ويمضي معهم في مناقشة القضية - قضية الوحي - من زاوية أخرى واقعية مشهودة . فماذا ينكرون من أمر الوحي والرسالة ؛ ولم يعجلون بتهمة السحر أو تهمة الافتراء ? وليس في الأمر غريب ولا عجيب :
( قل : ما كنت بدعا من الرسل . وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . إن أتبع إلا ما يوحى إلي . وما أنا إلا نذير مبين ) . .
إنه[ صلى الله عليه وسلم ] ليس أول رسول . فقد سبقته الرسل . وأمره كأمرهم . وما كان بدعا من الرسل . بشر يعلم الله أنه أهل للرسالة فيوحي إليه ، فيصدع بما يؤمر . هذا هو جوهر الرسالة وطبيعتها . . والرسول حين يتصل قلبه لا يسأل ربه دليلا ، ولا يطلب لنفسه اختصاصا إنما يمضي في سبيله ، يبلغ رسالة ربه ، حسبما أوحي بها إليه : ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) . . فهو لا يمضي في رسالته لأنه يعلم الغيب ؛ أو لأنه يطلع على ما يكون من شأنه وشأن قومه وشأن الرسالة التي يبشر بها . إنما هو يمضي وفق الإشارة وحسب التوجيه . واثقا بربه ، مستسلما لإرادته ، مطيعا لتوجيهه ، يضع خطاه حيث قادها الله . والغيب أمامه مجهول ، سره عند ربه . وهو لا يتطلع إلى السر من وراء الستر لأن قلبه مطمئن ، ولأن أدبه مع ربه ينهاه عن التطلع لغير ما فتح له . فهو واقف أبدا عند حدوده وحدود وظيفته : ( وما أنا إلا نذير مبين ) . .
وإنه لأدب الواصلين ، وإنها لطمأنينة العارفين ، يتأسون فيها برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيمضون في دعوتهم لله . لا لأنهم يعرفون مآلها ، أو يعلمون مستقبلها . أو يملكون فيها قليلا أو كثيرا . ولكن لأن هذا واجبهم وكفى . وما يطلبون من ربهم برهانا فبرهانهم في قلوبهم . وما يطلبون لأنفسهم خصوصية فخصوصيتهم أنه اختارهم . وما يتجاوزون الخط الدقيق الذي خطه لهم ، ورسم لهم فيه مواقع أقدامهم على طول الطريق .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لمشركي قومك من قريش "ما كُنْتُ بِدْعا مِنَ الرّسُل "يعني: ما كنت أوّل رسل الله التي أرسلها إلى خلقه، قد كان من قبلي له رسل كثيرة أُرسلت إلى أمم قبلكم يقال منه: هو بدع في هذا الأمر، وبديع فيه، إذا كان فيه أوّل...
وقوله: "وَما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" اختلف أهل التأويل في تأويله؛ فقال بعضهم: عني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل له: قل للمؤمنين بك ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة، وإلام نصير هنالك، قالوا ثم بين الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به حالهم في الآخرة، فقيل له "إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ" وقال: "لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ"... وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله جلّ ثناؤه نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقوله للمشركين من قومه ويعلم أنه لا يدري إلام يصير أمره وأمرهم في الدنيا، أيصير أمره معهم أن يقتلوه أو يخرجوه من بينهم، أو يؤمنوا به فيتبعوه، وأمرهم إلى الهلاك، كما أهلكت الأمم المكذّبة رسلها من قبلهم أو إلى التصديق له فيما جاءهم به من عند الله... حدثنا أبو بكر الهذليّ، عن الحسن، في قوله: "وَما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" فقال: أما في الآخرة فمعاذ الله، قد علم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل، ولكن قال: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، أخرج كما أخرجت الأنبياء قبلي أو أُقتل كما قُتلت الأنبياء من قبلي، ولا أدري ما يُفْعل بي ولا بكم، أمتي المكذّبة، أم أمتي المصدّقة، أم أمتي المرمية بالحجارة من السماء قذفا، أم مخسوف بها خسفا، ثم أوحي إليه: "وَإذْ قُلْنا لَكَ إنّ رَبّكَ أحاطَ بالنّاسِ" يقول: أحطت لك بالعرب أن لا يقتلوك، فعرف أنه لا يُقتل، ثم أنزل الله عزّ وجلّ: "هُوَ الّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بالهُدَى وَدِينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ على الدّين كُلّهِ، وَكَفَى باللّهٍ شَهِيدا" يقول: أشهد لك على نفسه أنه سيُظهر دينك على الأديان، ثم قال له في أمته: "وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" فأخبره الله ما يصنع به، وما يصنع بأمته.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما أدري ما يفترض عليّ وعليكم، أو ينزل من حكم، وليس يعني ما أدري ما يفعل بي ولا بكم غدا في المعاد من ثواب الله من أطاعه، وعقابه من كذّبه.
وقال آخرون: إنما أمر أن يقول هذا في أمر كان ينتظره من قِبَل الله عزّ وجلّ في غير الثواب والعقاب.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة وأشبهها بما دلّ عليه التنزيل، القول الذي قاله الحسن البصري، الذي رواه عنه أبو بكر الهُذَليّ.
وإنما قلنا ذلك أولاها بالصواب لأن الخطاب من مبتدأ هذه السورة إلى هذه الآية، والخبر خرج من الله عزّ وجلّ خطابا للمشركين وخبرا عنهم، وتوبيخا لهم، واحتجاجا من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم عليهم. فإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن هذه الآية أيضا سبيلها سبيل ما قبلها وما بعدها في أنها احتجاج عليهم، وتوبيخ لهم، أو خبر عنهم. وإذا كان ذلك كذلك، فمحال أن يقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: قل للمشركين ما أدري ما يُفعل بي ولا بكم في الآخرة، وآيات كتاب الله عزّ وجلّ في تنزيله ووحيه إليه متتابعة بأن المشركين في النار مخلدون، والمؤمنون به في الجنان منعمون، وبذلك يرهبهم مرّة، ويرغبهم أخرى، ولو قال لهم ذلك، لقالوا له: فعلام نتبعك إذن وأنت لا تدري إلى أيّ حال تصير غدا في القيامة، إلى خفض ودعة، أم إلى شدّة وعذاب وإنما اتباعنا إياك إن اتبعناك، وتصديقنا بما تدعونا إليه، رغبة في نِعمة، وكرامة نصيبها، أو رهبة من عقوبة، وعذاب نهرب منه، ولكن ذلك كما قال الحسن، ثم بين الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ما هو فاعل به، وبمن كذّب بما جاء به من قومه وغيرهم.
وقوله: "إنْ أتّبِعُ إلاّ ما يُوحَى إليّ" يقول تعالى ذكره: قل لهم ما أتبع فيما آمركم به، وفيما أفعله من فعل إلا وحي الله الذي يوحيه إليّ،
"وَما أنا إلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ" يقول: وما أنا لكم إلا نذير، أنذركم عقاب الله على كفركم به مبين: يقول: قد أبان لكم إنذاره، وأظهر لكم دعاءه إلى ما فيه نصيحتكم، يقول: فكذلك أنا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... وقوله تعالى: {وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم} هذا يخرّج على وجوه: أحدهما: أي ما كنت أدري قبل ذلك ما يفعل بي ولا بكم، أُختصّ للرسالة، وأُختار لها، وأُبعَث إليكم، وتُلزمَون أنتم اتّباعي والإجابة إلى ما أدعوكم، إليهن والله أعلم... الثالث: {وما أدري ما يُفعل بي لا بكم} مخافة التغيير عليه وتبديل الحال، ولم يزل الرسل عليهم السلام يخافون تغيير الأحوال عليهم وذهاب ما اختصّوا هم به كقول إبراهيم عليه السلام: {واجنُبني وبنيّ أن نعبد الأصنام} [إبراهيم: 35]...
فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: {وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم} أتُغيَّر عليّ وعليكم الأحوال التي نحن عليها اليوم، أم نُترك على ذلك؟ وحقيقة هذا الكلام على الاستقصاء قد مرّت، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وما أنا إلا نذير مبين" أي لست إلا مخوفا من عقاب الله ومحذرا من معاصيه ومرغبا في طاعاته...
وقوله "مبين" معناه مظهر لكم الحق فيه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرسل} فآتيكم بكل ما تقترحونه، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من المغيبات؛ فإنّ الرسل لم يكونوا يأتون إلا بما آتاهم من آياته، ولا يخبرون إلا بما أوحى إليهم. ولقد أجاب موسى صلوات الله وسلام عليه عن قول فرعون: (فما بال القرون الأولى)؟ بقوله: {علمها عند ربي} [طه: 52] {وَمَآ أَدْرِى} لأنه لا علم لي بالغيب ما يفعل الله بي وبكم فيما يستقبل من الزمان من أفعاله، ويقدّر لي ولكم من قضاياه...
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم في كون القرآن معجزا، بأن قالوا إنه يختلقه من عند نفسه ثم ينسبه إلى أنه كلام الله على سبيل الفرية، حكى عنهم نوعا آخر من الشبهات، وهو أنهم كانوا يقترحون منه معجزات عجيبة قاهرة، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات، فأجاب الله تعالى عنه بأن قال: {قل ما كنت بدعا من الرسل}...
(الأول) {ما كنت بدعا من الرسل} أي ما كنت أولهم، فلا ينبغي أن تنكروا إخباري بأني رسول الله إليكم، ولا تنكروا دعائي لكم إلى التوحيد، ونهيي عن عبادة الأصنام، فإن كل الرسل إنما بعثوا بهذا الطريق.
(الوجه الثاني) أنهم طلبوا منه معجزات عظيمة وأخبارا عن الغيوب فقال: {قل ما كنت بدعا من الرسل} والمعنى أن الإتيان بهذه المعجزات القاهرة والإخبار عن هذه الغيوب ليس في وسع البشر، وأنا من جنس الرسل وأحد منهم لم يقدر على ما تريدونه فكيف أقدر عليه؟
(الوجه الثالث) أنهم كانوا يعيبونه أنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وبأن أتباعه فقراء فقال: {قل ما كنت بدعا من الرسل} وكلهم كانوا على هذه الصفة وبهذه المثابة فهذه الأشياء لا تقدح في نبوتي كما لا تقدح في نبوتهم...
{وما أنا إلا نذير مبين} كانوا يطالبونه بالمعجزات العجيبة وبالإخبار عن الغيوب فقال قل: {وما أنا إلا نذير مبين} والقادر على تلك الأعمال الخارجة عن قدرة البشر والعالم بتلك الغيوب ليس إلا الله سبحانه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قل} أي لهؤلاء الذين نسبوك إلى الافتراء: {ما كنت} أي كوناً ما {بدعاً} أي منشئاً مبتدعاً محدثاً مخترعاً بحيث أكون أجنبياً منقطعاً {من الرسل} لم يتقدم لي منهم مثال في أصل ما جئت به...
.وهو التوحيد ومحاسن الأخلاق بل قد تقدمني رسل كثيرون أتوا بمثل ما أتيت به ودعوا إليه كما دعوت وصدقهم الله- بمثل ما صدقني به... {وما أدري} أي في هذا الحال بنوع حيلة وعمل واجتهاد {ما} أي الذي- {يفعل} أي من أيّ فاعل كان- سواء كان هو الله تعالى بلا واسطة أو بواسطة غيره- {بي} وأكد النفي ليكون ظاهراً في الاجتماع وكذلك في الانفراد أيضاً فقال-: {ولا} أي ولا أدري الذي يفعل- {بكم}...
وفي الآية بعمومها دليل على أن لله أن يفعل ما يشاء، فله أن يعذب الطائع وينعم العاصي، ولو فعل ذلك لكان عدلاً وحقاً وإن كنا نعتقد أنه لا يفعله...
{إن} أي ما {أتبع} أي -بغاية جهدي وجدي {إلا ما} أي الذي {يوحى} أي يجدد إلقاؤه ممن لا يوحي بحق إلا هو {إليّ} على سبيل التدريج سراً، لا يطلع عليه حق اطلاعه غيري...
{وما أنا} أي بإخباري لكم عما يوحى إليّ {إلا نذير} أي لكم ولكل من بلغه القرآن {مبين} أي ظاهر أني كذلك في نفسه مظهر له- أي كوني نذيراً -ولجميع الجزئيات التي أنذر منها بالأدلة القطعية.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} فإن قبلتم رسالتي وأجبتم دعوتي فهو حظكم ونصيبكم في الدنيا والآخرة، وإن رددتم ذلك علي فحسابكم على الله وقد أنذرتكم، ومن أنذر فقد أعذر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(قل: ما كنت بدعا من الرسل. وما أدري ما يفعل بي ولا بكم. إن أتبع إلا ما يوحى إلي. وما أنا إلا نذير مبين).. إنه [صلى الله عليه وسلم] ليس أول رسول. فقد سبقته الرسل. وأمره كأمرهم. وما كان بدعا من الرسل. بشر يعلم الله أنه أهل للرسالة فيوحي إليه، فيصدع بما يؤمر. هذا هو جوهر الرسالة وطبيعتها.. (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم. إن أتبع إلا ما يوحى إلي).. فهو لا يمضي في رسالته لأنه يعلم الغيب؛ أو لأنه يطلع على ما يكون من شأنه وشأن قومه وشأن الرسالة التي يبشر بها. إنما هو يمضي وفق الإشارة وحسب التوجيه. واثقا بربه، مستسلما لإرادته، مطيعا لتوجيهه...
فهو واقف أبدا عند حدوده وحدود وظيفته: (وما أنا إلا نذير مبين).. وإنه لأدب الواصلين، وإنها لطمأنينة العارفين...
وما يطلبون من ربهم برهانا فبرهانهم في قلوبهم. وما يطلبون لأنفسهم خصوصية فخصوصيتهم أنه اختارهم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ} فإن رسالتي هي في الخط الذي تحركت به رسالات الأنبياء السابقين...
. {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ} فلست في ما أملكه من طاقة المعرفة أعلم الغيب، لأن للغيب أدواته وأسبابه ووسائله التي لا أملكها بصفتي الذاتية كإنسان، ولا بصفتي الرسالية كنبيّ في ما تفرضه طبيعة الرسالة من دورٍ للرسول...
. {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} فالوحي هو الذي يحدّد لي خط الحركة، وهو الذي يحدد لي الخطوات من البداية إلى النهاية، {وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أبلّغكم آيات الله وأثير في عقولكم معانيها، لتكون نذيراً لكم بين يدي عذاب شديد، وذاك هو كل شيءٍ في الدور، وفي الحركة، وفي الهدف. وقد نلاحظ في هذا الجوّ القرآني الذي يضع قدرات النبي الذاتية في حدود بشريته، أن ذلك لا يعني انتفاء علم الأنبياء بالغيب من خلال الوحي الذي يحمل إليهم بعض غيب الله، كما جاء في حديث القرآن عن عيسى (عليه السلام) ممّا كان يتحدث به مع بني إسرائيل: {وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} (آل عمران: 49)، وكما جاء في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26-27)، وهذا ما تؤكده الآية القائلة: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (الأنعام: 50). فالوحي هو مصدر معرفة النبي في قضايا العقيدة والشريعة والحياة والدار الآخرة، ضمن ما يريد الله له أن يعلمه لحاجة الرسالة إليه في ساحتها العامة والخاصة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يقول النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنا لست أوّل نبيّ دعا إلى التوحيد، فقد جاء قبلي أنبياء كثيرون كلهم كانوا بشراً، وكانوا يلبسون الثياب ويأكلون الطعام، ولم يَدَّع أحد منهم أنّه يعلم الغيب المطلق، بل كانوا يقولون: إنّنا نعلم من أُمور الغيب ما يعلمنا الله إيّاه فقط. ولم يستسلم أحد منهم أمام المعاجز التي كان يقترحها الناس، والتي كانت تقوم على أساس الرغبة والميول. كل ذلك ليعلم الجميع أنّ النّبي أيضاً عبد من عباد الله، وعلمه وقدرته محدودة بما يريده الله سبحانه ويمنحه، فإنّ العلم المطلق والقدرة المطلقة لله جلَّ وعلاء وحسب. هذه الحقائق كان يجب على الناس أن يعلموها ويدركوها، لينتهوا من إشكالاتهم الجوفاء. كل ذلك ورد بعد البحث الذي مرّ في الآيات السابقة، حيث كانوا يرمون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسحر مرّة، وبالافتراء أُخرى، ليُعلم أنّ منبع هذه الاتهامات ومصدرها هو تلك الأوهام التي أُجيب عنها في هذه الآية. ومن هنا يتّضح أن مفاد هذه الآية لا يتنافى مع الآيات الأُخرى التي توحي بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم الغيب، كالذي ورد في سورة الفتح حول فتح مكّة ودخول المسجد الحرام الآية 27 من سورة الفتح أو ما ورد في شأن المسيح (عليه السلام) حيث يقول: (أنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم)، وأمثال ذلك، لأنّ الآية مورد البحث تنفي علم الغيب المطلق، لا مطلق علم الغيب، وبتعبير آخر، فإنّ الآية تنفي علم الغيب الاستقلالي، أمّا تلك الآيات فتتحدث عن علم الغيب الذي يُنال ببركة التعليم الإلهي. والشاهد على هذا الكلام الآيتان (26) (27) من سورة الجن: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول). وقد ذكر بعض المفسّرين سبب نزول للآية مورد البحث، فقالوا: إنّ عبء المشاكل وضغطها لما زاد على أصحاب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكّة، رأى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام أنّه يهاجر إلى أرض ذات نخيل وأشجار وماء كثير، فذكر ذلك لأصحابه، ففرحوا لذلك وظنّوا أنّهم سيرون فرجاً وسعة بعد أذى المشركين، فصبروا مدّة فلم يروا أثراً لذلك، فقالوا: يا رسول الله، لم نرَ ما أخبرتنا به، فمتى سنهاجر إلى تلك الأرض التي رأيتها في منامك؟ فسكت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت هذه الآية: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم). إلاّ أنّ سبب النّزول هذا يبدو بعيداً، لأنّ المخاطبين في هذه الآيات أعداء النّبي لا أصحابه، لكن يمكن أن يكون هذا من باب التطبيق، أي أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) تمسّك بهذه الآية وأجاب بها أصحابه حينما طرحوا هذا السؤال.
قوله تعالى : " قل ما كنت بدعا من الرسل " أي أول من أرسل ، قد كان قبلي رسل ، عن ابن عباس وغيره . والبدع : الأول . وقرأ عكرمة وغيره " بدعا " بفتح الدال ، على تقدير حذف المضاف ، والمعنى : ما كنت صاحب بدع . وقيل : بدع وبديع بمعنى ، مثل نصف ونصيف . وأبدع الشاعر : جاء بالبديع . وشيء بدع ( بالكسر ) أي مبتدع . وفلان بدع في هذا الأمر أي بديع . وقوم أبداع ، عن الأخفش . وأنشد قطرب قول عدي بن زيد :
فلا أنا بِدْعٌ من حوادثَ تعتَرِي *** رجالاً غدت من بعد بُؤْسى بأسعد{[13817]}
" وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " يريد يوم القيامة . ولما نزلت فرح المشركون واليهود والمنافقون وقالوا : كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا ، وأنه لا فضل له علينا ، ولو لا أنه ابتدع الذي يقول من تلقاء نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به ، فنزلت : " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " {[13818]} [ الفتح : 2 ] فنسخت هذه الآية ، وأرغم الله أنف الكفار . وقالت الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله ، لقد بين الله لك ما يفعل بك يا رسول الله ، فليت شعرنا ما هو فاعل بنا ؟ فنزلت : " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار " {[13819]} [ الفتح : 5 ] الآية . ونزلت : " وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا " {[13820]} [ الأحزاب : 47 ] . قاله أنس وابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة والضحاك . وقالت أم العلاء امرأة من الأنصار : اقتسمنا المهاجرين فصار لنا عثمان بن مظعون بن حذافة بن جمح ، فأنزلناه أبياتنا فتوفي ، فقلت : رحمة الله عليك أبا السائب إن الله أكرمك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ وما يدريك أن الله أكرمه ] ؟ فقلت : بأبي وأمي يا رسول الله فمن ؟ قال : [ أما هو فقد جاءه اليقين وما رأينا إلا خيرا فوالله إني لأرجو له الجنة ووالله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ] . قالت : فوالله لا أزكي بعده أحدا أبدا . ذكره الثعلبي ، وقال : وإنما قال هذا حين لم يعلم بغفران ذنبه ، وإنما غفر الله له ذنبه في غزوة الحديبية قبل موته بأربع سنين .
قلت : حديث أم العلاء خرجه البخاري ، وروايتي فيه : " وما أدري ما يفعل به " ليس فيه " بي ولا بكم " وهو الصحيح إن شاء الله ، على ما يأتي بيانه . والآية ليست منسوخة ، لأنها خبر . قال النحاس : محال أن يكون في هذا ناسخ ولا منسوخ من جهتين : أحدهما أنه خبر ، والآخر أنه من أول السورة إلى هذا الموضع خطاب للمشركين واحتجاج عليهم وتوبيخ لهم ، فوجب أن يكون هذا أيضا خطابا للمشركين كما كان قبله وما بعده ، ومحال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين " ما أدري ما يفعل بي ولا بكم " في الآخرة ، ولم يزل صلى الله عليه وسلم من أول مبعثه إلى مماته يخبر أن من مات على الكفر مخلد في النار ، ومن مات على الإيمان واتبعه وأطاعه فهو في الجنة ، فقد رأى صلى الله عليه وسلم ما يفعل به وبهم في الآخرة . وليس يجوز أن يقول لهم ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة ، فيقولون كيف نتبعك وأنت لا تدري أتصير إلى خفض ودعة أم إلى عذاب وعقاب .
والصحيح في الآية قول الحسن ، كما قرأ علي بن محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال حدثنا وكيع قال حدثنا أبو بكر الهذلي عن الحسن : " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا " قال أبو جعفر : وهذا أصح قول وأحسنه ، لا يدري صلى الله عليه وسلم ما يلحقه وإياهم من مرض وصحة ورخص وغلاء وغنى وفقر . ومثله : " ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير " {[13821]} [ الأعراف : 188 ] . وذكر الواحدي وغيره عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء ، فقصها على أصحابه به فاستبشروا بذلك ، ورأوا فيها فرجا مما هم فيه من أذى المشركين ، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك فقالوا : يا رسول الله ، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " أي لا أدري أأخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا . ثم قال : [ إنما هو شيء رأيته في منامي ما أتبع إلا ما يوحى إلي ] أي لم يوح إلي ما أخبرتكم به . قال القشيري : فعلى هذا لا نسخ في الآية . وقيل : المعنى لا أدري ما يفرض علي وعليكم من الفرائض . واختار الطبري أن يكون المعنى : ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا ، أتؤمنون أم تكفرون ، أم تعاجلون بالعذاب أم تؤخرون .
قلت : وهو معنى قول الحسن والسدي وغيرهما . قال الحسن : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا ، أما في الآخرة فمعاذ الله قد علم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل ، ولكن قال ما أدري ما يفعل بي في الدنيا أأخرج كما أخرجت الأنبياء قبلي ، أو أقتل كما قتلت الأنبياء قبلي ، ولا أدري ما يفعل بكم ، أأمتي المصدقة أم المكذبة ، أم أمتى المرمية بالحجارة من السماء قذفا ، أو مخسوف بها خسفا ، ثم نزلت : " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله " {[13822]} [ التوبة : 33 ] . يقول : سيظهر دينه على الأديان . ثم قال في أمته : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " {[13823]} [ الأنفال : 33 ] فأخبره تعالى بما يصنع به وبأمته ، ولا نسخ على هذا كله ، والحمد لله . وقال الضحاك أيضا : " ما أدري ما يفعل بي ولا بكم " أي ما تؤمرون به وتنهون عنه . وقيل : أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول للمؤمنين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في القيامة ، ثم بين الله تعالى ذلك في قوله : " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " [ الفتح : 2 ] وبين فيما بعد ذلك حال المؤمنين ثم بين حال الكافرين .
قلت : وهذا معنى القول الأول ، إلا أنه أطلق فيه النسخ بمعنى البيان ، وأنه أمر أن يقول ذلك للمؤمنين ، والصحيح ما ذكرناه عن الحسن وغيره . و " ما " في " ما يفعل " يجوز أن تكون موصولة ، وأن تكون استفهامية مرفوعة .
قوله تعالى : " إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين " وقرئ " يوحي " أي الله عز وجل . تقدم في غير موضع .
ولما كان من-{[58596]} أعظم الضلال أن ينسب {[58597]}الإنسان إلى الكذب{[58598]} من غير دليل في شيء لم يبتدعه ، بل تقدمه بمثله ناس قد ثبت صدقهم في مثل ذلك ومضت عليه{[58599]} الأزمان وتقرر غاية التقرر{[58600]} في القلوب والأذهان ، قال تعالى : { قل } أي لهؤلاء الذين نسبوك إلى الافتراء : { ما كنت } أي كوناً ما { بدعاً } أي منشئاً مبتدعاً محدثاً مخترعاً بحيث أكون أجنبياً منقطعاً { من الرسل } لم يتقدم لي منهم مثال في أصل ما جئت به ، وهو الحرف الذي طال النزاع بيني وبينكم فيه وعظم الخطب وهو التوحيد ومحاسن الأخلاق بل قد تقدمني رسل كثيرون أتوا بمثل ما أتيت به ودعوا إليه كما دعوت وصدقهم الله-{[58601]} بمثل ما صدقني به ، فثبتت بذلك رسالاتهم{[58602]} وسعد بهم من صدقهم من قومهم ، وشقي بهم من كذبهم ، فانظروا إلى آثارهم ، واسألوا عن سيرهم من أتباعهم وأنصارهم وأشياعهم-{[58603]} ، قال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه : والبدعة الاسم لما ابتدع{[58604]} وضد البدعة السنة ، لأن{[58605]} السنة ما تقدم له إمام ، والبدعة ما اخترع على غير مثال ، وفي الحديث
" كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار " معناه - والله أعلم - أن يبتدع ما يخالف السنة إذ كانت البدعة ضد السنة ، فإذا أحدث ما يخالفها كان بإحداثه لها ضالاً مشركاً ، وكان ما أحدث{[58606]} في النار ، ولم يدخل تحت هذا ما يخترع الإنسان من أفعال البر يسمى بدعة لعدم فعله قبل ذلك فيخرج عما ذكرنا إن كان له نظير في الأصول ، وهو الحض على كل أفعال البر ما علم منها وما لم يعلم ، فإن{[58607]} أحدث محدث من ذلك شيئاً فكأنه زيادة فيما تقدم من البر وليس بضد لما تقدمه من{[58608]} السنة ، بل هو باب من أبوابها ، ويقولون : ما فلان ببدع{[58609]} في هذا الأمر أي ليس هو-{[58610]} بأول من أصابه ذلك {[58611]}ولكن سبقه غيره أيضاً{[58612]} ، قال الشاعر :
ولست ببدع من النائبات *** ونقض الخطوب و{[58613]}إمرارها{[58614]}
ويقال : أبدع بالرجل - إذا كلت{[58615]} راحلته ، وأبدعت الركاب{[58616]} إذا كلت وعطبت ، وقيل : كل من عطبت{[58617]} ركابه فانقطع به فقد أبدع به ، وقال في القاموس : والبدعة الحدث في الدين بعد الإكمال أو ما استحدث بعده صلى الله عليه وسلم من الأهواء والأعمال ، وأبدع بالرجل : عطبت ركابه-{[58618]} ، وبقي منقطعاً به ، وأبدع فلان بفلان : قطع به وخذله ، ولم يقم بحاجته ، وحجته بطلت ، وقال الصغاني في مجمع البحرين : وشيء بدع - بالكسر أي مبتدع ، وفلان بدع في هذا الأمر أي بديع ، وقوم أبداع ، عن{[58619]} الأخفش : و-{[58620]} البديع المبتدع والبديع المبتدع أيضاً ، وأبدعت حجة فلان - إذا بطلت وأبدعت : أبطلت - يتعدى ولا يتعدى .
ولما أثبت بموافقته صلى الله عليه وسلم للرسل أصل الكلام وبقي أن يقال : إن التكذيب في أن الله أرسله به ، قام الدليل على صدقه في دعواه ، وذلك بأنه مماثل لهم في أصل الخلقة ليس له من ذاته من العلم إلا ما لهم ، وليس منهم أحد يصح له حكم على المغيبات ، فلولا أن الله أرسله-{[58621]} لما صح كل شيء حكم به على المستقبلات ولم يتخلف من ذلك شيء فقال : { وما أدري } أي في هذا الحال بنوع حيلة وعمل واجتهاد{[58622]} { ما } أي الذي-{[58623]} { يفعل } أي من أيّ فاعل كان-{[58624]} سواء كان هو الله تعالى بلا واسطة أو بواسطة غيره-{[58625]} { بي } وأكد النفي ليكون ظاهراً في الاجتماع {[58626]}وكذلك{[58627]} في الانفراد أيضاً{[58628]} فقال-{[58629]} : { ولا } أي ولا أدري الذي يفعل-{[58630]} { بكم } هذا في أصل الخلقة وأنتم ترونني أحكم على نفسي بأشياء لا يختل شيء منها مثل أن أقول : إني {[58631]}آتيكم من القرآن{[58632]} بما يعجزكم ، فلا تقدرون كلكم على معارضة شيء منه فيضح ذلك على سبيل التكرار لا يتخلف أصلاً ، فلولا أن الله أرسلني به لم أقدر وحدي على ما لا-{[58633]} تقدرون عليه كلكم ، وإن قدرت على شيء كنتم أنتم أقدر مني عليه ، وفي الآية بعمومها دليل على أن لله أن يفعل ما يشاء ، فله أن يعذب الطائع وينعم العاصي ، ولو فعل ذلك لكان عدلاً وحقاً وإن كنا نعتقد أنه لا يفعله .
ولما سوى نفسه الشريفة بهم في أصل الخلقة ، وكان قد ميزه الله عنهم بما خصه من النبوة والرسالة ، أبرز له ذلك -{[58634]} سبحانه وتعالى على وجه النتيجة فقال : { إن } أي ما { أتبع } أي -{[58635]} بغاية جهدي وجدي { إلا ما } أي الذي { يوحى } أي يجدد{[58636]} إلقاؤه ممن لا يوحي بحق {[58637]}إلا هو{[58638]} { إليّ } على سبيل التدريج سراً ، لا يطلع عليه حق اطلاعه غيري ، ومنه ما أخبر فيه عن المغيبات فيكون كما قلت ، فلا يرتاب في أني لا أقدر على ذلك بنفسي فعلم{[58639]} أنه من الله .
ولما نسبوه إلى الافتراء تارة{[58640]} والجنون أخرى ، وكان السبب الأعظم في نسبتهم له {[58641]}إلى ذلك{[58642]} صدعهم بما يسوءهم على غير عادته السالفة وعادة أمثاله ، قال على سبيل القصر القلبي : { وما أنا } أي بإخباري{[58643]} لكم عما يوحى إليّ { إلا نذير } أي لكم ولكل من بلغه القرآن { مبين * } أي ظاهر{[58644]} أني كذلك في نفسه مظهر له - أي كوني نذيراً - ولجميع{[58645]} الجزئيات التي أنذر منها بالأدلة القطعية .
قوله : { قل ما كنت بدعا من الرسل } أي ما كنت أول رسل الله الذين أرسلهم إلى الناس ، فقد كان من قبلي مرسلون كثيرون أرسلهم الله إلى أمم مختلفة من قبلكم فلا ينبغي أن تنكروا إخباري بأني رسول الله إليكم ، ودعائي لكم أن تفردوا الله وحده بالعبادة والإذعان ، فإن الرسل جميعا إنما بعثوا من أجل ذلك . وقيل : كان المشركون يعيبون الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وبأن الذين اتبعوه هم من الفقراء ، فبين الله لهم أن المرسلين كلهم كانوا على هذه الصفة ولا يقدح ذلك في نبوته وصدقه فيما يقوله لهم .
قوله : { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } أي لا علم لي بالغيب عما يفعله الله بي وبكم فيما يستقبل من الزمان . فما أدري ما يصر إليه أمري وأمركم في هذه الدنيا ؟ فمن الغالب منا ومن المغلوب ؟ وهل تؤمنون أم تكفرون ؟ وهل تعاجلون بالعذاب أم تمهلون ؟ وذلك كله من أمر الدنيا . أما في الآخرة فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في الجنة حقا ، بل إنه في الذروة السامقة من الفردوس الأعلى يوم القيامة .
قوله : { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } يعني ما أتبع فيما أبلغكم به وأدعوكم إليه وأحذركموه إلا يوحي به إلي ربي { ومآ أنا إلا نذير مبين } أي لست إلا مبلغا لكم دعوة ربي ومحذركم عصيانه وشديد عقابه{[4202]} .