تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٞ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخۡفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبۡدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٞ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (154)

{ ثم أنزل عليكم من بعد الغم } الذي أصابكم { أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم }

ولا شك أن هذا رحمة بهم ، وإحسان وتثبيت لقلوبهم ، وزيادة طمأنينة ؛ لأن الخائف لا يأتيه النعاس لما في قلبه من الخوف ، فإذا زال الخوف عن القلب أمكن أن يأتيه النعاس .

وهذه الطائفة التي أنعم الله عليها بالنعاس هم المؤمنون الذين ليس لهم هم إلا إقامة دين الله ، ورضا الله ورسوله ، ومصلحة إخوانهم المسلمين .

وأما الطائفة الأخرى الذين { قد أهمتهم أنفسهم } فليس لهم هم في غيرها ، لنفاقهم أو ضعف إيمانهم ، فلهذا لم يصبهم من النعاس ما أصاب غيرهم ، { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } وهذا استفهام إنكاري ، أي : ما لنا من الأمر -أي : النصر والظهور- شيء ، فأساءوا الظن بربهم وبدينه ونبيه ، وظنوا أن الله لا يتم أمر رسوله ، وأن هذه الهزيمة هي الفيصلة والقاضية على دين الله ، قال الله في جوابهم : { قل إن الأمر كله لله } الأمر يشمل الأمر القدري ، والأمر الشرعي ، فجميع الأشياء بقضاء الله وقدره ، وعاقبة{[166]}  النصر والظفر لأوليائه وأهل طاعته ، وإن جرى عليهم ما جرى .

{ يخفون } يعني المنافقين { في أنفسهم ما لا يبدون لك } ثم بين الأمر الذي يخفونه ، فقال : { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء } أي : لو كان لنا في هذه الواقعة رأي ومشورة { ما قتلنا هاهنا } وهذا إنكار منهم وتكذيب بقدر الله ، وتسفيه منهم لرأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأي أصحابه ، وتزكية منهم لأنفسهم ، فرد الله عليهم بقوله : { قل لو كنتم في بيوتكم } التي هي أبعد شيء عن مظان القتل { لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } فالأسباب -وإن عظمت- إنما تنفع إذا لم يعارضها القدر والقضاء ، فإذا عارضها القدر لم تنفع شيئا ، بل لا بد أن يمضي الله ما كتب في اللوح المحفوظ من الموت والحياة ، { وليبتلي الله ما في صدوركم } أي : يختبر ما فيها من نفاق وإيمان وضعف إيمان ، { وليمحص ما في قلوبكم } من وساوس الشيطان ، وما تأثر عنها من الصفات غير الحميدة .

{ والله عليم بذات الصدور } أي : بما فيها وما أكنته ، فاقتضى علمه وحكمته أن قدر من الأسباب ، ما به تظهر مخبآت الصدور وسرائر الأمور .


[166]:- في ب: وعاقبته.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٞ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخۡفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبۡدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٞ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (154)

{ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا } أنزل الله عليكم الأمن حتى أخذكم النعاس ، وعن أبي طلحة غشينا النعاس في المصاف حتى كان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ، ثم يسقط فيأخذه . والأمنة الأمن نصب على المفعول ونعاسا بدل منها أو هو المفعول ، و{ أمنة } حال منه متقدمة أو مفعول له أو حال من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة أو على أنه جمع آمن كبار وبررة . وقرئ { أمنة } بسكون الميم كأنها المرة في الإمر { يغشى طائفة منكم } أي النعاس وقرأ حمزة والكسائي بالتاء ردا على الأمنة والطائفة المؤمنون حقا . { وطائفة } هم المنافقون . { قد أهمتهم أنفسهم } أوقعتهم أنفسهم في الهموم ، أو ما يهمهم إلا هم أنفسهم وطلب خلاصها . { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } صفة أخرى لطائفة أو حال أو استئناف على وجه البيان لما قبله ، وغير الحق نصب على المصدر أي : يظنون بالله غير الظن الحق الذي يحق أن يظن به ، و{ ظن الجاهلية } بدله وهو الظن المختص بالملة الجاهلية وأهلها . { يقولون } أي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بدل من يظنون . { هل لنا من الأمر من شيء } هل لنا مما أمر الله ووعد من النصر والظفر نصيب قط . وقيل : أخبر ابن أبي بقتل بني الخزرج فقال ذلك ، والمعنى إنا منعنا تدبير أنفسنا وتصريفها باختيارنا ، فلم يبق لنا من الأمر شيء أو هل يزول عنا هذا القهر فيكون لنا من الأمر شيء { قل إن الأمر كله لله } أي الغلبة الحقيقية لله تعالى ولأوليائه فإن حزب الله هم الغالبون ، أو القضاء له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو اعتراض . وقرأ أبو عمرو ويعقوب كله بالرفع على الابتداء . { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } حال من الضمير يقولون أي يقولون مظهرين إنهم مسترشدون طالبون النصر مبطلين الإنكار والتكذيب . { يقولون } أي في أنفسهم وإذا خلا بعضهم إلى بعض وهو بدل من يخفون أو استئناف على وجه البيان له . { لو كان لنا من الأمر شيء } كما وعد محمد أو زعم أن الأمر كله لله ولأوليائه ، أو لو كان لنا اختيار وتدبير ولم نبرح كما كان ابن أبي وغيره . { ما قتلنا ها هنا } لما غلبنا ، أو لما قتل من قتل منا في هذه المعركة . { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } أي لخرج الذين قدر الله عليهم القتل وكتبه في اللوح المحفوظ إلى مصارعهم ولم تنفعهم الإقامة بالمدينة ولم ينج منهم أحد ، فإنه قدر الأمور ودبرها في سابق قضائه لا معقب لحكمه . { وليبتلي الله ما في صدوركم } وليمتحن ما في صدوركم ويظهر سرائرها من الإخلاص والنفاق ، وهو علة فعل محذوف أي وفعل ذلك ليبتلي أو عطف على محذوف أي لبرز لنفاذ القضاء أو لمصالح جمة وللابتلاء ، أو على لكيلا تحزنوا . { وليمحص ما في قلوبكم } وليكشفه ويميزه أو يخلصه من الوساوس . { والله عليم بذات الصدور } بخفياتها قل إظهارها ، وفيه وعد ووعيد وتنبيه على أنه غني عن الابتلاء وإنما فعل ذلك لتمرين المؤمنين وإظهار حال المنافقين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٞ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخۡفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبۡدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٞ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (154)

ثم ذكر الله تعالى أمر النعاس الذي أمن به المؤمنين ، فغشي أهل الإخلاص ، وذلك أنه لما ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب ، قال النبي عليه السلام لعلي بحضرة أصحابه المتحيزين في تلك الساعة إليه : اذهب فانظر إلى القوم ، فإن جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة ، وإن كانوا على خيلهم فهم عامدون{[3625]} إلى المدينة ، فاتقوا الله واصبروا{[3626]} ، ووطنهم على القتال ، فمضى علي ثم رجع ، فأخبر أنهم جنبوا الخيل وقعدوا على أثقالهم عجالاً ، فآمن الموقنون المصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألقى الله عليهم النعاس ، وبقي المنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يصدقون ، بل كان ظنهم أن أبا سفيان يؤم المدينة ولا بد ، فلم يقع على أحد منهم نوم ، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية ، قال أبو طلحة : لقد نمت في ذلك اليوم حتى سقط سيفي من يدي مراراً{[3627]} ، وقال الزبير بن عوام : لقد رفعت رأسي يوم أحد من النوم فجعلت أنظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فما منهم أحد إلا وهو يميل تحت جحفته{[3628]} ، وقال ابن مسعود : نعسنا يوم -أحد- والنعاس في الحرب أمنة من الله ، والنعاس في الصلاة من الشيطان ، وقرأ جمهور الناس «أمَنة » بفتح الميم ، وقرأ ابن محيصن والنخعي «أمْنة » بسكون الميم ، وهما بمعنى الأمن ، وفتح الميم أفصح ، وقوله : { نعاساً } بدل ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «يغشي » بالياء حملاً على لفظ النعاس بإسناد الفعل إلى ضمير البدل ، وقرأ حمزة والكسائي «تغشى » بالتاء حملاً على لفظ - الأمنة - بإسناد الفعل إلى ضمير المبدل{[3629]} منه ، والواو في قوله تعالى : { وطائفة قد أهمتهم } هي واو الحال كما تقول : جئت وزيد قائم ، قاله سيبويه وغيره قال الزجاج : وجائز أن يكون خبر قوله { وطائفة } قوله - يظنون - ويكون قد أهمتهم صفة للطائفة ، وقوله تعالى : { قد أهمتهم أنفسهم } ذهب أكثر المفسرين قتادة والربيع وابن إسحاق وغيرهم : إلى أن اللفظة من الهم الذي هو بمعنى الغم والحزن ، والمعنى : أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة ، قد جلبت إليهم الهم خوف القتل وذهاب الأموال ، تقول العرب : أهمني الشيء إذا جلب الهم ، وذكر بعض المفسرين : أن اللفظة من قولك : هم بالشيء يهم إذا أراد فعله .

قال القاضي أبو محمد : أهمتهم أنفسهم المكاشفة ، ونبذ الدين ، وهذا قول من قال : قد قتل محمد ، فلنرجع إلى ديننا الأول ونحو هذا من الأقوال .

قوله تعالى :

{ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِى أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قَلْ لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدوُرِ }

قوله تعالى : { غير الحق } معناه : يظنون أن الإسلام ليس بحق وأن أمر محمد عليه السلام يضمحل ويذهب ، وقوله : { ظن الجاهلية } ذهب جمهور الناس إلى أن المراد مدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام ، وهذا كما قال : { حمية الجاهلية } و { تبرج الجاهلية }{[3630]} ، وكما تقول شعر الجاهلية ، وكما قال ابن عباس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا كأساً دهاقاً ، وذهب بعض المفسرين إلى أنه أراد في هذه الآية ظن الفرقة الجاهلية ، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه ، والأمر محتمل ، وقد نحا هذا المنحى قتادة والطبري{[3631]} ، وقوله تعالى : { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } حكاية كلام قالوه ، قال قتادة وابن جريج : قيل لعبد الله بن أبي بن سلول : قتل بنو الخزرج فقال : «وهل لنا من الأمر من شيء » ؟ يريد أن الرأي ليس لنا ، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا فلم يخرج فلم يقتل أحد منا ، وهذا منهم قول بأجلين ، وكان كلامهم يحتمل الكفر والنفاق ، على معنى : ليس لنا من أمر الله شيء ، ولا نحن على حق في اتباع محمد ، ذكره المهدوي وابن فورك ، لكن يضعف ذلك أن الرد عليهم إنما جاء على أن كلامهم في معنى سوء الرأي في الخروج ، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد{[3632]} ، وقوله تعالى : { قل إن الأمر كله لله } اعتراض أثناء الكلام فصيح ، وقرأ جمهور القراء «كلَّه » - بالنصب على تأكيد الأمر ، لأن «كله » بمعنى أجمع ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء «كلُّه لله » برفع كل على الابتداء والخبر ، ورجح الناس قراءة الجمهور لأن التأكيد أملك بلفظة «كل »{[3633]} ، وقوله تعالى : { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } يحتمل أن يكون إخباراً عن تسترهم بمثل هذه الأقوال التي ليست بمحض كفر ، بل هي جهالة ، ويحتمل أن يكون إخباراً عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزعات ، وأخبر تعالى عنهم على الجملة دون تعيين ، وهذه كانت سنته في المنافقين ، لا إله إلا هو ، وقوله تعالى : { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } هي مقالة سمعت من معتب بن قشير المغموص عليه بالنفاق ، وقال الزبير بن العوام فيما أسند الطبري عنه : والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير{[3634]} أخي بني عمرو بن عوف ، والنعاس يغشاني ، ما أسمعه إلا كالحلم حين قال { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } .

قال القاضي أبو محمد : وكلام معتب يحتمل من المعنى ما احتمل كلام عبد الله بن أبي ، ومعتب هذا ممن شهد بدراً ، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره ، وقال ابن عبد البر{[3635]} : إنه شهد العقبة ، وذلك وهم ، والصحيح أنه لم يشهد عقبة ، وقوله تعالى : { قل لو كنتم في بيوتكم } الآية رد على الأقوال ، وإعلام بأن أجل كل امرىء إنما هو واحد ، فمن لم يقتل فهو يموت لذلك الأجل على الوجه الذي قدر الله تعالى ، وإذا قتل فذلك هو الذي كان في سابق الأزل{[3636]} ، وقرأ جمهور الناس «في بُيوتكم » بضم الباء ، وقرأ بعض القراء وهي بعض طرق السبعة «في بِيوتكم » ، بكسر الباء ، وقرأ جمهور الناس «لَبَرَز » بفتح الراء والباء على معنى : صاروا في البراز من الأرض ، وقرأ أبو حيوة «لبُرِّز » بضم الباء وكسر الراء وشدها ، وقرأ جمهور الناس : «عليهم القَتل » أي كتب عليهم في قضاء الله وتقديره ، وقرأ الحسن والزهري : «عليهم القتال » وتحتمل هذه القراءة معنى الاستغناء عن المنافقين ، أي لو تخلفتم أنتم لبرز المؤمنون الموقنون المطيعون في القتال المكتوب عليهم ، وقوله تعالى : { وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم } الآية ، اللام في قوله تعالى : { وليبتلي } متعلقة بفعل متأخر تقديره وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة والابتلاء هنا هو الاختبار ، والتمحيص : تخليص الشيء من غيره ، والمعنى ليختبره فيعلمه علماً مساوقاً لوجوده وقد كان متقرراً قبل وجود الابتلاء أزلاً ، و { ذات الصدور } ما تنطوي عليه من المعتقدات ، هذا هو المراد في هذه الآية .


[3625]:-عامدون: قاصدون.
[3626]:- أخرجه ابن هشام في السيرة. (الروض الأنف 2/140)
[3627]:- روى البخاري عن أنس أن أبا طلحة قال: "غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه" (8/171). ورواه كذلك الترمذي والنسائي.
[3628]:- الجحف: ضرب من الترسة، واحدتها جحفة، تصنع من جلود الإبل يطارق بعضها ببعض، وقيل: تصنع من جلود خاصة. "اللسان في مادة جحف".
[3629]:- اعترض بعض النحويين على ذلك فقالوا: لما أعرب (نعاسا) بدلا من (أمنة) كان القياس أن يتحدث عن البدل لا عن المبدل منه، لكنه تحدث هنا عن المبدل منه، فإذا قلت: (هند حسنها فاتن) كان الخبر عن حسنها- وأجاز بعضهم أن يخبر عن المبدل منه على ما خرج ابن عطية إعراب (نعاسا) و(تغشى) بقراءة التاء، واستدلوا على ذلك بقول الشاعر: إن السيوف غدّوها ورواحها تركت هوازن مثل قرن الأعضب إذ قال: (تركت) ولم يقل: (تركا). وردّ المعترضون بأن (غدوها ورواحها) انتصبا على الظرف لا على البدل. البحر المحيط 3/ 86-87.
[3630]:- [حمية الجاهلية] من الآية (26) من سورة الفتح- و[تبرج الجاهلية] من الآية (33) من سورة الأحزاب.
[3631]:- قال الزمخشري: "وظن الجاهلية كقولك: حاتم الجود، ورجل صدق، تريد الظن المختص بالملة الجاهلية، ويجوز أن يراد: ظن أهل الجاهلية: أي لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون بالله".
[3632]:- وعلى الرأيين يكون الاستفهام في الآية معناه النفي، وقال بعضهم: الصواب أنه حقيقي و(من) في كلامهم (من شيء) زائدة للتأكيد.
[3633]:- والتأكيد بكلمة (كل) – وبلفظ (إن) إنما هو لمقابلة التأكيد في كلامهم بزيادة (من)
[3634]:- هو معتب بن قشير-مصغرا- بن بليل، وقيل: مليل الأنصاري الأوسي، ذكروه فيمن شهد العقبة وبدرا وأحدا وقيل: إنه كان منافقا ثم تاب. وهو القائل يوم أحد: "لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا". "الإصابة" و"الاستيعاب".
[3635]:- الاستيعاب: 1429 (ط.مصر).
[3636]:- هذا النوع يسمى عند علماء البيان الاحتجاج الفطري، وهو أن يذكر المتكلم معنى ثم يستدل عليه بضروب من المعقول، كقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}، {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة}، ومنه قول الشاعر: جرى القضاء بما فيه فإن تلم فلا ملام على ما خط بالقلم