في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلصَّيۡدِ تَنَالُهُۥٓ أَيۡدِيكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (94)

ثم يمضي السياق في مجال التحريم والتحليل ، يتحدث عن الصيد في حالة الإحرام ، وكفارة قتله ، وعن حكمة الله في تحريم البيت والأشهر الحرم والهدى والقلائد ، التي نهى عن المساس بها في مطالع السورة . . ثم يختم هذه الفقرة بوضع ميزان القيم للنفس المسلمة وللمجتمع المسلم . . الميزان الذي يرجح فيه الطيب وإن قل ، على الكثير والخبيث :

يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ؛ ليعلم الله من يخافه بالغيب ؛ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم . يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ؛ ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ، يحكم به ذوا عدل منكم ؛ هديا بالغ الكعبة ، أو كفارة طعام مساكين ، أو عدل ذلك صياما ، ليذوق وبال أمره ، عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقم الله منه ؛ والله عزيز ذو انتقام . أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ، واتقوا الله الذي إليه تحشرون . جعل الله الكعبة البيت الحرام ، قياما للناس ، والشهر الحرام والهدي والقلائد . ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، وأن الله بكل شيء عليم . اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم . ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون . قل : لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون :

لقد قال تعالى للذين آمنوا في أول هذه السوره :

( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ، أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ، غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد . يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . وإذا حللتم فاصطادوا . . ) .

وكان هذا النهي عن إحلال الصيد وهم حرم ؛ وعن إحلال شعائر الله ، أو الشهر الحرام أو الهدي والقلائد ، أو قاصدى البيت الحرام ، لا يرتب عقوبة في الدنيا على المخالف ، إنما يلحقه الإثم . . فالآن يبين العقوبة وهي الكفارة ( ليذوق وبال أمره ) ويعلن العفو عما سلف من إحلال هذه المحارم ؛ ويهدد بانتقام الله ممن يعود بعد هذا البيان .

وتبدأ هذه الفقرة كما تبدأ كل فقرات هذا القطاع بالنداء المألوف ( يا أيها الذين آمنوا . . ثم يخبرهم أنهم مقدمون على امتحان من الله وابتلاء ؛ في أمر الصيد الذي نهوا عنه وهم محرمون : ( يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ، ليعلم الله من يخافه بالغيب ، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ) . .

إنه صيد سهل ، يسوقه الله إليهم . صيد تناله أيديهم من قريب ، وتناله رماحهم بلا مشقة . ولقد حكي أن الله ساق لهم هذا الصيد حتى لكان يطوف بخيامهم ومنازلهم من قريب ! . . إنه الإغراء الذي يكون فيه الابتلاء . . إنه ذات الإغراء الذي عجزت بنو إسرائيل من قبل عن الصمود له ، حين ألحوا على نبيهم موسى - عليه السلام - أن يجعل الله لهم يوما للراحة والصلاة لا يشتغلون فيه بشيء من شئون المعاش . فجعل لهم السبت . ثم ساق إليهم صيد البحر يجيئهم قاصدا الشاطى ء متعرضا لأنظارهم في يوم السبت . فإذا لم يكن السبت اختفى ، شأن السمك في الماء . فلم يطيقوا الوفاء بعهودهم مع الله ؛ وراحوا - في جبلة اليهود المعروفة - يحتالون على الله فيحوطون على السمك يوم السبت ولا يصيدونه ؛ حتى إذا كان الصباح التالي عادوا فأمسكوه من التحويطة ! وذلك الذي وجه الله - سبحانه - رسوله [ ص ] لأن يواجههم ويفضحهم به في قوله تعالى : ( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ، إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم . كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون )

هذا الابتلاء بعينه ابتلى به الله الأمة المسلمة ، فنجحت حيث أخفقت يهود . . وكان هذا مصداق قول الله سبحانه في هذه الأمة : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله . ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم . منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) . .

ولقد نجحت هذه الأمة في مواطن كثيرة حيث أخفق بنو إسرائيل . ومن ثم نزع الله الخلافة في الأرض من بني إسرائيل وائتمن عليها هذه الأمة . ومكن لها في الأرض ما لم يمكن لأمة قبلها . إذ أن منهج الله لم يتمثل تمثلا كاملا في نظام واقعي يحكم الحياة كلها كما تمثل في خلافة الأمة المسلمة . . ذلك يوم أن كانت مسلمة . يوم أن كانت تعلم أن الإسلام هو أن يتمثل دين الله وشريعته في حياة البشر . وتعلم أنها هي المؤتمنة على هذه الأمانة الضخمة ؛ وأنها هي الوصية على البشرية لتقيم فيها منهج الله ، وتقوم عليه بأمانة الله .

ولقد كان هذا الاختبار بالصيد السهل في أثناء فترة الإحرام أحد الاختبارات التي اجتازتها هذه الأمة بنجاح . وكانت عناية الله - سبحانه - بتربية هذه الأمة بمثل هذه الاختبارات من مظاهر رعايته واصطفائه .

ولقد كشف الله للذين آمنوا في هذا الحادث عن حكمة الابتلاء :

( ليعلم الله من يخافه بالغيب ) . .

إن مخافة الله بالغيب هي قاعدة هذه العقيدة في ضمير المسلم . القاعدة الصلبة التي يقوم عليها بناء العقيدة ، وبناء السلوك ، وتناط بها أمانة الخلافة في الأرض بمنهج الله القويم . .

إن الناس لا يرون الله ؛ ولكنهم يجدونه في نفوسهم حين يؤمنون . . إنه تعالى بالنسبة لهم غيب ، ولكن قلوبهم تعرفه بالغيب وتخافة . إن استقرار هذه الحقيقة الهائلة - حقيقة الإيمان بالله بالغيب ومخافته - والاستغناء عن رؤية الحس والمشاهدة ؛ والشعور بهذا الغيب شعورا يوازي - بل يرجح - الشهادة ؛ حتى ليؤدي المؤمن شهادة : بأن لا إله إلا الله وهو لم ير الله . . إن استقرار هذه الحقيقة على هذا النحو يعبر عن نقلة ضخمة في ارتقاء الكائن البشري ، وانطلاق طاقاته الفطرية ، واستخدام أجهزته المركوزة في تكوينه الفطري على الوجه الأكمل ؛ وابتعاده - بمقدار هذا الارتقاء - عن عالم البهيمة التي لا تعرف الغيب - بالمستوى الذي تهيأ له الإنسان - بينما يعبر انغلاق روحه عن رؤية ما وراء الحس ، وانكماش إحساسه في دائرة المحسوس ، عن تعطل أجهزة الالتقاط والاتصال الراقية فيه ، وانتكاسه إلى المستوى الحيواني في الحس " المادي " !

ومن ثم يجعلها الله سبحانه حكمة لهذا الابتلاء ؛ ويكشف للذين آمنوا عن هذه الحكمة كي تحتشد نفوسهم لتحقيقها . .

والله سبحانه يعلم علما لدنيا من يخافه بالغيب . ولكنه - سبحانه - لا يحاسب الناس على ما يعلمه عنهم علما لدنيا . إنما يحاسبهم على ما يقع منهم فيعلمه الله - سبحانه - علم وقوع . .

( فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ) . .

فقد أخبر بالابتلاء ، وعرف حكمة تعرضه له ، وحذر من الوقوع فيه ؛ وبذلت له كل أسباب النجاح فيه . . فإذا هو اعتدى - بعد ذلك - كان العذاب الأليم جزاء حقا وعدلا ؛ وقد اختار بنفسه هذا الجزاء واستحقه فعلا ،

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلصَّيۡدِ تَنَالُهُۥٓ أَيۡدِيكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (94)

قال الوالبي ، عن ابن عباس قوله : { لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } قال : هو الضعيف من الصيد وصغيره ، يبتلي الله به عباده في إحرامهم ، حتى لو شاؤوا يتناولونه بأيديهم . فنهاهم الله أن يقربوه .

وقال مجاهد : { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ } يعني : صغار الصيد وفراخه { وَرِمَاحِكُمْ } يعني : كباره .

وقال مُقَاتِل بن حَيَّان : أنزلت هذه الآية في عُمْرة الحُدَيْبِيَّة ، فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم{[10372]} في رحالهم ، لم يروا مثله قط فيما خلا فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون .

{ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ } يعني : أنه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم ، يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سرًا وجهرًا{[10373]} ليظهر طاعة من يطيع منهم في سره وجهره ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ الملك : 12 ] .

وقوله هاهنا : { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } قال السدي وغيره : يعني بعد هذا الإعلام والإنذار والتقدم { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : لمخالفته أمر الله وشرعه .


[10372]:في ر: "يغشاهم".
[10373]:في ر: "جهرًا وسرًا".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلصَّيۡدِ تَنَالُهُۥٓ أَيۡدِيكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (94)

{ يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } نزلت في عام الحديبية ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالصيد ، وكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث يتمكنون من صيدها أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم وهم محرمون ، والتقليل والتحقير في بشيء للتنبيه على أنه ليس من العظائم التي تدحض الأقدام كالابتلاء ببذل الأنفس والأموال ، فمن لم يثبت عنده كيف يثبت عند ما هو أشد منه . { ليعلم الله من يخافه بالغيب } ليتميز الخائف من عقابه وهو غائب منتظر لقوة إيمانه ممن لا يخافه لضعف قلبه وقلة إيمانه ، فذكر العلم وأراد وقوع المعلوم وظهوره أو تعلق العلم . { فمن اعتدى بعد ذلك } بعد ذلك الابتلاء بالصيد . { فله عذاب أليم } فالوعيد لاحق به ، فإن من لا يملك جأشه في مثل ذلك ولا يراعي حكم الله فيه فكيف به فيما تكون النفس أميل إليه وأحرص عليه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلصَّيۡدِ تَنَالُهُۥٓ أَيۡدِيكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (94)

وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد } أي ليختبركم ليرى طاعتكم من معصيتكم وصبركم من عجزكم عن الصيد ، وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة ، وشائعاً عند الجميع منهم مستعملا جداً ، فابتلاهم الله فيه مع الإحرام أو الحرم كما ابتلى بني إسرائيل في أن لا يعتدوا في السبت{[6]} .

و{ من } تحتمل أن تكون للتبعيض ، فالمعنى من صيد البر دون البحر ، ذهب إليه الطبري وغيره ، ويحتمل أن يكون التبعيض في حالة الحرمة إذ قد يزول الإحرام ويفارق الحرم ، فصيد بعض هذه الأحوال بعض الصيد على العموم ، ويجوز أن تكون لبيان الجنس ، قال الزجّاج وهذا كما تقول لأمتحننك بشيء من الرزق ، وكما قال تعالى : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان }{[7]} وقوله { بشيء } يقتضي تبعيضاً ما وقد قال كثير من الفقهاء إن الباء في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم }{[8]} أعطت تبعيضاً ما ، وقرأ ابن وثاب والنخعي «يناله » بالياء منقوطة من تحت ، وقال مجاهد الأيدي تنال الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر ، والرماح تنال كبار الصيد .

قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن الله تعالى خص الأيدي بالذكر لأنها عظم{[9]} المتصرف في الاصطياد ، وهي آلة الآلات وفيها تدخل الجوارح والحبالات ، وما عمل باليد من فخاخ وشباك ، وخص الرماح بالذكر لأنها ُعْظم ما يجرح به الصيد ، وفيها يدخل السهم ونحوه ، واحتج بعض الناس على أن الصيد{[10]} للآخذ لا للمثير بهذه الآية ، لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئاً ، وقوله تعالى { ليعلم } معناه ليستمر علمه عليه وهو موجود إذ علم تعالى ذلك في الأزل . وقرأ الزهري «ليُعلِم الله » بضم الياء وكسر اللام أي ليعلم عباده ، و { بالغيب } قال الطبري معناه في الدنيا حيث لا يرى العبد ربه فهو غائب عنه ، والظاهر أن المعنى بالغيب من الناس أي في الخلوة فمن خاف الله انتهى عن الصيد من ذات نفسه ، وقد خفي له لو صاد ، ثم توعد تعالى من اعتدى بعد هذا النهي الذي يأتي وهو الذي أراد بقوله { ليبلونكم } وأشار إليه قوله { ذلك } والعذاب الأليم هو عذاب الآخرة .


[6]:- رواه الترمذي وصححه، والإمام أحمد ولفظه: (الحمد لله أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني)، وهذا الحديث يرد على القولين معا.
[7]:- رواه الإمام أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، ونص الترمذي: (والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها. وإنها السبع من المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيته)، وقد يكون هذا الحديث سندا لما اعتاده الناس من قراءة الفاتحة، وقد أخرج أبو الشيخ في الثواب عن عطاء قال: إذا أردت حاجة فاقرأ فاتحة الكتاب حتى تختمها تقض إن شاء الله، نقله الجلال السيوطي. وللغزالي في الانتصار ما نصه: فاستنزل ما عند ربك وخالقك من خير، واستجلب ما تؤمله من هداية وبر، بقراءة السبع المثاني المأمور بقراءتها في كل صلاة، وتكرارها في كل ركعة، وأخبر الصادق المصدوق أن ليس في التوراة ولا في الإنجيل والفرقان مثلها، قال الشيخ زروق: وفيه تنبيه بل تصريح أن يكثر منها لما فيها من الفوائد والذخائر. انتهى.
[8]:- رواه عبد الله بن حميد في مسنده، والفريابي في تفسيره عن ابن عباس بسند ضعيف.
[9]:- من الناس من يذهب إلى أن هذا من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، ومنهم الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، قال ابن عبد البر: السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام وأسلم. وحديث : (قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن) رواه الإمام مالك في الموطأ، والبخاري، والترمذي، وروى الترمذي عن أنس وابن عباس قالا: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن). ومن الناس من يؤول ذلك باعتبار المعاني التي تشتمل عليها، وقد أشار المؤلف رحمه الله إلى هذين القولين، ويشير بذلك إلى أنه لا تفاضل بين كلام الله لأنه صفة ذاتية، وإنما التفاضل في المعاني باعتبار الأجر والثواب. والله أعلم.
[10]:- رواه الإمام أحمد، والحاكم، عن أبي سعيد، وأبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. فمن قال: سبحان الله كتبت له عشرون حسنة، وحطت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر مثل ذلك. ومن قال: لا إله إلا الله مثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة) ومن تمام الحديث كما في الجامع الصغير: (وحط عنه ثلاثون خطيئة).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلصَّيۡدِ تَنَالُهُۥٓ أَيۡدِيكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (94)

لا أحسب هذه الآية إلاّ تبييناً لقوله في صدر السورة { غير محلّى الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 1 ] ، وتخلُّصاً لحكم قتل الصيد في حالة الإحرام ، وتمهيداً لقوله : { يأيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 95 ] جرَّتْ إلى هذا التخلّص مناسبة ذكر المحرّمات من الخمر والميسر وما عطف عليهما ؛ فخاطب الله المؤمنين بتنبيههم إلى حالة قد يسبق فيها حرصُهم ، حذَرَهم وشهوتُهم تقواهم . وهي حالة ابتلاء وتمحيص ، يَظهر بها في الوجود اختلاف تمسّكهم بوصايا الله تعالى ، وهي حالة لم تقع وقت نزول هذه الآية ، لأنّ قوله { ليبلونّكم } ظاهر في الاستقبال ، لأنّ نون التوكيد لا تدخل على المضارع في جواب القسم إلاّ وهو بمعنى المستقبل . والظاهر أنّ حكم إصابة الصيد في حالة الإحرام أو في أرض الحرم لم يكن مقرّراً بمثل هذا . وقد روي عن مقاتل : أنّ المسلمين في عمرة الحديبية غشيَهم صيد كثير في طريقهم ، فصار يترامى على رحالهم وخيامهم ، فمنهم المُحِلّ ومنهم المُحرِم ، وكانوا يقدرون على أخذه بالأيدي ، وصيد بعضه بالرماح . ولم يكونوا رأوا الصيد كذلك قط ، فاختلفت أحوالهم في الإقدَام على إمساكه . فمنهم من أخذ بيده وطعن برمحه . فنزلت هذه الآية اهـ . فلعلّ هذه الآية ألحقت بسورة المائدة إلحاقاً ، لتكون تذكرة لهم في عام حجّة الوداع ليحذروا مثلَ ما حلّ بهم يوم الحديبية . وكانوا في حجّة الوداع أحْوج إلى التحذير والبيان ، لكثرة عدد المسلمين عام حجّة الوداع وكثرة من فيهم من الأعراب ، فذلك يبيّن معنى قوله { تناله أيديكم ورماحكم } لإشعار قوله { تناله } بأنّ ذلك في مكنتهم وبسهولة الأخذ .

والخطاب للمؤمنين ، وهو مجمل بيّنه قوله عقبه { يأيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 95 ] . قال أبو بكر بن العربي : اختلف العلماء في المخاطب بهذه الآية على قولين : أحدهما : أنّهم المحلّون ، قاله مالك ، الثاني : أنّهم المحرمون ، قاله ابن عباس وغيره اهـ . وقال في « القبس » : تَوهّم بعض الناس أنّ المراد بالآية تحريم الصيد في حال الإحرام ، وهذه عُضْلة ، إنّما المراد به الابتلاء في حالتي الحلّ والحرمة اهـ .

ومرجع هذا الاختلاف النظر في شمول الآية لحكم ما يصطاده الحلال من صيد الحرم وعدم شمولها بحيث لا يحتاج في إثبات حكمه إلى دليل آخر أو يحتاج . قال ابن العربي في « الأحكام » : « إنّ قوله { ليبلونّكم } الذي يقتضي أنّ التكليف يتحقّق في المُحِلّ بما شرط له من أمور الصيد وما شرط له من كيفية الاصطياد . والتكليف كلّه ابتلاء وإن تفاضل في القلّة والكثرة وتبايَن في الضعف والشدّة » . يريد أنّ قوله : { ليبلونّكم الله بشيء من الصيد } لا يراد به الإصابة ببلوى ، أي مصيبة قتل الصيد المحرّم بل يراد ليكلفنّكم الله ببعض أحوال الصيد .

وهذا ينظر إلى أنّ قوله تعالى : { وأنتم حرم } [ المائدة : 95 ] شامل لحالة الإحرامِ والحلولِ في الحرم .

وقوله : { ليبلونّكم الله بشيء من الصيد } هو ابتلاء تكليف ونهي ، كما دلّ عليه تعلّقه بأمر ممّا يفعل ، فهو ليس كالابتلاء في قوله : { ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع } [ البقرة : 155 ] وإنّما أخبرهم بهذا على وجه التحذير . فالخبر مستعمل في معناه ولازم معناه ، وهو التحذير . ويتعيّن أن يكون هذا الخطاب وُجّه إليهم في حين تردّدهم بين إمساك الصيد وأكله ، وبين مراعاة حرمة الإحرام ، إذ كانوا مُحرمين بعمرة في الحديبية وقد تردّدوا فيما يفعلون ، أي أنّ ما كان عليه الناس من حِرمة إصابة الصيد للمُحْرِم معتدّ به في الإسلام أو غير معتدّ به . فالابتلاء مستقبل لأنّه لا يتحقّق معنى الابتلاء إلاّ من بعد النهي والتحذير . ووجود نون التوكيد يعيّن المضارع للاستقبال ، فالمستقبل هو الابتلاء . وأمّا الصيد ونوال الأيدي والرماح فهو حَاضر .

والصيد : المصيد ، لأنّ قوله من الصيد وقع بياناً لقوله { بشيء } . ويغني عن الكلام فيه وفي لفظ ( شيء ) ما تقدّم من الكلام على نظيره في قوله تعالى : { ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع } في سورة البقرة ( 155 ) . وتنكير شيء هنا للتنويع لا للتحقير ، خلافاً للزمخشري ومن تابَعه .

وأشار بقوله : { تناله أيديكم ورماحكم } إلى أنواع الصيد صغيره وكبيره . فقد كانوا يمسكون الفراخ بأيديهم وما هو وسيلة إلى الإمساك بالأيدي من شباك وحِبالات وجوارح ، لأنّ جميع ذلك يؤول إلى الإمساك باليد . وكانوا يعْدُون وراء الكبار بالخيل والرماح كما يفعلون بالحُمر الوحشية وبقر الوحش ، كما في حديث أبي قتادة أنّه : رأى عام الحديبية حماراً وحشياً ، وهو غير محرم ، فاستوى على فرسه وأخذ رمحه وشدّ وراء الحمار فأدركه فعقره برمحه وأتى به . . إلخ . وربما كانوا يصيدون برمي النبال عن قسيّهم ، كما في حديث « الموطأ » « عن زيد البَهْزي أنّه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد مكّة فإذا ظبي حاقف فيه سَهم » الحديث . فقد كان بعض الصائدين يختبىء في قُتْرة ويمسك قوسه فإذا مرّ به الصيد رماه بسهم . قال ابن عطية : وخصّ الرماح بالذكر لأنّها أعظم ما يجرح به الصيد .

وقد يقال : حذف ما هو بغير الأيدي وبغير الرماح للاستغناء بالطرفين عن الأوساط .

وجملة { تناله أيديكم } صفة للصيد أو حال منه . والمقصود منها استقصاء أنواع الصيد لئلاّ يتوهّم أنّ التحذير من الصيد الذي هو بجرح أو قتل دون القبض باليد أو التقاط البيض أو نحوه .

وقوله : { لِيَعْلَمَ اللّهُ من يخافه بالغيب } علّة لقوله { ليبلونّكم } [ المائدة : 94 ] لأنّ الابتلاء اختبار ، فِعلّته أن يعلم الله مِنه من يخافه . وجَعْل علم الله علّة للابتلاء إنّما هو على معنى ليظهر للناس من يخاف الله من كلّ من علم الله أنّه يخافه ، فأطلق علم الله على لازِمه ، وهو ظهور ذلك وتميّزه ، لأنّ علم الله يلازمه التحقّق في الخارج إذ لا يكون علم الله إلاّ موافقاً لما في نفس الأمر ، كما بينّاه غير مرّة ؛ أو أريد بقوله : { ليعلم الله } التعلّق التنجيزي لعلم الله بفعل بعض المكلّفين ، بناء على إثبات تعلّق تنجيزي لصفة العلم ، وهو التحقيق الذي انفصل عليه عبد الحكيم في « الرسالة الخاقانية » .

وقيل : أطلق العلم على تعلّقه بالمعلوم في الخارج ، ويلزم أن يكون مراد هذا القائل أنّ هذا الإطلاق قصد منه التقريب لعموم أفهام المخاطبين . وقال ابن العربي في القبس : « ليعلم الله مشاهدةً مَا علمه غيباً من امْتثال من امتثل واعتداء من اعتدى فإنّه ، عالم الغيب والشهادة يعلم الغيبَ أوّلاً ، ثم يَخلق المعدوم فيَعْلَمُه مشاهدة ، يتغيّر المعلوم ولا يتغيّر العلم » . والباء إمّا للملابسة أو للظرفية ، وهي في موضع الحال من الضمير المرفوع في { يخافه } .

والغيب ضدّ الحضور وضدّ المشاهدة ، وقد تقدّم في قوله تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 3 ] على أحد وجهين هنالك ، فتعلّق المجرور هنا بقوله { يخافه } الأظهر أنّه تعلّق لمجرّد الكشف دون إرادة تقييد أو احتراز ، كقوله تعالى : { ويقتلون النبيئين بغير حقّ } [ البقرة : 61 ] . أي من يخاف الله وهو غائب عن الله ، أي غير مشاهد له . وجميع مخافة الناس من الله في الدنيا هي مخافة بالغيب . قال تعالى : { إنّ الذين يخشون ربّهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير } [ الملك : 12 ] .

وفائدة ذكره أنه ثناء على الذين يخافون الله أثنى عليهم بصدق الإيمان وتنوّر البصيرة ، فإنّهم خافوه ولم يروا عظمته وجلاله ونعيمه وثوابه ولكنّهم أيقنوا بذلك عن صدق استدلال . وقد أشار إلى هذا ما في الحديث القدسي : " إنّهم آمنوا بي ولم يروني فكيف لو رأوني " ومن المفسرين من فسّر الغيب بالدنيا . وقال ابن عطية : الظاهر أنّ المعنى بالغيب عن الناس ، أي في الخلوة . فمن خاف الله انتهى عن الصيد في ذات نفسه ، يعني أنّ المجرور للتقييد ، أي من يخاف الله وهو غائب عن أعين الناس الذين يتّقى إنكارهم عليه أو صدّهم إيّاه وأخذَهم على يده أو التسميع به ، وهذا ينظر إلى ما بنوا عليه أنّ الآية نزلت في صيد غشيهم في سفرهم عام الحديبية يغشاهم في رحالهم وخيامهم ، أي كانوا متمكّنين من أخذه بدون رقيب ، أو يكون الصيد المحذّر من صيده مماثلاً لذلك الصيد .

وقوله : { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } تصريح بالتحذير الذي أومأ إليه بقوله { ليبلونّكم } ، إذ قد أشعر قوله : { ليبلونّكم } أنّ في هذا الخبر تحذيراً من عمل قد تسبق النفس إليه . والإشارة بذلك إلى التحذير المستفاد من { ليبلونّكم } ، أي بعدما قدّمناه إليكم وأعذرنا لكم فيه ، فلذلك جاءت بعده فاء التفريع . والمراد بالاعتداء الاعتداء بالصيد ، وسمّاه اعتداء لأنّه إقدام على محرّم وانتهاك لحرمة الإحرام أو الحرم .

وقوله : { فله عذاب أليم } ، أي عقاب شديد في الآخرة بما اجترأ على الحرم أو على الإحرام أو كليهما ، وبما خالف إنذار الله تعالى ، وهذه إذا اعتدى ولم يتدارك اعتداءه بالتوبة أو الكفارة ، فالتوبة معلومة من أصول الإسلام ، والكفارة هي جزاء الصيد ، لأنّ الظاهر أنّ الجزاء تكفير عن هذا الاعتداء كما سيأتي .

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس :