في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٞ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخۡفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبۡدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٞ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (154)

121

ولقد أعقب هول الهزيمة وذعرها ، وهرجها ومرجها ، سكون عجيب . سكون في نفوس المؤمنين الذين ثابوا إلى ربهم ، وثابوا إلى نبيهم . لقد شملهم نعاس لطيف يستسلمون إليه مطمئنين !

والتعبير عن هذه الظاهرة العجيبة يشف ويرق وينعم ، حتى ليصور بجرسه وظله ذلك الجو المطمئن الوديع :

( ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم ) . .

وهي ظاهرة عجيبة تشي برحمة الله التي تحف بعباده المؤمنين ؛ فالنعاس حين يلم بالمجهدين المرهقين المفزعين ، ولو لحظة واحدة ، يفعل في كيانهم فعل السحر ، ويردهم خلقا جديدا ، ويسكب في قلوبهم الطمأنينة ، كما يسكب في كيانهم الراحة . بطريقة مجهولة الكنه والكيف ! أقول هذا وقد جربته في لحظة كرب وشدة . فأحسست فيه رحمة الله الندية العميقة بصورة تعجز عن وصفها العبارة البشرية القاصرة !

روى الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد ابن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال : " رفعت رأسي يوم أحد ، وجعلت أنظر ، وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت جحفته من النعاس " .

وفي رواية أخرى عن أبي طلحة : " غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه " . .

أما الطائفة الأخرى ؛ فهم ذوو الإيمان المزعزع ، الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم ، والذين لم يتخلصوا من تصورات الجاهلية ، ولم يسلموا أنفسهم كلها لله خالصة ، ولم يستسلموا بكليتهم لقدره ، ولم تطمئن قلوبهم إلى أن ما أصابهم إنما هو ابتلاء للتمحيص ، وليس تخليا من الله عن أوليائه لأعدائه ، ولا قضاء منه - سبحانه - للكفر والشر والباطل بالغلبة الأخيرة والنصر الكامل :

( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية . يقولون : هل لنا من الأمر من شيء ؟ ) . .

أن هذه العقيدة تعلم أصحابها - فيما تعلم - أن ليس لهم في أنفسهم شيء ، فهم كلهم لله ؛ وأنهم حين يخرجون للجهاد في سبيله يخرجون له ، ويتحركون له ، ويقاتلون له ، بلا هدف آخر لذواتهم في هذا الجهاد ، وأنهم يسلمون أنفسهم لقدره ، فيتلقون ما يأتيهم به هذا القدر في رضى وفي تسليم ، كائنا هذا القدر ما يكون .

فأما الذين تهمهم أنفسهم ، وتصبح محور تفكيرهم وتقديرهم ، ومحور اهتمامهم وانشغالهم . . فهؤلاء لم تكتمل في نفوسهم حقيقة الإيمان . ومن هؤلاء كانت تلك الطائفة الأخرى التي يتحدث عنها القرآن في هذا الموضع . طائفة الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم ، فهم في قلق وفي أرجحة ، يحسون أنهم مضيعون في أمر غير واضح في تصورهم ، ويرون أنهم دفعوا إلى المعركة دفعا ولا إرادة لهم فيها ؛ وهم مع ذلك يتعرضون للبلاء المرير ، ويؤدون الثمن فادحا من القتل والقرح والألم . . وهم لا يعرفون الله على حقيقته ، فهم يظنون بالله غير الحق ، كما تظن الجاهلية . ومن الظن غير الحق بالله أن يتصوروا أنه - سبحانه - مضيعهم في هذه المعركة ، التي ليس لهم من أمرها شيء ، وإنما دفعوا إليها دفعا ليموتوا ويجرحوا ، والله لا ينصرهم ولا ينقذهم ؛ إنما يدعهم فريسة لأعدائهم ، ويتساءلون :

( هل لنا من الأمر من شيء ؟ ) .

وتتضمن قولتهم هذه الاعتراض على خطة القيادة والمعركة . . ولعلهم ممن كان رأيهم عدم الخروج من المدينة ؛ ممن لم يرجعوا مع عبد الله بن أبي . . ولكن قلوبهم لم تكن قد استقرت واطمأنت . .

وقبل أن يكمل السياق عرض وساوسهم وظنونهم ، يبادر بتصحيح الأمر وتقرير الحقيقة فيما يتساءلون فيه ، ويرد على قولتهم : ( هل لنا من الأمر من شيء ؟ ) .

( قل : إن الأمر كله لله ) . .

فلا أمر لأحد . لا لهم ولا لغيرهم . ومن قبل قال الله لنبيه [ ص ] ( ليس لك من الأمر شيء ) . فأمر هذا الدين ، والجهاد لإقامته وتقرير نظامه في الأرض ، وهداية القلوب له . . كلها من أمر الله ، وليس للبشر فيها من شيء ، إلا أن يؤدوا واجبهم ، ويفوا ببيعتهم ، ثم يكون ما يشاؤه الله كيف يكون !

ويكشف كذلك خبيئة نفوسهم قبل أن يكمل عرض وساوسهم وظنونهم :

( يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك ) . .

فنفوسهم ملأى بالوساوس والهواجس ، حافلة بالاعتراضات والاحتجاجات ؛ وسؤالهم : ( هل لنا من الأمر من شيء ) . . يخفي وراءه شعورهم بأنهم دفعوا إلى مصير لم يختاروه ! وأنهم ضحية سوء القيادة ، وأنهم لو كانوا هم الذين يديرون المعركة ما لاقوا هذا المصير .

( يقولون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ) . .

وهو الهاجس الذي يجيش في النفوس التي لم تخلص للعقيدة ، حينما تصطدم في موقعة بالهزيمة ، وحينما تعاني آلام الهزيمة ! حين ترى الثمن أفدح مما كانت تظن ؛ وأن الثمرة أشد مرارة مما كانت تتوقع ؛ وحين تفتش في ضمائرها فلا ترى الأمر واضحا ولا مستقرا ؛ وحين تتخيل أن تصرف القيادة هو الذي القى بها في هذه المهلكة ، وكانت في نجوة من الأمر لو كان أمرها في يدها ! وهي لا يمكن - بهذا الغبش في التصور - أن ترى يد الله وراء الأحداث ، ولا حكمته في الابتلاء . إنما المسألة كلها - في اعتبارها - خسارة في خسارة ! وضياع في ضياع !

هنا يجيئهم التصحيح العميق للأمر كله . لأمر الحياة والموت . ولأمر الحكمة الكامنة وراء الابتلاء :

( قل : لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . وليبتلي الله ما في صدوركم ، وليمحص ما في قلوبكم ، والله عليم بذات الصدور )

قل لو كنتم في بيوتكم ؛ ولم تخرجوا للمعركة تلبية لنداء القيادة ، وكان أمركم كله لتقديركم . . لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . . إن هنالك أجلا مكتوبا لا يستقدم ولا يستأخر . وإن هنالك مضجعا مقسوما لا بد أن يجيء إليه صاحبه فيضجع فيه ! فإذا حم الأجل ، سعى صاحبه بقدميه إليه ، وجاء إلى مضجعه برجليه ، لا يسوقه أحد إلى أجله المرسوم ، ولا يدفعه أحد إلى مضجعه المقسوم !

ويا للتعبير العجيب . . " إلى مضاجعهم " . . فهو مضجع إذن ذلك الرمس الذي تستريح فيه الجنوب ، وتسكن فيه الخطى ، وينتهي إليه الضاربون في الأرض . . مضجع يأتون إليه بدافع خفي لا يدركونه ولا يملكونه ، إنما هو يدركهم ويملكهم ؛ ويتصرف في أمرهم كما يشاء . والاستسلام له أروح للقلب ، وأهدأ للنفس ، وأريح للضمير !

إنه قدر الله . ووراءه حكمته :

( وليبتلي الله ما في صدوركم ، وليمحص ما في قلوبكم ) . .

فليس كالمحنة محك يكشف ما في الصدور ، ويصهر ما في القلوب ، فينفي عنها الزيف والرياء ، ويكشفها على حقيقتها بلا طلاء . . فهو الابتلاء والاختبار لما في الصدور ، ليظهر على حقيقته ، وهو التطهير والتصفية للقلوب ، فلا يبقى فيها دخل ولا زيف . وهو التصحيح والتجلية للتصور ؛ فلا يبقى فيه غبش ولا خلل :

( والله عليم بذات الصدور ) .

وذات الصدور هي الأسرار الخفية الملازمة للصدور ، المختبئة فيها ، المصاحبة لها ، التي لا تبارحها ولا تتكشف في النور ! والله عليم بذات الصدور هذه . ولكنه - سبحانه - يريد أن يكشفها للناس ، ويكشفها لأصحابها أنفسهم ، فقد لا يعلمونها من أنفسهم ، حتى تنفضها الأحداث وتكشفها لهم !

/خ179

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٞ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخۡفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبۡدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٞ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (154)

{ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا } أنزل الله عليكم الأمن حتى أخذكم النعاس ، وعن أبي طلحة غشينا النعاس في المصاف حتى كان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ، ثم يسقط فيأخذه . والأمنة الأمن نصب على المفعول ونعاسا بدل منها أو هو المفعول ، و{ أمنة } حال منه متقدمة أو مفعول له أو حال من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة أو على أنه جمع آمن كبار وبررة . وقرئ { أمنة } بسكون الميم كأنها المرة في الإمر { يغشى طائفة منكم } أي النعاس وقرأ حمزة والكسائي بالتاء ردا على الأمنة والطائفة المؤمنون حقا . { وطائفة } هم المنافقون . { قد أهمتهم أنفسهم } أوقعتهم أنفسهم في الهموم ، أو ما يهمهم إلا هم أنفسهم وطلب خلاصها . { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } صفة أخرى لطائفة أو حال أو استئناف على وجه البيان لما قبله ، وغير الحق نصب على المصدر أي : يظنون بالله غير الظن الحق الذي يحق أن يظن به ، و{ ظن الجاهلية } بدله وهو الظن المختص بالملة الجاهلية وأهلها . { يقولون } أي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بدل من يظنون . { هل لنا من الأمر من شيء } هل لنا مما أمر الله ووعد من النصر والظفر نصيب قط . وقيل : أخبر ابن أبي بقتل بني الخزرج فقال ذلك ، والمعنى إنا منعنا تدبير أنفسنا وتصريفها باختيارنا ، فلم يبق لنا من الأمر شيء أو هل يزول عنا هذا القهر فيكون لنا من الأمر شيء { قل إن الأمر كله لله } أي الغلبة الحقيقية لله تعالى ولأوليائه فإن حزب الله هم الغالبون ، أو القضاء له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو اعتراض . وقرأ أبو عمرو ويعقوب كله بالرفع على الابتداء . { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } حال من الضمير يقولون أي يقولون مظهرين إنهم مسترشدون طالبون النصر مبطلين الإنكار والتكذيب . { يقولون } أي في أنفسهم وإذا خلا بعضهم إلى بعض وهو بدل من يخفون أو استئناف على وجه البيان له . { لو كان لنا من الأمر شيء } كما وعد محمد أو زعم أن الأمر كله لله ولأوليائه ، أو لو كان لنا اختيار وتدبير ولم نبرح كما كان ابن أبي وغيره . { ما قتلنا ها هنا } لما غلبنا ، أو لما قتل من قتل منا في هذه المعركة . { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } أي لخرج الذين قدر الله عليهم القتل وكتبه في اللوح المحفوظ إلى مصارعهم ولم تنفعهم الإقامة بالمدينة ولم ينج منهم أحد ، فإنه قدر الأمور ودبرها في سابق قضائه لا معقب لحكمه . { وليبتلي الله ما في صدوركم } وليمتحن ما في صدوركم ويظهر سرائرها من الإخلاص والنفاق ، وهو علة فعل محذوف أي وفعل ذلك ليبتلي أو عطف على محذوف أي لبرز لنفاذ القضاء أو لمصالح جمة وللابتلاء ، أو على لكيلا تحزنوا . { وليمحص ما في قلوبكم } وليكشفه ويميزه أو يخلصه من الوساوس . { والله عليم بذات الصدور } بخفياتها قل إظهارها ، وفيه وعد ووعيد وتنبيه على أنه غني عن الابتلاء وإنما فعل ذلك لتمرين المؤمنين وإظهار حال المنافقين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٞ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخۡفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبۡدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٞ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (154)

ثم ذكر الله تعالى أمر النعاس الذي أمن به المؤمنين ، فغشي أهل الإخلاص ، وذلك أنه لما ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب ، قال النبي عليه السلام لعلي بحضرة أصحابه المتحيزين في تلك الساعة إليه : اذهب فانظر إلى القوم ، فإن جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة ، وإن كانوا على خيلهم فهم عامدون{[3625]} إلى المدينة ، فاتقوا الله واصبروا{[3626]} ، ووطنهم على القتال ، فمضى علي ثم رجع ، فأخبر أنهم جنبوا الخيل وقعدوا على أثقالهم عجالاً ، فآمن الموقنون المصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألقى الله عليهم النعاس ، وبقي المنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يصدقون ، بل كان ظنهم أن أبا سفيان يؤم المدينة ولا بد ، فلم يقع على أحد منهم نوم ، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية ، قال أبو طلحة : لقد نمت في ذلك اليوم حتى سقط سيفي من يدي مراراً{[3627]} ، وقال الزبير بن عوام : لقد رفعت رأسي يوم أحد من النوم فجعلت أنظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فما منهم أحد إلا وهو يميل تحت جحفته{[3628]} ، وقال ابن مسعود : نعسنا يوم -أحد- والنعاس في الحرب أمنة من الله ، والنعاس في الصلاة من الشيطان ، وقرأ جمهور الناس «أمَنة » بفتح الميم ، وقرأ ابن محيصن والنخعي «أمْنة » بسكون الميم ، وهما بمعنى الأمن ، وفتح الميم أفصح ، وقوله : { نعاساً } بدل ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «يغشي » بالياء حملاً على لفظ النعاس بإسناد الفعل إلى ضمير البدل ، وقرأ حمزة والكسائي «تغشى » بالتاء حملاً على لفظ - الأمنة - بإسناد الفعل إلى ضمير المبدل{[3629]} منه ، والواو في قوله تعالى : { وطائفة قد أهمتهم } هي واو الحال كما تقول : جئت وزيد قائم ، قاله سيبويه وغيره قال الزجاج : وجائز أن يكون خبر قوله { وطائفة } قوله - يظنون - ويكون قد أهمتهم صفة للطائفة ، وقوله تعالى : { قد أهمتهم أنفسهم } ذهب أكثر المفسرين قتادة والربيع وابن إسحاق وغيرهم : إلى أن اللفظة من الهم الذي هو بمعنى الغم والحزن ، والمعنى : أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة ، قد جلبت إليهم الهم خوف القتل وذهاب الأموال ، تقول العرب : أهمني الشيء إذا جلب الهم ، وذكر بعض المفسرين : أن اللفظة من قولك : هم بالشيء يهم إذا أراد فعله .

قال القاضي أبو محمد : أهمتهم أنفسهم المكاشفة ، ونبذ الدين ، وهذا قول من قال : قد قتل محمد ، فلنرجع إلى ديننا الأول ونحو هذا من الأقوال .

قوله تعالى :

{ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِى أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قَلْ لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدوُرِ }

قوله تعالى : { غير الحق } معناه : يظنون أن الإسلام ليس بحق وأن أمر محمد عليه السلام يضمحل ويذهب ، وقوله : { ظن الجاهلية } ذهب جمهور الناس إلى أن المراد مدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام ، وهذا كما قال : { حمية الجاهلية } و { تبرج الجاهلية }{[3630]} ، وكما تقول شعر الجاهلية ، وكما قال ابن عباس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا كأساً دهاقاً ، وذهب بعض المفسرين إلى أنه أراد في هذه الآية ظن الفرقة الجاهلية ، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه ، والأمر محتمل ، وقد نحا هذا المنحى قتادة والطبري{[3631]} ، وقوله تعالى : { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } حكاية كلام قالوه ، قال قتادة وابن جريج : قيل لعبد الله بن أبي بن سلول : قتل بنو الخزرج فقال : «وهل لنا من الأمر من شيء » ؟ يريد أن الرأي ليس لنا ، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا فلم يخرج فلم يقتل أحد منا ، وهذا منهم قول بأجلين ، وكان كلامهم يحتمل الكفر والنفاق ، على معنى : ليس لنا من أمر الله شيء ، ولا نحن على حق في اتباع محمد ، ذكره المهدوي وابن فورك ، لكن يضعف ذلك أن الرد عليهم إنما جاء على أن كلامهم في معنى سوء الرأي في الخروج ، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد{[3632]} ، وقوله تعالى : { قل إن الأمر كله لله } اعتراض أثناء الكلام فصيح ، وقرأ جمهور القراء «كلَّه » - بالنصب على تأكيد الأمر ، لأن «كله » بمعنى أجمع ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء «كلُّه لله » برفع كل على الابتداء والخبر ، ورجح الناس قراءة الجمهور لأن التأكيد أملك بلفظة «كل »{[3633]} ، وقوله تعالى : { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } يحتمل أن يكون إخباراً عن تسترهم بمثل هذه الأقوال التي ليست بمحض كفر ، بل هي جهالة ، ويحتمل أن يكون إخباراً عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزعات ، وأخبر تعالى عنهم على الجملة دون تعيين ، وهذه كانت سنته في المنافقين ، لا إله إلا هو ، وقوله تعالى : { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } هي مقالة سمعت من معتب بن قشير المغموص عليه بالنفاق ، وقال الزبير بن العوام فيما أسند الطبري عنه : والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير{[3634]} أخي بني عمرو بن عوف ، والنعاس يغشاني ، ما أسمعه إلا كالحلم حين قال { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } .

قال القاضي أبو محمد : وكلام معتب يحتمل من المعنى ما احتمل كلام عبد الله بن أبي ، ومعتب هذا ممن شهد بدراً ، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره ، وقال ابن عبد البر{[3635]} : إنه شهد العقبة ، وذلك وهم ، والصحيح أنه لم يشهد عقبة ، وقوله تعالى : { قل لو كنتم في بيوتكم } الآية رد على الأقوال ، وإعلام بأن أجل كل امرىء إنما هو واحد ، فمن لم يقتل فهو يموت لذلك الأجل على الوجه الذي قدر الله تعالى ، وإذا قتل فذلك هو الذي كان في سابق الأزل{[3636]} ، وقرأ جمهور الناس «في بُيوتكم » بضم الباء ، وقرأ بعض القراء وهي بعض طرق السبعة «في بِيوتكم » ، بكسر الباء ، وقرأ جمهور الناس «لَبَرَز » بفتح الراء والباء على معنى : صاروا في البراز من الأرض ، وقرأ أبو حيوة «لبُرِّز » بضم الباء وكسر الراء وشدها ، وقرأ جمهور الناس : «عليهم القَتل » أي كتب عليهم في قضاء الله وتقديره ، وقرأ الحسن والزهري : «عليهم القتال » وتحتمل هذه القراءة معنى الاستغناء عن المنافقين ، أي لو تخلفتم أنتم لبرز المؤمنون الموقنون المطيعون في القتال المكتوب عليهم ، وقوله تعالى : { وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم } الآية ، اللام في قوله تعالى : { وليبتلي } متعلقة بفعل متأخر تقديره وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة والابتلاء هنا هو الاختبار ، والتمحيص : تخليص الشيء من غيره ، والمعنى ليختبره فيعلمه علماً مساوقاً لوجوده وقد كان متقرراً قبل وجود الابتلاء أزلاً ، و { ذات الصدور } ما تنطوي عليه من المعتقدات ، هذا هو المراد في هذه الآية .


[3625]:-عامدون: قاصدون.
[3626]:- أخرجه ابن هشام في السيرة. (الروض الأنف 2/140)
[3627]:- روى البخاري عن أنس أن أبا طلحة قال: "غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه" (8/171). ورواه كذلك الترمذي والنسائي.
[3628]:- الجحف: ضرب من الترسة، واحدتها جحفة، تصنع من جلود الإبل يطارق بعضها ببعض، وقيل: تصنع من جلود خاصة. "اللسان في مادة جحف".
[3629]:- اعترض بعض النحويين على ذلك فقالوا: لما أعرب (نعاسا) بدلا من (أمنة) كان القياس أن يتحدث عن البدل لا عن المبدل منه، لكنه تحدث هنا عن المبدل منه، فإذا قلت: (هند حسنها فاتن) كان الخبر عن حسنها- وأجاز بعضهم أن يخبر عن المبدل منه على ما خرج ابن عطية إعراب (نعاسا) و(تغشى) بقراءة التاء، واستدلوا على ذلك بقول الشاعر: إن السيوف غدّوها ورواحها تركت هوازن مثل قرن الأعضب إذ قال: (تركت) ولم يقل: (تركا). وردّ المعترضون بأن (غدوها ورواحها) انتصبا على الظرف لا على البدل. البحر المحيط 3/ 86-87.
[3630]:- [حمية الجاهلية] من الآية (26) من سورة الفتح- و[تبرج الجاهلية] من الآية (33) من سورة الأحزاب.
[3631]:- قال الزمخشري: "وظن الجاهلية كقولك: حاتم الجود، ورجل صدق، تريد الظن المختص بالملة الجاهلية، ويجوز أن يراد: ظن أهل الجاهلية: أي لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون بالله".
[3632]:- وعلى الرأيين يكون الاستفهام في الآية معناه النفي، وقال بعضهم: الصواب أنه حقيقي و(من) في كلامهم (من شيء) زائدة للتأكيد.
[3633]:- والتأكيد بكلمة (كل) – وبلفظ (إن) إنما هو لمقابلة التأكيد في كلامهم بزيادة (من)
[3634]:- هو معتب بن قشير-مصغرا- بن بليل، وقيل: مليل الأنصاري الأوسي، ذكروه فيمن شهد العقبة وبدرا وأحدا وقيل: إنه كان منافقا ثم تاب. وهو القائل يوم أحد: "لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا". "الإصابة" و"الاستيعاب".
[3635]:- الاستيعاب: 1429 (ط.مصر).
[3636]:- هذا النوع يسمى عند علماء البيان الاحتجاج الفطري، وهو أن يذكر المتكلم معنى ثم يستدل عليه بضروب من المعقول، كقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}، {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة}، ومنه قول الشاعر: جرى القضاء بما فيه فإن تلم فلا ملام على ما خط بالقلم