في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المجادلة مدنية وآيتها ثنتان وعشرون

نحن في هذه السورة - وفي هذا الجزء كله تقريبا - مع أحداث السيرة في المجتمع المدني . مع الجماعة المسلمة الناشئة ؛ حيث تربى وتقوم ، وتعد للنهوض بدورها العالمي ، بل بدورها الكوني ، الذي قدره الله لها في دورة هذا الكون ومقدراته . وهو دور ضخم يبدأ من إنشاء تصور جديد كامل شامل لهذه الحياة ، في نفوس هذه الجماعة ، وإقامة حياة واقعية على أساس هذا التصور ، ثم تحمله هذه الجماعة إلى العالم كله لتنشئ للبشرية حياة إنسانية قائمة على أساس هذا التصور كذلك . . وهو دور ضخم إذن يقتضي إعدادا كاملا .

ولقد كان أولئك المسلمون الذين يعدهم القدر لهذا الدور الضخم ، ناسا من الناس . منهم السابقون من المهاجرين والأنصار الذين نضج إيمانهم ، واكتمل تصورهم للعقيدة الجديدة ، وخلصت نفوسهم لها ، ووصلوا . . وصلوا إلى حقيقة وجودهم وحقيقة هذا الوجود الكبير ؛ واندمجت حقيقتهم مع حقيقة الوجود ، فأصبحوا بهذا طرفا من قدر الله في الكون ؛ لا يجدون في أنفسهم عوجا عنه ، ولا يجدون في خطاهم تخلفا عن خطاه ، ولا يجدون في قلوبهم شيئا إلا الله . . كانوا كما جاء عنهم في هذه السورة : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ، وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . رضي الله عنهم ورضوا عنه . أولئك حزب الله . ألا إن حزب الله هم المفلحون ) . .

ولكن هؤلاء السابقين كانوا قلة بالقياس إلى الجماعة المسلمة المتزايدة العدد - وبخاصة بعد أن أصبح الإسلام قوة ترهب - حتى قبل الفتح - ودخل فيه من لم يتلق من التربية الإسلامية القسط الكافي ، ولم يتنفس في الجو الإسلامي فترة طويلة . كما دخل فيه من المنافقين من آثر المصلحة أو العافية على دخل في القلوب ، وتربص بالفرص ، وذبذبة بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات القوية المناوئة له في ذلك الحين . سواء معسكرات المشركين أو اليهود ! ولقد اقتضت تربية النفوس وإعدادها للدور الكوني الكبير المقدر لها في الأرض جهودا ضخمة ، وصبرا طويلا ، وعلاجا بطيئا ، في صغار الأمور وفي كبارها . . كانت حركة بناء هائلة هذه التي قام بها الإسلام ، وقام بها رسول الإسلام [ صلى الله عليه وسلم ] بناء النفوس التي تنهض ببناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية ، وتقوم على منهج الله ، تفهمه وتحققه ، وتنقله إلى أطراف الأرض في صورة حية متحركة ، لا في صحائف وكلمات .

ونحن نشهد في هذه السورة - وفي هذا الجزء كله - طرفا من تلك الجهود الضخمة ، وطرفا من الأسلوب القرآني كذلك في بناء تلك النفوس ، وفي علاج الأحداث والعادات والنزوات ؛ كما نشهد جانبا من الصراع الطويل بين الإسلام وخصومه المختلفين من مشركين ويهود ومنافقين .

وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئة ؛ وهو يصنعها على عينه ، ويربيها بمنهجه ، ويشعرها برعايته ، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده - سبحانه - معها في أخص خصائصها ، وأصغر شؤونها ، وأخفى طواياها ؛ وحراسته لها من كيد أعدائها خفيه وظاهره ؛ وأخذها في حماه وكنفه ، وضمها إلى لوائه وظله ؛ وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف الله ، وتنتسب إليه ، وتؤلف حزبه في الأرض ، وترفع لواءه لتعرف به في الأرض جميعا .

ومن ثم تبدأ السورة بصورة عجيبة من صور هذه الفترة الفريدة في تاريخ البشرية . فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة ، ومشاركتها في الحياة اليومية لجماعة من الناس مشاركة ظاهرة : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) . . فنشهد السماءتتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة ، لتقرر حكم الله في قضيتها ، وقد سمع - سبحانه - للمرأة وهي تحاور رسول الله فيها ، ولم تكد تسمعها عائشة وهي قريبة منها ! وهي صورة تملأ القلب بوجود الله وقربه وعطفه ورعايته .

يليها في سياق السورة توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله - وهم أعداء الجماعة المسلمة التي تعيش في كنف الله - مكتوب عليهم الكبت والقهر في الأرض ، والعذاب المهين في الآخرة ، مأخوذون بما عملوا مما أحصاه الله عليهم ، ونسوه هم وهم فاعلوه ! ( والله على كل شيء شهيد ) . .

ثم توكيد وتذكير بحضور الله - سبحانه - وشهوده لكل نجوى في خلوة ، يحسب أصحابها أنهم منفردون بها . والله معهم أينما كانوا : ( ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، إن الله بكل شيء عليم ) . . وهي صورة تملأ القلب كذلك بوجود الله وحضوره ، كما تملؤه برقابته واطلاعه .

وهذا التوكيد مقدمة لتهديد الذين يتناجون في خلواتهم لتدبير المكايد للمسلمين ، وملء قلوبهم بالحزن والهم والتوجس . تهديد بأن أمرهم مكشوف ، وأن عين الله مطلعة عليهم ، ونجواهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول مسجلة ، وأن الله آخذهم بها ومعذبهم عليها . ونهي للمسلمين عن التناجي بغير البر والتقوى ، وتربية نفوسهم وتقويمها بهذا الخصوص .

ثم يستطرد في تربية هذه النفوس المؤمنة ؛ فيأخذها بأدب السماحة وبالطاعة في مجلس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومجالس العلم والذكر . كما يأخذها بأدب السؤال والحديث مع الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والجد في هذا الأمر والتوقير .

أما بقية السورة بعد هذا فتنصرف إلى الحديث عن المنافقين الذين يتولون اليهود ؛ ويتآمرون معهم ، ويدارون تآمرهم بالكذب والحلف للرسول وللمؤمنين . وتصورهم في الآخرة كذلك حلافين كذابين ؛ يتقون بالحلف والكذب ما يواجههم من عذاب الله ، كما كانوا يتقون بهما في الدنيا ما يواجههم من غضب رسول الله والمؤمنين ! مع توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله كتب الله عليهم أنهم في الأذلين وأنهم هم الأخسرون . كما كتب أنه ورسله هم الغالبون . وذلك تهوينا لشأنهم ، الذي كان بعض المنتسبين إلى الإسلام - وبعض المسلمين - يستعظمه ، فيحافظ على مودته معهم ، ولا يدرك ضرورة تميز الصف المسلم تحت راية الله وحدها ، والاعتزاز برعاية الله وحده ، والاطمئنان إلى حراسته الساهرة للفئة التي يصنعها على عينه ، ويهيئها لدورها الكوني المرسوم .

وفي ختام السورة تجيء تلك الصورة الوضيئة لحزب الله . هذه الصورة التي كان يمثلها بالفعل أولئك السابقون من المهاجرين والأنصار . والتي كانت الآية الكريمة تشير لها كي ينتهي إليها أولئك الذين ما زالوا بعد في الطريق !

( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله . . )الخ الآية . . . كما وردت في أول هذا التقديم .

1

( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما ، إن الله سميع بصير ) . . وهو مطلع ذو إيقاع عجيب . . إنكما لم تكونا وحدكما . . لقد كان الله معكما . وكان يسمع لكما . لقد سمع قول المرأة . سمعها تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله . وعلم القصة كلها . وهو يعلم تحاوركما وما كان فيه . . إن الله سميع بصير . يسمع ويرى . هذا شأنه وهذه صورة منه في الحادث الذي كان الله ثالثكما فيه . .

وكلها إيقاعات ولمسات تهز القلوب . .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

أهداف سورة المجادلة

( سورة المجادلة مدنية ، وآياتها 22 آية ، نزلت بعد سورة المنافقون )

تربية إلهية

سورة المجادلة حافلة بآداب التربية وتهذيب السلوك ، وتحذير المسلمين من مكايد المنافقين .

لقد نزلت هذه السورة بعد سورة المنافقون ، وكانت الجماعة الإسلامية في المدينة لا تزال في طور الإعداد والتكوين ، وكان المسلمون يتألفون من المهاجرين والأنصار ، وقد انضم إليهم من لم يتلق من التربية الإسلامية القدر الكافي ، ومن لم يتنفس في الجو الإسلامي فترة طويلة ، كما دخل في الإسلام جماعة من المنافقين ، حرصوا على الاستفادة المادية وأخذوا يتربصون بالمسلمين الدوائر ، ويعرضون ولاءهم على المعسكرات المناوئة للمسلمين ، وهي معسكرات المشركين واليهود .

وقد اقتضت تربية النفوس وإعدادها للدور الكبير المقدر لها في الأرض جهودا ضخمة وصبرا طويلا ، وعلاجا بطيئا في صغار الأمور وكبارها .

ونحن نشهد في هذه السورة – وفي هذا الجزء كله – طرفا من تلك الجهود الضخمة ، وطرفا من الأسلوب القرآني كذلك في بناء تلك النفوس ، وفي علاج الأحداث والعادات والنزوات ، كما نشهد جانبا من الصراع الطويل بين الإسلام وخصومه المختلفين من مشركين ويهود ومنافقين .

" ونشهد في سورة المجادلة بصفة خاصة صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئة ، وهو يصنعها على عينه ، ويربيها بمنهجه ، ويشعرها برعايته ، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده سبحانه معها في أخص خصائصها ، وأصغر شئونها ، وأخفى طواياها ، وحراسته لها من كيد أعدائها خفيه وظاهره ، وأخذها في حماه وكنفه ، وضمها إلى لوائه وظله ، وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف الله ، وتنتسب إليه ، وترفع لواءه في الأرض " i

قصة المجادلة

سميت سورة المجادلة بهذا الاسم لاشتمالها على قصة المرأة المجادلة ، وقد افتتح الله بها السورة حيث قال سبحانه : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } . ( المجادلة : 1 ) .

وقد روى الإمام أحمد في مسنده ، وأبو داود في كتاب الطلاق من السنن ، عن خولة بنت ثعلبة قالت : فيّ وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة ، قالت : كنت عنده ، وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه ، فدخل علي يوما فراجعته بشيء فغضب ، فقال : أنت عليّ كظهر أمي .

وكان الرجل في الجاهلية إذا قال ذلك لامرأته حرمت عليه ، وكان ذلك أول ظهار في الإسلام ، فندم أوس لساعته ، ثم دعاها لنفسه – أي : طلب ملامستها – فأبت وقالت : والذي نفسي بيده لا تصل إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن أوسا تزوجني وأنا شابة غنية ذات أهل ومال ، حتى إذا أكل مالي ، وأفنى شبابي ، وتفرق أهلي ، وكبرت سني ، ظاهر مني ، وقد ندم ، فهل من شيء تجمعني به وإياه تفتيني به ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " حرمت عليه ، أو ما أراك إلا قد حرمت عليه " .

فأعادت الكرّة والرسول صلى الله عليه وسلم يعيد عليها نفس الجواب ، حتى قالت : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ، قد طالت له صحبتي ، ونثرت له بطني ، وإن له صبية صغارا ، إن ضممتهم إليّ جاعوا ، وإن ضممتهم إليه ضاعوا ، فجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتستغيث وتتضرع ، وتشكو إلى الله ، فنزلت الآيات الأربع من صدر سورة المجادلة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا خولة ، قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنا " ، ثم تلا عليها الآيات ، وقل لها : " مريه فليعتق رقبة " ، قالت : يا رسول الله ، ليس عنده ما يعتق ، قال : " فليصم شهرين متتابعين " ، قالت : والله إنه لشيخ ما له من صيام ، قال : " فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر " ، قالت : والله يا رسول الله ما ذاك عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإنا سنعينه بعِرق من تمر " ، قالت : يا رسول الله ، وأنا سأعينه بعرق آخر ، قال الرسول : " قد أصبت وأحسنت ، فاذهبي فتصدقي به عنه ، ثم استوصي بابن عمك خيرا " ، قالت : ففعلت .

تلك قصة الظهار ، وهي تشير إلى رعاية السماء لهذه الجماعة المؤمنة ، ونزول الوحي يجيب على أسئلتها ويحل مشاكلها ، ويربي نفوسها ويهذب أخلاقها ، ويأخذ بيدها إلى الصراط القويم .

وقد تضمنت الآيات إحاطة السميع البصير بكل صغيرة وكبيرة ، واطلاعه على جميع الأعمال ، وبينت أن المسارعة إلى ألفاظ الظهار والطلاق منكر وزور ، وأن الزوجة غير الأم ، فالأم حملت وأرضعت وقد حرم الله على الإنسان الزواج بأمه ، والزوجة أحل الله زواجها .

ثم رسم القرآن طريق الحل لمن بدرت منه بادرة بالظهار فقال لامرأته ، أنت علي كظهر أمي ، ثم أراد أن يرجع عن ذلك وأن يراجع زوجته ، فعليه أن يكفر عن هذا الذنب بتحرير رقبة ، فإن لم يجد فإنه يصوم ستين يوما ، فإن لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكينا ، وفي ذلك نوع من التهذيب والتأديب حتى يضبط الناس أعصابهم ، ويحفظوا ألسنتهم في ساعة الغضب والتهور .

أهداف السورة

تبدأ السورة بهذه البداية الكريمة ، وهي سماع الله العلي القدير لشكوى امرأة فقيرة مغمورة ، وقد استمع إليها الله من فوق سبع سماوات ، وكان صوتها ضعيفا لا يكاد يُسمع من يجلس بجوارها .

وفي البخاري ، والنسائي ، عن عائشة رضي الله قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله عز وجل : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ . . . } ( المجادلة : 1 ) . إلى آخر الآيات الأربع من صدر السورة .

وفي الآيتين ( 5-6 ) تأكيد على أن الذين يحادون الله ورسوله – وهم أعداء الجماعة المسلمة التي تعيش في كنف الله – مكتوب عليهم الكبت والقهر في الأرض ، ولعذب المهين في الآخرة ، مأخوذون بم عملوا ، أحصاه الله عليهم ، ونسوه هم ، وهم فاعلوه ، { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } . ( المجادلة : 6 ) .

والآية 7 من سورة المجادلة تؤكد سعة علم الله وإحاطته بما في السماوات والأرض ، واطلاعه على السر والنجوى ، ورقابته لكل صغير وكبير ، ثم محاسبة الجميع بما قدموا يوم القيامة ، والآية تخرج هذه المعاني في صورة عميقة التأثير ، تترك القلوب وجلة ترتعش مرة وتأنس مرة ، وهي مأخوذة بمحضر الله الجليل : { هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . ( المجادلة : 7 ) .

وفي الآيات ( 8-10 ) يشهّر القرآن بموقف المنافقين الذين يبيتون الكيد والدس للمؤمنين ، ويهددهم بأن أمرهم مكشوف ، وأن عين الله مطلّعة عليهم ، ونجواهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول مسجلة ، وسيحاسبون عليها ويلقون جزاءهم في جهنم وبئس المصير .

ثم تستطرد الآيات إلى تربية المسلمين وتهذيب نفوسهم بهذا الخصوص ، فتنهاهم عن الحديث الخافت المحتوي على الإثم والعدوان ومعصية الرسول . وذلك يؤكد أنه كان بين جماعة المسلمين قوم لم يترسخ الإيمان في قلوبهم ، وكانوا يقلدون المنافقين في التناجي بالهمز واللمز والإثم والمعصية ، وكان القرآن يواكب هؤلاء جميعا ، فيكشف المنافقين ، ويرشد المسلمين ، وينزل الهدى والرحمة للناس أجمعين . والآيات ( 11-13 ) ، استطراد في تربية المسلمين ، وتعليمهم أدب السماحة والطاعة في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومجالس العلم والذكر ، وهو أدب رفيع قدمه القرآن من عشرات القرون ليحث الناس على التعاون والتكافل والسلوك المهذب : { إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا . . . }( المجادلة : 11 ) . كما تحث الآيات على توفير العلم ، وترسم أدب السؤال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتحث على الجد والتوقير في هذا الأمر .

ويبدأ الربع الثاني في السورة بالآية 14 ، وقد تحدثت مع ما بعدها عن المنافقين الذين يتولون اليهود ويتآمرون معهم ، ويدارون تآمرهم بالكذب والحلف للرسول وللمؤمنين .

وهم في الآخرة كذلك حلافون كذابون ، يتقون بالحلف والكذب ما يواجههم من عذاب الله ، كما كانوا يتقون بهما في الدنيا ما يواجههم من غضب رسول الله والمؤمنين ، مع توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله كتب الله عليهم أنهم في الأذلين ، وأنهم هم الأخسرون ، وأن الله ورسله هم الغالبون .

وفي ختام السورة نجد سورة كريمة للمؤمن يستعلي بإيمانه ، ويجعل الإيمان هو النسب وهو الحياة ، وهو العقيدة الغالية التي تصله بالمؤمنين والمسلمين ، وتحجب مودته عن أعداء الله ، ولو كانوا أقرب الناس إليه .

وكذلك كان المهاجرون والأنصار الذين ضحوا بكل شيء في سبيل العقيدة ، فكتب الله في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ، وجعلهم مثلا أعلى لكل فئة مخلصة ولكل مسلم مخلص ، فمودة المسلم وحبه وإخلاصه وتعاونه لا تكون إلا للمسلمين الصادقين ، ثم هو في نفس الوقت يحجب مودته عن الخائنين وإن كانوا أقاربه أو أصهاره أو عشيرته .

ومن سمات هذا الدين أن تحب لله وأن تكره لله : أن تحب المتقين ، وتصل المؤمنين ، وتتعاون مع الهداة الصالحين ، وأن تحجب مودتك عن الفاسقين لأنك بهذا تنفذ أمر الله وتهجر من عصى الله . ( ومن أحب من أحب الله ، فكأنما يحب الله ) .

المقصد الإجمالي للسورة

قال الفيروزبادي :

معظم مقصود سورة المجادلة هو : " بيان حكم الظهار ، وذكر النجوى والسرار ، والأمر بالتوسع في المجالس ، وبيان فضل أهل العلم ، والشكاية من المنافقين ، والفرق بين حزب الرحمن وحزب الشيطان " ii .

والحكم على الأول بالفلاح ، وعلى الثاني بالخسران .

قال تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . ( المجادلة : ( 22 ) .

أحكام الظهار

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( 1 ) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( 2 ) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 3 ) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 4 ) }

1

المفردات :

سمع : أجاب وقبل ، كما يقال : سمع الله لمن حمده .

التي تجادلك في زوجها : هي خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية .

تجادلك : تراجعك الكلام في أمره ، وفيما صدر منه في شأنها .

وتشتكي إلى الله : تبث إليه ما انطوت عليه نفسها من غم وهم ، وتضرع إليه أن يزيل كربها . وزوجها : هو أوس بن الصامت ، أخو عبادة بن الصامت .

السمع : صفة تدرك بها الأصوات ، أثبتها الله تعالى لنفسه .

تحاوركما : تراجعكما في الكلام ، من حار إذا رجع .

التفسير :

1- { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } .

بهذه البداية الرائعة تبدأ سورة المجادلة ، وتسمى المجادلة بفتح الدال ، والمجادلة بكسرها ، وكلاهما جائز .

والمجادلة بكسر الدال هي خولة بنت ثعلبة ، وزوجها هو أوس بن الصامت ، أخو عبادة بن الصامت الصحابي الجليل .

وكان أوس بن الصامت قد كبرت سنه وساءت خلقه ، فدخل على زوجته يوما فراجعته في شيء ، فغضب ، وقال لها : أنت علي كظهر أمي ، وكان هذا أول ظهار في الإسلام ، وكان الرجل في الجاهلية إذا قال ذلك لامرأته حرمت عليه ، فندم أوس من ساعته ، وجاءت زوجته خولة بنت ثعلبة للنبي صلى الله عليه وسلم تشكو حالها وتقول : يا رسول الله ، إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ ، لي مال وجمال وعشيرة ، فانتظر حتى ذهب مالي ، وولّى جمالي ، وتفرق أهلي فظاهر مني ، وقال لي : أنت علي كظهر أمي ، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله ، تجمعني بها وإياه فحدثني بها ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن ، ما أُراك إلا قد حرمت عليه " .

قالت : يا رسول الله ، إني أنجبت منه أولادا ، كان بطني لهم وعاء ، وكان ثديي لهم سقاء ، وكان حجري لهم كفاء ، وإن ضممتهم إلى جاعوا ، وإن ضمهم إليه جاعوا .

وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك خراب بيتي وتشرد أولادي وضياع زوجي ، اللهم فأنزل على لسان نبيك ، وما برحت حتى ظُلل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزل القرآن فيها ، فقال صلى الله عليه وسلم : " يا خولة ، أبشري " ، قالت : خيرا ، فقرأ عليها هذه الآيات الأربع من أول سورة المجادلة .

ونلحظ استجابة السماء ، واستجابة الله العلي القدير ، مالك الملك والملكوت ، ذي العزة والجبروت ، لامرأة من عوام الناس ، ونزول القرآن بشأنها ، واستماع الله لشكواها ، وحوارها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ومعنى الآية :

لقد استجاب الله أو سمع قول المجادلة خولة بنت ثعلبة التي جاءت إليك تجادلك في شأن زوجها الذي ظاهر منها ، وقال لها ، حرمت علي كما حرمت علي أمي ، وجعلت تجادلك ، وترد عليك ، وتقول إن زوجها لن يذكر طلاقا ، وإنما ذكر الظهار فقط ، ثم اتجهت بشكواها إلى الله وهو سبحانه يسمع تحاورها معك أيها الرسول ، وترديدها للشكوى ، إن الله سَمِيعٌ . لكل شيء مهما كان خفيا أو هامسا ، بَصِيرٌ . بكل شيء مهما كان دقيقا ، فسبحانه وتعالى من سميع بصير . أخرج البخاري والنسائي ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت ، ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله عز وجل :

{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } .

والآية بعد ذلك وقبله ، رسالة موجهة إلى كل قلب : ما أقرب الله إليك وأنت لا تشعر قربه ، وما أحبك إليه وأنت لا تشعر حبه ، إنه يسمعك ويراك ، ويعلم متقلبك ومثواك ، ألا تستحيي منه حق الحياء ، بأن تحفظ السمع وما وعى ، والبطن وما حوى ، وأن تذكر الموت والبلى .

والآية موجهة إلى كل زوج وزوجة : حافظوا على بيوتكم ، وعلى أولادكم ، وعلى استقراركم ، وعلى عش الزوجية هادئا هانئا بالمودة والرحمة ، والألفة والتضحية ، والصبر والوفاء ، فبهذه الصفات تربى الأسر ، وتنشأ الذرية في كنف العطف والرعاية ، ونجد شبابا صالحا وفتيات صالحات ، يساهمون جميعا في مجتمع سليم وأمة كريمة ، لتكون بحق : خير أمة أخرجت للناس . . . ( آل عمران : 110 ) .

 
التفسير الميسر لمجموعة من العلماء - التفسير الميسر [إخفاء]  
{قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ} (1)

{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( 1 ) } .

قد سمع الله قول خولة بنت ثعلبة التي تراجعت في شأن زوجها أوس بن الصامت ، وفيما صدر عنه في حقها من الظِّهار ، وهو قوله لها : " أنت عليَّ كظهر أمي " ، أي : في حرمة النكاح ، وهي تتضرع إلى الله تعالى ؛ لتفريج كربتها ، والله يسمع تخاطبكما ومراجعتكما . إن الله سميع لكل قول ، بصير بكل شيء ، لا تخفى عليه خافية .