تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمِنۡ حَيۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيۡكُمۡ حُجَّةٌ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِي وَلِأُتِمَّ نِعۡمَتِي عَلَيۡكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (150)

ثم خاطب الأمة عموما فقال : { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } وقال : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } أكده ب " إن " واللام ، لئلا يقع لأحد فيه أدنى شبهة ، ولئلا يظن أنه على سبيل التشهي لا الامتثال .

{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل هو مطلع عليكم في جميع أحوالكم ، فتأدبوا معه ، وراقبوه بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، فإن أعمالكم غير مغفول عنها ، بل مجازون عليها أتم الجزاء ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .

وقال هنا : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أي : شرعنا لكم استقبال الكعبة المشرفة ، لينقطع عنكم احتجاج الناس من أهل الكتاب والمشركين ، فإنه لو بقي مستقبلا بيت المقدس ، لتوجهت عليه الحجة ، فإن أهل الكتاب ، يجدون في كتابهم أن قبلته المستقرة ، هي الكعبة البيت الحرام ، والمشركون يرون أن من مفاخرهم ، هذا البيت العظيم ، وأنه من ملة إبراهيم ، وأنه إذا لم يستقبله محمد صلى الله عليه وسلم ، توجهت نحوه حججهم ، وقالوا : كيف يدعي أنه على ملة إبراهيم ، وهو من ذريته ، وقد ترك استقبال قبلته ؟

فباستقبال الكعبة{[107]}  قامت الحجة على أهل الكتاب والمشركين ، وانقطعت حججهم عليه .

{ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } أي : من احتج منهم بحجة ، هو ظالم فيها ، وليس لها مستند إلا اتباع الهوى والظلم ، فهذا لا سبيل إلى إقناعه والاحتجاج عليه ، وكذلك لا معنى لجعل الشبهة التي يوردونها على سبيل الاحتجاج محلا يؤبه لها ، ولا يلقى لها بال ، فلهذا قال تعالى : { فَلَا تَخْشَوْهُمْ } لأن حجتهم باطلة ، والباطل كاسمه مخذول ، مخذول صاحبه ، وهذا بخلاف صاحب الحق ، فإن للحق صولة وعزا ، يوجب خشية من هو معه ، وأمر تعالى بخشيته ، التي هي أصل{[108]}  كل خير ، فمن لم يخش الله ، لم ينكف عن معصيته ، ولم يمتثل أمره .

وكان صرف المسلمين إلى الكعبة ، مما حصلت فيه فتنة كبيرة ، أشاعها أهل الكتاب ، والمنافقون ، والمشركون ، وأكثروا فيها من الكلام والشبه ، فلهذا بسطها الله تعالى ، وبينها أكمل بيان ، وأكدها بأنواع من التأكيدات ، التي تضمنتها هذه الآيات .

منها : الأمر بها ، ثلاث مرات ، مع كفاية المرة الواحدة ، ومنها : أن المعهود ، أن الأمر ، إما أن يكون للرسول ، فتدخل فيه الأمة تبعا ، أو للأمة عموما ، وفي هذه الآية أمر فيها الرسول بالخصوص في قوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ } والأمة عموما في قوله : { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ }

ومنها : أنه رد فيه جميع الاحتجاجات الباطلة ، التي أوردها أهل العناد وأبطلها شبهة شبهة ، كما تقدم توضيحها ، ومنها : أنه قطع الأطماع من اتباع الرسول قبلة أهل الكتاب ، ومنها قوله : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } فمجرد إخبار الصادق العظيم كاف شاف ، ولكن مع هذا قال : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ }

ومنها : أنه أخبر - وهو العالم بالخفيات - أن أهل الكتاب متقرر عندهم ، صحة هذا الأمر ، ولكنهم يكتمون هذه الشهادة مع العلم .

ولما كان توليته لنا إلى استقبال القبلة ، نعمة عظيمة ، وكان لطفه بهذه الأمة ورحمته ، لم يزل يتزايد ، وكلما شرع لهم شريعة ، فهي نعمة عظيمة قال : { وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ }

فأصل النعمة ، الهداية لدينه ، بإرسال رسوله ، وإنزال كتابه ، ثم بعد ذلك ، النعم المتممات لهذا الأصل ، لا تعد كثرة ، ولا تحصر ، منذ بعث الله رسوله إلى أن قرب رحيله من الدنيا ، وقد أعطاه الله من الأحوال والنعم ، وأعطى أمته ، ما أتم به نعمته عليه وعليهم ، وأنزل الله عليه : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }

فلله الحمد على فضله ، الذي لا نبلغ له عدا ، فضلا عن القيام بشكره ، { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : تعلمون الحق ، وتعملون به ، فالله تبارك وتعالى - من رحمته - بالعباد ، قد يسر لهم أسباب الهداية غاية التيسير ، ونبههم على سلوك طرقها ، وبينها لهم أتم تبيين ، حتى إن من جملة ذلك أنه يقيض للحق ، المعاندين له فيجادلون فيه ، فيتضح بذلك الحق ، وتظهر آياته وأعلامه ، ويتضح بطلان الباطل ، وأنه لا حقيقة له ، ولولا قيامه في مقابلة الحق ، لربما لم يتبين حاله لأكثر الخلق ، وبضدها تتبين الأشياء ، فلولا الليل ، ما عرف فضل النهار ، ولولا القبيح ، ما عرف فضل الحسن ، ولولا الظلمة ما عرف منفعة النور ، ولولا الباطل ما اتضح الحق اتضاحا ظاهرا ، فلله الحمد على ذلك .


[107]:- في ب: القبلة.
[108]:-في ب: رأس.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمِنۡ حَيۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيۡكُمۡ حُجَّةٌ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِي وَلِأُتِمَّ نِعۡمَتِي عَلَيۡكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (150)

وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 150 )

قوله تعالى : { فولوا وجوهكم شطره } هو فرض استقبال القبلة على المصلين ، وفرض المصلي ما دام يرى الكعبة أن يصادفها باستقباله ، فإذا غابت عنه ففرضه الاجتهاد في مصادفتها ، فإن اجتهد ثم كشف الغيب أنه أخطأ فلا شيء عليه عند كثير من العلماء ، ورأى مالك رحمه الله أن يعيد في الوقت إحرازاً لفضيلة القبلة( {[1408]} ) .

وقوله تعالى : { لئلا يكون للناس عليكم حجة } الآية ، قرأ نافع وحده بتسهيل الهمزة ، وقرأ الباقون { لئلا } بالهمز ، والمعنى : عرفتكم وجه الصواب في قبلتكم والحجة في ذلك { لئلا }( {[1409]} ) ، وقوله : { للناس } عموم في اليهود والعرب وغيرهم ، وقيل : المراد بالناس اليهود ثم استثنى كفار العرب .

قال القاضي أبو محمد : وقوله { منهم } يرد هذا التأويل : وقالت فرقة { إلا الذين } استثناء متصل ، وهذا مع عموم لفظة الناس( {[1410]} ) ، والمعنى أنه لا حجة( {[1411]} ) لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا ، يعني اليهود وغيرهم من كل من تكلم في النازلة في قولهم { ما ولاهم } استهزاء ، وفي قولهم : تحير محمد في دينه ، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو من منافق ، وسماها تعالى حجة وحكم بفسادها حين كانت من ظلمة ، وقالت طائفة { إلا الذين } استثناء منقطع وهذا مع كون الناس اليهود فقط ، وقد ذكرنا ضعف هذا القول ، والمعنى : لكن الذين ظلموا( {[1412]} ) يعني كفار قريش في قولهم رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله ، ويدخل في ذلك كل من تكلم في النازلة من غير اليهود ، وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وابن زيد : «ألا » بفتح الهمزة وتخفيف اللام على معنى استفتاح الكلام ، فيكون { الذين } ابتداء( {[1413]} ) ، أو على معنى الإغراء بهم فيكون { الذين } نصباً بفعل مقدر .

وقوله تعالى : { فلا تخشوهم واخشوني } الآية ، تحقير لشأنهم وأمر باطراح أمرهم ومراعاة أمره ، وقوله { ولأتم } عطف على قوله { لئلا }( {[1414]} ) ، وقيل : هو مقطوع في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر بعد ذاك ، والتقدير لأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي ونحوه( {[1415]} ) . و { لعلكم تهتدون } ترجٍّ في حق البشر .


[1408]:- قال شيخ المالكية الشيخ خليل في مختصره: «وإن تبين خطأ بصلاة قَطَعَ – غير أعمى ومنحرف يسيرا فيستقبلانها – وبعدها أعاد في الوقت المختار».
[1409]:- يشير بذلك إلى أن قوله تعالى: (لئلا) متعلق بمحذوف دل عليه معنى الكلام السابق وقوله: وجه الصواب هو قوله تعالى: [وإنه للحق من ربك]، والحجة في ذلك هي قوله تعالى: [ولكل وجهة هو موليها].
[1410]:- منشأ الخلاف في الاستثناء هو الاختلاف في (معنى) الحجة في الآية. أمعناها الدليل والبرهان الصحيح، أم معناها المحاجة والمخاصمة ؟ فإن كان الأول فهو منقطع، لأن الظالمين لا حجة لهم، وإن كان الثاني فهو متصل لأن جدالهم وعنادهم لا ينقطع – ثم الاسثناء المتصل هو الذي اختاره الطبري رحمه الله، واقتصر عليه الزمخشري، وصدر به ابن عطية، بل ضعّف الانقطاع لبنائه على تخصيص الناس باليهود. وقوله: وقالت فرقة إلخ إيضاح لما قبله.
[1411]:- قال الزمخشري في الكشاف: إن قلت: أي حجة كانت تكون للمنصفين منهم لو لم يحوَّل حتى احترز من تلك الحجة، ولم يبال بحجة المعاندين ؟ - قلت: كانوا يقولون ما له لا يُحَوَّلُ إلى قبلة أبيه إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة ؟
[1412]:- أي لكن الذين ظلموا ليست لهم حجة، وإنما لديهم شبهة.
[1413]:- والخبر – على هذا – قوله تعالى: [فلا تخشوهم واخشوني].
[1414]:- هذا هو الظاهر، وما بعده غير واضح.
[1415]:- عبارة أبي حيان: وقيل: تتعلق اللام بفعل مؤخر. التقدير: ولأتم نعمتي عليكم عرّفتكم قبلتي. وهذا نفس ما قاله ابن عطية في إعراب [لئلا يكون للناس] الآية.