني بما أعطيه { والمعتر } المتعرض ، وحكي عنه أنه قال { القانع } المتعفف { والمعتر } السائل ، وحكي عن مجاهد أنه قال { القانع } الجار وإن كان غنياً ، وقرأ أبو رجاء «القنع » فعلى هذا التأويل معنى الآية أطعموا المتعفف الذي لا يأتي متعرضاً والمتعرض ، وذهب أبو الفتح بن جني إلى أنه أراد القانع فحذف الألف تخفيفاً{[8382]} وهذا بعيد لأن توجيهه على ما ذكرته آنفاً أحسن وإنما يلجأ إلى هذا إذا لم توجد مندوحة ، وقرأ أبو رجاء وعمرو بن عبيد «المعتري » والمعنى واحد{[8383]} ، وروي عن أبي رجاء «والمعتر » بتخفيف الراء وقال الشاعر : [ الطويل ]
لعمرك ما المعتر يغشى بلادنا . . . لنمنعه بالضائع المتهضم{[8384]}
وذهب ابن مسعود إلى أن الهدي أثلاث ، وقال جعفر بن محمد عن أبيه : أطعم { القانع والمعتر } ثلثاً ، والبائس الفقير ثلثاً ، وأهلي ثلثاً ، وقال ابن المسيب : ليس لصاحب الهدي منه إلا الربع وهذا كله على جهة الاستحسان لا على الفرض ، ثم قال { كذلك } أي وكما أمرناكم فيها بهذا كله { سخرناها لكم } ، { ولعلكم } ، ترجّ في حقنا وبالإضافة إلى نظرنا .