تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَيۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانٗا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡأٓخَرِ قَالَ لَأَقۡتُلَنَّكَۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (27)

{ 27 - 31 } { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ }

إلى آخر القصة{[261]}  أي : قص على الناس وأخبرهم بالقضية التي جرت على ابني آدم بالحق ، تلاوة يعتبر بها المعتبرون ، صدقا لا كذبا ، وجدا لا لعبا ، والظاهر أن ابني آدم هما ابناه لصلبه ، كما يدل عليه ظاهر الآية والسياق ، وهو قول جمهور المفسرين .

أي : اتل عليهم نبأهما في حال تقريبهما للقربان ، الذي أداهما إلى الحال المذكورة .

{ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا } أي : أخرج كل منهما شيئا من ماله لقصد التقرب إلى الله ، { فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ } بأن علم ذلك بخبر من السماء ، أو بالعادة السابقة في الأمم ، أن علامة تقبل الله لقربان ، أن تنزل نار من السماء فتحرقه .

{ قَالَ } الابن ، الذي لم يتقبل منه للآخر حسدا وبغيا { لَأَقْتُلَنَّكَ } فقال له الآخر -مترفقا له في ذلك- { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } فأي ذنب لي وجناية توجب لك أن تقتلني ؟ إلا أني اتقيت الله تعالى ، الذي تقواه واجبة عليّ وعليك ، وعلى كل أحد ، وأصح الأقوال في تفسير المتقين هنا ، أي : المتقين لله في ذلك العمل ، بأن يكون عملهم خالصا لوجه الله ، متبعين فيه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .


[261]:- في ب: كتب الآيات إلى قوله تعالى: "فأصبح من النادمين".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَيۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانٗا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡأٓخَرِ قَالَ لَأَقۡتُلَنَّكَۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (27)

عَطَفَ نبأ على نبإ ليكون مقدّمة للتحذير من قَتْل النفس والحِرابة والسرقة ، ويتبع بتحريم الخمر وأحكام الوصية وغيرها ، وليحسن التخلّص ممّا استطرد من الأنباء والقصَص التي هي مواقع عبرة وتُنْظم كلّها في جرائر الغرور . والمناسبةُ بينها وبين القصّة الّتي قبلها مناسبة تماثل ومناسبة تضادّ . فأما التماثل فإنّ في كلتيهما عدم الرضا بما حكم الله تعالى : فإنّ بني إسرائيل عصوا أمر رسولهم إيّاهم بالدخول إلى الأرض المقدّسة ، وأحدَ ابني آدم عصى حكم الله تعالى بعدم قبول قربانه لأنّه لم يكن من المتّقين . وفي كلتيهما جرأة على الله بعد المعصيّة ؛ فبنو إسرائيل قالوا : { اذهب أنت وربّك } [ المائدة : 24 ] ، وابن آدم قال : لأقتلنّ الّذي تقبّل الله منه . وأمّا التّضادّ فإنّ في إحداهما إقداماً مذموماً من ابن آدم ، وإحجاماً مذموماً من بني إسرائيل ، وإنّ في إحداهما اتّفاق أخوين هما موسى وأخوه على امتثال أمر الله تعالى ، وفي الأخرى اختلافَ أخوين بالصّلاح والفساد .

ومعنى { ابني آدم } هنا ولداه . وأمّا ابن آدم مفرداً فقد يراد به واحد من البشر نحو : « يَا بْن آدم إنّك ما دعوتني ورجوتَني غَفَرْتُ لك » ، أو مجموعاً نحو { يا بني آدم خذوا زينتكم } [ الأعراف : 31 ] .

والباء في قوله : { بالحقّ } للملابسة متعلِّقاً ب { اتْلُ } . والمراد من الحقّ هنا الصدق من حقّ الشّيء إذا ثبت ، والصدق هو الثّابت ، والكذب لا ثبوت له في الواقع ، كما قال : { نحن نقصّ عليك نبأهم بالحقّ } [ الكهف : 13 ] . ويصحّ أن يكون الحقّ ضدّ الباطل وهو الجدّ غير الهزل ، أي اتْلُ هذا النبأ متلبّساً بالحقّ ، أي بالغرض الصّحيح لا لمجرد التفكّه واللّهو . ويحتمل أن يكون قوله { بالحق } مشيراً إلى ما خفّ بالقصة من زيادات زادها أهل القصص من بني إسرائيل في أسباب قتل أحد الأخوين أخاه .

{ وإذ } ظرف زمان ل { نبأ } ، أي خبرهما الحاصل وقت تقريبهما قُرباناً ، فينتصب ( إذ ) على المفعول فيه .

وفِعْلُ { قرّبا } هنا مشتقّ من القُرْبان الذي صار بمنزلة الاسم الجامد ، وأصله مصدر كالشُّكران والغفران والكُفران ، يسمّى به ما يتقرّب به المرء إلى ربّه من صدقة أو نُسك أو صلاة ، فاشتقّ من القرآن قرّب ، كما اشتقّ من النُّسك نَسَكَ ، ومن الأضحيّة ضَحَّى ، ومن العقيقة عَقّ . وليس { قرّبا } هنا بمعنى أدْنَيَا إذ لا معنى لذلك هنا .

وفي التّوراة هما ( قايين ) والعرب يسمّونه قَابِيل وأخوه ( هَابِيل ) . وكان قابيل فلاّحاً في الأرض ، وكان هابيل راعياً للغنم ، فقرّب قابيل من ثمار حرْثه قُرباناً وقرّب هابيل من أبكار غنمه قرباناً . ولا ندري هل كان القربان عندهم يعطى للفقراء ونحوهم أو كان يترك للنّاس عامّة . فتقبّل الله قربان هَابيل ولم يتقبّل قربان قابيل . والظاهر أنّ قبول قربان أحدهما دون الآخر حصل بوحي من الله لآدم .

وإنّما لم يتقبّل الله قربان قابيل لأنّه لم يكن رجلاً صالحاً بل كانت له خطايا . وقيل : كان كافراً ، وهذا ينافي كونهُ يُقرّب قرباناً .

وأفرد القربان في الآية لإرادة الجنس ، وإنّما قرّب كلّ واحد منهما قرباناً وليس هو قرباناً مشتركاً . ولم يسمّ الله تعالى المتقبَّل منه والّذي لم يتقبّل منه إذ لا جدوى لذلك في موقع العبرة . وإنّما حَمَله على قتل أخيه حسَده على مزيّة القبول . والحسد أوّل جريمة ظهرت في الأرض .

وقوله في الجواب { إنّما يتقبّل الله من المتّقين } موعظة وتعريض وتنصّل ممّا يوجب قتله . يقول : القبول فعل الله لا فعل غيره ، وهو يتقبّل من المتّقي لا من غيره . يعرّض به أنّه ليس بتَقِي ، ولذلك لم يتقبّل الله منه . وآية ذلك أنّه يضمر قتل النفس . ولذا فلا ذَنب ، لمن تقبّل الله قربانه ، يستوجبُ القتلَ . وقد أفاد قول ابن آدم حصرَ القبول في أعمال المتّقين . فإذا كان المراد من المتّقين معناه المعروف شرعاً المحكي بلفظه الدالّ عليه مراد ابن آدم كان مفاد الحصر أنّ عمل غير المتّقي لا يقبل ؛ فيحتمل أنّ هذا كان شريعتهم ، ثمّ نسخ في الإسلام بقبول الحسنَات من المؤمن وإن لم يكن متّقياً في سائر أحواله ؛ ويحتمل أنْ يراد بالمتّقين المخلصون في العمل ، فيكون عدم القبول أمارة على عدم الإخلاص ، وفيه إخْراج لفظ التّقوى عن المتعارف ؛ ويحتمل أن يريد بالتقبّل تقبّلاً خاصّاً ، وهو التّقبل التّامّ الدالّ عليه احتراق القربان ، فيكون على حدّ قوله تعالى : { هُدى للمتّقين } [ البقرة : 2 ] ، أي هدى كاملاً لهم ، وقوله : { والآخرة عند ربّك للمتّقين } [ الزخرف : 35 ] ، أي الآخرة الكاملة ؛ ويحتمل أن يريد تقبّل القرابين خاصّة ؛ ويحتمل أن يراد المتّقّين بالقربان ، أي المريدين به تقوى الله ، وأنّ أخاه أراد بقربانه بأنّه المباهاة . ومعنى هذا الحصر أنّ الله لا يتقبّل من غير المتّقين وكان ذلك شرعَ زمانهم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَيۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانٗا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡأٓخَرِ قَالَ لَأَقۡتُلَنَّكَۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (27)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{واتل عليهم نبأ ابني آدم}، يقول: اتل يا محمد على أهل مكة نبأ ابني آدم، {بالحق} ليعرفوا نبوتك...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واتل على هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليكم، عليك وعلى أصحابك معك، وعرّفهم مكروه عاقبة الظلم والمكر، وسوء مغبة الجور ونقض العهد، وما جزاء الناكث وثواب الوافي، خَبَرَ ابني آدم هابيل وقابيل، وما آل إليه أمر المطيع منهما ربه الوافي بعهده، وما إليه صار أمر العاصي منهما ربه الجائر الناقض عهده فلتعرف بذلك اليهود وخامة غبّ غدرهم، ونقضهم ميثاقهم بينك وبينهم، وهمهم بما هموا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك، فإن لك ولهم في حسن ثوابي وعظم جزائي على الوفاء بالعهد الذي جازيت المقتول الوافيَ بعهده من ابني آدم، وعاقبت به القاتل الناكث عهده عزاء جميلاً.

واختلف أهل العلم في سبب تقريب ابني آدم القربان، وسبب قبول الله عزّ وجلّ ما تقبل منه، ومن اللذان قرّبا؟ فقال بعضهم: كان ذلك عن أمر الله جلّ وعزّ إياهما بتقريبه، وكان سبب القبول؛ أن المتقبل منه قرب خير ماله، وقرّب الاَخر شرّ ماله، وكان المقرّبان ابني آدم لصلبه؛ أحدهما: هابيل، والاَخر قابيل... عن عبد الله بن عمرو، قال: إن ابني آدم اللذين قرّبا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الاَخر، كان أحدهما صاحب حرث، والاَخر صاحب غنم، وأنهما أمرا أن يقرّبا قربانا وإن صاحب الغنم قرّب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه، وإن صاحب الحرث قرّب شرّ حرثه الكَوْزَن والزّوَان غير طيبة بها نفسه وإن الله تقبل قربان صاحب الغنم ولم يتقبل قربان صاحب الحرث. وكان من قصتهما ما قصّ الله في كتابه، وقال: ايْمُ الله إن كان المقتول لأشدّ الرجلين، ولكن منعه التحرّج أن يبسط يده إلى أخيه.

وقال آخرون: لم يكن ذلك من أمرهما عن أمر الله إياهما به.

وقال آخرون: اللذان قرّبا قربانا وقصّ الله عزّ ذكره قصصهما في هذه الآية، رجلان من بني إسرائيل لا من ولد آدم لصلبه.

وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، أن اللذين قرّبا القربان كانا ابني آدم لصلبه، لا من ذريته من بني إسرائيل وذلك أن الله عزّ وجلّ يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة، والمخاطبون بهذه الآية كانوا عالمين أن تقريب القربان لله لم يكن إلا في ولد آدم دون الملائكة والشياطين وسائر الخلق غيرهم. فإذا كان معلوما ذلك عندهم، فمعقول أنه لو لم يكن معنيا بابني آدم اللذين ذكرهما الله في كتابه ابناه لصلبه، لم يفدْهم بذكره جلّ جلاله إياهما فائدة لم تكن عندهم. وإذا كان غير جائز أن يخاطبهم خطابا لا يفيدهم به معنى، فمعلوم أنه عنى ابني آدم لصلبه، لا ابني بنيه الذين بَعُد منه نسبهم مع إجماع أهل الأخبار والسير والعلم بالتأويل على أنهما كانا ابني آدم لصلبه وفي عهد آدم وزمانه، وكفى بذلك شاهدا وأما القول في تقريبهما ما قرّبا، فإن الصواب فيه من القول أن يقال: إن الله عزّ ذكره أخبر عباده عنهما أنهما قد قرّبا، ولم يخبر أن تقريبهما ما قرّبا كان عن أمر الله إياهما به ولا عن غير أمره. وجائز أن يكون كان عن أمر الله إياهما بذلك، وجائز أن يكون عن غير أمره، غير أنه أيّ ذلك كان فلم يقرّبا ذلك إلا طلب قربة إلى الله إن شاء الله.

"قالَ لأقْتُلَنّكَ": قال الذي لم يتقبل منه قربانه للذي تقبل منه قربانه: لأقتلنك، فترك ذكر المتقبل قربانه والمردود عليه قربانه، استغناء بما قد جرى من ذكرهما عن إعادته، وكذلك ترك ذكر المقبل قربانه مع قوله: "قالَ إنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ المُتّقِينَ".

"مِنَ المُتّقِينَ": من الذين اتقوا الله وخافوه بأداء ما كلفهم من فرائضه واجتناب ما نهاهم عنه من معصيته.

وقد قال جماعة من أهل التأويل: المتقون في هذا الموضع الذين اتقوا الشرك... وقد بينا معنى القربان فيما مضى، وأنه الفعلان من قول القائل: قرّب، وكانت قرابين الأمم الماضية قبل أمتنا كالصدقات والزكوات فينا، غير أن قرابينهم كان يعلم المتقبّل منها وغير المتقبل فيما ذكر بأكل النار ما تقبل منها وترك النار ما لم يتقبل منها. والقربان في أمّتنا: الأعمال الصالحة: من الصلاة، والصيام، والصدقة على أهل المسكنة، وأداء الزكاة المفروضة، ولا سبيل لها إلى العلم في عاجل بالمتقبل منها والمردود.

وقد ذكر عن عامر بن عبد الله العنبري، أنه حين حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك، فقد كنت وكنت؟ فقال: يبكيني أني أسمع الله يقول: "إنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ المُتّقِينَ".

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{واتل عليهم نبأ ابني ءادم بالحق} يحتمل وجهين: يحتمل: {بالحق} المعلوم المعروف على ما كانوا ليعلموا أنه بالله علم، وأنه علم سماوي. {إنما يتقبل الله من المتقين} هذا يحتمل وجهين: يحتمل {إنما يتقبل الله من المتقين} قربان من اتقى، لا يتقبل من لم يتق..والتقوى شرط في قبول القرابين وغيرها من القرب.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن الله تعالى أراد أن يبين أن حال اليهود في الظلم ونقض العهد وارتكاب الفواحش من الأمور كحال ابن آدم قابيل في قتله أخاه هابيل، وما عاد عليه من الوبال بتعديه. فأمر نبيه أن يتلو عليهم أخبارهما وفيه تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله) لما ناله من جهلهم بالتكذيب في جحوده وتبكيت اليهود...

والاتقاء يكون لكل شيء يمتنع منه، غير أنه لا يطلق اسم المتقين إلا على المتقين للمعاصي خاصة بضرب من العرف، لأنه أحق ما يجب أن يخاف منه...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{واتل عليهم نبأ ابني ءادم بالحق}: تلاوة متلبسة بالحق والصحة. أو اتله نبأ متلبساً بالصدق موافقاً لما في كتب الأوّلين. أو بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد؛ لأن المشركين وأهل الكتاب كلهم كانوا يحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغون عليه. أو اتل عليهم وأنت محق صادق... فإن قلت: كيف كان قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} جواباً لقوله: {لأَقْتُلَنَّكَ}؟ قلت: لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له: إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى، لا من قبلي، فلم تقتلني؟ ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان. وفيه دليل على أنّ الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{اتل} معناه اسرد وأسمعهم إياه، وهذه من علوم الكتب الأول التي لا تعلق لمحمد صلى الله عليه وسلم بها إلا من طريق الوحي، فهو من دلائل نبوته، والضمير في {عليهم} ظاهر أمره أنه يراد به بنو إسرائيل لوجهين: أحدهما أن المحاورة فيما تقدم إنما هي في شأنهم وإقامة الحجج عليهم بسبب همهم ببسط اليد إلى محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني أن علم {نبأ ابني آدم} إنما هو عندهم وفي غامض كتبهم، وعليهم تقوم الحجة في إيراده... وإجماع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ إنها اتقاء الشرك، فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة، وأما المتقي للشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من القبول والحتم بالرحمة، علم ذلك بأخبار الله تعالى، لا أن ذلك يجب على الله تعالى عقلاً.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه: الأول: أنه تعالى قال فيما تقدم {يأيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم} فذكر تعالى أن الأعداء يريدون إيقاع البلاء والمحنة بهم، لكنه تعالى يحفظهم بفضله ويمنع أعداءهم من إيصال الشر إليهم، ثم إنه تعالى لأجل التسلية وتخفيف هذه الأحوال على القلب ذكر قصصا كثيرة في أن كل من خصه الله تعالى بالنعم العظيمة في الدين والدنيا فإن الناس ينازعونه حسدا وبغيا، فذكر أولا قصة النقباء الاثني عشر وأخذ الله تعالى الميثاق منهم، ثم إن اليهود نقضوا ذلك الميثاق حتى وقعوا في اللعن والقساوة، وذكر بعده شدة إصرار النصارى على كفرهم وقولهم بالتثليث بعد ظهور الدلائل القاطعة على فساد ما هم عليه، وما ذاك إلا لحسدهم لمحمد صلى الله عليه وسلم فيما آتاه الله من الدين الحق، ثم ذكر بعده قصة موسى في محاربة الجبارين وإصرار قومه على التمرد والعصيان، ثم ذكر بعده قصة ابني آدم وأن أحدهما قتل الآخر حسدا منه على أن الله تعالى قبل قربانه، وكل هذه القصص دالة على أن كل ذي نعمة محسود، فلما كانت نعم الله على محمد صلى الله عليه وسلم أعظم النعم، لا جرم لم يبعد اتفاق الأعداء على استخراج أنواع المكر والكيد في حقه، فكان ذكر هذه القصص تسلية من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم لما هم قوم من اليهود أن يمكروا به وأن يوقعوا به آفة ومحنة.

والثاني: أن هذا متعلق بقوله {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير} وهذه القصة وكيفية إيجاب القصاص عليها من أسرار التوراة. والثالث: أن هذه القصة متعلقة بما قبلها، وهي قصة محاربة الجبارين، أي اذكر لليهود حديث ابني آدم ليعلموا أن سبيل أسلافهم في الندامة والحسرة الحاصلة بسبب إقدامهم على المعصية كان مثل سبيل ابني آدم في إقدام أحدهما على قتل الآخر.

والرابع: قيل هذا متصل بقوله حكاية عن اليهود والنصارى {نحن أبناء الله وأحباؤه} أي لا ينفعهم كونهم من أولاد الأنبياء مع كفرهم كما لم ينتفع ولد آدم عند معصيته بكون أبيه نبيا معظما عند الله تعالى. الخامس: لما كفر أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم حسدا أخبرهم الله تعالى بخبر ابن آدم وأن الحسد أوقعه في سوء العاقبة، والمقصود منه التحذير عن الحسد.

جهود القرافي في التفسير 684 هـ :

... قوله تعالى حكاية عن ابني آدم: {إنما يتقبل الله من المتقين} لما قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، مع أن قربانه كان على وفق الأمر، ويدل عليه أن أخاه علل عدم القبول بعدم التقوى، ولو أن الفعل مختل في نفسه لقال له:"إنما يتقبل الله العمل الصحيح الصالح"، لأن هذا هو السبب القريب لعدم القبول، فحيث عدل عنه دل ذلك على أن الفعل كان صحيحا مجزئا، وإنما انتفى القبول لأجل انتفاء التقوى، فدل ذلك على أن العمل المجزئ قد لا يقبل وإن برئت الذمة به وصح في نفسه. (الفروق: 2/51) 505- الظاهر أن وصف التقوى شرط في القبول بعد الإجزاء. والتقوى هاهنا ليس محمولا على المعنى اللغوي، وهو مجرد الاتقاء للمكروه من حيث الجملة، فإن الفسقة في عرف الشرع لا يسمون أتقياء ولا من المتقين، ولو اعتبرنا المعنى اللغوي لقيل لهم ذلك، بل التقوى في عرف الشرع: "المبالغة في اجتناب المحرمات وفعل الواجبات حتى يكون ذلك الغالب على الشخص"، هذا هو الظاهر، وإذا حصل الوصف ينبغي أن يعتقد أيضا أن القبول غير لازم، بل المحل قابل له لحصول الشرط وأن القبول مشروط بالتقوى، ولا يلزم من حصول الشرط حصول المشروط. ويدل على أن المحل يبقى قابلا للقبول من غير لزومه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بالقبول مع أنه سيد المتقين، وكذلك إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، والمدعو به لابد وأن يكون بصدد الوقوع وعدمه، وإذ لو تعين وقوعه لكان ذلك طلبا لتحصيل الحاصل، وهو غير جائز، فتعين أن يكون الثواب يمكن حصوله وعدم حصوله. (نفسه: 2/54)...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

واقصص على هؤلاء البغاة الحسدة، إخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم -خبر ابني آدم، وهما هابيل وقابيل فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف...

وقوله: {بِالْحَقِّ} أي: على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب، ولا وَهْم ولا تبديل، ولا زيادة ولا نقصان...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

.. {واتل عليهم} أي على المدعوّين الذين من جملتهم اليهود تلاوة، و هي من أعظم الأدلة على نبوتك، لأن ذلك لا علم لك ولا لقومك به إلا من جهة الوحي {نبأ ابني آدم} أي خبرهما الجليل العظيم، تلاوة ملتبسة {بالحق} أي الخبر الذي يطابقه الواقع إذا تُعُرَّفَ من كتب الأولين وأخبار الماضين كائناً ذلك النبأ {إذ} أي حين {قربا} أي ابنا آدم؛ ولما لم يتعلق الغرض في هذا المقام ببيان أيّ نوع قربا منه، قال: {قرباناً} أي بأن قرب كل واحد منهما شيئاً من شأنه أن يقرِّبَ إلى المطلوب مقاربتُه غاية القرب. ولما كان المؤثر للحسد إنما هو عدم التقبل، لا بالنسبة إلى متقبل خاص، بناه للمفعول فقال: {فتُقبِّل} أي قبل قبولاً عظيماً ظاهراً لكل أحد {من أحدهما} أبهمه أيضاً لعدم الاحتياج في هذا السياق إلى تعيينه {ولم يتقبل من الآخر} عَلِمَا ذلك بعلامة كانت لهم في ذلك.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

جاءت هذه القصة في سياق الكلام على أهل الكتاب، وشأنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. والقرآن بين قصة بني إسرائيل الذين عصوا ربهم فيما كلفهم من قتال الجبارين، وبين ما شرعه الله من جزاء الذين يخرجون على أئمة العدل، ويهددون الأمن، ويفسدون في الأرض، وما يتلوه من عقاب السرقة. فمناسبة هذه الآية للسياق في جملته، أنها بيان لكون الحسد الذي صرف اليهود عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وحملهم على عداوته، عريق في الآدميين وأثر من آثار من سلفهم، كان لهؤلاء القوم منه النصيب الأوفر، ويتضمن تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وإزالة استغرابهم إعراض هذا الشعب عن الإسلام، على وضوح برهانه، وكثرة آياته. وأما مناسبتها لما قبلها وما بعدها مباشرة فهو بيان حكمة الله في شرع القتال والقود، على ما شدد فيه من تحريم قتل النفس. ذلك أنه لما كان القتال بين الأمم، وقتل الحكومات للأفراد، أو تعذبيهم بقطع الأطراف – كل ذلك قبيحا في نفسه، كان من مقتضى رحمة الله تعالى وحكمته، أنه لا يباح إلا لدرء ما هو أقبح منه وأضر. وكان من كمال الدين أن يبين لنا حكمة ذلك، فجاءت هذه القصة في هذا المقام تبين لنا أن اعتداء بعض البشر على بعض حتى بالقتل هو أصيل فيهم، وقع بين أبناء أبيهم آدم في أول العهد بتعددهم، لأنه أثر من آثار ما جبلوا عليه من كون أعمالهم باختيارهم، حسب إرادتهم التابعة لعلمهم أو ظنهم، وكون علومهم وظنونهم من كسبهم، وكونها لا تبلغ درجة الإحاطة بمصالحهم ومنافعهم، وكذا ما جبلوا عليه من حب الكمال، وما يتبعه من حسد الناقص لمن يفوقه في الفضائل والأعمال، وكون الحاسد يبغي إن قدر، وما لم يزعه الدين أو يمنعه القدر، وهو لا يبغي ولا يقتل إلا وهو يظن أن ذلك خير له وأنفع، وأنوه بقدره وأرفع، ومثل هذا الظن لا يزول من الناس، إلا إذا أحاط كل فرد من أفرادهم علما بكل شؤون المعاش والمعاد، وارتباط المنافع الشخصية بمنافع الاجتماع، وأقاموا الدين القيم كلهم على الوجه الذي أراده الله، وكل ذلك محال لأن طبيعة البشر تأباه. فهم يخلقون متفاوتين في الاستعداد للعلم، وما يرد على أنفسهم من صور المعلومات بأنواعها يختلف، وما يتحد منه يختلف تأثيره الذي يترتب عليه العمل. فالاختلاف في العلم والرأي والشعور والوجدان طبيعي فيهم، ومن لوازمه النافعة اشتغال كل فريق منهم بنوع من أنواع الأعمال، بذلك يظهرون أسرار الله وحكمه في الكائنات، وينتفعون بما سخره لهم من أنواع المخلوقات، ومن لوازمه الضارة التخاصم والتقاتل، لأجل هذا صاروا محتاجين إلى الحكام والشرائع. وكان من عدل الشريعة أن تبني أحكام قتل الأفراد وقتال الشعوب على قواعد درء المفاسد وإقامة المصالح. {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} [البقرة:251] – فهذا الآيات في هذا الموضع مبينة لحكم ما قبلها، وما بعدها من الأخبار والأحكام. وقال ابن جرير وتبعه بعض المفسرين أن هذه الآيات متعلقة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11] الآية. وقال بعضهم إنها متعلقة بقوله تعالى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ} [المائدة: 18] الآية. وما قلناه أكمل، وأعم وأشمل.

قال تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} الأصل لمعنى مادة (ت ل و) التبع. فالتلو (بالكسر) ولد الناقة والشاة إذا فطم وصار يتبعها، وكل ما يتبع غيره في شيء يقال هو تلوه. ويقال: ما زلت أتلوه حتى أتليته. أي غلبته فسبقته وجعلته تلوي. وتلا فلان. اشترى تلوا. أي بغلا صغيرا أو جحشا. والتلاوة (بالضم) والتلية (بالفتح) بقية الشيء لأنه يتلو ما قبله. يقال ذهبت تلية الشباب. والتلاوة بالكسر القراءة، ولم تكد تستعمل إلا في قراءة كلام الله تعالى. وذكر في لسان العرب تلاوة القرآن، وقال إن بعضهم عم به كل كلام. ولعل قراءة القرآن سميت تلاوة لأنه مثاني كلما قرئ منه شيء يتبع بقراءة غيره أو لأن شأنه أن يقرأ ليتبع بالاهتداء والعمل به. وعبر القرآن بالتلاوة عن قراءة كتاب الله وآياته للأنبياء السابقين لهذا المعنى أيضا. وفسروا قوله تعالى {يتلونه حق تلاوته} [البقرة:121] ب"يتبعونه" حق اتباعه.

والنبأ: الخبر الصحيح الذي له شأن من الفائدة والجدارة بالاهتمام... {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} أي إن من لم يتقبل منه توعد أخاه وأقسم ليقتلنه فأجابه أحسن جواب وأنفعه: {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} أي لا يقبل الله الصدقات وغيرها من الأعمال القبول المقرون بالرضا والإثابة إلا من المتصفين بالتقوى، فهذا الجواب يتضمن بيان سبب القبول وعدمه مع الاعتذار، كأنه قال إنني لم أذنب إليك ذنبا تقتلني به، فإن كان الله تعالى لم يتقبل منك، فارجع إلى نفسك فحاسبها على السبب، فإنما يتقبل الله من المتقين، أي الذين يتقون الشرك الأكبر والأصغر وهو الرياء والشح واتباع الأهواء، فاحمل نفسك على تقوى الله والإخلاص له في العمل، ثم تقرب إليه بالطيبات يتقبل منك، فالله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

يأخذ هذا الدرس في بيان بعض الأحكام التشريعية الأساسية في الحياة البشرية. وهي الأحكام المتعلقة بحماية النفس في الشريعة الإسلامية والحكم الإسلامي. وحماية المال والملكية الفردية في هذا المجتمع، الذي يقوم نظامه الاجتماعي كله على شريعة الله. وتستغرق هذه الأحكام المتعلقة بهذه الأمور الجوهرية في حياة المجتمع هذا الدرس؛ مع تقدمة لهذه الأحكام بقصة ""ابني آدم ""التي تكشف عن طبيعة الجريمة وبواعثها في النفس البشرية؛ كما تكشف عن بشاعة الجريمة وفجورها؛ وضرورة الوقوف في وجهها والعقاب لفاعلها؛ ومقاومة البواعث التي تحرك النفس للإقدام عليها وتبدو القصة وإيحاءاتها ملتحمة التحاما قويا مع الأحكام التالية لها في السياق القرآني. ويحس القارئ المتأمل للسياق بوظيفة هذه القصة في موضعها؛ وبعمق الإيحاء الإقناعي الذي تسكبه في النفس وترسبه؛ والاستعداد الذي تنشئه في القلب والعقل لتلقي الأحكام المشددة التي يواجه بها الإسلام جرائم الاعتداء على النفس والحياة؛ والاعتداء على النظام العام؛ والاعتداء على المال والملكية الفردية؛ في ظل المجتمع الإسلامي؛ القائم على منهج الله؛ المحكوم بشريعته. والمجتمع المسلم يقيم حياته كلها على منهج الله وشريعته؛ وينظم شؤونه وارتباطاته وعلاقاته على أسس ذلك المنهج وعلى أحكام هذه الشريعة.. ومن ثم يكفل لكل فرد -كما يكفل للجماعة- كل عناصر العدالة والكفاية والاستقرار والطمأنينة، ويكف عنه كل عوامل الاستفزاز والإثارة، وكل عوامل الكبت والقمع، وكل عوامل الظلم والاعتداء، وكل عوامل الحاجة والضرورة:وكذلك يصبح الاعتداء -في مثل هذا المجتمع الفاضل العادل المتوازن المتكافل- على النفس والحياة، أو على النظام العام، أو على الملكية الفردية؛ جريمة بشعة منكرة، مجردة عن البواعث المبررة -أو المخففة- بصفة عامة.. وهذا يفسر التشدد ضد الجريمة والمجرمين بعد تهيئة الظروف المساعدة على الاستقامة عند الأسوياء من الناس؛ وتنحية البواعث على الجريمة من حياة الفرد وحياة الجماعة.. وإلى جانب هذا كله، ومع هذا كله؛ يكفل النظام الإسلامي للمجرم المعتدي كل الضمانات لسلامة التحقيق والحكم؛ ويدرأ عنه الحدود بالشبهات؛ ويفتح له كذلك باب التوبة التي تسقط الجريمة في حساب الدنيا في بعض الحالات، وتسقطها في حساب الآخرة في كل الحالات... وسنرى نماذج من هذا كله في هذا الدرس، وفيما تضمنه من أحكام.. ولكن قبل أن نأخذ في المضي مع السياق وفي الحديث المباشر عن هذه الأحكام التي تضمنها لا بد أن نقول كلمة عامة؛ عن البيئة التي تنفذ فيها هذه الأحكام؛ والشروط التي تجعل لها قوة النفاذ.. إن هذه الأحكام الواردة في هذا الدرس -سواء فيما يتعلق بالاعتداء على النفس أو الاعتداء على النظام العام؛ أو الاعتداء على المال- شأنها شأن سائر الأحكام الواردة في الشريعة، في جرائم الحدود؛ والقصاص؛ والتعازير.. كلها إنما تكون لها قوة التنفيذ في ""المجتمع المسلم"" في ""دار الإسلام "".. ولا بد من بيان ما تعنيه الشريعة بدار الإسلام: ينقسم العالم في نظر الإسلام وفي اعتبار المسلم إلى قسمين اثنين لا ثالث لهما: الأول:"" دار الإسلام "".. وتشمل كل بلد تطبق فيه أحكام الإسلام، وتحكمه شريعة الإسلام، سواء كان أهله كلهم مسلمين، أو كان أهله مسلمين وذميين. أو كان أهله كلهم ذميين ولكن حكامه مسلمون يطبقون فيه أحكام الإسلام، ويحكمونه بشريعة الإسلام. أو كانوا مسلمين، أو مسلمين وذميين ولكن غلب على بلادهم حربيون، غير أن أهل البلد يطبقون أحكام الإسلام ويقضون بينهم حسب شريعة الإسلام.. فالمدار كله في اعتبار بلد ما ""دار إسلام"" هو تطبيقه لأحكام الإسلام وحكمه بشريعة الإسلام.. الثاني:دار الحرب. وتشمل كل بلد لا تطبق فيه أحكام الإسلام، ولا يحكم بشريعة الإسلام.. كائنا أهله ما كانوا.. سواء قالوا: إنهم مسلمون، أو إنهم أهل كتاب، أو أنهم كفار. فالمدار كله في اعتبار بلد ما ""دار حرب"" هو عدم تطبيقه لأحكام الإسلام وعدم حكمه بشريعة الإسلام، وهو يعتبر ""دار حرب"" بالقياس للمسلم وللجماعة المسلمة. والمجتمع المسلم هو المجتمع الذي يقوم في دار الإسلام بتعريفها ذاك. وهذا المجتمع، القائم على منهج الله، المحكوم بشريعته، هو الذي يستحق أن تصان فيه الدماء، وتصان فيه الأموال؛ ويصان فيه النظام العام؛ وأن توقع على المخلين بأمنه، المعتدين على الأرواح والأموال فيه العقوبات التي تنص عليها الشريعة الإسلامية، في هذا الدرس وفي سواه.. ذلك أنه مجتمع رفيع فاضل؛ ومجتمع متحرر عادل؛ ومجتمع مكفولة فيه ضمانات العمل وضمانات الكفاية لكل قادر ولكل عاجز؛ ومجتمع تتوافر فيه الحوافز على الخير وتقل فيه الحوافز على الشر من جميع الوجوه. فمن حقه إذن على كل من يعيش فيه أن يرعى هذه النعمة التي يسبغها عليه النظام؛ وأن يرعى حقوق الآخرين كلها من أرواح وأموال وأعراض وأخلاق؛ وأن يحافظ على سلامة ""دار الإسلام"" التي يعيش فيها آمنا سالما غانما مكفول الحقوق جميعا، معترفا له بكل خصائصه الإنسانية، وبكل حقوقه الاجتماعية -بل مكلفا بحماية هذه الخصائص والحقوق- فمن خرج بعد ذلك كله على نظام هذه الدار -دار الإسلام- فهو معتد أثيم شرير يستحق أن يؤخذ على يده بأشد العقوبات؛ مع توفير كل الضمانات له في أن لا يؤخذ بالظن، وأن تدرأ عنه الحدود بالشبهات. فأما ""دار الحرب "".. بتعريفها ذاك.. فليس من حقها ولا من حق أهلها أن يتمتعوا بما توفره عقوبات الشريعة الإسلامية من ضمانات، لأنها ابتداء لا تطبق شريعة الإسلام، ولا تعترف بحاكمية الإسلام.. وهي -بالنسبة للمسلمين [الذين يعيشون في دار الإسلام ويطبقون على حياتهم شريعة الإسلام]- ليست حمى. فأرواحها وأموالها مباحة؛ لا حرمة لها عند الإسلام -إلا بعهد من المسلمين؛ حين تقوم بينها وبين دار الإسلام المعاهدات- كذلك توفر الشريعة هذه الضمانات كلها للأفراد الحربيين [القادمين من دار الحرب] إذا دخلوا دار الإسلام بعهد أمان؛ مدة هذا العهد؛ وفي حدود"" دار الإسلام ""التي تدخل في سلطان الحاكم المسلم [والحاكم المسلم هو الذي يطبق شريعة الإسلام]. وعلى ضوء هذا البيان نستطيع أن نمضي مع السياق:"

(واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق: إذ قربا قربانا، فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال: لأقتلنك. قال: إنما يتقبل الله من المتقين. لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين: إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين. فطوعت له نفسه قتل أخيه، فقتله، فأصبح من الخاسرين. فبعث الله غرابا يبحث في الأرض، ليريه كيف يواري سوأة أخيه. قال: يا ويلتى! أعجزت أن أكون مثل هذا >الغراب، فأواري سوأة أخي؟ فأصبح من النادمين)... هذه القصة تقدم نموذجا لطبيعة الشر والعدوان؛ ونموذجا كذلك من العدوان الصارخ الذي لا مبرر له. كما تقدم نموذجا لطبيعة الخير والسماحة؛ ونموذجا كذلك من الطيبة والوداعة. وتقفهما وجها لوجه، كل منهما يتصرف وفق طبيعته.. وترسم الجريمة المنكرة التي يرتكبها الشر، والعدوان الصارخ الذي يثير الضمير؛ ويثير الشعور بالحاجة إلى شريعة نافذة بالقصاص العادل، تكف النموذج الشرير المعتدي عن الاعتداء، وتخوفه وتردعه بالتخويف عن الإقدام على الجريمة؛ فإذا ارتكبها -على الرغم من ذلك- وجد الجزاء العادل، المكافئ للفعلة المنكرة. كما تصون النموذج الطيب الخير وتحفظ حرمة دمه. فمثل هذه النفوس يجب أن تعيش. وأن تصان، وأن تأمن؛ في ظل شريعة عادلة رادعة. ولا يحدد السياق القرآني لا زمان ولا مكان ولا أسماء القصة.. وعلى الرغم من ورود بعض الآثار والروايات عن: "قابيل وهابيل" وأنهما هما ابنا آدم في هذه القصة؛ وورود تفصيلات عن القضية بينهما، والنزاع على أختين لهما.. فإننا نؤثر أن نستبقي القصة -كما وردت- مجملة بدون تحديد. لأن هذه الروايات كلها موضع شك في أنها مأخوذة عن أهل الكتاب -والقصة واردة في العهد القديم محددة فيها الأسماء والزمان والمكان على النحو الذي تذكره هذه الروايات- والحديث الوحيد الصحيح الوارد عن هذا النبأ لم يرد فيه تفصيل. وهو من رواية ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل".. [رواه الإمام أحمد في مسنده]: حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا: حدثنا الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن عبدالله بن مسعود.. وأخرجه الجماعة -سوى أبى داود- من طرق عن الأعمش.. وكل ما نستطيع أن نقوله هو أن الحادث وقع في فترة طفولة الإنسان، وأنه كان أول حادث قتل عدواني متعمد، وأن الفاعل لم يكن يعرف طريقة دفن الجثث.. وبقاء القصة مجملة -كما وردت في سياقها القرآني- يؤدي الغرض من عرضها؛ ويؤدي الإيحاءات كاملة؛ ولا تضيف التفصيلات شيئا إلى هذه الأهداف الأساسية.. لذلك نقف نحن عند النص العام لا نخصصه ولا نفصله.. (واتل عليهم نبأ ابني آدم -بالحق- إذ قربا قربانا، فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر. قال: لأقتلنك. قال: إنما يتقبل الله من المتقين).. واتل عليهم نبأ هذين النموذجين من نماذج البشرية -بعدما تلوت من قصة بني إسرائيل مع موسى- اتله عليهم بالحق. فهو حق وصدق في روايته، وهو ينبى ء عن حق في الفطرة البشرية؛ وهو يحمل الحق في ضرورة الشريعة العادلة الرادعة. إن ابني آدم هذين في موقف لا يثور فيه خاطر الاعتداء في نفس طيبة. فهما في موقف طاعة بين يدي الله. موقف تقديم قربان، يتقربان به إلى الله: إذ قربا قربانًا.. (فتقبل من أحدهما، ولم يتقبل من الآخر).. والفعل مبني للمجهول؛ ليشير بناؤه هكذا إلى أن أمر القبول أو عدمه موكول إلى قوة غيبية؛ وإلى كيفية غيبية.. وهذه الصياغة تفيدنا أمرين: الأول ألا نبحث نحن عن كيفية هذا التقبل ولا نخوض فيه كما خاضت كتب التفسير في روايات نرجح أنها مأخوذة عن أساطير" العهد القديم".. والثاني الإيحاء بأن الذي قبل قربانه لا جريرة له توجب الحفيظة عليه وتبييت قتله، فالأمر لم يكن له يد فيه؛ وإنما تولته قوة غيبية بكيفية غيبية؛ تعلو على إدراك كليهما وعلى مشيئته.. فما كان هناك مبرر ليحنق الأخ على أخيه، وليجيش خاطر القتل في نفسه! فخاطر القتل هو أبعد ما يرد على النفس المستقيمة في هذا المجال.. مجال العبادة والتقرب، ومجال القدرة الغيبية الخفية التي لا دخل لإرادة أخيه في مجالها.. (قال: لأقتلنك).. وهكذا يبدو هذا القول -بهذا التأكيد المنبئ عن الإصرار- نابيا مثيرا للاستنكار لأنه ينبعث من غير موجب؛ اللهم إلا ذلك الشعور الخبيث المنكر. شعور الحسد الأعمى؛ الذي لا يعمر نفسا طيبة.. وهكذا نجدنا منذ اللحظة الأولى ضد الاعتداء: بإيحاء الآية التي لم تكمل من السياق.. ولكن السياق يمضي يزيد هذا الاعتداء نكارة وبشاعة؛ بتصوير استجابة النموذج الآخر؛ ووداعته وطيبة قلبه: (قال: إنما يتقبل الله من المتقين). هكذا في براءة ترد الأمر إلى وضعه وأصله؛ وفي إيمان يدرك أسباب القبول؛ وفي توجيه رفيق للمعتدي أن يتقي الله؛ وهداية له إلى الطريق الذي يؤدي إلى القبول؛ وتعريض لطيف به لا يصرح بما يخدشه أو يستثيره..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والمناسبةُ بينها وبين القصّة الّتي قبلها مناسبة تماثل ومناسبة تضادّ. فأما التماثل فإنّ في كلتيهما عدم الرضا بما حكم الله تعالى: فإنّ بني إسرائيل عصوا أمر رسولهم إيّاهم بالدخول إلى الأرض المقدّسة، وأحدَ ابني آدم عصى حكم الله تعالى بعدم قبول قربانه لأنّه لم يكن من المتّقين. وفي كلتيهما جرأة على الله بعد المعصيّة؛ فبنو إسرائيل قالوا: {اذهب أنت وربّك} [المائدة: 24]، وابن آدم قال: لأقتلنّ الّذي تقبّل الله منه. وأمّا التّضادّ فإنّ في إحداهما إقداماً مذموماً من ابن آدم، وإحجاماً مذموماً من بني إسرائيل، وإنّ في إحداهما اتّفاق أخوين هما موسى وأخوه على امتثال أمر الله تعالى، وفي الأخرى اختلافَ أخوين بالصّلاح والفساد.