تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٞ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخۡفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبۡدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٞ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (154)

{ ثم أنزل عليكم من بعد الغم } الذي أصابكم { أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم }

ولا شك أن هذا رحمة بهم ، وإحسان وتثبيت لقلوبهم ، وزيادة طمأنينة ؛ لأن الخائف لا يأتيه النعاس لما في قلبه من الخوف ، فإذا زال الخوف عن القلب أمكن أن يأتيه النعاس .

وهذه الطائفة التي أنعم الله عليها بالنعاس هم المؤمنون الذين ليس لهم هم إلا إقامة دين الله ، ورضا الله ورسوله ، ومصلحة إخوانهم المسلمين .

وأما الطائفة الأخرى الذين { قد أهمتهم أنفسهم } فليس لهم هم في غيرها ، لنفاقهم أو ضعف إيمانهم ، فلهذا لم يصبهم من النعاس ما أصاب غيرهم ، { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } وهذا استفهام إنكاري ، أي : ما لنا من الأمر -أي : النصر والظهور- شيء ، فأساءوا الظن بربهم وبدينه ونبيه ، وظنوا أن الله لا يتم أمر رسوله ، وأن هذه الهزيمة هي الفيصلة والقاضية على دين الله ، قال الله في جوابهم : { قل إن الأمر كله لله } الأمر يشمل الأمر القدري ، والأمر الشرعي ، فجميع الأشياء بقضاء الله وقدره ، وعاقبة{[166]}  النصر والظفر لأوليائه وأهل طاعته ، وإن جرى عليهم ما جرى .

{ يخفون } يعني المنافقين { في أنفسهم ما لا يبدون لك } ثم بين الأمر الذي يخفونه ، فقال : { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء } أي : لو كان لنا في هذه الواقعة رأي ومشورة { ما قتلنا هاهنا } وهذا إنكار منهم وتكذيب بقدر الله ، وتسفيه منهم لرأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأي أصحابه ، وتزكية منهم لأنفسهم ، فرد الله عليهم بقوله : { قل لو كنتم في بيوتكم } التي هي أبعد شيء عن مظان القتل { لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } فالأسباب -وإن عظمت- إنما تنفع إذا لم يعارضها القدر والقضاء ، فإذا عارضها القدر لم تنفع شيئا ، بل لا بد أن يمضي الله ما كتب في اللوح المحفوظ من الموت والحياة ، { وليبتلي الله ما في صدوركم } أي : يختبر ما فيها من نفاق وإيمان وضعف إيمان ، { وليمحص ما في قلوبكم } من وساوس الشيطان ، وما تأثر عنها من الصفات غير الحميدة .

{ والله عليم بذات الصدور } أي : بما فيها وما أكنته ، فاقتضى علمه وحكمته أن قدر من الأسباب ، ما به تظهر مخبآت الصدور وسرائر الأمور .


[166]:- في ب: وعاقبته.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٞ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخۡفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبۡدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٞ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (154)

{ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا سغشى طائفة منكم }

الضمير في قوله : { ثم أنزل } ضمير اسم الجلالة ، وهو يرجّح كون الضمير { أثابكم } مثله لئلا يكون هذا رجوعاً إلى سياق الضمائر المتقدّمة من قوله : { ولقد صدقكم الله وعده } والمعنى ثمّ أغشاكم بالنعاس بعد الهزيمة . وسمّي الأغشاء إنزالاً لأنّه لمّا كان نعاساً مقدّراً من الله لحكمة خاصّة ، كان كالنازل من العوالم المشرّفة كما يقال : نزلت السكينة .

والأمَنةُ بفتح الميم الأمن ، والنعاس : النوم الخفيف أو أوّل النَّوم ، وهو يزيل التعب ولا يغيّب صاحبه ، فلذلك كان أمنة إذ لو ناموا نوماً ثقيلاً لأخذوا ، قال أبو طلحة الأنصاري ، والزبير ، وأنس بن مالك : غشينا نعاس حتَّى أنّ السيف ليسقط من يد أحدنا . وقد استجدّوا بذلك نشاطهم ، ونسوا حزنهم ، لأنّ الحزن تبتدىء خفّته بعد أوّل نومة تعفيه ، كما هو مشاهد في أحزان الموت وغيرها . و ( نعاساً ) بَدل على ( أمنة ) بدل مطابق .

وكان مقتضى الظاهر أن يقدّم النعاس ويؤخّر أمنة : لأنّ أمنة بمنزلة الصفة أو المفعول لأجله فحقّه التقديم على المفعول كما جاء في آية [ الأنفال : 11 ] : { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } ولكنّه قدّم الأمنة هنا تشريفاً لشأنها لأنَّها جعلت كالمنزل من الله لنصرهم ، فهو كالسكينة ، فناسب أن يجعل هو مفعول أنزل ، ويجعل النعاس بدلاً منه .

وقرأ الجمهور : يَغشى بالتحتية على أنّ الضّمير عائد إلى نعاس ، وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف بالفوقية بإعادة الضّمير إلى أمَنة ، ولذلك وصفها بقوله : { منكم } .

{ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَىْءٍ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هاهنا } .

لمّا ذكر حال طائفة المؤمنين ، تخلّص منه لذكر حال طائفة المنافقين ، كما علم من المقابلة ، ومن قوله : { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } ، ومِن ترك وصفها بمنكم كما وصف الأولى .

{ وطائفة } مبتدأ وصف بجملة { قد أهمتهم أنفسهم } . وخبره جملة { يظنون بالله غير الحق } والجملة من قوله : { وطائفة قد أهمتهم } إلى قوله : { والله عليم بذات الصدور } اعتراض بين جملة { ثم أنزل عليكم } الآية . وجملة { إن الذين تولوا منكم } [ آل عمران : 155 ] الآية .

ومعنى { أهمتهم أنفسهم } أي حَدّثتهم أنفسهم بما يدخل عليهم الهَمّ وذلك بعدم رضاهم بقدر الله ، وبشدّة تلّهفهم على ما أصابهم وتحسّرهم على ما فاتهم مِمّا يظّنونه منجياً لهم لو عملوه : أي من الندم على ما فات ، وإذ كانوا كذلك كانت نفوسهم في اضطراب وتحرّق يمنعهم من الاطمئنان ومن المنام ، وهذا كقوله الآتي : { ليجعل اللَّه ذلك حسرة في قلوبهم } [ آل عمران : 156 ] . وقيل معنى { أهمّتهم } أدخلت عليهم الهَمّ بالكفر والارتداد ، وكان رأسُ هذه الطائفة معتّب بن قشير .

وجملة { يظنون بالله غير الحق } إمَّا استئناف بياني نشأ عن قوله : { قد أهمتهم أنفسهم } وإمَّا حال من ( طائفة ) . ومعنى { يظنون بالله غير الحق } أنَّهم ذهبت بهم هواجسهم إلى أن ظنوا بالله ظنوناً باطلة من أوهام الجاهلية . وفي هذا تعريض بأنَّهم لم يزالوا على جاهليتهم لم يخلصوا الدين لله ، وقد بيّن بعض ما لهم الظنّ بقوله : { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } وهل للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي ، بقرينة زيادة ( من ) قبل النكرة ، وهي من خصائص النفي ، وهو تبرئة لأنفسهم من أن يكونوا سبباً في مقابلة العدوّ . حتَّى نشأ عنه ما نشأ ، وتعريض بأنّ الخروج للقتال يوم أحُدُ خطأ وغرور ، ويظنّون أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم ليس برسول إذ لو كان لكان مؤيّداً بالنصر .

والقول في { هل لنا من الأمر من شيء } كالقول في { ليس لك من الأمر شيء } [ آل عمران : 128 ] المتقدّم آنفاً . والمراد بالأمر هنا شأن الخروج إلى القتال ، والأمر بمعنى السيادة الذي منه الإمارة ، ومنه أولو الأمر .

وجملة { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } بدل اشتمال من جملة { يظنّون } لأنّ ظنّ الجاهلية يشتمل على معنى هذا القول . ومعنى { لو كان لنا من الأمر شيء } أي من شأن الخروج إلى القتال ، أو من أمر تدبير النَّاس شيء ، أي رأي ما قتلنا ههنا ، أي ما قتل قومنا . وليس المراد انتفاء القتل مع الخروج إلى القتال في أحُدُ ، بل المراد انتفاء الخروج إلى أحُدُ الَّذي كان سبباً في قتل من قُتل ، كما تدلّ عليه قرينة الإشارة بقوله : ( ههنا ) ، فالكلام كناية . وهذا القول قاله عبد الله بن أُبَي ابن سلول لمّا أخبروه بمن استشهد من الخزرج يومئذ ، وهذا تنصّل من أسباب الحرب وتعريض بالنَّبيء ومن أشار بالخروج من المؤمنين الَّذين رغبوا في إحدى الحسنيين .

وإنَّما كان هذا الظنّ غيرَ الحقّ لأنَّه تخليط في معرفة صفات الله وصفات رسوله وما يجوز وما يستحيل ، فإنّ لله أمراً وهدياً وله قدَر وتيسير ، وكذلك لرسوله الدعوة والتشريع وبذل الجهد في تأييد الدّين وهو في ذلك معصوم ، وليس معصوماً من جريان الأسباب الدنيوية عليه ، ومن أن يكون الحرب بينه وبين عدوّه سجالاً ، قال أبو سفيان لهرقل وقد سأله : كيف كان قتالكم له ؟ فقال أبو سفيان : ينال منّا وننال منه ، فقال هرقل : وكذلك الإيمان حتَّى يتمّ . فظنّهم ذلك ليس بحقّ .

وقد بيّن الله تعالى أنَّه ظنّ الجاهلية الَّذين لم يعرفوا الإيمان أصلاً فهؤلاء المتظاهرون بالإيمان لم يدخل الإيمان في قلوبهم فبقيت معارفهم كما هي من عهد الجاهلية ، والجاهلية صفة جرت على موصوف محذوف يقدّر بالفئة أو الجماعة ، وربما أريد به حالة الجاهلية في قولهم أهل الجاهلية ، وقوله تعالى : { تبرّج الجاهلية الأولى } ، والظاهر أنَّه نسبة إلى الجاهل أي الَّذي لا يعلم الدين والتَّوحيد ، فإنّ العرب أطلقت الجهل على ما قابل الحلم ، قال ابن الرومي :

بجهل كجهل السيف والسيف منتضى *** وحلم كحلم السيف والسيف مغمد

وأطلقت الجهل على عدم العلم قال السموأل :

فليسَ سواء عالم وجَهول

وقال النابغة :

وليس جَاهل شيءٍ مثلَ مَن علما

وأحسب أن لفظ الجاهلية من مبتكرات القرآن ، وصف به أهل الشرك تنفيراً من الجهل ، وترغيباً في العلم ، ولذلك يذكره القرآن في مقامات الذمّ في نحو قوله : { أفحكم الجاهلية يبغون } [ المائدة : 50 ] { ولاَ تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الجاهليّة الأولى } [ الأحزاب : 33 ] { إذ جعل الَّذين كفروا في قلوبهم الحَمِيَّة حَمِيَّة الجَاهلية } [ الفتح : 26 ] . وقال ابن عبَّاس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا كأساً دِهاقاً ، وفي حديث حكيم بن حِزام : أنَّه سأل النَّبيء صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يتحنّث بها في الجاهلية من صدقة وعتاقة وصلة رحم . وقالوا : شعر الجاهلية ، وأيَّامُ الجاهلية . ولم يسمع ذلك كُلّه إلاّ بعد نزول القرآن وفي كلام المسلمين .

وقوله : { غير الحق } منتصب على أنَّه مفعول { يظنّون } كأنَّه قيل الباطلَ . وانتصب قوله : { ظن الجاهلية } على المصدر المبيّن للنوع إذ كلّ أحد يعرف عقائد الجاهلية إن كان متلبِّساً بها أو تاركاً بها .

وجملة { يخفون } حال من الضّمير في { يقولون } أي يقولون ذلك في حال نيّتهم غيرَ ظَاهِرِه ، ف { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } إعلان بنفاقهم ، وأنّ قولهم : { هل لنا من الأمر من شيء } وقولهم : { لو كان من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } هو وإن كان ظاهره صورة العتاب عن ترك مشورتهم فنِيَّتهم منه تخطئة النَّبيء في خروجه بالمسلمين إلى أُحُد ، وأنَّهم أسدّ رأياً منه .

وجملة { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء } بدل اشتمال من جملة { يخفون في أنفسهم } إذ كانوا قد قالوا ذلك فيما بينهم ولم يظهروه ، أو هي بيان لجملة { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } إذا أظهروا قولهم للمسلمين ، فترجع الجملة إلى معنى بدل الاشتمال من جملة { يظنّون } لأنها لما بينت جملة هي بدل فهي أيضا كالتي بينتها ، وهذا أظهر لأجل قوله بعدَه : { قل لو كنتم في بيوتكم } فإنَّه يقتضي أنّ تلك القالة فشت وبلغت الرسولَ ، ولا يحسن كون جملة { يقولون لو كان } إلى آخره مستأنفة خلافا لما في « الكشاف » .

وهذه المقالة صدرت من مُعَتِّب بن قُشير قال الزبير بن العوّام : غشيني النُّعاس فسمعت معتّب بن قشير يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا . فحكى القرآن مقالته كما قالها ، وأسندت إلى جميعهم لأنَّهم سمعوها ورضوا بها .

وجملة { قل إن الأمر كله لله } ردّ عليهم هذا العذر الباطل أي أنّ الله ورسوله غير محتاجين إلى أمركم . والجملة معترضة . وقرأ الجمهور : كلَّه بالنصب تأكيداً لاسم إنّ ، وقرأه أبو عمرو ، ويعقوب بالرفع على نيّة الابتداء .

والجملةُ خبر إنّ .

{ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ } .

لقن الله رسوله الجواب عن قولهم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا . والجواب إبطال لقولهم ، وتعليم للمؤمنين لدفع ما عسى أن يقع في نفوسهم من الريب ، إذا سمعوا كلام المنافقين ، أو هو جواب للمنافقين ويحصل به علم للمؤمنين . وفُصلت الجملة جرياً على حكاية المقاولة كما قرّرنا غير مرّة . وهذا الجواب جار على الحقيقة وهي جريان الأشياء على قَدر من الله والتسليمِ لذلك بعد استفراغ الجهد في مصادفة المأمول ، فليس هذا الجواب ونظائره بمقتض ترك الأسباب ، لأنّ قدر الله تعالى وقضاءه غير معلومَين لنا إلاّ بعد الوقوع ، فنحن مأمورون بالسعي فيما عساه أن يكون كاشفاً عن مصادفة قدر الله لمأمولنا ، فإن استفرغنا جهودنا وحُرمنا المأمول ، علمنا أنّ قدر الله جرى من قبل على خلاف مرادنا . فأمَّا ترك الأسباب فليس من شأننا ، وهو مخالف لما أراد الله منّا ، وإعراض عمّا أقامنا الله فيه في هذا العالم وهو تحريف لمعنى القدَر . والمعنى : لو لم تكونوا ههنا وكنتم في بيوتكم لخرج الَّذين كتب الله عليهم أن يموتوا مقتولين فقتلوا في مضاجعهم الَّتي اضطجعوا فيها يوم أُحُد أي مصارعهم فالمراد بقوله : { كتب } قدّر ، ومعنى { برز } خرج إلى البراز وهو الأرض .

وقرأ الجمهور باء ( بيوتكم ) بالكسر . وقرأه أبو عمرو ، وورش عن نافع ، وحفص ، وأبو جعفر بالضم .

والمضاجع جمع مضجع بفتح الميم وفتح الجيم وهو محلّ الضجوع ، والضجوع : وضع الجنب بالأرض للراحة والنَّوم ، وفعله من باب منع ومصدره القياسي الضجْع ، وأمَّا الضجوع فغير قياسي ، ثمّ غلب إطلاق المضجع على مكان النَّوم قال تعالى : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } [ السجدة : 16 ] وفي حديث أمّ زرع : « مَضْجَعه كمَسلّ شَطْبَة » فحقيقة الضجوع هو وضع الجنب للنَّوم والراحة وأطلق هنا على مصارع القتلى على سبيل الاستعارة ، وحسّنها أنّ الشهداء أحياء ، فهو استعارة أو مشاكلة تقديرية لأنّ قولهم ، ما قُتلنا ههنا يتضمَّن معنى أنّ الشهداء كانوا يَبْقون في بيوتهم متمتَّعين بفروشهم .

{ وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .

{ وليبتلي الله ما في صدوركم } عطف على قوله : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } [ آل عمران : 153 ] وما بينهما جمل بعضها عطف على الجملة المعلّلة ، وبعضها معترضة ، فهو خطاب للمؤمنين لا محالة ، وهو علَّة ثانية لقوله : { فأثابكم غما بغم } [ آل عمران : 153 ] .

والصّدُور هنا بمعنى الضّمائر ، والابتلاءُ : الاختبار ، وهو هنا كناية عن أثره ، وهو إظهاره للنَّاس والحجّة على أصحاب تلك الضّمائر بقرينة قوله : { والله عليم بذات الصدور } كما تقدّم في قوله تعالى : { وليعلم اللَّه الذين ءامنوا } [ آل عمران : 140 ] .

والتمحيص تخليص الشيء ممَّا يخالطه ممَّا فيه عيب له فهو كالتزكية . والقلوب هنا بمعنى العقائد ، ومعنى تمحيص ما فيه قلوبهم تطهيرها ممَّا يخامرها من الريب حين سماع شُبه المنافقين الّتي يبثُّونها بينهم .

وأطلق الصدور على الضّمائر لأنّ الصدر في كلام العرب يطلق على الإحساس الباطني ، وفي الحديث : « الإثم ما حاك في الصّدر » وأطلق القلب على الاعتقاد لأنّ القلب في لسان العرب هو ما به يحصّل التفكّر والاعتقاد . وعُدّي إلى الصّدور فعل الابتلاء لأنَّه اختبار الأخلاق والضّمائر : ما فيها من خير وشَرّ ، وليتميّز ما في النفس . وَعُدِّيَ إلى القلوب فعل التمحيص لأنّ الظنون والعقائد محتاجة إلى التمحيص لتكون مصدر كلّ خير .